كاتب الموضوع :
أم ساجد
المنتدى :
القصص المكتمله
27
كانت الساعة تناهز الحادية عشر حينما سمعت هذا الطرق الخفيف على باب غرفتي..،
توقعت أن يطالعني وجه معاذ فيما كنت أفتح الباب لكن خاب توقعي..؛ فالطارق لم يكن سوى سالي والتى بادرتنى قائلة :
" ننتظر قدومكِ منذ وقت طويل.. ألن تهبطي لتناول العشاء..؟ "
لدى ذكر سالي للطعام تحركت أمعائي وصدرت عنها صرخة جوع ، فتذكرت أننى لم أتناول طعام الغداء إلى الأن..!
سألتها :
" هل معاذ بالأسفل..؟ "
أومأت برأسها إيجاباً ثم قالت :
" طبعاً.. إنه ينتظرنا الأن.. "
قلتُ :
" أذن سأضع حجابي وألحق بكِ.. رجاء لا تنتظروني وتناولوا طعامكم لحين حضوري.."
ارتديت حجابي على عجل ووضعته على رأسي كيفما أتفق ثم سارعت إلى الأسفل..
كنت أخشى أن يذهب معاذ إلى أى مكان قبل أن ألتقى به.. وكان متوقعاً أن يختفي كما هو الحال منذ حديثنا الأخير..!
حينما دلفت إلى غرفة الطعام أرسل معاذ نظرة خاطفة تجاهي ثم حاد عنها بسرعة وأنشغل فى تناول الطعام..
ألقيتُ التحية فلم يأتِنى سوي صوت سالي تجيب تحيتي..!
اتجهت لأجلس بهدوء فى مكاني المعتاد بالمقعد المقابل لمعاذ والذى كان يتحاشى النظر إلىّ متعمداً..
نظرت إلى أطباق الطعام الخاصة بي والتى كانت تمتلئ بالأصناف التى أحبها غير أن إهمال معاذ صرفني عن الطعام.. ومعدتي التى كانت تصرخ منذ قليل انقبضت وأعلنت رفضها لأى طعام..!
وكمحاولة لاستدراج الحديث معه قلت :
" بحثت عنك طويلاً اليوم.. هل كنت بالخارج..؟ "
فقال بإقتضاب :
" أجل.. وعدت لتوى.."
قالت سالي حينئذ :
" بالمناسبة.. لقد اتصل محمود منذ ساعة تقريباً.. كان يسأل عنك.."
وجه معاذ نظراته إلى سالي وسألها بإهتمام :
" ولماذا لم يتصل على هاتفي..؟"
قلت بإندفاع :
" لقد كان هاتفك مُغلقاً.."
وحينما وجه كلاهما النظر إلىّ استطردت موجهة حديثى لمعاذ :
" اتصلت بكَ مراراً اليوم ولكن دون جدوى.."
أشاح بوجهه ونظراته عني ولم يكلف نفسه عناء السؤال عن سبب اتصالي ، أنما قال موجهاً حديثه لسالي :
" يبدو أن الإرسال ضعيف بمكتبي.."
قالت سالي بحيرة :
" لكنه كان يتصل من الشركة.. لقد أتى ليزورك فلم يجدكَ بالمكتب..! "
هز معاذ كتفيه قائلاً :
" أذن فقد وصل إلى الشركة بعد إنصرافي.."
قالت سالي بإهتمام :
" وما الذى جعلك تذهب إلى الشركة فى المساء..؟ أهناك مشكلة ما..؟"
قال معاذ وهو منهمكاً فى تقطيع الطعام :
" كلا.. كان لدى بعض الاعمال المتراكمة فذهبت لأنهيها.. "
وأضاف مغيراً مجرى الحديث :
" بالمناسبة.. كيف كانت المباراة اليوم..؟ "
ابتسمت سالي قائلة :
" عليك بسؤال محمود فهو من يستطيع أن يخبرك بأدق التفاصيل..؛ فأنا فكما تعلم لا أهتم كثيراً بكرة القدم ومتابعتي لها ليست سوى تحت ضغط شديد منه.."
تساءل معاذ فى دهشة :
" هل كان محمود هناك اليوم..؟"
تلاشت ابتسامة سالى وطغى عليها الارتباك فيما كانت تجيبه :
" طبعاً كالمعتاد.."
انشغلت سالى بعد ذلك فى تناول طعامها بينما راح معاذ يراقبها وفى عينيه نظرة حرتُ فى تفسيرها..
لوهلة قصيرة جال بخاطري أن معاذ قد يكون على علم بمشاعر سالي نحو محمود غير أننى لم ألبث أن أزحت هذا جانباً..؛ فلو كان يعرف بمشاعرها ما كان ليدعوه إلى بيته فى كل مناسبة لكى لا تتمادى أخته فى مشاعرها أكثر من هذا..
انتهت سالى من تناول طعامها وانصرفت إلى غرفة المعيشة فى حين بقيتُ وحدى مع معاذ الذى لم يلبث أن أزاح أطابقه جانباً وهم باللحاق بها غير أننى استوقفته قائلة :
" هل انتهيت من تناول طعامكَ هكذا سريعاً..؟ "
فقال :
" الحمد لله.."
قلت وأنا احدق بأطباقه الممتلئة :
" أنك لم تأكل شئ تقريباً.."
هز كتفيه قائلاً :
" لقد شبعت على أى حال.."
أطلقت زفرة حانقة وقلت :
" لو كان وجودي يزعجك لهذه الدرجة فسأنهض لكى يتسنى لك إكمال طعامك.."
رماني بنظرة غاضبة وقال :
" ولماذا يزعجني وجودكِ..؟ أكملى طعامك ولا تتفوهى بهذا الكلام السخيف ثانية.."
شعرت بالإهانة لجملته فنهضت من مكاني وانصرفت إلى غرفتي وعكفت على قراءة إحدى الروايات ، وأشك فى أننى استوعبت حرفاً واحداً منها فقد كان عقلي منشغلاً ب معاذ..
لست أدري إلى متى سيظل غاضباً مني..؟
انتظرت عودته إلى الجناح لا لشئ سوى لأطمن بأنه بالغرفة المجاورة لي.. كنت انتظر سماع باب الجناح يفتح غير أن الصوت الذى سمعته كان صوته مكابح السيارة بالأسفل فسارعت بالنظر من النافذة لأرى سيارة معاذ تنطلق بسرعة إلى حيث لا أدري..!
تُرى أين ذهب فى هذا الوقت..؟ لقد انتصف الليل وعم السكون وشمل كل شئ تحت كنفه وصارت الطرقات شبه خالية من المارة..!
رُبما كان يتجول فى الطرقات بلا هدف.. أو رُبما سيلجأ إلى البحر ليشكو له ضيق صدره..
أو رُبما كان هدفه فقط الابتعاد عني.. ليستنشق أكبر قدر من الهواء النقي ، الخالي من أنفاسي..!
شعرت بضيق شديد يجثم على صدري وقررت أن انتظر عودته ليكون أول من أفرغ عليه جام غضبي..
لقد أتى بى إلى منزله واحتجزني بين جدرانه رغماً عني والأن صار لا يطيق وجودى معه بنفس المكان..!
لكن لا.. لن أفوت هذا الأمر ، واليوم سأضع حداً رادعاً لهذا الوضع..
أرتديت ملابسي كاملة ووضعت حجابي فوق رأسي ثم حملت الرواية معي وجلست بردهة الجناح لأقرأها..
سانتظره ها هنا حتى لو تأخرت عودته إلى الصباح.. فلن يعرف النوم طريقه إلىّ قبل أن تخمد ألسنة النيران المستعرة بصدري..!
~ ~ ~ ~ ~ ~
كانت الساعة تناهز الرابعة فجراً عند عودتي إلى المنزل ..، وكان المنزل يغرق فى الصمت والظلام كما هو معهود ..؛ فالجميع هنا ينام ويستيقظ باكراً..
حينما دلفت إلي الجناح كان يغرق فى الظلام إلا من ضوء خفيف ينساب من إحدي القناديل بالردهة.. وبالمقعد الملاصق له كانت أروى تجلس وقد غلبها النعاس فنامت وهى فى وضع الجلوس..!
كانت ترتدي رداء الصلاة كالمعتاد وتغطى رأسها بالحجاب غير أن خصلات شعرها الطويل الأملس تمردت عليها وتسللت من أسفله بإصرار..!
اقتربت منها قليلاً ووقفت أتأملها وقد طفت ابتسامتي على شفتي رغماً عني..؛
كان وجهها الجميل يخلو تماماً من مستحضرات التجميل فبدت لي أصغر من عمرها..
كم هى جميلة وبريئة..!
ترى ما الذى جعلها تنام فى هذا الوضع الغير مريح..؟!
هل كانت تنتظرني فغلبها النوم دن أن تشعر..؟
كنت أعرف استحالة ما أفكر به غير أننى لم استطع أن أمنع شعوري من تصديقه..!
أفقت من تأملاتي حينما رأيتها تحرك رأسها ومن تعبيرات وجهها استطعت أن أشعر بألمها بسبب نومها فى هذا الوضع الغير مريح..
ناديتها لأوقظها حتى تذهب إلى غرفتها فلم تفيق.. كانت تنام بعمق وهدوء..!
أقتربت منها أكثر وقلت :
" أروى.. هيا أفيقى لتذهبي إلى غرفتكِ.."
وأيضاً لم تفيق أو تتحرك..!
مددت يدي إلى كتفها وهززتها برفق فانتفضت وتراجعت فى ذُعر شديد وقد فتحت عينيها على وسعهما وحدقت بي بشكل غريب ثم قالت :
" ماذا هناك..؟ لماذا أنت بغرفتي..؟"
ارتبكت بشدة وتراجعت إلى الخلف وقلت متلعثماً وأنا أشير لما حولي :
" إنكِ لستِ بغرفتكِ.. "
تلفت حولها لتتأكد من صدق قولي ثم عضت على شفتها السفلى بأسف قبل أن تنهض من مكانها وتتجه رأساً نحو غرفتها دون أن تتفوه بحرف..
لمحت ذلك الكتاب الملقى على الأرض والذى تركته سهواً وانصرفت فاستوقفتها قبل أن تغلق الباب قائلاً :
" أروى انتظري.. "
وانحنيتُ لألتقط الكتاب ثم توجهت إليها لأعطيها أياه..
شكرتني بصوت خافت وهمت بإغلاق الباب غير أننى استوقفتها للمرة الثانية قائلاً :
" لماذا كنت تنامين هكذا بهذا الوضع الغير مريح..؟"
أطرقت برأسها أرضاً وقالت :
" لا لشئ.. غلبني النعاس بينما كنت أقرأ.."
وأضافت :
" تصبح على خير.."
وهمت بإغلاق الباب غير أننى استوقفتها قائلاً :
" انتظري.."
توقفت يدها التى كانت تهم بإغلاق الباب فى منتصف الطريق ،، وكذلك توقفت عينيها على وجهي فى انتظار ما سأقوله ،، وللحظة بدا لي أن عقارب الساعة أيضاً توقفت عن الدوران..!
لم يكن لدي ما أقوله لها.. فقط أردت أن استبقيها لأطول فترة ممكنة.. أردت أن أرى عينيها تحدقان بي بتلك النظرة الناعسة..
أردت أن أشعر بوجودها بجانبي ليتلاشى شعوري بالوحدة القاتلة التى تهاجمني ببراثنها كل ليلة كلما أويت إلى فراشي وحيداً..
كان عزائي الوحيد فى هذا الوضع الغريب أنها تنام فى الغرفة المجاورة لي ولا يفصلني عنها سوى حائط واحد..، صحيح أننى لا يمكن أن أحطم ذلك الحاجز الفاصل بيننا فى أى وقت كأى زوج..، غير أننى كان لدي يقين بأن هذا الوضع لن يستمر طويلاً..
ولدي أمل قوي في أن تتغير نظرات أروى لي ، ومشاعرها نحوي ذات يوم..
أفقت على صوت أروى تسألني :
" ما الأمر..؟ "
شعرت بالخجل وتراجعت للخلف وأنا أقول :
" لا شئ.. تصبحين على خير.."
هممت العودة إلى غرفتي..، غير أن صوتها استوقفني بنداء خافت جعل كياني كله ينتفض..
قالت :
" هل نجلس لنتحدث قليلاً..؟ "
اندهشت وابتهجتُ فى آنٍ واحد لتلك المبادرة الغير متوقعة..!
قلت وقد تهللت أساريري فرحاً :
" طبعاً.."
توجهت إلى الردهة لأجلس فتبعتني إليها وجلست على المقعد الكبير فى مواجهتي..
كانت تبدو متجهمة الوجه وحزينة إلى حد كبير.. وبدأت أشعر أن الأمر ليس كما تصورت.. فهى لا ترغب فى الجلوس معي لبعض الوقت بل تريد أن تعاتبني..
انتظرت أن تبادر هى بالحديث غير أنها لاذت بالصمت لفترة أطول مما ينبغي فما كان مني سوى أن قلت :
" ما الأمر..؟ "
وكأنني بسؤالي هذا لمست وتراً حساساً بنفسها ،، وبدون أى سابق إنذار غطت وجهها بكلتا يديها وأجهشت فى البكاء المرير..!
ارتبكت بشدة ولم أدرى ماذا أفعل..،
قلت :
" ما الأمر..؟ لماذا تبكين..؟"
ولم يجيبني سوى صوت نحيبها كنصل حاد ينغرس بقلبي ويدميه..!
انتقلت لأجلس على بجانبها على المقعد الكبير وأنا أقول :
" أروى.. أرجوكِ لا تبكي وأخبريني ما الأمر..؟ "
أبعدت أروى كفيها عن وجهها وجففت دموعها بطرف كمها ثم قالت بصوت يشوبه النحيب :
" لا شئ.. فقط أشتقت لأمي وأريد رؤيتها.."
تفاجأت من ردها.. فهل أمنعها من الذهاب لزيارة عائلتها..؟
قلت :
" أذن فلتذهبي لرؤيتها غداً.."
نظرت إلىّ نظرة لم أفهمها وقالت :
" ألا تمانع..؟"
قلت :
" بالطبع لا.. ولِم سأمانع..؟"
هذه المرة نظرت لي نظرة ذات معني فاستطردت :
" كلامي ذلك اليوم لم يعني قط أننى سأمنعكِ من الذهاب إلى أى مكان.. إننى أثق بكِ قبل أى شئ.. فقط أريد أن يكون لي علم بوجهتكِ.. وأعتقد أن هذا أبسط حقوقي.."
ران علينا فترة صمت أمتزجت خلالها نظراتنا معاً..
كانت نظراتها غير واثقة من حديثي..، وكأنما كانت تتصور أننى سأسجنها خلف أسوار منزلي وأمنعها من الخروج لأى مكان..!
قلت :
" أذن غداً صباحاً سأصطحبكِ بسيارتي إلى منزل عائلتكِ.. وبأمكانكِ أن تقضي معهم اليوم بأكمله وسأمر عليكِ فى المساء لنعود معاً.."
قالت :
" حسناً.. سأذهب لأنام كى استيقظ باكراً.."
قلت :
" جيد.. وأنا أيضاً سأنام.."
ونهضت من مكاني متجهاً إلى غرفتي.. وبينما كنت فى منتصف الطريق وصلني نداءها واستوقفني..
وحينما استدرت لأنظر إليها لمحت ابتسامة ترتسم على زواية فمها ثم قالت :
" شكراً لكَ.."
وسرعان ما توجهت إلى غرفتها وتورات بداخلها ورُبما أوت إلى فراشها واستغرقت فى النوم على الفور..
أما أنا فقد طار النوم من عينى وأبى أن يزورني كالمعتاد..
آه أروى.. ماذا فعلتِ بي بالضبط..؟!
~ ~ ~ ~ ~
تتبــــــــع
|