كاتب الموضوع :
شذى وردة
المنتدى :
الارشيف
ضلالات الحب"21"
- أرجوك ابتعد عني، اتركني، أتوسل إليك، لالالالالالالالالالالالالا.
فزت من رقادها، وعرقٌ يتصفد بجبينها، كانت تتنفس بسرعة، وجهها مبلل، ودموعٌ مالحة تجد سبيلاً إلى فمها المرتعش...
أخذت تنتفض، وحرارة مشبوبة تلفُ جسدها، ضمت ركبتيها إلى صدرها وهي تأن بصوت متقطع...
نامت البارحة على الأرض، في حجرة والدها التي أحتلها "أحمد"، والأخير لازال في سباتٍ عميق، لم يسمع أناتها، دموعها، شهقاتها التي لم تتوقف طيلة المساء...
غرزت أصابعها في ثنايا شعرها بقوة، لعلها توقف الطبول المجنونة التي لا تلبث أن تدق رأسها......
صداع، صداع قوي يطفحُ بخلاياها، لا يترك لها المجال لتلتقط أنفاسها، يدوي كل حين....
انسابت الدموع برقة على جيدها، أثارت ملوحتها تلك الجروح التي خدشت بها نفسها، مسحتها بيدها، رفعت رأسها لأعلى قليلاً، تطالع المكان بعينيها المتقرحتين....
لاحت لها صورته بين غلالة دموعها، يتهادى في وقفته بوجهه الأسمر، أغمضت عينيها بقوة لعلها تجعل من جفنيها ستاراً يحجب صورته، عادت لتفحتهما ببطء وتردد، كان قد اختفى لحظتها.....
ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟!
ارتكزت بكفيها على الأرض، تحاول أن تدفع نفسها لعلها تنهض، ترنحت في وقفتها، أحست بطيفه يضمها، يمسكها من كتفيها بقوة ويعود ليهمس في أذنيها بتلك الكلمات....
ارتاعت وهي تنكمش، ارتمت على حافة السرير وهي تحمي نفسها من سطوته بإرتجاف....
لكن لا أحد، كانت تتخيل من جديد، ضمت نفسها، وصدرها يعلو ويهبط بفزع كلما تذكرت تلك الليلة التي غاب عنها القمر....
لفّت لأحمد وعيناها مغرورقتان بالدموع....
يداه الصغيرتان توسدتا رأسه، بدا في نومه كالملائكة، دثرته جيداً بما أستطاعت به قوتها المعطلة....
انتبهت لصوت هاتفها الجوال، وهو يُصدر نغمة الرسائل، فتحت حقيبتها وانتشلته...
10 رسائل!!! وكلها من من؟!!
من "أمل"!!!!
"مريم، أعتذر لكِ لن أكون موجودة هذا المساء، أتذكرين المفاجأة التي أخبرتك عنها، عن راشد!! تصوري سيقترن بابنة عمي بدلاً من "خالد"، كم أنا سعيدة، باي، وأكرر اعتذاري".
"مريووووم، هل أنتِ غاضبة، ردي عليّ برسالة".
"لا تقلقي سنعود غداً إلى البيت، سأنتظرك مساء الغد"..
ألقت "مريم" هاتفها دون أن تكمل قراءة بقية الرسائل...
أعود!! تريدني أن أعود بعد كل ما حدث؟! كنتُ سأضيع بسببك..لمَ لم تخبريني من قبل لم؟!!
وعادت لنتحب من جديد بصمت، تقلب "أحمد" في فراشه، فقامت بهدوء....
توجهت إلى الحمام، والدوار يرنحها كل حين....
"إذا كنتُ سأعيش فمن أجلك يا "أحمد"، أما أنت يا "خالد" فلن أسامحك أبداً، أبداً"
وسالت دمعة جديدة على الوجه المتعب، هزت رأسها بقوة لتغتسل من الأدران، أدران الحياة كلها، لعل حرارتها تخفت وتخفت النار التي تلسع صدرها.....
===============
كانت قابعة على مائدة الإفطار، تكونت طبقة متماهية على الشاي، أصبح بارداً لا طعم له كحياتها ربما....
ترفع رأسها لأدنى حركة، لأقل نسمة تجولُ المكان، صوبت ناظريها إلى غرفة والدها، تنتظر أن تخرج...
تُريد أن تراها، لم تنم البارحة أبداً، سمعت صرير الباب، أطلت "مريم" بعينيها الحمراوتين، رمقتها من علو، ثم جرّت يد "أحمد" الذي كان يكابد النوم.
"لم تُلقي حتى التحية!!"
ترك "أحمد" يدها ليتناول الطعام مع أخته، صرخت فيه بقوة أخافته:
- لاتلمس شيئاً، سأصنع لك فطوراً آخر، لا تدري أي يدٍ قذرة صنعته!!
تطلع لها "أحمد" بتساؤل دون أن يفهم شيئاً، أما "ليلى" فنكست رأسها ودموع تأبى التوقف تملأ وجهها، أرادت "مريم" أن تضيف شيئاً آخر لكنها أمتنعت، نظرت لها ببرود واستحقار ودلفت إلى المطبخ...
وما أن وصلت إلى الباب حتى أغلقته خلفها وأجهشت بالبكاء، تهاوت كما تتهاوى الورقة قُبيل الخريف، وتظل الرياح تعبث بها لكأنها لا تدري في أي بقعة تُلقيها، و تدور وتدور في كل مكان، وحين تقع، تتفتت، تتفتت هكذا إلى ذرات، فلا تعرف من أي شئٍ تكونت أو ما هي ما هيتها بالضبط، أكانت ورقة أم ذرات غبار!!!!
لم تدري كم بقت على هذه الحالة، قامت عندما سمعت صوت "أحمد" يناديها، مسحت وجهها بسرعة، واتجهت للموقد، خاطبها "أحمد" من خلف:
- "مريوووم" أنا جائع...تأخرت عن المدرسة.
- انتظر دقائق.
- ليلى ذهبت وهي تبكي..
- أحسن.
- لماذا كانت تبكي؟!
- اسألها.. " إذا كانت تقدر أن تُجيبك".
- طيب سآكل شطيرة من تلك التي أعدتها.
- قلتُ لك لا... "كل ما تمسكه بيديها يتلوث!!".
- لماذا؟!
- لا تكثر من الأسئلة.
وأخذت تسكب الشاي الساخن في "الدلة" وهي تحاول أن تركز.
- لماذا؟!
طالعته بغضب وهي تصرُّ على أسنانها بغيظ:
- أصمت.
- دائماً تصرخون علي. قالها بتباكٍ.
- .....................
- أنا لا أحبكم لا أحبكم.
- ..........
- لو كان والدي هنا لما...
ولم يكمل، فقد ندت من فمها صرخة ....
كانت مياه الشاي قد انسكبت على يدها دون رحمة، اتحدت مع الجلد، عضت على شفتيها وهي تتلوى على الأرض التي فاض منها الدخان.......
دفنت جبهتها بأرضية المطبخ، اقترب منها "أحمد" بخوف و بكاءه يرتفع، هزّ كتفيها لكنها لم تستجب:
- "مريووم" قومي..آنا آسف.
- .............
- لن أتكلم مرة أخرى والكعبة الشريفة.
- ..........
- لالا، والله العظيم....مريوووم....لا تموتي...مريووووووم.
وركض كالمجنون إلى "ليلى" تسبقه دموعه وإحساس بالذنب يعتصر روحه، لا يريد أن يفقدها، لا يريد، يكفي أمه، يكفي أبوه، إلا هي، كلهم إلا هي..إلا هي..إلا هي...
- ل..ي..ل..ى، مريووم..مريووم.
أنفاسه تتقطع وغصة تمنع حروفه من الخروج بوضوح، شدّ ثوب "ليلى" التي كانت ذاهلة، غائبة في عالم آخر.
- ق..ومي، مريوم..مريوم..ستموووت.
أفاقت "ليلى" من استغراقها اللامرئي.."ستموت"، تطلعت إليه وكأنها انتبهت إلى وجوده هنا للمرة الأولى.
- ها، ماذا تقول؟!
- قومييييييي.
شدها وهي تسير خلفه كالمسحورة حيثُ المطبخ...
لازال رأسها يلامس الأرض، وقد انتثر شعرها ليخفي معالم وجهها، كانت ساكنة ما خلا من حركة تنفسها الضعيفة....
- ماتت...ماتت. ردد "أحمد" بذهول وهو ينقل بصره بينها وبين "ليلى".
لم تحر "ليلى" جواباً، لازالت فاقدة الحس بكل ما حولها، لكأنها في حالة تأمل صوفية لكل شئ إلا هي!! تطلع لها بفزع لكأن صمتها يؤكد ما كان يردده.
ارتجف فكه بقوة، اقترب من "مريم" جثا بجانبها، لازالت ساكنة في وضعيتها.
- قومي..مريوم.
- .........
- لالالالالالالا. صرخ بهستيرية.
تعفر على الأرض، ركل بقدميه كل شئ ولا شئ، أخذ يضرب الهواء بيديه وهو ينشج بإختناق......
انتبهت "ليلى" لما يدور حولها، فزت من وقفتها وهي تهرع لأخيها الذي يبدو وكأنّ مسّاً أصابه...
في تلك اللحظة رفعت "مريم" رأسها بضعف وقد أبيضّ وجهها من الألم، بدت عيناها صغيرتان، صغيرتان جداً...
تطلعت "ليلى" إلى حيث تعتصر يدها اليمنى وقد طفح الإحمرار بجلدها، تلاقت عيناهما، أشاحت "مريم" ودوار ساخن يعصف بها...
أستلقت ببطء على الأرض من جديد، لكأنّ أرضيته تخدرها، تحسسها بالأمان، ودت أن تغفو، منذُ زمن لم يداعب النوم جفنيها، وهي متعبة، متعبة وتريد أن تنام، أن تنام فقط.....
لكنّ صراخ "أحمد" أفسد عليها هذا الحلم..ومنذُ متى تتحقق الأحلام؟!!
نادتهُ بصوتٍ ضعيف، تكابد الألم، تكابد الحريق الذي بيدها وتلك المستعرّة بقلبها...
- أ..حمد.
لم يكن يسمع، صوتها أضعف من أن يصل إليه في هذه المعمعة، عادت لتغفو من جديد، جفناها ثقيلان، يتكاسلان حين تهم بفتحهما..
جثت "ليلى" بجانبها بوجل، وهي تشير لأحمد بأن يصمت، سكت وهو يرى تحرك رأس أخته لكأنها تجاهد النهوض..
"لم تمت!!".
- أحمد أسرع وأحضر ضمادة لف ومرهم الحروق بسرعة..هيا.
ركض "أحمد" وكأن الحياة عادت إليه من جديد وقد أقسم مع نفسه ألا يُغضب أخته مرة أخرى، سيطيعها ولن يرفض لها أمراً قط، كلهم إلا هي، إلا هي!!!
عاد بكل شئ، ترددت "ليلى" بإمساك يدها، قالت "لا تلمسيني..يدي قذرة وأنا أصيبها بالنجاسة!!!".
ارتجفت يدها حتى قبل أن تمسكها، كانت الأخيرة تهذي بصوتٍ خافت، لم تكن تحس بشئ من حولها في تلك اللحظة، ما خلا اسماً لا يفتأ أن يلهج به لسانها كل حين....
وكان خالداً!!!!!
============
البيت هادئ هدوء الأموات، ذهب الأحباب من غير عودة، ذهب والدي و فرّت "ليلى" !!!!
أجل، لاتنظروا لي بغرابة، ارتحلت مع جنة الليل، إلى أين؟! لا تسألوني لأني لا أعلم...
تركت رسالة صغيرة بجانب المرآة كتبت فيها:
"لن أعود، لا تبحثوا عني!!".
ذهبت هي الأخرى، ذهبت مع الريح!!!
كان هذا منذُ شهر تقريباً على مرور الحادثة....
لم يتبق إلا أنا و صغيري ومحمد، الذي يعتقد أن بيتنا فندق يأوي إليه متى يشاء دون أن يدرك بأننا بحاجة لرجل يحمينا...
أنام الآن مع "أحمد"، نغلق الأبواب والنوافذ حين يحل الغروب، نلتصق، ونرتجف عند أقل نسمة تدقُّ بابنا......
أن تعيش لوحدك عذاب، الوحدة كريهة، قاتلة، تُصيبك بالجنون، لا تجد من يخاطبك، يفهمك أو يسمعك، بإختصار أنا تائهة، تائهة في حنايا الزمن المر....
أُرسل "أحمد" إلى المدرسة في الصباح الباكر، وأبقى لوحدي في البيت، أصادف "محمد" أحياناً، بات نحيلاً وقد دكن لونه، عيناه تأفلان بسرعة، كجحوظ الشمس في لحظة الغروب....
لم يتبق شئ في البيت إلا أخذه ليشتري لنفسه سماً...
الشئ الوحيد الذي قاتلت من أجله هو تلفاز غرفة الجلوس التي بتُ أقضي فيها جلّ وقتي، خفت أن يسرقه فلا يتبق لي غير الجدران أخاطبها!!!!
اعتزلت الآخرين وهم أعتزلوني، أصبحنا كالعيب، الكل يخجل منا، لم تعد تؤثر فيّ نظراتهم أو كلماتهم التي يلقونها بقصد أو دون قصد...
كل همي هو "أحمد"، أجل "أحمد" أخاف أن يجرحه أحدهم بكلمة، وأنا لا أحتمل نظرة ألم في عينيه، تقتلني، تصيرني إلى هشيم....
الأيام تمضي بطيئة، مملة تُكرر نفسها، لم أعتد على سيمفونيتها بعد، اشتقتُ للجامعة، لكتبي، لبحوثي على الأقل كنتُ أسلي نفسي بها....
أما صديقاتي..هه صديقات؟!! كلهن تلاشين، لم يعد أحد يتصل بي منهن الآن، كلهن كذابات، غشاشات، زائفات كفقاعات الصابون....
صديقي الوحيد هو كتابي، ما أوفاه!!! لازلت أُعيد قراءة رواية "بداية ونهاية"، نهايتها تعجبني وتخنقني!!! ما أروعك يا محفوظ.....
أرقب الآن عودة "أحمد" بفارغ الصبر، ليحدثني عن مدرسته، لأساعده في حل واجباته، لأفعل له أي شئ، أي شئ قبل أن يصيبني الجنون...
قد تتساءلون كيف نعيش دون مورد مالي!!
الفضل كلّه لله الذي لا ينسى عباده ثم لجارتنا "أم محمود" التي لا تفتأ تُحضر لنا ما نحتاجه كما لو كنا...كنا فقراء!!!!!
تطلعت إلى يدها التي ترك الحرق أثراً بسيطاً عليها وهمست:
"رحمك الله يا والدي، تركتنا للفقر والذل ومنِّ الناس".......
=================
- قلتُ لكِ لا..
- ما ذنبها إن كان أخوتها هكذا، هي شئ آخر..
- التفاحة الفاسدة تُفسد ما في الصندوق..
- هذا حكمٌ جائر، الإنسان يُقاس بأفعاله، لا بأفعال الآخرين.
صمت "خالد" ولم ينبس ببنت شفه، لمست كتفه وهي تنظر له بتوسل:
- أرجوك يا "خالد"، لقد تركت الجامعة، لم أعد أراها، لم تتوانى قط عن مساعدتي يوماً، والآن أخذلها؟!!
- تركت الجامعة!! منذُ متى؟!
ردت بإنفعال وكأنها وجدت بصيص أمل:
- منذُ..منذُ، تذكر ليلة خطبنا "فرح"، كان ذلك آخر عهدها بالجامعة.
أخرج علبة السجائر من جيب بنطاله، أشعل واحدةً وهو شارد الذهن..
- ها ماذا قلت؟!
- هي نصف ساعة فقط لتزوريها وتعودي فوراً.
ودون حتى أن تسمع نهاية عبارته، هرعت تخطف عباءتها وحجابها، وأنطلقت مع السائق إلى هناك.
==============
- لا تذهب، لاتذهب، لاتتركني لوحدي.
- ماذا تريدين أن أفعل؟
قالها بملل وهو يحك ما بين أنفه.
- أبقى معي، لا أحد هنا وأنا أخاف.
- آسف، لدي موعد مع أصدقاء.
- أنا أختك، أختك، حرااام...
وانتحبت بمرارة وهي تُمسك بتلابيب قميصه لتمنعه من الخروج، أبعد يديها بعنف وهو يشرع بإكمال طريقه.
- "محمد"، لاتذهب، سأعطيك ما تُريد فقط أبقى معي، أبقى معي...
وتوقف وقد انتقلت الحكة إلى صدره، نظر لها بلؤم وهو يسأل:
- ماذا ستعطيني؟
وكأنها وجدت في سؤاله بصيص أمل، بلعت ريقها بإزدراد وهي تردف:
- لدي 30 درهم، هذا ما تبقى عندي. قالتها بإستعطاف.
- أجلبيهم.
- حسناً..حسناً. انتظرني لثوانٍ فقط، لا تذهب.
وجرت لغرفتها بسرعة وهي تتلفت خلفها كي لا يغيب عن مرمى عينيها، فتشت درج خزانتها بجنون، عادت إليه وهي تمسك الأوراق النقدية.
تناولها وهو يعدها، حك أنفه من جديد، ووضع الأوراق في جيبه، تأملها لثوانٍ، أشار لعنقها وهو يردف:
- أعطني هذه أيضاً.
نظرت إلى حيثُ أشار، قبضت على قلادتها الفضية بيأس ويدها ترتجف:
- لا إلا هذه، إنها هدية من أمي، من أمنا في عيد ميلادي. قالت بإستعطاف.
- أعطنيها وإلا خرجت.
فتحت فمها لتقول شيئاً ما لكنها أحجمت، تأملت قلادتها، كانت على هيئة قلب صغير، في داخله آية "الكرسي"، تطلعت لأخيها وهي تهز رأسها بتوسل، بإستعطاف، بذل لكن أنى للصخر أن يتحرك!!!
مدت يديها خلف شعرها، فكت عقدة القلادة، وكأنها تفك خيوط حياتها، جذورها، حيثُ نفحة الغالية، حيثُ ذكرى والدتها في عيد ميلادها السادس عشر، في آخر عام كانت معهم فيه....
اهتزت يدها، لكأنها تستنكر هذا الفعل المشين، انساب العقد بين أصابعها، فتحت القلب، واستخرجت الآية المقدسة، ضمتها بيدها اليمنى، وناولتهُ قلادتها بيدها الأخرى التي لا تكف عن الاهتزاز......
توسلته بعينيها الدامعتين للمرة الأخيرة، وضعها في جيبه هي الأخرى دون أن يبالي بحديث عينيها....
وسار!!!!!!!!
فتحت عينيها على أشدهما، وهي تعض على شفتها اليسرى، أفلتتها و صرخت بقهر، بألم، بلوعة و بأعلى صوتها:
- محمدددددددددددددد..
لكنهُ كان قد ارتحل، تركها وهي تتأوه، تنشج على الأرض كنشيج الميازيب في مواسم المطر.....
خذلها، أخوها خذلها، من سيبقى لها الآن؟!!
لا يوجد أحد، لا أحد...
نظرت إلى السقف وشهقاتها تتصاعد، ويدها تعبث حيثُ انتُشلت القلادة، ودت أن تخترقه، أن تصل إلى فوق، إلى أبعد نقطة، لعلها تلحق بأمها وأبيها، حيثُ الكرامة، حيثُ لا ذل، حيثُ الأحد!!!!
عادت لتتلمس جيدها الذي بات خالياً، وخزات متلاحقة تصيبها في الأعماق كسهام عمياء، نكست رأسها تبكي على حالها بصمت كما أعتادت دوماً....
تناهى إلى مسمعها دق الباب، أرتاعت في جلستها وهي تلتفت حولها بذعر، الدقات ترتفع وهي تتراجع إلى الوراء بخوف، كانت تريد أن تعدو لغرفتها وتوصدها عليها بالمفتاح لكن الخوف شل من حركتها، لم يسمح لها بما تُريد...
من القادم الآن في عزّ الظهيرة؟!
انفتح الباب، وولجت إلى الداخل بتردد.....
تطلعت إلى الوالجة بذهول، ترمقها بتعجب، لكأنها آخر شخص تتوقع أن تراه...
اقتربت منها "أمل"، ارتمت في حضنها وهي واقفة دون استجابة، تأملت حنايا وجهها الوله، يسبقها الشوق، يرفُل بأعذب آيات المحبة.....
لحظة هذه أخته، أختُ ذلك القاسي، ذلك المجرم، ذلك ال.....
أخفضت من بصرها، عينيها باتتا أصغر حجماً من كثرة النياح، بدت لها رفيقتها ضبابية.....
- لماذا جأتِ الآن؟! قالت وكأنها تخاطب شخصاً من بعيد.
- مريم أنا...
- أنتِ السبب، أنتِ السبب...
لفت وجهها إلى الجانب الآخر، لم تفهم "أمل" شيئاً، وكيف لها أن تفهم؟! مستحيل أن يتفوه ذلك ال**************** بشئ....
صدت لها، تنظر إليها بعينين غشتهما دموع أزلية:
- جأتِ لتشمتي بي..لتخبري الفتيات بحالتي، أليس كذلك؟
- مريم ماذا تقولين؟!
- قولي للجميع أني بخير، بأفضل حال من دونهم.
- أنا جأتُ من أجلك، لأنكِ صديقتي، أروع صديقة أكتسبتها في حياتي.
- ..............................
- وإن كنتُ قد تأخرت لزيارتك فلظروف..ظروف خاصة.
- لا يريدونك أن تزوري واحدة مثلي، أخوها مدمن مخدرات وأختها.....
لم تكمل، خنقتها الغصة، ألجمت كلماتها، أجهشت بالبكاء، دموعها باتت رفيقتها اللجوجة، لاتفتأ أن تصاحبها كل حين.....
- أنا أمقتكم جميعاً، أخرجوا جميعاً ومن حياتي إلى الأبد..
- مريم أرجوكِ....
- انسي أنكِ تعرفين واحدة بهذا الإسم، انسها ووفري عليّ وعلى نفسك المشقة.
- هذا غير ممكن، غير ممكن البتة، لا ترمي بصداقتنا عرض الحائط.
"صداقتنا ماتت بسببه، ألستِ أخته، ألستِ تشبهينه، دماءه تسري في جسدك، كلكم متشابهون، كلكم".
أبعدتها عنها وهي توقف سيل دموعها:
- لاتعودي إلى هنا مرةً أخرى، وبلغيهم أنّ مريم لن تذل نفسها لأحد بعد اليوم، أبداً، أبداً...
هزت "أمل" رأسها بأسى، دارت لتواري دمعةً تسللت في الخفاء وتراجعت خطوة....
مدت "مريم" لها يدها بجزع، لكنها انتبهت لنفسها ولمت ذراعها.
- انتبهي لنفسك، وتأكدي إن أحتجتِ يوماً لأحد، فأنا موجودة دوماً....
وشرعت بالتحرك، ستذهب هي أيضاً، كلهم يذهبون و..يتركوني!!!
- "أمل" انتظري...
وهرعت إليها لتحتضنها بقوة، لعلها تمدها بالأمان، بالدفئ والحنان في أيام تبدو قاسية جداً....
بكت كلتاهما على كل شئ ولا شئ، على الأيام، على الفراق، على الزمن...
أخ ما أقسى الزمن!!!!
- سلمي لي على سلمى ومنى وك...وكل البنات.
- إن شاء الله.
- و كلما أنهيتي كتاباً أحضريه لي لأسلي به نفسي، وإذا لم تستطيعي القدوم أبعثيه مع السائق.
- ألن تعودي إلى الجامعة؟!
- لاأقدر، لا أقدر، ليس بمقدوري، لاأدري، لا أدري..ليس الآن.
- لاتبكي يا عزيزتي، كوني قوية كما عهدتك.
- سأحاول..أتمنى ذلك. رددت بيأس.
وما نيلُ المطالب بالتمني
ولكن تؤخذُ الدنيا غلابا......
- مع السلامة.
- ستذهبين الآن؟! سألت بألم.
هزت رأسها بإيجاب وهي تؤكد:
- لا تقلقي سأزورك بين الحين والآخر.
- ..........
- مريم لن أنساكِ أبداً..أبداً.
حضنتها من جديد وهي لاتود إفلاتها، نزعت نفسها غصباً وهي تودعها:
- هيا أذهبي، لقد تأخرتِ عن العودة.
- أعتبر نفسي مطرودة.
- نعم. ابتسمت مريم ابتسامة باهتة.
- مع السلامة.
- مع السلامة.
انصرفت وروحها متعلقة بالواقفة هناك، لحقتها مريم حتى الباب، تحركت السيارة، تابعتها ورأسها يشرأب كل حين...
توارت مع غبار السيارة، التحمت مع حافة الباب، أغمضت عينيها وهي تشهق، عضت على نواجذها وهي تأخذ شهيقاً بطيئاً...
لابد أن تمسح دموعها، فبعد قليل سيصل "أحمد" وهي لا تريده أن يرى دموعها، لا تريد أن تزيد من آلامه، يكفيها سؤاله الدائم عن "ليلى".....
"ليلى، يا ترى أين أنتِ أين؟!"...
وكأنها ارتاعت من وقفتها بالخارج، فدخلت وأغلقت الباب خلفها تنتظر دقات القادم بعد قليل...
==============
كان ينتظرها بفارغ الصبر، قتلهُ الانتظار، وعصفت به خواطره، أفكاره وظنونه كأمواج البحر، تطفو حيناً وتغزر حيناً آخر، لا قرار لها....
لاحت سيارة العائلة السوداء، تنحى عن الباب وهو يوسع الخطى إلى هناك، فتح باب السيارة قبل أن تفتحه، عاجلها بالسؤال:
- ها كيف حالها؟! سأل بلهفة.
لم تجبه فوراً، ترجلت من مقعدها، وجهها يرفُل بآيات الحزن، العينان منطفئتان والوجه ساهم وقد علقت بقايا دموع في حناياه.
- كيف حالها؟! كرر بدون صبر.
- بخير. ردت بإختناق.
تنهد بإرتياح وإن كان صوتها لم يرحه، تطلع لها بتساؤل وهو يرى الدموع تنساب من المحجرين، أمسك يدها بقوة وهو يقول:
- أنتِ تخفين شيئاً، قولي ماذا بها؟! أجيبي...
- إنها..إنها...
- إنها ماذا؟! أجيبي.. سأل بخوف.
- لا أدري، لا أدري.
وأجهشت بالبكاء، أدخلها للداخل، وقلبه يدق بقوة كطبول مجنونة، أجلسها على الكرسي لتهدأ، أخذ نفساً عميقاً وهو يكمل سيل أسئلته:
- ماذا تقصدين بكلامك، أفصحي..
- لو رأيت حالتها، كيف تعيش، لاشئ في البيت، البيت خالي إلا من الجدران، أتصدق كانت لوحدها، لوحدها في البيت.
شهقت وقد منعتها الغصة من أن تكمل، أما هو فتقطع قطعاً صغيرة، انقبضت عروقه وبدا كل شئ ضبابياً بالنسبة إليه...
- كيف لوحدها؟! وأخوها!!
- حين وصلت هناك، كان قد خرج، خرج ذلك المجرم وتركها لوحدها..
"مجرم!! ليس هو فقط، لو تدرين ماذا فعلتُ بها!!".
أطرق برهة، ومئات الخواطر تتقاذف بذهنه، تعتصره عصراً، تقذف به إلى القاع، أكون أو لا أكون..تلك هي المشكلة!!!
تطلع لأخته، لازالت تبكي، أحس بالشفقة لها ولنفسه ولتلك القابعة ليس ببعيدٍ عن هنا....
جفل من نغمة هاتفه، قطع عليه تأملاته السرمدية ورثاءه لنفسه...
نظر للرقم الذي يتوسط الشاشة، كان غريباً، ضغط الزر وأنساب الصوت:
- آلو.
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام.
- السيد خالد ال...؟!
- نعم.
- معاك مستشفى (....) قسم الحوادث.
- ............
- أنت معي؟!
- ن..عم. ردّ بتقطع وقد جفّ حلقه.
- "فيصل ال..." سعودي الجنسية، تعرفه؟!
- أجل. هوى قلبه للأعماق.
- لقد أصيب بحادث سيارة، أرجو أن تحضر فوراً.
أغلق السماعة، لم يسمع كل ما قاله الرجل، بدأت الدنيا تدور وتدور كداومة مجنونة، والصفعات لا تتوقف، أينما استدرت انهالت عليك، وتستمر الدوامة في الدوران...
===============
الساعة الآن الواحدة والنصف، و "أحمد" لم يعد بعد، دارت حول الصالة بتوتر، تتطلع إلى الساعة كل حين وتهرع إلى الباب حين تسمع بوق سيارة، أو خطوات إنسان أو حتى دبيب نملة!!!
الساعة قاربت الثانية، أين هو يا ترى؟!
ارتعدت فرائصها..أحدث له مكروه؟!!
شعرت بالجزع، وضعت أصابعها بين شفتيها المرتجفتين، ماذا تفعل الآن..أجيبوني؟!
أبوها ليس هنا...."ليلى" ليست هنا...."محمد" ليس هنا...لا أحد هنا، فقط هي وهذه الجدران التي تخاطبها بجنون...
من سيساعدها، من سيبحث عن "أحمد"...لا أحد، أقول لكم لا أحد...
لا بل يوجد أحد.
يوجد الله ثم .......
هرعت إلى الشماعة، سحبت عباءتها، وانطلقت خارجاً، كادت تتعثر، وصلت لبيت "أم محمود"، جارتها، دقت الجرس بقوة دون أن تتركه ثانية واحدة، أطلّ "محمود" بوجهه، سألته بلهفة:
- أمك موجودة؟!
- أجل، هنا..تفضلي.
- لا، قل لها أريدها فوراً.
حضرت المرأة مسرعةً وهي تعدل من وضع وشاحها:
- ماذا بكِ يا ابنتي؟!
- "أحمد" أخي، لم يعد بعد من المدرسة و...
- اهدأي، اهدأي ربما يلعب مع الأطفال والآن سيعود.
- كلا كلا، إنه لا يتأخر أبداً. "لا يريد أن يتركني لوحدي، يفهمني هذا الصغير".
- طيب، ارتاحي أنتِ وسنبحث عنه.
تطلعت إلى ابنها الذي ناهز الثلاثين من عمره، فهم نظرتها:
- سأذبحث للبحث عنه، لا تقلقي سنجده إن شاء الله.
- سآتي معك.
- لا يوجد داعٍ، سأجده.
- لا سآتي، سأبحث معك، ماذا لو أصابه مكروه، سيكون بحاجة لي. قالتها وهي توشك على البكاء.
هزّ كتفيه بيأس، فسارت خلفه ومعهم "أم محمود" طبعاً...
بحثوا بالقرب من مدرسته، وبالدكاكين والمحلات المجاورة، لكن لا أحد، لم يجدوه، وكلما زادت الدقائق زادت دقات قلبها الجزعة، كانت تستند بضعف في كل ركن، تمسكها "أم محمود" وهي تترنح، ترفع رأسها بسرعة كلما لاح لها طيف طفل، تفتش في الوجوه، وتدعو الله باللطف، اللطف فقط...
الساعة الآن الثالثة، خانتها قدماها، لا بد أن شيئاً جرى له، لا بد، اختطفوه ربما، ضاع!!!
- أحمدددددددد...
صرخت ونياط قلبها تتقطع، أسندتها "أم محمود"، هتفت لإبنها جزعة:
- خذنا إلى البيت بسرعة، لقد أغمي عليها.
عادوا إلى البيت، تفتح عينيها ببطء وتعود لإغمائها......
تهذي بإسمه، ودموع تنساب من عينيها المغلقتين!! تنساب رغم إغماءها!!!!
==============
وصل "خالد" إلى حيثُ "فيصل"، كان مسجى على السرير، وقد أحاطت به الأجهزة والضمادات كأذرع أخطبوط!!!
مثخنٌ بالجراحات، صدره يعلو ويهبط بضعف، ارتجفت يد "خالد" وهي تمسك بعمود السرير...
"فيصل" فيصل!!!!
ناداه بصوتٍ أجش، لعله يسمعه، لعله يخاطبه قبل أن يفوت الأوان وينتهي كل شئ، كل شئ!!!
أخبره الطبيب أن فرصة نجاته ضئيلة جداً، أحس بأصابع واهنة تلمس يده، تطلع..
كانت أصابعه تتحرك دون هدى...
اقترب منه أكثر، دنى من وجهه، فمه المتيبس يتحرك بصعوبة، بصعوبة شديدة...
- خا..لد..
وبكى، بكى ولم يكمل..أغمض عيناه وأصابعه تزيد من ضغطها الواهن على يده..
"فيصل...يبكي!! ذلك الذي يفتر ثغره دوماً عن ابتسامة..عن ضحكة تجلجل المكان..يبكي!!".
- سأموووت..سأمووت.
أخذ يردد بصوتٍ ضعيف، بكى "خالد" هو الآخر، بكى من الداخل، على روحه، على صديقه، على كل شئ....
- سأموت قبل أن أودع أمي، أخوتي الصغار.
- .............
- أتذكر حين اتصلت بي أمي ذلك اليوم ترجوني العودة، رفضت، أردتُ أن أمتع نفسي هنا..يا ليتني عدت، لن أراها الآن، لن أراها....
لازالت الدمعة عصية في عينيه، حلقه جاف، يرفض أن يترطب ليخاطب ذلك الذي يعالج سكرات الموت...
اهتزّ بدنه، وتنفسه يزداد، أمسكه "خالد"، ضغط على يده ليهدأ من نفسه، حرك "فيصل" رأسه بضعف ناحيته، ابتسم، ابتسم واهنة:
- لاتنساني يا "خالد" لا تنساني، أنت أفضل رجل صادقتهُ بحياتي لولا غرورك...
عادت دموعه لتنساب من جديد، سرت قشعريرة في جسد "خالد" خاطبه بهمس:
- ما هذا الهراء يا رجل، ستقوم، ستقوم بعد قليل لتملأ أجنحة المستشفى بصوت ضحك....
اختفى صوته، أختنق في حنجرته، كان مغمضاً عينيه و على الشفتين ابتسامة.
هزه "خالد" ورعدة بقلبه تزلزل أطرافه، تكاد تُسقط جسده الثقيل من علو إلى الأرض، أسفل سافلين!!!
فتح "فيصل" عينيه بصعوبة وكأنه يكابد ثقلاً، تنفس "خالد" الصعداء ولمعة تتألق في عينيه.
- لاتنم يا "فيصل" لا تنم، أبقى مستيقظاً..قليلاً، قليلاً فقط... قالها بترجي، بتوسل.
- سأموت يا خالد، سأموت لا فائدة.
- كلا لا تقل هذا.
- سأموت وأنا وأنا....
حينها تغيرت ألوانه، تجعد وجهه وهو يردف بإختناق:
- وأنا فاسق، زاني، لا أصلي ...
تدحرجت الدموع بغزارة من تلك العيون العصية، لمّ جسد صديقه لعله يهدأ بين ذراعيه.
- لا أريد أن أموت الآن، ليس قبل أن أعتمر، أن أحج..لا أريد أن أدخل النار..لا أريد أن أموت الآن لازالتُ شاباً...لالالالالالالا
اهتزّ الجسدان معاً، كان "فيصل" يمسكه بقوة، لكأن بإمساكه يمنع ملك الموت أن يأخذه، يحاول أن يتشبث به حتى الرمق الأخير، فليبتعد، ابعدوا "عزرائيل" عني أبعدوه...
- خ..ا..لد لا..لاتنساني بدعائك أبداً...
"والتفّت الساقُ بالساق، إلى ربك يومئذٍ المساق"
أمواج السراب تتلاطمُ من بعيد، الصمتُ يخيم حول المكان ما خلا غصات بالقلب وجروح متقرحة بالذاكرة، أفل الجسد، وغابت الروح، عرجت إلى الملكوت، حيثُ الحساب، حيثُ إما الجنة أو النار.....
لازال "خالد" ممسكاً بالجسد، يضمه، يشمه، يسكب عليه دموعه، يبكيه بحرقة ولأول مرة يبكي...
بكى بقوة بكاءاً غير طبيعي البتة، كان خائفاً، خائفاً بشدة، زاد من ضمه للجسد الذاوي، عبراته تخنقه، ودّ أن يصرخ، أن يزلزل أروقة المستشفى.
"أعيدوا فيصل أعيدوووووه".
==============
أفاقت من إغماءها، تطلعت إلى العيون المحدقة بها، فتشت خلفها لعلها تجد تلك العيون الصغيرة التي تعرفها، لكن لا أحد...
أحتقن وجهها، وبدأ فكها بالإهتزاز، تريد أن تسأل، أن تصرخ، أين هو أين؟!
- لا تخافي يا ابنتي، لقد وجدناه، وجده "محمود".
- أين؟! ولماذا ليس هنا؟! أنتم تكذبون..لقد حدث له مكروه، قولي الحقيقة.
- إنهُ في..في المستشفى.
- ماذا؟!
- ضربه أحد الأطفال و..شجّ له رأسه.
أنهضت نفسها بتثاقل رغم ممانعة المرأة لذلك.
- أين ستذهبين؟!
مسحت دموعها الملتهبة، الحمد لله وجدوه، لك الحمد والشكر يا رب.
- سأذهب إليه، سأذهب للمستشفى.
- أنتِ متعبة.
- أنا بألف خير.
- سآتي معك.
دلفتا معاً إلى المستشفى، قسم الحوادث، كان القسم مزدحم بشتى الناس، لكأن أصابهم جنون، معظمها حوادث تصادم سيارات..والسرعة قاتلة لا ترحم....
أخذن يبحثن بين الرؤوس، يسألن الممرضات، والكل لا يعرف عن أحد، الكل مشغول، منهم من ينتظر مصير من يحب، ومنهم من ينتظر يد الجراح لتقتصّ منه!!!!
أشكالهم كانت منفرة ومفجعة، ورائحة المستشفي تصيبها بالدوار....
- أجلسي هنا يا ابنتي، سأبحث أنا عنهم، لا نريد أن يُغمى عليكِ من جديد..
هزت "مريم" رأسها إيجاباً بضعف وهي تغمض عينيها....
باقي من الزمن ساعة، أليس كذلك؟!
كان يستند بالجدار كل حين، يلتفت إلى تلك الغرفة التي حملت جثمان صديقه، مثواه الأخير....
ترحّم عليه في سره مراراً وتكراراً، وشعور بالخوار يجتاح ضلوعه، يصيرهُ شفافاً، خفيفاً، لا جلَد له...
مسح دمعته المنسابة بحياء بين حنايا وجهه المتعب، الممر يبدو طويلاً لا نهاية له، وقد أنزوى في أروقتها أجساداً متناثرة هنا وهناك، بعضها يبكي وبعضها يُعانق!!!!!
تأمل صفحات هذه الوجوه، يرى في كل صفحة صورته، صورة "فيصل"..
"أخ أيها الغالي"...
لم نحس بقيمة الشيء بعد أن نفقده؟!!
مسح وجهه، وأعين فضولية تراقب الصراع الكامن بوجهه...
تابع سيره، والخوار يعود ليعتريه، يُشعره بالهمدان...
مرت عليه نسوة ثاكلات، أفجعه نياحهن، فليساعدك الله يا "أم فيصل"، بل فليساعد الله كل أم مفجوعة بفلذة كبدها...
دموعه العصية باتت هتونة، أخذت تذرف بغزارة، وهو يذكر أمه، دعا من الله أن يحرسها له...
"يا رب أحفظ كل أمهات المسلمين"...
لم يشعر "خالد" قط بأنهُ قريب من الله مثل هذه اللحظة، كان يدعو بحرارة نابعة من القلب، لا بل من سويداء القلب، تحت الأحشاء مباشرة...
أجساد تتصادم به، لازالت تسرع بجنون هنا وفي الخارج!!!!
الناس لا يتعظون أبداً...أبداً...
أستند من جديد على الحائط وهو منكسٌ رأسه، رفعه فجأة...
لكلُّ منا حاسة سادسة..أليس كذلك؟!
هي، هذه هي، أقسمُ بذلك، إنها هي، هي، هي....
رأسها مستند بالخلف بالجدار، عيناها مغمضتان، وتنفسها بطئ، بطئ جداً...
ارتعدت فرائصه وباتت حواسه ذاهلة، معطلة...
تلاشى صراخ الناس، نياحهم، فوضتهم، كل شئ بالنسبة إليه ما عدا هي...
تحرك رأسها بالضيق من على الجدار، وجهها يعبس، لكأنّ شيئاً يضايقها...
وجهها ذابل، شاحب، آآه يا قلبي...
ورنّ في ذهنه سؤالاً فاجئه...
ماذا تفعل هنا بالمستشفى؟!
"أخرس يا خالد، من أنت لتسأل، يكفي ما فعلته بها"..
لكنني لا أستطيع، صدقوني، أفهموني أرجوكم، لعلكم حينها تُفهِموني!!!
فتحت عيناها ببطء لكأنها أحست بعيون تراقبها، تتأملها على غفلةٍ منها، خلسةً كاللصوص!!
كان يريد أن يبتعد عن ناظريها، لا يريدها أن تراه، ليس الآن..ليس الآن، ربما في وقتٍ آخر!!!!
لكن قدماه عاندتاه، ترفضان أن تطيعه، وأتت اللحظة الحاسمة...
رأته، رأته بأم عينيها...
لالالا لا يا إلهي لا...
رآها تنثني على نفسها لكأنها تعتصر شيئاً ما، لا يا ربي لا...
أخذت تستفرغ بقوة وهي تكاد تلامس الأرض وتنفسها يزداد بجنون...
لم يظهر شئ، كانت تستفرغ ذلك اللاشئ!!!!
أصبح وجهها أحمراً قانياً، الضغط كله أنصبّ على وجهها، حين أنحنى الجذع النحيل...
هرعت إليها الممرضات المارات، أمسكنها وأصوات تنادي بنقلها لغرفة ما...
كانت تقاوم، تشير إلى شئٍ ما....
لم يفهمنها الممرضات أما هو فبلا...
كانت تشير إلى المجرم..إليّ أنا...
دار حول الجدار، ودلف لممرٍ آخر....
ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟!
=================
يا رب ما لمحنتي إلاًّك
وما بقيتُ واقفاً لولاك
إن لم تمدني برحمةٍ فلن
أقدر أن أقاوم الهلاك
لي ضعفُ إنسانٍ وبي عيوبهُ
فأنت ما خلقتني ملاكا....
|