كاتب الموضوع :
أم ساجد
المنتدى :
القصص المكتمله
14
~ نفحات الماضى الأليم ~
تسارعت خفقات قلبى وأنا أتطلع إلى منزل والداىّ... ذلك المنزل العتيق الذى تصدعت جدرانه وتشقق طلاءه وعف عليه الزمن فصار آيلا ً للسقوط...
نظرت إليه نوافذة الخشبية التى تأكلت وأزيل طلاؤها... ثم إلى الأنوار الخافتة بداخله... الشئ الوحيد الذى يُمكن أن يوحى للناظر بأنه ثمة حياة فى هذا المكان !
ابتلعتُ ريقى بصعوبة وابتلعتُ معها تلك الغصة المريرة بحلقى...
تمنيتُ من كل قلبى يأتى أحدا ً من المسؤولين إلى هذا المكان ويحاولون قضاء ليلة واحدة فقط به حتى يشعرون بسكان هذا الحى والأحياء الفقيرة التى تزخر بها مصرنا !
أطلقتُ تنهيدة قصيرة مصحوبة بآهة يائسة...
للأسف هذا لن يتعدى كونه حلم جميل صعب التحقيق ! بل رُبما مُستحيل أيضا ً !
عدت بنظراتى إلى منزلنا وحاولت أن أقارن بينه وبين قصر مُعاذ... لكن شتان بين الأثنين !
إنه لفرق واضح كوضوح الشمس فى كبد السماء...
تقدمت عدة خطوات نحو المنزل ثم توقفتُ بمكانى ورحت أتأمله عن كثب...
تسللت رائحة الماضى إلى أنفى فابتسمت ابتسامة واسعة...
رغم كل ما أخبرتكم عنه... ورغم كل شئ... فإن هذا المنزل... وهذا الحى الفقير... وغرفتى الصغيرة التى بالكاد تتسع لسريرى الصغير... فى نظرى أفضل من قصر مُعاذ بكل وسائل الرفاهية التى يزخر بها !
ليتنى استطيع محو تلك الفترة من ذاكرتى ومن حياتى بأكملها !
ما أن تذكرت مُعاذ حتى شعرت بدمعة ساخنة تتسلل إلى مُقلتاى ، فما كان منى إلا أن قاومتها فى استماته...
لا... لن أسمح لنفسى بالبكاء على شخصٍ لا يستحق دموعى...
ولا يستحق حتى لحظة أقضيها فى التفكير فيه !
فلا دموع ولا حزن ولا إهانة بعد اليوم...
أنا الأن حرّة بمنزلى... كما كنت قبل أن أراه...
عدت أواصل تقدمى نحو المنزل بخطوات واسعة... لا أكاد أصدق أننى قد عدت أخيرا ً إلى حيث أنتمى... إلى ذلك الحى الفقير... بمنازله القديمة... وسكانه البسطاء... وليس ذلك القصر المُترف... الذى قد يكفى بحجراته العديدة سكان هذا الحى عوضا ً عن منازلهم الآيلة للسقوط !
فيما أنا مُتجهه إلى المنزل لفت نظرى شخص ما يقف على مقربه منى ويتأملنى بنظرات تتأرجح بين الحب والكراهية فى آنٍ واحد...
لم أستطع أن أمر من أمامه مرور الكرام... دون أن أتوقف عنده...
تسللت بنظراتى إليه فقابل نظراتى تلك بنظرات جامدة... تحمل فى طياتها ما يعجز اللسان عن قوله !
شئ ما أجبرنى على التوقف أمامه... مُطرقة الرأس... وقد تدفقت الدماء إلى وجهى فى خجل !
لحظات طويلة مرت دون أن أقوى على قول أى شئ... حتى كلمة إعتذار لم استطع نطقها والتفوه بها...
كان هو من بادر بالتحدث فقال بسخرية لاذعة :
" جميل إنكِ لم تغيرى جلدك تماما ً كالثعابين... ولازال لديك بعض الأنتماء لأهلكِ على الأقل . "
شعرت بالأهانة لكلماته... والأسى لها...
أحنيتُ رأسى أكثر وأكثر ودفنت نظراتى تحت طبقات التراب...
كم أتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعنى لأختفى من أمامه !
كنتٌ أشعر بالخجل من مجرد النظر فى عينيه... بعدما كان أحب شئ إلى قلبى أن أفعل ذلك !
حينئذ ٍسمعته يكمل حديثه بنبرة جافة :
" لا تصطنعين الخجل ؛ فلو كان لديك قطرة حياء واحدة ما كنتِ تركتـِنى من أجل المال . "
شعرت بالدموع تتدفق إلى عينىّ وتنهمر ملء عنانها دون أن أقوى على صدها...
رأيته من خلال دموعى المُنهمرة يخرج شيئا ً ما من جيب سترته أتضح لى أنه منديلا ً حين مد لى يده به قائلا ً:
" جففى تلك الدموع ؛ فلم تعد تؤثر بى . "
رفعت عينىّ المغرورقتان بالدموع ولم أره من غزارة دموعى...
استطعت أخيراً أن أنطق بكلمتين فقط وهما...
" أنا أسفة . "
وأى أسف ؟ وأى أعتذار ذلك الذى قد يصلح ما أفسدته ؟! أو ما قد أفسدته الأيام ؟
حاولت أن أشرح له الأسباب الذى جعلتنى أفعل ما فعلته غير أن الكلمات تحشرجت وانحبست بحلقى ولم تقوَ عل الخروج...
كيف أخبره بأن ما حدث كان رغما ً عنى دون أن أكشف له سر أختلاس أبى لخزانة الشركة التى يعمل بها ؟
وإذا فعلت ماذا سأستفيد ؟
لقد أنتهى كل شئ يربط بيننا ولم يعد يجدى الحديث عنه !
رأيته يرمقنى بنظرة طويلة لا تخلو من البغض قبل أن أسمعه يقول :
" فات أوان الأعتذار للأسف . "
قالها وولانى ظهره ثم ابتعد عنى بخطوات واسعة...
شيعته بنظرات مختلطة بالعبرات حتى غاب عن بصرى...
وبمجهود شاق حركت قدمىّ وتقدمت خطوتان غير أننى لم ألبث أن توقفت فى مكانى قبل أن أخطو الخطوة الثالثة ، ثم بدأت فى التراجع إلى الخلف بضع خطوات وعيناى مُثبتتان على ذلك الشخص الذى ظهر فجأة وراح يرمقنى بنظرات مُبهمة المعانى...
فلم ألبث أن وليته ظهرى وأطلقت ساقىّ للريح !
~ ~ ~ ~ ~
" أروى . "
استوقفتها قبل أن تستطع الهرب منى مجددا ً...
رأيتها تتوقف بمكانها دون أن تستدير لتنظر إلىّ... حثثت الخطى نحوها... أمسكت بزراعها بقوة أحول دون هربها منى ثانية !
" إلى أين تريدين الذهاب ؟ "
لم تعلق أروى على جُملتى وراحت ترمقنى بنظرات طويلة غير مفهومة...
كانت بعض الدموع عالقة برموشها... وجفونها متورمة كثيرا ًويغلب عليها الأحمرار !
شعرتُ بحزنٍ شديد لرؤية آثار البكاء المحفورة على وجهها... خاصة وأننى السبب فى إراقة هذه الدموع...
أنتزعتنى أروى من افكارى بغتة حينما قالت بعصبية :
" ماذا تريد منى ؟ لماذا أنت هنا ؟ "
فاجاءتنى طريقتها الجافة الغليظة... نظرت إليها مُعاتبا ًوقلت :
" أتيتُ لأصطحبكِ معى . "
قفزت نظراتها المُستنكرة إلىّ وقالت بسرعة وصرامة :
" كلا... "
نظرت إليها مُستغربا ً...
قلت :
" مكانكِ الطبيعى هو منزلى يا أروى . "
خاطبتنى بنبرة من أتخذ قرارا ً لا رجوع فيه :
" مكانى الطبيعى هنا... فى ذلك الحى الفقير ذلك المنزل المُتصدع جدرانه... حيث ولدت ونشأت.... "
وصمتت لبرهة ثم تابعت بسخرية :
" وليس قصرك العظيم بكل خدمه وجواريه والبذخ الذى يزخر به بلا داع ٍ . "
نجح كلامها فى إثارة غضبى... وسخريتها فى الوصول بى إلى قمة الثورة والجنون !
قلت بنبرة حاولت أن أجعلها هادئة ، غير أنها لم تكن كذلك حين تفوهتُ بها :
" أنا زوجكِ يا أروى ويجب عليكِ أن ترافقينى حيث أكون... إلى السماء السابعة... أو حتى إلى سابع أرض . "
وأضفتُ بصرامة :
" لن أقبل بأن تحيا زوجتى بعيداً عنى... لن أسمح لكِ بهذا... "
هذه المرّة حملت نظراتها بعض الخوف... وراحت تحملق بى دون أن تقوى على الرد...
لانت نبرتى شيئا ً ما حينما رأيت الذعر المُرتسم على وجهها...
قلت :
" أنتِ زوجتى أروى ولا أريدك أن تبتعدى عنى . "
ومضت الدموع بعينيها وأوشكت على الانهمار...
تحولت نظراتها إلى التوسل والاستعطاف ،، بل والانكسار أيضاً...
وخاطبتنى بنبرة شديدة الضعف والأسى :
" لماذا تفعل بى هذا مُعاذ ؟ لماذا تتعمد إذلالى بهذا الشكل ؟ "
~ ~ ~ ~ ~
أدركنى الندم بمجرد أن رأيت وقع جُملتى على مُعاذ والتعبيرات الحزينة التى أنبثقت على وجهه...
عضضتُ على شفتى السفلى بقوة... أردت أن أعتذر عما قلته... غير أن الكلمات انحبست بحلقى ولم تقوى على الخروج...
راقبت علامات الأسى المُرتسمة على وجهه... نظراته الحزينة... وسمعته يقول :
" أنا أتعمد إذلالكِ أروى ؟ "
حاولت أن أخفف من وطأة الجُملة عليه ، قلت :
" إذا كان غرضك من الزواج منى هو الحضانة ، فأنا زوجتكِ فى الأوراق الرسمية وبأمكانك أن تثبت هذا دون أن أحيا معك بنفس المنزل . "
وأضفت :
" وبهذا أخلصك من مسؤوليتى التى تثقل كاهلك . "
ولم تزده جُملتى تلك إلا غضبا ً فوق غضبه...
قال :
" أنا قادر على تحمل مسؤوليتك أروى وأريدك بجانبى... وليس لمجرد إثبات زواجى منكِ . "
تفاجأت بجُملته ورحت أحدق به فى حيرة...
انتظرت أن يسترسل فى حديثه عله ينطق بكلمة ما قد تسهم فى شرح جُملته السابقة ، غير أنه قال مُغيرا ً مجرى الحديث :
" دعينا نعود إلى المنزل أروى لنتحدث... "
قلت بسرعة :
" لا يا مُعاذ... أرجوك لا ترغمنى على الذهاب معك... أنا مُتعبة وفى صدرى ضيق شديد... "
أطال مُعاذ النظر إلىّ... كانت نظراته توحى بمدى إعتراضه ورفضة لمجرد مُناقشة الأمر...
نظرت إليه مُستعطفة ومُتوسلة... أومض الدمع بعينىّ فى يأس وأطرقت برأسى أرضا ً...
سمعته يقول :
" حسنا ً يا أروى... سأترككِ تذهبين... "
رفعت رأسى ونظراتى إليه بسعادة... فاستطرد بسرعة :
" لفترة قصيرة... وليس بصفة دائمة . "
ما كدت أصدق أنه وافق ، قلت :
" حسنا ً... حسنا ً... "
ووليته ظهرى هامه الدخول إلى منزل والداىّ ، غير أنه استوقفنى قائلا ً :
" أروى . "
تجمدت فى مكانى للحظة ، وببطء ألتفتُ نحوه...
خشيت أن يكون قد غير رأيه بشأن بقائى فى منزل والداىّ ، غير أن نظرة واحدة إليه كانت كافيه لأن أدرك أننى مُخطأة !
كان يفصل بيننا عدة خطوات قليلة ، أختصرها مُعاذ فى خطوتين وصار مواجها ً لى...
نظرت إليه فى حيرة وتساؤل... كانت نظراته لى غريبة... تخفى فى طياتها مشاعر شتى... لا أميز سوى الحزن الغالب عليها !
نظرت إليه فى حيرة وأنتابنى للحظة قصيرة الشعور بالضياع فى بحر تلك العينين...
أحياناً تروادنى رغبة قوية فى الغوص بعينيه وسبر أغوار نفسه ،، غير أننى أتراجع عن رغبتى تلك وأكبتها فى نفسى... فعيناه بلا شطان... لا ينجو منهما أحداً !
أفقت من أفكارى على صوته...
كانت نبرته مُختلفة لم يسبق لى أن سمعته يتحدث بها... نبرة مست وتراً عميقاً وحساسا ً بقلبى !
" أنتبهى لنفسكِ أروى . "
نظرت إليه وقد تفاقمت حيرتى وتحولت إلى ذهول...
ألقى علىّ نظرة طويلة... ولمحت على زواية فمه ابتسامة حزينة...
للحظة مجنونة ، وددت لو أتراجع عن قرارى هذا وأن أخبره بكل ما يعتمل بصدرى... فأما أن ينفيه ويريح قلبى... أو يؤكدة ويقضى علىّ !
فتحت فمى وهممت بالحديث... ولأننى خشيت أن تأتينى الطعنة منه مُباشرة ومُهلكة ؛ فقد ابتلعت جُملتى ووأدتها فى مهدها ، بل وكدت أوليه ظهرى وأنصرف لولا وجدته يدس يده فى جيب سترته ويخرج مبلغاً من المال ثم يمد لى يده بهم...
شعرت بحرج شديد وأحمرت وجنتىّ فى خجل...
قال مشجعاً :
" لا تخجلى منى وخذيهم أروى... فرُبما تحتاجين شيئاً... "
قلت :
" لا أظننى سأحتاجهم . "
قال مُعاتباً :
" أذن خذيهم ليرتاح بالى على الأقل . "
لمّا رأى ترددى ورفضى للأمر قال :
" أنتِ زوجتى أروى وواجب علىّ أن أعيلكِ . "
نظرت إلى رزمة الأوراق المالية بيده وقلت :
" لكن هذا كثير جداً . "
ومددت يدى وتناولت ورقة واحدة منهم غير أنه أمسك بيدى وأجبرنى على تناول الأوراق كاملة ثم قال :
" الأن سيرتاح بالى قليلاً... "
وابتسم شبه ابتسامة ثم تابع :
" حتى تعودين ويرتاح بالى كلياً . "
نظرت إليه فى خجل وقلت :
" شكراً لك . "
أطال النظر إلىّ ولم يبد لى عازماً على الأنصراف....
قال :
" أتصلى بى يومياً لأطمئن عليكِ . "
وأضاف :
" معكِ هاتفكِ أليس كذلك ؟ "
أطرقت برأسى أرضاً لكى لا يرى الحقيقة جالية بوجهى وأنا أقول :
" أظننى نسيته بالمنزل . "
غير أننى فى الحقيقة تركته عمداً هو وكل شئ أشتراه مُعاذ لى بعد زواجنا !
رأيته يخرج هاتفه من جيب سترته ويناولنى أياه قائلا ً:
" أذن خذى هذا وأتصلى بى على هاتفكِ . "
وأضاف :
" وأنا سأتدبر أمرى حتى تعودى . "
تناولت منه الهاتف وشكرته ؛ ولأنه لم يبد لى عازماً على الانصراف فقد قررت أن أبادر أنا بالانصراف فودعته ووليته ظهرى وابتعدت عنه بخطوات واسعة وسريعة...
كنتُ واثقة أنه الأن يشيعنى بنظراته وينتظر أن أغيب عن بصره لكى ينصرف...
روادتنى فى تلك اللحظة رغبة عارمة فى إلقاء نظرة أخيرة عليه... غير أننى لم ألبث أن كبتُ رغبتى تلك وواصلت طريقى إلى المنزل ثم أختفيتُ بداخله !
~ ~ ~ ~ ~ ~
أدركنى الشعور بالندم بمجرد إختفاءها عن بصرى...
كيف طاوعنى قلبى على موافقتها على هذا الأمر ؟ وكيف سأتحمل أن تمضى عدة أيام دون أن أراها ؟
راودتنى فى تلك اللحظة رغبة قوية بالذهاب إلى منزل والديها وأصطحابها معى إلى منزلى... بل و إرغامها على هذا لو لزم الأمر... غير أننى كبتُ رغبتى تلك وتوجهت إلى سيارتى وقدتها متوجهاً إلى عملى...
لقد وعدتنى بأن تتصل بى كل يوم لتطمئننى على حالها... وهذا الأمر أراحنى قليلاً...
ليت الأيام تمر بسرعة لتعود أروى إلى منزلى مجدداً !
بل ليتنى ما وافقت على تركها !
لكن... كان هذا هو الحل الوحيد ؛ فأروى تبدو حزينة للغاية ، خاصة بعد الموقف الأخير...
إنها كعادتها تسئ الظن بى... وأنا واثق أنها بررت فعلتى هذه على أنه تملكاً ليس إلا...
ليتكِ تدخلين إلى قلبى يا أروى لتعرفين ما به !
رُبما كان هذا ليرضى غروركِ قليلاً ويريحنى من مشاعركِ المُتقلبة هذه !
حينما وصلتُ إلى مكتبى تلقيتُ أتصالاً من المحامى يخبرنى فيه بأن القضية تم قبولها لدى المحكمة التركية وبأنه جارى النظر فى الأمر ، وقريباً جداً سنلتقى استدعاء منهم لكى نأتى لحضور الجلسة...
شئ ساهم فى رفع نفسيتى المُتدهورة قليلاً ، وأراح قلبى إلى حد ما...
فقلبى لن يهدأ كلياً حتى تعود أروى إلى منزل مجدداً !
آه يا أروى... ماذا فعلتِ بى فى تلك الفترة القصيرة ؟!
لقد صرتِ كما لو كنتِ جزءاً لا يتجزء منى... ولا أتحمل أبتعادكِ عنى للحظات قليلة...
ليتكِ تغيرين رأيك وتعودين الأن !
بل ليتكِ تشعرين بى وبالنيران المُتأججة بصدرى وقلبى !
~ ~ ~ ~ ~ ~
~... تتبـ ... { أنتِ ملكى وحدى } ... ـع ...~
|