عند الناصية حين حاول الانعطاف ناحية الزقاق متتبعاً انسياب المياه من إحدى المجارير تذكر الأمر على نحو لامع . بدت له الفكرة الطارئة ، غريبة و مختلطة مع كثير من الماضي . الأمر لم يعد يخلو من الأوهام المندفعة مؤخراً في ذهنه . لذا قرر أن يترك لعبته التي بدأها من تفرع شارع جمال حتى نهاية الشارع المار من أمام ميدان المعلم ، اتجه بهدوء إلى الفندق البلدي و أخذ يفكر جدياً بأن مبنى الجديد الخاص بالمتفوقين رائع ، و إنه من الجيد لو استطاع أن يدخل أخوته في تلك المدرسة . أفكاره جامحة و لا تعني أحياناً أي شيء . قدراته في فهم الحياة قد تختلف مع الجميع و لكنها بتأكيد لا تتفوق على أحد . غالباً ما يضطر لأن يجلس في إحدى الحدائق و يعترف لنفسه بأنه يعاني بعض المشاكل ، و لكن أية نوع من المشاكل تلك ؟ ما هي مشاكله ، لا يعرف على الإطلاق ، إنها جزء من تلك المعضلات التي تتحكم في تفكيره أثناء تجواله عبر شوارع بنغازي .أحياناً يقول لنفسه بأن أحدهم يمكن أن يكون أفضل منه في مجال ما ، و لكن المصيبة هو أن يكون الجميع أفضل منه . عندها يغرق لوحده محاولاً أن يصنف الأمور الجيدة لدى الناس ، يضع قائمة صغيرة تتضمن أحلام أناس التقى بهم . أحلام صغيرة و عادية لا ترقى مطلقاً إلى مرتبة الطموح ، سمع بعضها عبر الانترنت من كافة شبان العالم ، دريمات عادية لا تحمل في داخلها أي مضمون حقيقي ، أحلام بلا جوهر ، هكذا يكتشف بأنه ربما الوحيد من بين مئات الآلاف الذي يحمل فكرة حقيقية ، في الواقع هو لديه فكرة حقيقية كل ربع ساعة ، معدل رهيب من الأفكار الحقيقية . أخذ يسجلها في يومياته بهدوء و صبر . أحياناً تلوح له تلك الأفكار غير مترابطة عندما يعيد قرأتها في الليالي وحيداً ، الأمر غريب بالفعل ، حين تخطر له الفكرة يعتقد بشكل جازم بأنها الفكرة الأقوى و أنه توصل أخيراً إلى استنارة كاملة ، تبدو له الشوارع و المحال الصغيرة و أعماق المقاهي المظلمة رائعة فعلاً ، يجلس على إحدى الكراسي و يطلب على ثلاث مرات أكواب كاملة من المكياطة ، ينثر فيها حبوب الكاكاوية التي يحملها دائماً و يشرع في الشرب و المضغ . مرة سأله النادل الشاب عما يمضغ و كان قد أثار فضوله منذ شهور .
- كاكاوية .
- ها ؟
جزء من البلاهة التي ترتسم على وجوه الناس حينما يكتشفون أمراً سخيفاً يقوم به شخص ظنوه يوماً شيئاً ما . غالباً ما ينسى تلك البلاهة و يرغم نفسه على التجاهل و كأنه لم يلاحظها ، حتى إنه يسميها بلاهة حماية لنفسه من التأثيرات السلبية للأفكار – نحن هنا نستخدم تعابيره الخاصة بما أن كل الحديث عنه – تلك البلاهة لا تعني له سوى أنه ما يزال على خطه القديم . أما عن مشاعره فإنه يعرف أيضاً بأنه أقوى مما قد يظن أي شخص . مع أنه لم يصل بعد إلى مفهوم حقيقي حول معنى القوة في إطار حياته . فأفكاره المترابطة في نهارات معينة تتضح له في الليل بأنها مجرد هباء بلا معنى . معضلة تجعل حياته خالية تماماً من الحقائق . من ناحية أخرى فإنه يعلم تماماً بأن الحقائق النهائية أمر سخيف أيضاً ، منذ سنوات كف عن الإيمان ، و لم يكن يخشى أن يتخذ موقفاً محدداً تجاه الناس ، و لكن المعضلة الأخرى في حياته هو إنه الكف عن الإيمان يعني دوماً الكف عن الثقة ، صار لا يثق بأحد و لم وجد الأمر مؤلماً عاد يفكر في مفهوم الإيمان نفسه ، وجد بأنه لابد أن يفكر جيداً في أمره ، و إلا سيورد نفسه في معضلات أكثر رسوخاً و قدماً كان قد عاهد نفسه بأنه لن يكرر أخطاء الآخرين ، حسنا لنكن واقعيين إن سيره الدائم عبر طرقات بنغازي خلق منه شخصاً عنيداً لا يفكر على الإطلاق في إمكانية الخطأ . كتب ذات مرة في يومياته : " شخص مثلي ، يحتك يومياً بالشوارع في بنغازي : كيف لا يكون فاقداً للإيمان ؟ " لأنه لا بد أن يفقد أمراً من الاثنين : الإيمان أو الثقة بنفسه ، فضل أن يفقد الثقة بالناس . أحياناً يفكر بأن المشكلة كلها من المدينة و إن العودة إلى الريف و الجنوب ستضمن له روحاً خالية من الشكوك . هنا يعود إلى لياليه الطويلة من التفكير المشوش و يتضح له على نحو واضح بأن والده هو أيضاً يحمل جزء من أخطائه المتكررة ، إنه على الدوام يصر أن يطفأ الضوء باكراً مما لا يسمح له بالوصول الكامل إلى الاستنارة الحقيقية .
النوم و الظلمة توقفان أفكاره عن الانسياب .
منذ متى توقفت تلك الأفكار عن الانسياب و بدأت تنهار على نفسها في الظلمة ؟
سأل نفسه على مدى سنوات .
كل شيء بدا له واضحاً ، الأفكار تتوقف متى تتوقف ، و لن يكون الهدف معرفة متى توقفت و لكن الأهم أن تعود لتفكر من جديد . سار من أمام مصرف الوحدة الأصفر و توقف هناك يراقب الكاميرات المتجهة إلى الحائط الأصفر المغبر ، فكر إن كانت تصور شيئاً أم أن الأمر محض
ديكور يقول ببساطة : نحن نهتم . ركب من هناك حافلة توقفت بقربه ، في جيبه القليل من المال ، من عمل عرضي ، يومياً كان يتقاضى ثمانية دنانير ليبية ، حسنا الأمر ليس سيئاً بالمقارنة مع ما يحدث لصديقه في العمل ، ثمانية دنانير تكفيه لأن يستقل حافلة صغيرة دون أن يضطر لأن يدعو لصاحب الحافلة بالرحمة ، أو يترحم على والديه ، بذاك المبلغ التافه يستطيع أن يحفظ كرامته . قبل أن يعمل كان يشعر بالألم لأنه لا يجد كتباً جيدة لقراءة ، بعد أن وجد العمل صار بوسعه أن يجمع مبالغه ليومين و يشتري كتاباً جيداً بحجم جيد ربما من خمسمائة صفحة أو حتى سبعمائة . الكتب الجيدة و الكثيرة الصفحات ليست كثيرة في بنغازي . الكتب المترجمة تحوي صفحات كثيرة و رائعة ، الروايات و الكتب السياسية ، سنوات الغليان لحسنين هيكل تحوي أكثر من سبعمائة صفحة ، اشتراه و قرأه في يومين ، شعر بأنه أضاع وقتاً طويلاً في قرأته ، إلا أنه لم يشعر قط بالندم . في اليوم الخامس طلب منه صديقه في العمل أن يمنحه حصته اليومية . استغرب الأمر بشدة ، ظن بأنه لم يسمع جيداً .
- عفوا ، ماذا قلت ؟
- أرجوك ، أعطني ثمانية دينار سلف .
- أعطيك كل يوميتي ، و لم أفعل أمراً كهذا ؟
- لأني أعرف ما تريد .
- و ما الذي أريده ؟
- أنت تشتري بيوميتك كتباً ، أنا سأحضر لك أربعين كتاباً بمقابل ثمانية دينار .
نظر إليه بشيء من الاستغراب و قال :
- أتعتقد بأني أصدقك ؟
- عليك أن تفعل .
لم يقل شيئاً أخر ، أعطاه المبلغ كله و فوقه ثلاثة دنانير أضافية . في الغد جاء الشاب بصندوق كبير ثقيل .
- خذ كما وعدتك .
أخذ الصندوق و فتحه . كان الأمر مدهشاً ، أغلفة و كتب في حالة ممتازة ، قرأ باندهاش : حكايات كانتبيري – لتشوتسر و الفكر البري – ليفي شتراوس . عدو المسيح – لنيتشه . و
قصص جاك لندن . باولا – لإيزابيلا الليندي و ألف ليلة و ليلة طبعة سنة 1935 ببولاق . الحرب و السلام – تولستوي . ذاكرة الجسد – لأحلام مستغانمي . أفظع جرائم المافيا في نيويورك و شيكاغو . وحدائق الملك – لفاطمة أوفقير . المثقفون بجزأيه الأول و الثاني – لسيمون دو بوفوار . موسم الهجرة إلى الشمال – لطيب الصالح . نجوم هوليوود : الحفلات الصاخبة . سيرة مالكوم اكس – لألكسي هيلي . الدون الهادئ – لشولوخوف .
لدقائق كان قد أخرج كل الكتب على الطاولة ، وضعها بين الخضار و الفواكه . و وقف مذهولاً . سأل الشاب الواقف بثقة و تفاخر :
- ألديك كتب أخرى ؟
- أتدفع ؟
- كل ما تريد .
- لا أريد الكثير و لكن عندي الكثير من الكتب .
- خذ مصروفي كل يوم و لا تقلق أبداً .
في اليوم التالي أحضر له كتابين . و في اليوم الثالث بدأ يقول سأحضر الكتب في الغد . في اليوم الرابع أتى أحدهم إلى المحل . و سأله مباشرة :
- أأنت من يشتري الكتب من أبا ؟
- نعم .
- حسنا ، كان يسرق مني ، أكنت تعرف ؟
- لا .
- شخص يبيعك ثروة من الكتب برخص التراب و لا تعرف بأنه يسرقها .
كان يعرف ، على الأقل كان يعرف بأن أبا لا يقرأ و أن الكتب ليست له .
- حسنا – قال الشاب و هو يشير بسبابته بشيء كالتحذير – لن أخذ منك الكتب التي اشتريتها و لكن إياك أن تشتري منه شيئاً أخر و إلا ستندم .
و لم يشتري منه أي شيء بعد . و لم يشتري كتباً أخرى قط ، مكتبته تحوي ثمانين كتاباً أغلبها
روايات ، روايات جيدة ، كان يحب أن يقرأ الكتب السياسية و لكنه لم يقرأ إلى الآن سوى كتب حسنين هيكل التي لا يصنفها في ذهنه كالكتب السياسية لديه تصور خاص حيالها ، الكتب السياسية . كان يقرأ في السابق عندما كان مراهقاً كتباً عن الرحالة ، الرحلات المرهقة و المميت عبر البحار و الصحاري في العالم و إلى القطبي الشمالي . الهولنديون و البلجيكيون الموتى في أعماق الجليد . الحروب و الحضارات التي مرت على ليبيا كان معجباً بالقراصنة و قطاع الطرق ، في قلبه رغبة عميقة بملامسة اللوحات الكثيرة المنشورة في أعماق الكتب الفنية لأجساد فتيات من قرطاج و التماثيل الرومانية الواقفة في حالات مدهشة من الفن و الحب . الفكر كان متعلقاً به منذ الصغر منذ أن قرأ ذلك الكتاب اللعين : الحرب العالمية الثانية ، الحروب المصورة . و رأى جثث الألمان فوق الجليد و عليها تلك الصلبان الخشبية الثقيلة . الموت و الفن و الحروب في ذهنه ترسبت على مدى أعوام ، أحيانا ، أحياناً يعرف مكانه بالضبط . يعرف بأنه ذلك المزيج الهائل من التاريخ الخفي يشعر بنفسه متوعكاً ، يسقط على أحلامه ليسأل نفسه :
- متى توقف حلمي عن الانسياب ؟
إجابته ليست سوى عرض لحياته ، كما يفعل الآن و هو على الحافلة ، المشاهد قليلة و لكن بنغازي تحت الشمس ، لا شيء . من يريد أن يعرف هذه المدينة يخرج عصراً أو في الصباح الباكر . كانت الموسيقى أشرف محفوظ تنساب حزينة عبر الحافلة ، كلماته ، جروحه ، و أحلامه . نظر إلى المنطقة الفارغة البعيد ، كان يشاهد أجساداً مسرعة تضيئها الشمس الصباحية المنهكة .نزل عند المحطة و اتجه عائداً على قدميه . في الشتاء الماضي حين سمع صوتاً مألوفاً يناديه . جمعة صديقه من الجنوب ، وقف و هو يراه يفتح طريقه من بين المارة ، كان يبتسم و فكر بأنه يتوجب عليه الابتسام ، رسم ابتسامه صغيرة و هادئة تصلح لملاقاة صديق قديم بها .
- نوري . كيف حالك ؟
- جمعة ، زمان على لقاءنا الأخير .
تصافحاً و عانق كل منهما الأخر ، لقاء عادي بين أهالي الجنوبيون في شوارع بنغازي ، يقال إن أصابك الملل في بنغازي فأذهب إلى " الفندي البلدي " لتشاهد لقاءات الجنوبيون الحارة , كان ثمة كثير من الناس يبتسمون ، نوري يعرف السبب فيما لم ينتبه جمعة لشيء . عبرا الطريق إلى الجهة الأخرى ، كان جمعة قد أخبره بأنه سجل في قسم اللغة الإنجليزية . و مازحه هو بكلمات عن بعض الممثلات ، لم يفهمها جمعة أو فهمها و ادعى البراءة . مشيا حتى حديقة عند بداية الصابري . جلسا في كشك أكلات سريعة طلبا أنصاص جيدة و الهمبرغر لحم بحجم الكبير ، شعرا بأنهما جائعين ، طلبا مشروبات طبيعية ، نوري طلب لنفسه عصير مانغا فيما طلب جمعة الموز البارد و علبة كولا . كانت الأنصاص تنقصها الملح ، و على الطاولة ليس ثمة ملح . قام و ذهب إلى البوفيه في الكشك و طلب ملحاً .
- ثمة ملح على الطاولة ؟ قال شاب ذو تسريحة غريبة . فرد عليه بأنه ليس ثمة ملح على الطاولة :
- إذن خذ ملحاً من أية طاولة . كان صوته عالياً فكر للحظات أن يرفع صوته هو الأخر و لكنه تعلم أن يصمت في بنغازي ، ففي النهاية سيتصالحان باعتذارات و سوء تفاهم محزن ، بنغازي مدينة الملل ، أحيانا يبدأ الناس بشتم بعضهم دونما سبب و لكنهم دوماً يتفاهمون في النهاية . إنه أمر طبيعي لا يستدعي سوى بعض الصبر و التفهم .
ذهب إلى الطاولة و سحب من أمام رجل سوداني قارورة صغيرة فيها ملح .
- لو سمحت ؟
- تفضل ، لا تهتم . قال السوداني و قضم من شطيرته الضخمة حتى تساقطت الفتات على قميصه .
عاد إلى جمعة الذي ظل يراقب كل شيء و لا شك . فيه شيء متغير ، حسناً ملابسه جديدة ، جاكيت جلدي غالي الثمن ، الخاتم و الساعة الذهبية ، حذائه الايطالي ، شكله يشبه نجم ايطالي أسمر ، أحد رجال العصابات ، رأى في عينيه تصميماً غريباً . تلك النظرات الحارقة التي يوجهها لكل شيء حولهما ، جمعة غريب و فيه أمر ما متغير ، عرف بأن صديقه القديم يخفي شيئاً ، لكنه فضل الصمت و المراقبة بدوره ، سأله جمعة :
- لم صرخ الطباخ في وجهك ؟
- لم يصرخ في وجهي .
- ظننته صرخ في وجهك .
- لم يفعل بل كان غاضباً لسبب ما .
- و لم يصرخ في وجهك أنت و كأنك أنت من أغضبه ؟
- لا أعرف و لكنه لم يصرخ في وجهي قصداً .
- صرخ في وجهك و كفى .
- أنت لا تفهم ، لنأكل و لنرحل بهدوء .
صمت جمعة و أكلا بهدوء ، أنهيا الشطائر و شربا العصائر ، جمعة لم يفتح علبة الكولا و قال :
- لندفع و لنرحل .
كان نوري يدفع للرجل حين قال جمعة :
- يا رجل تغضب من أشياء أخرى و تصرخ في وجوهنا نحن . لا أعتقد بأنه أمر حسن .
- جمعة . قال نوري بشيء من الغضب و لكن البائع الشاب قال :
- هذا الأحمق لا يفهم ما أقوله . شعر نوري برعشة تغزو جسده التفت إلى البائع فوجده يشير للشاب الذي يعمل عنده ، كان رأسه قد سخن فجأة و أحس بقوة غريبة ، و راحة لأنه لن يستخدمها قط . لم يتكلم و هو يسمع البائع يعتذر إليه ، مشى خارجاً و ترك جمعة لوحده مع الرجل ، بعد قليل لحق به جمعة و قال :
- ما بك أنت ؟
- قلت لا تكلم الرجل .
- أهذا ما يغضبك ، أن نفهمه خير من أن يفهمنا خطأ ؟
- ما الذي تعنيه ؟
- لا شيء ، هيا لدينا يوم طويل .
ذاكرته ليست جيدة و لكن الحياة اليومية عبر المدينة تذكره بأحداثه الكثيرة . إنه يذكر أول يوم له في بنغازي كلما وصل لسوق الحديقة ، و قبل ذلك حين كان صغيراً في العاشرة و زارها لأول مرة مع والده ، كان الشتاء يغطي المدينة وقتها أيضاً ، رأى كل الشوارع مغسولة بالمطر و لم يلبث كثيراُ حتى انهمرت المياه على المدينة ، أمطار غزيرة وقت العصر ، و الشمس الذهبية تشرق في جهة من المدينة ، وراء الغيوم ، بالضبط عند حواف الغيوم ، وقف يراقب الشمس و المطر متداخلين ، الضوء الواهن يعبر المياه الغزيرة ، هل يسمع موسيقى ، ربما كانت موسيقى أشرف محفوظ أو سمير الكردي التي حفظها عن ظهر قلب ، أغاني سيف النصر القديمة ، يذكر الآن بأنه لم يستمع لسيف النصر منذ عشر سنين على الأقل ، تقدم من إحدى المحال , دخل و عبر الأرفف ، وصل لقسم الليبيات ، كانت ثمة كثير من الإصدارات ، الأغلفة الجيدة و العناوين البراقة ، اشترى سي دي لسيف النصر و أخر لسمير الكردي أغاني جديدة و أخريين من إصدارات الراى و المروكية ثم خرج . الساعة تشير للحادية عشرة و ليس لديه عمل يقوم به .
- كلها أغاني جيدة و لكنك سترى إنها تعاني قليلاً .
- كيف ذلك ؟
- حسنا العالم كله يعاني مشكلة في الرومانسية ، الأمور تتغير ، حتى الموسيقى و الكلمات ، الشعر نفسه صار خالي من الرومانسية القديمة . أمر محزن . و لكنك لا تزال تملك فرصة استبدالها بأغاني قديمة .
كان شخصاً غريباً قال بأنه شاعر . نصيحته بدت غريبة مثله . فقال نوري بهدوء – بأنه يرغب فعلاً في معرفة أشياء جديدة – ثم محاولا أن يبدي روعة تذكر موسيقى حميمة أضاف :
- سيكون جيداً أن أتذكر صديقاً قديماً .
- قلت التذكر ؟ حسنا إنه أمر جيد و لكن عليك أن تعرف بأن تلويث الذكريات القديمة بإنتاجات الجديدة لتلك الذكريات ليس سوى تشويه لأحلام بريئة ، تذكر ، ها ؟ أتمنى لك التوفيق في ذلك ، سترى فشل مشروعك .
تطلع إليه للمرة الثانية ، كان يبدو متأثراً بشدة ، يحمل مفكرته السوداء و يدخن بشيء من التوتر ، متجاهلاً في لحظات و شرع يراقب وجهات المحال فيما أخذت الحافلة تسرع و المطر يصفق الزجاج بروعة ، تجاهله بدوره متطلعاً إلى خيوط المياه اللامعة المتكسرة بعنف على الزجاج لتنزلق بانسيابية مثيرة ، عندها تمنى أن تكون في ذهنه مثل هذه الانسيابية الباهرة ، فكرت الرجل قد يكون محقاً متذكراً صديقه جمعة بحذائه الايطالي و معطفه الجلدي الغالي ، سمع – مثل الجميع – عن التجارات المشبوهة التي تتم في الجنوب الغربي لليبيا . لم يتخيل للحظة بأن أحد أصدقائه سيتعاطى في هكذا نوع من المتاجرة السيئة . لكي يكون الأمر واضحاً حين رأى تلك الساعة الذهبية تتلامع في الفيض الضوئي لم يستطع أن يبعد نفسه عن الرغبات الصغيرة لحياته ، أحلامه الجوهرية الكبرى . رغبته في أن يعيش في ترف ، أن ينسب أخوته في مدارس لتعليم اللغات . لطالما عشق اللغة الألمانية ، رغبته القصوى في أن يقرأ شعراً بالأسبانية و الروسية ، أن يكتب مقالات بانتباه و بانجليزية ممتازة . أيضاً أراد المال ليمكن أخوته الصغار من الدراسة بكل هذه اللغات . نحن أن أمنعنا النظر في حياة شخص مثل نوري نجد بأن تعريفات الكلمات مختلفة تماماً أو بالأحرى أقل مما هو متوقع . فكلمة مثل الترف تعني في حياته بكل بساطة ، كتب جيدة بصفحات كثيرة . رغبة لا يستطيع أن يحققها دوماً في اللغة العربية دوماً إلا بالكتب السياسية . 700 صفحة في كتاب روائي واحد ، لا بد بأن فيه كل تفاصيل الحياة اليومية ، مجرد التفكير في الأمر يجعله يرتعش من الحماس و النشوة ، و كأنه على موعد مع تلك اللغات في اليوم التالي . الترف في لغته يعني أيضاً الجلوس بهدوء في إحدى المقاهي لشرب المكياطة و تناول حبات الكاكاوية بصمت دون أن يتدخل أحد في نزهته اليومية للبحث عن انسيابية الأفكار . في ذلك اليوم تجاهل أفكاره الجامحة ليغرق في فكرة واحدة هي : الانسيابية ، هو بحاجة إليها . نزل من على الحافلة . سار قليلاً و المياه تطرق رأسه برقة ، ثم تعلم اللعبة الصغيرة و العادية جداً ، تتبع المياه المنسابة عبر الشوارع ، و البدء في التفكير الهادئ . كلما طالت الخيوط المائية في انسيابها ، كلما تحرر من معضلة انحباس الأفكار . يمشي بهدوء أو يسرع لتزداد أفكاره سرعة مع خطواته ، يركض فتتوهج أفكاره و يحس لوهلة بأنه شيئاً ما أخيراً و أنه يفعل أمراً حقيقياً تمنى طوال حياته أن يفعله . ركض طوال الشتاء عبر كل الاتجاهات ، سار حول بنغازي طولاً و عرضاً ، انساب عبر الأزقة ، نظر إلى السماء ، كانت الأمطار تمنحه الرغبة العميقة بالحياة ، كان سعيداً . يقف في ساعات راحته مراقباً الشمس الغاربة وراء الغيوم ، لتمطر السماء و يشرع هو رحلاته الفكرية الماراثونية .هذه المتعة انكسرت ذات يوم مع توقف الأمطار ، الانسيابية المائية الباهرة . شهرين جامدين و بلا تفكير ، شعر بالضياع لتوقف الأمطار ، لكنه مثل كل مرة يجد فكرة أخرى ، لم يكن أمامه إلا أن يتتبع مياه المجارير عبر شوارع المدينة الحزينة ، نجح بشكل مثير للمشاعر أن يحقق أفكاراً كبيرة ، يكتبها بهدوء في الليالي الطويلة على ضوء القمر أحيانا أو على ضوء جهاز والدته النقال ، لقد حقق أروع انجازاته . يفكر تماماً كما يمشي ، كأمر طبيعي . في ذلك اليوم خطرت له الفكرة الأكثر لمعاناً من كل الأفكار ، منذ الصباح كان مقتنعاً بأن ثمة أمراً سيحدث ، إفطاره كان سريعاً كوب من الحليب ممزوج بالشاي و النعناع . لم يضطر للذهاب إلى الجامعة . فلديه أحلام كثيرة ، أكثر مما يسمح وقته ، الجامعة لن تحقق له الكثير ، قرر أن يتعرف على الحقيقة الغائبة منذ أشهر طويلة ، ربما امتدت لسنوات حتى الآن . خرج مسرعاً عبر الأحياء الممتدة و عند الناصية حين حاول الانعطاف ناحية الزقاق متتبعاً انسياب المياه من إحدى المجارير تذكر الأمر على نحو لامع . بدت له الفكرة الطارئة ، غريبة و مختلطة مع كثير من الماضي . الأمر لم يعد يخلو من الأوهام المندفعة مؤخراً في ذهنه .