كاتب الموضوع :
عهد Amsdsei
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
السلام عليكم
الفصل الخامس
الثورة.. نهى
- "هذا ما يقوله الدستور.."
هتفت نهى بالعبارة في حماس، على نحو أدهش أمها، وجعلها تسألها في حيرة:
- وما شأن الدستور بما كنا نتحدّث عنه؟!
أجابتها بنفس الحماس:
- الدستور هو كل شيء في الحياة.. هو الذي يحدد حقوقنا، وواجباتنا، وحدود حرينا، و..
قاطعتها أمها في غضب:
- مهلاً! هل تتصوّرين أن هذا الاستعراض الكلامي سيعفيك من إخباري أين كنتِ حتى هذه الساعة؟!
هدأت نهى دفعة واحدة، وهي تقول:
- كنت مع المجموعة في الكافيه، كما تعلمين.
قالت أمها في صرامة:
- وطلبتُ منكِ العودة قبل الحادية عشرة، والساعة الآن تقترب من الحادية عشرة والنصف.
هزّت نهى كتفيها قائلة:
- الطريق مزدحمة، هذا كل ما في الأمر.
انعقد حاجبا والدتها، وهي تتطلّع إليها لحظات في غضب، ثم لم تلبث أن مالت نحوها، وقالت في حزم، وبصوت منخفض:
- نهى، لسنا في كندا الآن.. الحياة هنا تختلف، ونظرة الناس إلى فتاة مثلك لها منظور آخر تماماً.
انعقد حاجبا نهى بدورها، وضمّت شفتيها في غضب صامت مستنكر..
كانت مشكلتها الرئيسية هي أنها ترّبت في مناخ يختلف تماماً، عندما هاجر والداها إلى كندا منذ عدة سنوات، وألحقاها وشقيقتها بمدارس كندية ذات سمات انفتاحية، وفكر أكثر تطوّرًا، صنع منها مزيجاً من التحرّر والالتزام، وخلق منها شخصية قوية، ذات فكر واضح، ونظرة مستقبلية، وطموح يتجاوز كل الحواجز..
وعندما بدأت تغوص في مرحلة المراهقة؛ اختطف الموت والدها فجأة، وأصابها بصدمة مباغتة، شاركتها فيها أمها التي اتخذت قرارً بالعودة إلى الوطن، واستكمال تربية ابنتيْها هناك..
وعادت نهى إلى مصر بأفكار مصرية، وأسلوب حياة كندي، ومشاعر هي مزيج من هذا وذاك..
ولأنها ذات جمال واضح؛ اصطدمت في البداية ببعض التجاوزات، والأسوار التي توضع حول مثيلاتها في عالمنا الشرقي، ولكن شخصيتها القوية جعلتها تقاوم هذا في حزم، وتصر أكثر على المضيّ قدماً في حياتها بالأفكار التي تؤمن بها، والأساليب التي ترى أنها الأفضل..
وإلى حد كبير نجحت في هذا..
وإلى حد كبير تكيّفت مع الحياة في مصر، وعشقت ترابها، ربما أكثر ممن وُلدوا وتربَوْا فيها، وباتت تحلم بتطوّرها ورفعتها..
ولقد كان لانضمامها لمجموعة خالد وأصدقائه مفعول السحر في تطوير تعاملاتها، وأساليبها الاجتماعية..
وعندما أثار خالد موضوع الدستور هذا؛ لقي الأمر قبولاً مدهشاً في أعماقها، لأنه يتعلق بالحريات والحقوق التي تطالب بها دوماً..
وبسرعة حصلت على نسخة من الدستور، وبدأت في قرأتها، ووضع خطوط حمراء تحت كل ما يهمها من مواده..
والواقع أن هذا قد أدهشها بشدة؛ فمواد الدستور -على الرغم من تعديلاته المخزية الأخيرة- تمنح المواطنين الكثير من الحقوق، ولكن تلك الحقوق تُهدَر بشكل يومي، وعلى نحو يبدو منهجياً، وكأن لا أحد يبالي بالدستور ومواده، حتى نظام الحكم ذاته..
والأدهى أن المواطن أيضًا يجهل دستور بلاده..
وكان هذا يعنى أن المجتمع بأسره يحتاج إلى الكثير من التغيير..
والكثير جداً..
" هل فهمتِ ما قلتُه؟!.."..
انتزعتها أمها من أفكارها بعبارتها الصارمة، فقالت نهى في حماس:
- لست أبالى بنظرةالمجتمع.
أجابتها والدتها في حدة:
- ولكن المجتمع نفسه يبالي.
نظرت إليها نهى في دهشة، فالتقطت أمها نفساً طويلاً في محاولة لتهدئة أعصابها الثائرة، قبل أن تحيط كتف ابنتها بذراعها، وتقودها إلى الأريكة المجاورة وهي تقول:
- مشكلة المجتمع المصري -يا نهى- هي أنه لا يتبنى نظرة اجتماعية واحدة، ولا حتى فكرًا واحدًا، فكل فئة منه لها نظرة قد تختلف مع فكر الفئات الأخرى، وكل مدينة لها فكر خاص، يتفق مع فكر بعض المدن ويختلف مع أخرى.. في الصعيد مثلاً قد يرون العيب كل العيب في أمر يراه أبناء الإسكندرية طبيعياً عادياً، والأقاليم قد تنظر إلى فتاة بسيطة الملبس باعتبارها سافرة مارقة.. حتى هنا في القاهرة؛ لكل حي من الأحياء فكره ومنظوره.
قالت نهى في عناد:
- هذا أدعى لأن أتمسك بفكري الخاص، ورؤيتي الخاصة لكل الأمور، إذ إنني سأختلف حتماً مع فئة ما، ولن يمكننى نيل رضاء كل الفئات، مهما حاولت.
تنهّدت أمها في يأس، قائلة:
- عنيدة! مثل والدك رحمه الله.
أشارت نهى إلى رأسها قائلة:
- ولكن من خلال فكر وليس عناداً صبيانياً.
زفرت أمها يأساً مرة أخرى، وغمغمت:
- لا فائدة من النقاش معك كالمعتاد.
ونهضت منصرفة عنها، ولكنها لم تكد تبلغ مدخل ذلك الممر المؤدى إلى حجرات النوم حتى التفتت إليها، قائلة في صرامة:
- ولكن العودة بعد الحادية عشرة ما زالت ممنوعة!
ابتسمت نهى، وهى تقول:
- سأذكر هذا جيداً.
اتجهت إلى حجرتها في خفة، وهرعت إلى الميزان؛ لتعلم كم فقدت من الوزن، خلال يوم واحد، ومطت شفتيها في عدم رضى عندما لم يخبرها الميزان بفقدان أية جرامات، وغمغمت في سخط:
- ماذا ينبغى ان أفعل إذن؟!.. أضرب عن الطعام؟!
استبدلت ملابسها في سرعة، واندّست في فراشها مع نسخة الدستور، وراحت تطالعها في شغف، حتى غلبها النوم، فتركت النسخة تسقط أرضاً، وغابت في سبات عميق..
لم تدرِ لماذا انتشر الضباب على هذا النحو؟!..
ولماذا تسير في شوارع خالية، بملابس النوم؟!..
كل ما شعرت به، هو أنها وحيدة، وخائفة.. وضائعة..
الشوارع كانت خالية تماماً، ومصابيح الضوء محاطة بذلك الضباب الذي جعلها تبدو باهتة، غير كافية لإضاءة الطرقات..
ولقد راحت تبحث عن منزلها وسط الضباب، دون أن تعثر له على أثر..
كانت وكأنها تدور في دوائر مغلقة، والضباب يزداد كثافة، ومعالم الطريق تختفي، والحصى تؤلم قدميها العاريتين، و..
انطلق رنين هاتفها المحمول بغتة، فانتزعها من ذلك الكابوس في عنف، وجعلها تلهث على نحو غير طبيعى، وهى تختطفه، هاتفة:
- علياء..! خيراً؟
بدا صوت علياء مندهشاً من توتر العبارة، وامتزاجها بذلك اللهاث العجيب، فسألتها في قلق:
- أأنت بخير يا نهى؟!
أجابتها، وهى تعتدل في فراشها:
- أعتقد هذا.. أظنه كابوساً فحسب.
قالت علياء في قلق:
- ولكنك لم تحضرى محاضرة الدكتور عبد الله، فخشيت أن..
قاطعتها نهى هاتفة:
- محاضرة من؟!.. كم الساعة الآن؟!..
ألقت السؤال، وهي تلتفت هَلِعَة إلى المنبه المجاور لها ثم تهتف مذعورة، قبل أن تأتيها علياء بالجواب:
- يا إلهى!.. العاشرة؟!
أنهت المحادثة دون إخبار علياء أو استئذانها، وقفزت ترتدى ثيابها، وتسرع إلى الكلية..
كانت الحادية عشرة والنصف عندما وصلت إلى هناك، ولاحظت -فور تجاوزها البوّابة- أن مجموعتها كلها تقف في الساحة والحزن يبدو على الوجوه، فأسرعت إليهم متسائلة:
- ماذا حدث؟!.. ما سر كل هذا الحزن؟!..
أجابها سامي في حزن امتزج بالضيق:
- رفضوا تعيين الدكتورعبد الله رئيساً للقسم.
اتسعت عيناها في دهشة وهي تقول:
- ولماذا؟!..المفترض أنه دوره لهذا!!
أجابها خالد في غضب وهو يشيح بوجهه:
- أمن الدولة!
سألته في دهشة:
- وما صلة أمن الدولة بهذا؟! إنه منصب فني، وليس سياسياً ولا أمنياً؟!
بدا تامر عصبياً وهو يقول:
- الدكتور عبد الله لا تنطبق عليه الشروط.
قالت في حدة:
- الشروط؟ إنه أفضل طبيب في القسم كله، وأكثرهم خبرة، و..
قاطعها أحمد في توتر:
- تامر لا يقصد الشروط.. تامر يقصد أنه ليس عضواً في الحزب الوطني، وليس موالياً للنظام ولا الأمن.. إنه رجل صاحب فكر مستقل، ولهذا رفضوا تعيينه.
بدت عليها دهشة عارمة، وغمغمت:
- أين حقوقه الدستورية إذن؟!
ومن بعيد تابعهم رئيس الحرس الجامعي في اهتمام، ثم رفع هاتفه المحمول، وقال عبره في حزم:
- حازم باشا.. من الواضح أنك كنت على حق.. هؤلاء الأولاد جزء من تنظيم خطير.. خطير جداً.
وعبر الهاتف أيضًا راح يتلقى التعليمات..
وبدقة.
* * *
يُتبع
|