_"رنيم تطلبك العميدة " قالت ذلك احدى العاملات ...
فالتفت إلىَ رنيم وقالت :
_"مرَ يومان , وكل شئ هادئ فماذا يريدون "
قلت لها :_"لا تقلقي "
...فخرجت , ثم خرجت بعدها أسماء ....أحست الطالبات بأمر ما يحدث ..., وانتهى اليوم ...وكل عاد إلى أدراجه واتصلت برنيم ,فلم ترد ,وكررت الاتصال , لكن بدون فائدة ....
وقدم الغد ...ولم أجد رنيم في القاعة ...ولكن نادية ادعت أنها رأتها تلج غرفة العميدة مع ثلاث من أستاذات وأمينة المكتبة ..وسرعان ما تفشت الإشاعات ..واستطالت ألسنة حداد تنهش لحم رنيم قائلة:
_"ستطرد من الكلية لتصرف ما مع رئيسة القسم ..!!"
وثانية :_"سيعقد لها مجلس تأديبي ....وثالثة : الأمر أبلغ , فقد تدخل هيئة التدريس ...؟!!
...وهكذا ... الكل أدلى بدلوه ...لكن ...لماذا ..ومتى وكيف ولأجل ماذا ...؟
لا أدري...
..ثم انقضى الأسبوع ...والكل في دوامة التساؤلات كنت خلالها أحاول الاتصال على رنيم فلم أوفق ....انقطعت أخبارها ما عدا إشاعة في نهاية الأسبوع تقول أنه عقد جلسة تحقيق حضرتها العميدة وأغلب الدكتورات وشوهدت رنيم تلجها ....
.....وقدم السبت وكان موعد الامتحان الشفهي لمادة الأدب الأندلسي ..وكنت آمل أن أرى رنيم ولكن خاب ظني ........
......._"جاء دورك "
ضربات قلبي تتوالي بسرعة ...أخذت مكاني ...وأمسكت السماعة ...
"ما أسمك الكامل ؟"قال ذلك الأستاذ عدنان بعد أن قلب أوراق معه .....
_""وفاء حامد إبراهيم"
_"لماذا سمي المعتمد بن عباد بهذا الاسم , واذكري أبيات تحفظينها من نظمه ..."
_"سمي بالمعتمد لأنه ...",واندمجت في الإجابة حتى قال لي :
_"أحسنت ...انصرفي "
وحين هممت بالخروج سمعته يخاطب المشرفة بقوله:
_"لم يتبقى إلا طالبة واحدة ذكرتي أنها مقدمة عذر طبي أليس كذلك ؟"
....."نعم اسمها رنيم ....."
وخرجت وأنا أتساءل :
_"أوصل الحد إلى تقديم عذر طبي ....الأمر أبلغ مما تصورت ....
الساعة الخامسة عصرا ....أدرت قرص الهاتف , وطلبت رنيم , وكالعادة لم توافق الخادمة , فأصريت على طلبي فقالت:
_"....إن السيد أمرني برعاية رنيم وعدم إزعاجها بأي خبر وخاصة فيما يتعلق بالكلية ..."
فقلت لها راجية :_"لك علي أن لا أحدثها عن الكلية ....فقط سأسلها عن حالها ....أرجوك "
_"حسنا , لكن لا تطيلي في الحديث كي لا تتعب ...."
_""بإذن الله ..."
وغبت قليلا , ثم جاء صوتا باهتا ضعيفا لم أتبين معالمه فقلت :
_"رنيم....... أأنت رنيم؟"
_""نــ..عم ..كيف حالك ..يا وفاء؟"
_""بخير كيف حالك أنت "
_"الحمد ......لله "
_"قلقنا عليك ...كثيرا "
_"شكرا لك "
_"مما تشكين , ماذا يؤلمك ؟"
_"ألمت بي الحمى ..والحمد لله خفت عما كانت عليه سابقا "
_"جميع المذكرات صورتها لك "
_"لن أنسى جميلك ..."
_"أتركك الآن ...وأرجو أن أتصل وأسمع صوتك أفضل "
_"بإذن الله "
_"السلام عليكم "
_"عليكم السلام ......"
وأغلقت السماعة ...المسالة أكبر مما توقعت ..عموما الآن المهم هي حالة رنيم "
....خلا هذا الأسبوع تحسنت صحتها و استردت عافيتها ...وكنت قد تغيبت عن الكلية استعدادا للامتحانات التي لم يبقى إلا القليل ..وفي أثناءه طلبت رنيم أن أحضر إلى الكلية لكي أزودها بالمذكرات الناقصة والمواضيع المهمة ...في كل مادة ..فلبيت الدعوة ...وذهبت إلى لكلية ...حيث وجدتها منكبه على كتاب الأدب الأندلسي استعدادا لأداء الامتحان الشفهي ...
....صافحتها ..ففوجئت لشكلها ..ليست رنيم التي أعرفتها , فقد فقدت الكثير من وزنها ..واكتسبت من الصفار لونا ..والشحوب جلبابا , وأطلقت عقال تعجبي سائلة :
_"لماذا أصبحت هكذا !,لقد تغيرتي "
فقالت بهدوء :
_"كانت وطئت الحمى شديدة "
قلت متسائلة :
_"فقط الحمى ....؟"
قالت ,وهي تنظر إلى السماء إذا أكربها أمر :
_"تصدقين يا وفاء ..لم أعلم أن هناك من البشر من يحملون قلوب سوداء , تعزف على أوتار الشيطان .., لم أعلم أن الحسد حين يملأ الكائن , ويفيض يحاول إغراقه غيره كما غرق هو ...لم أعلم أن محاولة التشبث بمتاع الدنيا تعمي العقول والأبصار ..عن كل فضيلة ..وكل خلق كريم ..؟"
..._"رنيم ...اجلي الغمام , في سمائي , وأفصحي عن مكنونك "
ابتسمت ابتسامه كئيبة موحشة وقالت :
_"القضية –حقا – مخجلة ,لا أدري كيف انغمست رئيسة القسم في مستنقعها بعد أن حرضتها أسماء , ولكن بعض الأشخاص لا يكفي آن نقول لهم قد أخطأتم بل نجبرهم على الاعتراف بذلك ,وهذا ما حدث ...
فقد اتفقت رئيسة القسم مع أسماء في حكاية تهمة ضدي مفادها تسرب الأسئلة من قبل الأستاذ عدنان إليَ بعد علاقة بيننا , والبرهان ورقة إجابتي ..فهي الوحيدة التي حازت على الدرجة الكاملة ..
حين أخبرتني رئيسة القسم ذلك كدت أجن ..وأخبرت العميدة التي قالت أثبتي غير ذلك ..فعدت إلى البيت ضائقة النفس كسيرة الجناح .. فكرت كثيرا في الأمر , ثم قررت أن أخبر والدي .. والذي ثارت ثورته وتوعد وهدَد , بأن تفصل رئيسة القسم من منصبها ..فتمنيت أني لم اخبره ..
وفي صباح الغد ألهمني الله , فقصدت أمينة المكتبة وطلبت منها أن تحضر بطاقتي وتذهب معي إلى العميدة ..ووافق الجميع ..
وولجت معهن إلى غرفة العميدة التي تفا جئت بهذا الحشد , واستأذنت ودخلت معي , وقلت :
أن رنيم تسربت إليها الأسئلة في مادة الأدب الأندلسي , ولهذا حازت على الدرجة الكاملة من بين الطالبات فما رأيكن بذلك ...
....فاندهشن جميعا .. ومباشرة نفينه قطعيا , وقالت إحداهن موجهة كلامها إلى العميدة :
_"إن رنيم أعلى خلقا من هذه التهمة ..ثم إن هذا ديدنها في المواد الأخرى ..فهي متفوقة والجميع يعرف ذلك "
...ووافق البقية على كلام الدكتورة ..فأخذت بطاقتي التي بحوزة أمينة المكتبة , ووضعتها أمام العميدة ..وقلت لها :
_"اقرئي ..أغلب مواد هذا الفصل , استعرت لها مراجع ومنها مادة الأدب الأندلسي .."
فصمتت العميدة وبدا عليها الاهتمام ..تأملت بطاقتي ..فتجسدت الحيرة مع الاضطراب على وجهها ..ثم على صوت الناسوخ المميز حامل من جعبته ورقة رسمت عليها كلمات لا أميزها ...
فاستدارت موظفة مسئولة , وأخذت الورقة وبعد برهة .......!!!.....صرخت قائلة :
_"يا لله ...تحقيق ..."
سألت العميدة عن الخبر ...فأجابتها :
_"هناك لجنة من الإدارة ستأتي يوم الثلاثاء لتحقيق في دعوة رفعها ولي أر الطالبة رنيم ...ويطلب من العميدة أن تعقد جلسة تضم جميع من له طرف في الدعوة ...!"
...وفشي الخبر كما تفشي النار في الهشيم ...
وعقدت الجلسة في غرفة الاجتماعات , واستدعي لها أغلب الدكتورات وفي المقدمة رئيسة القسم , والوكيلة والأستاذ عدنان ....وأنا وأسماء ... ,أمينة المكتبة , وبالطبع لجنة التحقيق ..
استجوبت أسماء ...ثم رئيسة القسم لأنها صاحبة الدعوة ....ثم أنا ...ثم الأستاذ عدنان الذي كان صوته في السماعة عاليا ..وقد سخر من الدعوة .. وهزأ برئيسة القسم وقال:
_"لم أعلم باسم الطالبة وأنها هي التي حصلت على الدرجة الكاملة إلا اليوم بسبب وجود الشرائط اللاصقة على ورقة الإجابة ولعلي أسأل رئيسة القسم عن سبب وجودها !!
وأعتقد أننا في صرح علم , ولسنا في مسرح جنائي ...ونحن في بلد تأبى علينا تقاليدنا أن ننغمس في هذه المستنقعات والخوض في هذه الأوحال ...
ثم ...أتتهم الطالبة لأن الأستاذ معجب بورقتها إجابتها ..إلى هذا الحد وصل الانحطاط في التفكير ....؟!!"
وفي النهاية برأت ساحتي , وفصلت أسماء أسماء من الكلية أسبوع , وعزلت العميدة رئيسة القسم من منصبها ..
..وكان من نصيبي الحمى أنشبت أظفارها في جسدي ..فقاومتها بشدة وانتصرت في النهاية ونعمت خلال مرضي .....بقرب والدي ..والذي كان فخورا بي ..
وها أنا ذا أعود إلى الكلية ....."
_"..يا لله ..كيف يفعل الحسد بصاحبة "
_"أعتقد يا وفاء أن من يكون لديه دافع بغض النظر عن فحواه يجتهد حتى ينال هدفه ..
...فإن كان الدافع خيرا تقدم واطمئن و وفخور وإن كان شر ..اقترب بخطى وئيدة , خائفة وجلة ...
...كأنني صحوت من حلم مزعج "
_"الحمد لله ..فقد خرجت مرفوعة الرأس بيضاء السيرة "
_"الحمد لله ...الحمد لله "
_"ألم يحن وقت الامتحان "
_"ليس بعد , تبقى من وقت ساعة سأستغلها في المراجعة "
_"إذن سأذهب ..وبعد ساعة سأقدم "
وسرت في مرافق الكلية ..ورنيم قد أتخذت في فكر ي مقعدا ..بعض مطالب النفس الغريبة ..وقد تخرج من طور الإنسانية , كيف لها أن تسلب حق شخص ملكه بعرق جبينه , وقضى وقته في تحصيله ...
...ما أبشع أنانية البشر ...
_"وفاء. ..وفاء"
هذه رنيم يحسن بي الذهاب إليها ...
_"نعم.. "
_"تعالي ..أرديك "
اتجهت إليها ..وحينما وصلت قالت :
_"حان وقت الامتحان فما رأيك بالذهاب معي إلى القاعة ؟
قلت مباشرة :"فكرة رائعة "
وتذكرت شيئا فقلت :"لكن المشرفة ".....ابتسمت وقالت :
_"إنها المشرفة سعاد "
جاريتها بالابتسامة وقلت :"جيد "
واتجهنا إلى القاعة سويا , وانشغلت رنيم بترديد بغض الأبيات وما لبثنا حتى وصلنا , وكانت المشرفة بالانتظار , وحين رأتني ابتسمت ,وقال :
_"ألم تمتحني , إن الأستاذ أبلغني أن رنيم فقط المتخلفة "
ارتبكت , ولم أقل شيئا..فتدخلت رنيم وأنقذت الموقف بقولها :
_"...بلا لكنها تريد المشاهدة فقط ...وأنا موافقة فما رأيك ؟ "
نظرت إليَ متفحصة وقالت :
_"حسنا "
تنفست الصعداء , ودخلت القاعة برفقة رنيم ..وجلست في احد أركانها , واتصلت المشرفة بالأستاذ , وأخبرته بوجود رنيم فخرج صوت الأستاذ دون صورته "
وقال :_"أأنت مستعدة للامتحان ؟"
فأجابت رنيم :_"نعم ..."
فقال :"ماأسباب سقوط الأندلس واذكري قصيدة ابن الرندي في ذلك ؟"
....وبعد أن سمت _باسم الله _اندمجت في الإجابة وانطلقت في ذكر أسباب سقوط الأندلس .. ثم ذكرت قصيدة ابن الرندي ..وفي النهاية ..قال الأستاذ للمشرفة ..اذهبي إلى رئيسة القسم وأخبريها بأن ترسل من يأخذ درجات الطالبات ..فولت المشرفة خارجة ...وقال الأستاذ :
_"رنيم ..هل أنت هنا "
بادلتني النظرات ..وقالت :_"نعم "
فقال بكلمات هادئة :"السعيد في هذه الدنيا الذي يستفيد من تجاربه السابقة سواء كانت فاشلة أو ناجحة , وقد توسمت فيك العقل فاسدي لك حديثا اعتبريه هدية من أخ صادق ..حريص على سعادتك .."
_"تفضل يا أستاذ "
_"....المعذرة هناك مقدمة لزاما عليَ توضيحها وهي بالعودة بالذاكرة إلى الوراء ..وبالتحديد خمس سنوات ,وحين طلب مني إعادة ما يخصك من أوراق بعد ما حدث مع احد رجال الحسبة , صورتها ثم سلمتها ...كنت قد أضمرت لك السوء .....
.....وبعد فترة من ذلك الحادث علمت أنني مخطئ ..وأن ما قمت به عمل لا يقره خلق ,ومع ذلك عشت صراع داخلي فحواه ..
هل التصرف الذي قامت به رنيم صواب أم خطأ , بالنسبة لي طبعا ...
...حينا أغضب ...وتحفني الكراهية لما أعتبره في حقي مشين ...وحينا أعذرك ..لمحاولتك الإفلات من مخالبي....
وهكذا احترت في أمري ... وملكت القضية عهدا ليس بيسير ....حتى خبى الصراع قليلا مع مرور الوقت ..
..,لكن إرادة الله فوق كل شي , فبعد أن قدمت إلى الكلية للتدريس كانتداب , لم أتوقع أن تكوني في هذه الدفعة ,ولكن قائمة الأسماء , ضمت أسمك كاملا ...
وقد طلبت من رئيسة القسم التقدير العام لكل طالبة ..كل ذاك لأعرف مستواك ...فأعمل على انحدارك...ربما لأثأر من القديم ...
...تصورت أنه لا يوجد ما يهز الوجدان أكثر من الشعر , ولا يسعد القلب ويريح الجوانح والوجدان مثل الأدب , ولكن إجابتك أيقظت الحس من الغيبوبة ...حس نائم منذ الطفولة ..ألا وهو الإحساس الروحي ..بالدين ..
والشعور بالحياة التي يمتلكها القرآن ..وبالقوة التي تنبعث منه ...وفي خضم ذلك ...
تأتي القضية الأخيرة والتي من حياكة رئيسة القسم السابقة ..وإحدى الطالبات ..فنفرت من القضية , ونظرت إليها على أنها قضية مبدأ ..وأن من نال أمر بيده فهو الأحق به ...
...,كان باستطاعتي أن أورطك , وأبرئ ساحتي ..ولكن كلما تذكرت قوله تعالى:) ...وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد )
..أحسب لنفسي ألف حساب قبل أن أخطو أي خطوة .......
...الشاهد مما ذكرت ...
"أنني أعجب من الإنسان ...كيف أعمل المعصية ..ولذاتها مؤقتة ...وسوف يلقى الجزاء لتفريطه مع الخوف من الناس قبل الله ..وكيف يستقيم العيش لمن يأكل على دموع وشقاء غيره ...
كيف يحيا على جثث الصدق , ولأمانة , وحب الناس ...
أختي رنيم , معاني رائعة التي تدفق بها قلبي ...بعد أن وقفت أمام شلال الإيمان , واستقيت من ماء القرآن ..
....فقد انبثق النور من داخلي وأنا مواقع الخطى ...فدومي على الطريق الذي تسرين فيه فو الله إنه لنعم الطريق ...
...أرجو أن تغفري لشخص يسمى عدنان على ما قدم , وتمزقي صفحة من تاريخك تسمت باسمه ......