أحضر جَمَله ووضع على ظهره كل ما استطاع
أن يجمعه من المتاع، وقبل أن يهُمّ بالمسير،
تذكّر تلك القشة المعدنية التي أهداها له أبوه
قبل موته، دخل البيت وبحث عنها إلى أن وجدها
وسط بعض الأغراض التي كان قد أهملها.
أخرجها من كيس صغير، وأمسكها بأصبعيه
ناظراً إليها؛ إنها قشة صغيرة؛ لكن لها في
القلب مكان كبير.
عاد أدراجه ثم وضع القشة بين المتاع الكبير
الجاثم فوق ظهر الجمل؛ لكن المفاجأة أن الجمل
لم يتحمل أي شيء إضافي؛ فانهار من ثِقَل
الحِمل الكبير.
نظر الرجل مصدوماً إلى الجمل، وهو يلفظ
أنفاسه الأخيرة، ثم قال مندهشاً:
"كيف لِقَشّة صغيرة أن تفعل هذا بجمل قوي مثله؟!".
لم يدرك هذا الرجل أن معاناة جَمَله قد بلغت
الذرى، وأنه لم يكن بحاجة إلى أي ثقل إضافي؛
حتى وإن كان بحجم قشة صغيرة تافهة.
لم يدرك أن ما قَصم الظهر هو الغباء والتحامل،
والنظر للأمور بعين تفتقر إلى الفطنة والحكمة؛
فكان ما كان من خسارة فادحة ألمّت به، وأخذت
منه الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تساعده
في سفره وترحاله.
وكثير منا -مع الأسف- يقع في مثل هذا المأزق،
يتعامل ببلادة شديدة، وعدم وعي واهتمام،
ويُخيّلُ إليه وهمُه أن الأمور تسير وفق ما يشتهي،
إلى أن يجد نفسه قد خسر كل شيء في لحظة.
زوج وَهَبَه الله زوجة رائعة طيبة، ذات أصل
ونسب؛ فلا يشكر نعمة الله، ويتعامل معها
بقسوة واستخفاف؛ إلى أن تأتي اللحظة
الحاسمة، ويضع قشّة صغيرة على كومة
مشكلاته؛ فتنهار حياته بأكملها.
صديق جَادَ عليه الزمان برفيق مخلص وَفِيّ؛
لكنه لم يعِ فضل الله عليه، ولم يحفظ حق الصداقة،
أو يرعَ حق الزمالة؛ إلى أن جاءت نقطة صغيرة
فاض بها كأس الألم والمعاناة، وكانت القشّة
التي قصمت ظهر الأُخُوّة.. هذه القشّة التي يمكن
أن تكون كلمة عابرة، أو موقفاً تافهاً،
أو سلوكاً غير مسئول.
ويبدأ الاستنكار، والدهشة، والرفض..
كيف لكلمة عابرة أن تُحطّم صداقتنا؟
!! كيف لعبارة في وسط الكلام أن تُنهي حياتنا
الزوجية؟
!! إنها كلمة عابرة.
إنها قشّة صغيرة تافهة!!
نعم قشّة؛ لكنها قاصمة؛ لأنها أتت فوق ظَهْر
ٍ قد أحْنَتْه كثرة المشكلات والهموم، وأثقلته
أيام، وربما سنوات من التحمّل والصبر والمعاناة.
يقولون "لكل شخص طاقة على التحمّل"..
لا يوجد خارقون في الحياة، كلنا بشر، ربما
تتفاوت قدرتنا على التحمل؛ لكن الثابت أن هناك لحظة ما، ينتهي فيها كل شيء، ولعلّ مَن اقترب
من علاقة محطمة -سواء زوجية أو إنسانية
بشكل عام- سيسمع عبارات من نوعية
"لم أعُد أحتمل"،
"ليس لديّ ما أقدّمه"،
"لقد استنفدت معه كل السبل".
ولو حوّلت نَظَرك إلى الطرف الآخر ستصدمك
تلك النظرة البلهاء، وسترى في عينيه
نفس السؤال الساذج
"كيف لموقف تافِهٍ أن يفعل ذلك؟!".
إننا قادرون على تجنّب هذا الموقف،
إذا ما تعاملنا بذكاء وفطنة مع الحياة،
إذا ما أعطينا علاقتنا الإنسانية ما تستحقّه من
الاهتمام والحرص والحذر، إذا لم نستخفّ
بصغائر تتراكم فوق ظهر علاقتنا دون
انتباه منا حتى تُثقله.
أن ننتبه قبل أن نقول، ونفكر قبل أن نفعل،
ونعتذر إذا ما بَدَر منا ما يستحق الاعتذار،
ونُعلّم أنفسنا ألا نستخفّ بالتوافه أو الصغائر؛
فربما كانت -على صِغَرها- قاصمة للظهر.
مما تصفحت