أفلا يتدبرون القرآن ? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا . .
وفي هذا العرض , وهذا التوجيه , منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته - كما قلنا - كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها . وهي في الوقت ذاته ذات دلالة - كما أسلفنا - لا تمارى !
والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبدا . . ومستوياتها ومجالاتها , مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها . ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها - بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه - ما يملك إدراكه , في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى .
ومن ثم فإن كل أحد , وكل جيل , مخاطب بهذه الآية . ومستطيع - عند التدبر وفق منهج مستقيم - أن يدرك من هذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاختلاف , أو ظاهرة التناسق - ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه . .
وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه , وتملك التحقق منه بإدراكها في حدودها الخاصة .
تتجلى هذه الظاهرة . ظاهرة عدم الاختلاف . . أو ظاهرة التناسق . . ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية . . ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح ; التوفيق والتعثر . القوة والضعف . التحليق والهبوط . الرفرفة والثقلة . الإشراق والانطفاء . . إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر . وأخصها سمة "التغير" والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال . يبدو ذلك في كلام البشر , واضحا عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد , أو المفكر الواحد , أو الفنان الواحد , أو السياسي الواحد , أو القائد العسكري الواحد . . أو أي كان في صناعته ; التي يبدو فيها الوسم البشري واضحا . . وهو:التغير , والاختلاف . .
هذه الظاهرة واضح كل الوضوح أن عكسها وهو:الثبات , والتناسق , هو الظاهرة الملحوظة في القرآن - ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي والأداء الأسلوبي - فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز - تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها - ولكن يتحد مستواه وأفقه , والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى . . كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان . . إنه يحمل طابع الصنعة الإلهية ; ويدل على الصانع . يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال , ولا تتوالى عليه الأحوال ! .
وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف . . والتناسق المطلق الشامل الكامل . . بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحملهالعبارات . ويؤديه الأداء . . منهج التربية للنفس البشرية والمجتمعات البشرية - ومحتويات هذا المنهج وجوانبه الكثيرة - ومنهج التنظيم للنشاط الإنساني للأفراد وللمجتمع الذي يضم الأفراد - وشتى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشرية على توالي الأجيال - ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته وتناول شتى قواه وطاقاته وإعمالها معا في عملية الإدراك ! - ومنهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته - في جميع مجتمعاته وأجياله ومستوياته - وبين هذا الكون الذي يعيش فيه ; ثم بين دنياه وآخرته ; وما يشتجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد ; وفي عالم "الإنسان" وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام . .
وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان واضحا كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني , فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير والتنظيم والتشريع . فما من نظرية بشرية , وما من مذهب بشري , إلا وهو يحمل الطابع البشري . . جزئية النظر والرؤية . . والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية . . وعدم رؤية المتناقضات في النظرية أو المذهب أو الخطة ; التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوناتها - إن عاجلا وإن آجلا - كما تؤدي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لم يحسب حساب بعضها ; أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها . . إلى عشرات ومئات من النقائص والاختلاف , الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود , ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة , فوق جهله بكل مكونات اللحظة الحاضرة - في أية لحظة حاضرة ! - وعكس ذلك كله هو ما يتسم به المنهج القرآني الشامل المتكامل , الثابت الأصول ; ثبات النواميس الكونية ; الذي يسمح بالحركة الدائمة - مع ثباته - كما تسمح بها النواميس الكونية !
وتدبر هذه الظاهرة , في آفاقها هذه , قد لا يتسنى لكل إدراك , ولا يتسنى لكل جيل . بل المؤكد أن كل إدراك سيتفاوت مع الآخر في إدراكها ; وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها ويدع آفاقا منها للأجيال المترقية , في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة . . إلا أنه يتبقى من وراء كل الاختلاف البشري الكثير في إدراك هذه الظاهره - كاختلافه الكثير في كل شيء آخر ! - بقية يلتقي عليها كل إدراك , ويلتقي عليها كل جيل . . وهي أن هذه الصنعة شيء وصنعة البشر شيء آخر . وأنه لا اختلاف في هذه الصنعة ولا تفاوت , وإنما وحدة وتناسق . . ثم يختلف الناس بعد ذلك ما يختلفون في إدراك آماد وآفاق وأبعاد وأنواع ذلك التناسق ! .
وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبر - حين يتدبر - يكل الله تلك الطائفة , كما يكل كل أحد , وكل جماعة , وكل جيل . وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن ; وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله . ولا يمكن أن يكون من عند غير الله .
ويحسن أن نقف هنا وقفة قصيرة , لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدين كله . فلا يكون هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان بهذا التحكيم , سبيلا إلى الغرور , وتجاوز الحد المأمون ; والانطلاق من السياج الحافظ من المضي في التيه بلا دليل !
إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها , وإدراك مداها . فيذهب بها جماعة من المفكرين الإسلاميين - قديما وحديثا - إلى إعطاء الإدراك البشري سلطة الحكم النهائية في أمر الدين كله . ويجعلون منهندا لشرع الله . بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله !
الأمر ليس كذلك . . الأمر أن هذه الأداة العظيمة - أداة الإدراك البشري - هي بلا شك موضع التكريم من الله - ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى:حقيقة أن هذا الدين من عند الله . لأن هناك ظواهر يسهل إدراكها ; وهي كافية بذاتها للدلالة - دلالة هذا الإدراك البشري ذاته - على أن هذا الدين من عند الله . . ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلما بها , أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم - بعد ذلك - تلقائيا بكل ما ورد في هذا الدين - لا يهم عندئذ أن يدرك حكمته الخفية أو لا يدركها . فالحكمة متحققه حتما ما دام من عند الله . ولا يهم عندئذ أن يرى "المصلحة " متحققة فيه في اللحظة الحاضرة . فالمصلحة متحققة حتما ما دام من عندالله . . والعقل البشري ليس ندا لشريعة الله - فضلا على أن يكون الحاكم عليها - لأنه لا يدرك إلا إدراكا ناقصا في المدى المحدود ; ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا وإلى جميع المصالح - لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله - بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة ; فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها , أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولا إلى الإدراك البشري . . وأقصى ما يتطلب من الإدراك البشري أن يتحرى إدراك دلالة النص وانطباقه ; لا أن يتحرى المصلحة أو عدم المصلحة فيه !
فالمصلحة متحققة أصلا بوجود النص من قبل الله تعالى . . إنما يكون هذا فيما لا نص فيه , مما يجد من الأقضية ; وهذا سبق بيان المنهج فيه , وهو رده إلى الله والرسول . . وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي . إلى جانب الاجتهاد في فهم النص , والوقوف عنده , لا تحكيم العقل البشري في أن مدلوله يحمل المصلحة أو لا يحملها !!! إن مجال العقل البشري الأكبر في معرفة نواميس الكون والإبداع في عالم المادة . . وهو ملك عريض !!!
يجب أن نحترم الإدراك البشري بالقدر الذى أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يحسنه - ثم لا نتجاوز به هذا المجال . كي لا نمضى في التيه بلا دليل . إلا دليلا يهجم على ما لا يعرف من مجاهل الطريق . . وهو عندئذ أخطر من المضي بلا دليل !!!
الدرس الثامن:83 النهي عن إشاعة الأخبار والتوجيه لحسن التعامل معها
ويمضي السياق يصور حال طائفة أخرى . أو يصف فعلة أخرى لطائفة في المجتمع المسلم:(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم , لعلمه الذين يستنبطونه منهم . ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا). .
والصورة التي يرسمها هذا النص , هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي , لم تألف نفوسهم النظام ; ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر ; وفي النتائج التي تترتب عليها , وقد تكون قاصمة ; لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث ; ولم يدركوا جدية الموقف ; وأن كلمة عابرة وفلتة لسان , قد تجر من العواقب على الشخص ذاته , وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال ; وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال ! أو - ربما - لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر ; وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك , وإذاعتها , حين يتلقاها لسان عن لسان . سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف . . فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة ! - فإن إشاعة أمر الأمن مثلا في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو . . إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعا من التراخي - مهما تكن الأوامر باليقظة -لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر ! وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية ! . . كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته , ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة . وقد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكا , وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف . . وقد تكون كذلك القاضية !
وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه ; أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته . أو هما معا . . ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك ; باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان , ومختلفة المستويات في الإدراك , ومختلفة المستويات في الولاء . . . وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني .
والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح:
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم , لعلمه الذين يستنبطونه منهم .
أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول [ ص ] إن كان معهم , أو إلى أمرائهم المؤمنين , لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة ; واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة , والملابسات المتراكمة .
فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم , الذي يقوده أمير مؤمن - بشرط الإيمان ذاك وحده - حين يبلغ إلى أذنيه خبر , أن يسارع فيخبر به نبيه أو أميره . لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه ; أو بين من لا شأن لهم به . لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة , كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر - حتى بعد ثبوته - أو عدم إذاعته . .
وهكذا كان القرآن يربي . . فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة ; ويعلم نظام الجندية في آية واحدة . . بل بعض آية . . فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ الأمن أو الخوف , فيحمله ويجري متنقلا , مذيعا له , من غير تثبت , ومن غير تمحيص , ومن غير رجعة إلى القيادة . . ووسطها يعلم ذلك التعليم . . وآخرها يربط القلوب بالله في هذا , ويذكرها بفضله , ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل , ويحذرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد ; الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته:
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا). .
آية واحدة تحمل هذه الشحنة كلها ; وتتناول القضية من أطرافها ; وتتعمق السريرة والضمير ; وهي تضع التوجيه والتعليم !!! ذلك أنه من عند الله . . (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا). .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير الظلال لسيد قطب