كاتب الموضوع :
أم ساجد
المنتدى :
القصص المكتمله
23
فكرة العودة إلى المنزل كانت تؤرقنى فى الأونة الأخيرة خاصة لأننى كنت واثقة أن معاذ سيتحدث بشأنها قريباً جداً.. ولم يخب ظني بطبيعة الحال واضطريتُ مُرغمة وكارهة على العودة إلى المنزل.. وودعت عائلتى فى صباح اليوم التالي بفيض غزير من الدموع..
كانت هذه هى أول مرة أبتعد عنهم منذ وفاة أبى.. وكم كان فراقهم مضنياً..!
استقلينا سيارة معاذ ودموعي لازالت تومض بعينىّ وتوشك على النزول فى أى لحظة ,
معاذ كان غارقاً فى الصمت حتى أننى ظننت للحظة أنه لا يشعر بوجودى بجانبه , لكننى لم ألبث أن أزحت هذا جانباً حينما وجدته يتوقف بسيارته ثم يلتفت إلىّ قائلاً :
" ما رأيك بأن نذهب لنتناول فطورنا بإحدى المقاهي..؟ "
رفعت بصرى إليه بشئ من الاستغراب لأقتراحه هذا بينما أنا فى هذه الحالة..!
قال بمرح :
" أعرف مقهى يقدم شطاثر رائعة.. ستعجبكِ كثيراً.. "
ولما رأى ترددى قال بنبرة جادة :
" أريد أن نتحدث قليلاً أروى.. لا أظن أننى سأتمكن من هذا بعد عودتنا.. "
وأضاف :
" رغم أن المنزل كبير غير أنه أحياناً يضيق علينا.. "
قلت بإندفاع :
" رُبما وجود تولان هو سبب هذا.. فهى لا تفتأ تتنقل بين الغرف وكأنها صاحبة المنزل.. "
شعرت بالندم بعد تفوهى بتلك الجملة وأعتقد أن معاذ سيستاء منها غير أننى فوجئتُ به يبتسم ابتسامة واسعة..!
وقال :
" رُبما أنتِ محقة فى هذا الشأن.. لكن لا تقلقي.. لقد آن لها أن ترحل وتتركنا لشأننا.. ولو لزم الأمر فسوف أخبرها بهذا مباشرة.. "
وصمت لبرهة ثم أضاف :
" والأن هل نذهب لتناول الفطور..؟ "
كان المقهى الذى أختاره معاذ يطل على شاطئ البحر وكان يبدو باهظاً كما هو متوقع ,
انتقى معاذ طاولة منعزلة إلى حد ما بجانب إحدى النوافذ الزجاجية الكبيرة وراح يملى طلباته إلى النادل الذى سرعان ما انصرف ملبياً طلباته..
حينئذ ألتفت معاذ نحوى وقال :
" هل أعجبكِ المكان ..؟ "
نظرت إلى ما حولي منبهرة وقلت :
" وهل يمكن ألا يعجبنى ..؟ إنه رائع.. "
ابتسم معاذ بسعادة وقال :
" كذلك الشطائر ستعجبكِ كثيراً.. "
صمت لبرهة واسترخى بمقعده ثم راح ينظر إلى القاعة الكبيرة وأضاف :
" إننى أحب هذا المكان كثيراً.. كلما أتيتُ إلى هنا أشعر بالذكريات تكاد تنبثق من كل ركن فيه.. "
نظرت إليه بعمق.. كان يبدو حالماً وكأن تلك الذكريات التى يتحدث عنها تبعث السرور إلى نفسه..!
تسألت فى نفسي عن ماهية هذه الذكريات.. تُرى هل تكون لذكراه تلك علاقة ب تولان ..؟
انتابنى الضياع لمجرد التفكير بهذا وتدفقت الأسئلة المؤرقة إلى رأسي..
تُرى ألازال حتى الأن يحبها ..؟
أفقت من شرودى حينما انتبهت إلى أن معاذ يحدق بي.. كانت نظراته إلىّ مبهمة كالمعتاد.. أغرقتنى فى مزيد من الحيرة والضياع..
ترى بماذا تفكر الأن يا معاذ ..؟ وما معنى نظراتكَ تلك ..؟ أتحاول أن تضعنى بمقارنة مع تولان ..؟
أرجو ألا تفعل ذلك لأن هذا لن يكون عادلاً بأى حال ؛ فإن كفة تلك الشقراء الجميلة ستكون الراجحة على أى حال ..!
أتانى صوت معاذ لينتشلني من غياهب أفكاري فى تلك اللحظة ..
قال :
" ما لون عينيكِ بالضبط ..؟ "
ارتبكتُ لسؤاله الغير متوقع وبعثرت نظراتي على كل شئ فيما تابع هو :
" حتى نصف ساعة مضت كنت أعتقد أن عينيكِ بنية.. لكنها تبدو لي الأن خضراء قاتمة كلون الأنهار الضحلة فى الغابات الأستوائية.. إنه لون ساحر لم يسبق لى أن رأيت مثله من قبل.."
شعرت بوجنتىّ تتوهجان وعجز لساني عن قول أى شئ.. فإذا به يبتسم ويقول :
" تبدين رائعة الجمال وأنتِ متوردة الوجنتين.. "
وأضاف بنبرة غريبة :
" إننى أحسد نفسي على أنكِ زوجتي.."
رفعت نظراتي إليه فوجدته يحدق من النافذة وقد شرد ببصره وأفكاره بعيداً..!
بعدما انتهينا من تناول الفطور غادرنا المقهى وتوجهنا إلى السيارة فجلس معاذ خلف القيادة ثم ألتفت إلىّ وقال :
" لم يسبق أن قمت بنزهة على ظهر يخت..؟ "
فاجئنى سؤاله فقلت بعد برهة صمت :
" فى الحلم فقط.. "
أطال معاذ النظر إلىّ ثم ابتسم وقال :
" أذن لنحقق لكِ حلمكِ.. "
~ ~ ~ ~ ~ ~
اطلقت أروى شهقة انبهار حينما وقع بصرها على اليخت ثم ألتفتت لتنظر إلىّ قائلة بغير تصديق :
" هذا اليخت ملكك..؟! "
ابتسمت وقلت :
" إنه ملكنا.. هل يعجبكِ ..؟ "
قالت أروى منبهرة :
" إنه رائع.. "
أمسكت بيدها وحثثتها على الدخول إليه وأنا أقول :
" أذن هيا لنقوم بنزهة قصيرة.. أنا وأنتِ فقط.. "
نظرت إلىّ بتعجب وقالت :
" هل بأمكانك قيادته ..؟ "
ابتسمت وقلت مازحاً :
" سأجرب.. أرجو ألا نضيع وسط البحر .. "
كانت الشمس تتوسط السماء ومياة البحر تتلألأ كقطع الماس ، وكان الموج هادئاً يضرب اليخت برفق كأنما يداعبه.. وكانت أروى بحجابها وثيابها المتشحة بالسواد تضاهى كل هذا فى سحره وجماله.. فلم استطع أن أرفع بصرى عنها..
كانت هذه هى أول مرة منذ عدنا من باريس نخرج فى نزهة.. وكانت هذه هى أول مرّة منذ معرفتى بها أراها سعيدة هكذا..
تمنيتُ أن تظل أروى سعيدة هكذا طوال عمرها.. وأقسمت وقتها أن أفعل كل شئ يجعلها سعيدة.. وأن أوفر لها كل ما يبعث السرور إلى نفسها لأعوضها عما لاقته طوال عمرها من الفقر..
أفقت من شرودي على صوت أروى وهى تقول حالمة فيما كانت تتطلع إلى مياه البحر الممتدة عبر الأفق :
" يبدو كل شئ كـ الحلم.. "
نهضت من مكانى واقتربتُ منها عدة خطوات لأقف بجانبها ، ثم قلت :
" حان الوقت لتحقيق الأحلام.. "
وأضفت :
" أى شئ قد يخطر ببالك أخبرينى به وأعتبريه تحقق.. عليكِ بأن تخبرينى بكل ما تشتهيه نفسكِ وسترين أننى سأبذل قصارى جهدي لتحقيقه.. "
ابتسمت أروى ابتسامة حزينة ثم قالت :
" وماذا الذى يمكن أن أتمناه أكثر من هذا..؟ "
وأضافت بتعاسة :
" أحلام أبنة أمين الخزن قد تكون بسيطة أكثر مما تتصور معاذ.. كان كل حلمى قبل أن ألقاك هو أن أكمل تعليمى ولكن الفرصة لم تسنح لي.. "
قلت :
" أذن.. غداً سأقوم بتقديم أوراقك بالجامعة.. "
نظرت أروى إلىّ بعدم تصديق ثم قالت :
" حقاً ستفعل..؟! "
ابتسمت وقلت :
" سأفعل أى شئ تريدينه أروى.. لن أدعكِ تحلمين من الأن فصاعدا.. بل سأعمل على تحقيق كل ما تحلمين به.. "
ألتفتت أروى قليلاً لتنظر إلىّ بعمق كأنما تريد أن تنفذ بنظراتها إلى أعمق أعماقي.. ثم قالت :
" لماذا..؟ "
نظرت إليها مستعجباً ومستفهماً فقالت :
" لماذا تفعل هذا معى..؟ "
قلت :
" وماذا أفعل أنا..؟ "
نظرت إلى البحر بشرود وقالت :
" كرمك.. طيبتك.. حسن معاملتك لي.."
قلت :
" ولماذا أكون عكس ذلك..؟ "
ألتفتت لتنظر إلىّ بحركة سريعة وحادة ثم قالت :
" كنت عكس ذلك تماماً فى أول لقاء لنا.. "
أغلقت عينىّ متألماً فتابعت بحيرة :
" إننى أتسأل أى وجه فى هذين هو الوجه الحقيقى لكَ معاذ..؟ "
عدت أفتح عينىّ فوجدتها تنظر إلى البحر بشرود وحزن..
قلت :
" ألن تنسى هذا اللقاء أبداً..؟ "
فقالت ونظراتها تحلق بعيداً :
" إننى أحاول ولكن... نسيانه أصعب مما تتخيل.. "
قلت :
" أعدكِ بأننى سأفعل كل شئ لكى تتمكنى من نسيانه.. "
هزت أروى رأسها متفهمة وأشاحت بوجهها وراحت تنظر إلى البحر لبرهة من الوقت ثم حركت بصرها إلى قدميها وأخيراً رفعت نظراتها إلىّ وراحت تنظر مباشرة إلى عينىّ كما لو كانت تبحث
فيهما عن شئ ما..
قابلت نظراتها الحائرة بنظرات أشد حيرة.. حاولت بنظراتي أن أنفذ إلى أعماقها واسبر أغوراها.. ولكن.. الأفكار حصن حصين لا يمكن إختراقها بأى وسيلة ممكنة.. أو رُبما كان الحديث هو الوسيلة
الوحيدة..
رغم أننى خشيتُ أن يأتينى ردها مدمراً بالرفض غير أننى لم أملك سوي أن أقول باندفاع :
" أروى.. ما هى مشاعركِ نحوى..؟ "
~ ~ ~ ~ ~ ~
جفلت ، وقفز قلبي من مكانه هلعاً بمجرد أن سمعت سؤاله..
كان سؤاله مفاجئاً ومُربكاً وخشيتُ أن تفضحنى نظراتي فورايتها تحت الأرض وغلفت نفسي بهالة من الصمت.. وماذا عساى أقول..؟ هل أخبره بمشاعرى ليسخر مني..؟
هل أصارحه بحبى له ليسخر من مشاعر أبنة أمين الخزانة المراهقة..؟
لا.. لن أحتمل رؤيته يسخر منى.. لن أحتمل هذا أبداً..
مضى وقت طويل والصمت هو سيد الموقف وأخيراً سمعته يهذى ببضع كلمات ويقول :
" سؤال سخيف.. أليس كذلك..؟ أعتبرينى لم أسأله.."
رفعت نظراتي إليه فهالني ذلك الحزن المنبثق من عينيه.. والأسي المرتسم على ملامحه..!
وبقدر ما هالني بقدر ما أثار دهشتى وحيرتي..
فى الحقيقة إننى لم أشعر فى حياتي كلها بالحيرة بقدر حيرتي تجاهه.. كل شئ منه يصيبنى بالحيرة.. حديثه.. صمته.. نظراته.. وحتى ابتسامته تصيبنى بالحيرة..!
قال :
" أعتقد أنه يتوجب علينا أن نعود.."
وقبل أن أنطق بكلمة كان قد اختفى بداخل الكابينة وتركني فرسية لأفكاري كالمعتاد..
كان يوماً رائعاً فعلاً..
وانتهى..!
~ ~ ~ ~ ~
تتبع
|