7
: : : العُقد : : :
ألقيتُ نظرة أخيرة من نافذة الطائرة أودع تلك المدينة الساحرة وأتسأل فى نفسى تُرى هل سأزورها مرة أخرى أم هذه ستكون المرة الأخيرة ...
كم أحببتُ هذه المدينة ..! وكم أشعر بالأسى لمغادرتها ..!
فبهذه المدينة شعرت لأول مرّة بأن الفوارق التى بينى وبين معاذ قد سقطت نهائياً ... ونسيت أنه صاحب أكبر سلسلة شركات ... وأنه يعد من أثرى الأثرياء ..!
اغمضتُ عينى وأرحتُ ظهرى على المقعد المُريح ، وشعرتُ برغبة فى النوم ؛ فأنا لم أنال قسطاً كافياً من النوم بالأمس وأمل فى أن يزحف النعاس إلى عينىّ أثناء الرحلة...
وبالفعل رحتُ فى سباتٍ عميق رغم أننى لستُ مُعتاده على النوم خارج فراشى بسهولة ..!
وحينما أفقتُ من نومى ، وفتحتُ عينىّ إذا بوجه مُعاذ يطالعنى... كان باسم الثغر... وكان يحدقنى بنظرات حرت فى تفسيرها... وخيل إلىّ للحظة قصيرة أنها تحمل لى بعض المشاعر ، لكنى لم ألبث أن شعرتُ بسخافة فكرتى حينما رأيته يشيح بوجهه عنى ويتطلع إلى الطرقة الضيقة للطائرة ، كأنما يريد أن يبتعد بنظراته عنى...
تثاءبتُ بكسل وتمطيتُ فى مكانى ، ثم سألته :
" هل أقتربنا من القاهرة ..؟ "
ألتفت وألقى نظرة عابرة علىّ ثم قال :
" نعم... لم يتبق لنا على الوصول سوى دقائق . "
نهضتُ من مكانى قائلة :
" أذن سأذهب لدورة المياة لأغسل وجهى . "
وتوجهتُ نحو دورة المياة فى أخر الرواق...
غسلتُ وجهى بالماء ونفضتُ آثار عن النوم عن وجهى ثم ضبطتُ حجابى وغادرتُ دورة المياة مُتجهة إلى مقعدى...
وفجأة لفت نظرى شخص ما يطالع الجريده ، ويختفى وجهه كله خلفها...
لستُ أدرى لِم لفت نظرى هذا الشخص ..؟ أو ما الذى لفت نظرى به ..؟
لكنى على أى حال لم أهتم وواصلتُ طريقى ، فإذا بذلك الشخص يبعد الجريدة عن وجهه فيكشف عن وجهه... وأتسمر أنا فى مكانى بذهول ..!
نعم... كان ذلك الشخص هو نفسه صاحب العينين الزرقاويين ..!
ابتلعت ريقى بصعوبة وواصلت طريقى فيما كانت عيناه تتبعاني وعلى شفتيه ابتسامة ساحرة ..!
أرتبكتُ للحظة... وتوقفتُ بمكانى ثم أنتزعتُ نفسى من دهشتى وأشحتُ ببصرى عنه وواصلتُ طريقى...
فى تلك اللحظة سمعتُ صوت المضيفة وهى تحث الركاب على ربط الأحزمة ولزم أمكانهم لحين هبوط الطائرة...
جلستُ بمقعدى وألزمتُ التعليمات حتى هبطت الطائرة بسلام ، وغادرتها برفقة مُعاذ...
وبالطبع قضينا وقت لا بأس به فى الجمرك حتى سُمح لنا لمغادرة المطار...
كان ذلك الشخص المدعو محمود لا يفتأ يراقبنى بعينيه ويلاحقنى بنظراته أينما ذهبت ، كأنما يريد أن يقتنص الفرصة ليتحدث إلىّ بعيدا ً عن زوجى... لكن هذه الفرصة لم تسنح له وغادرنا المطار بسلام وأتجهنا إلى سيارة مُعاذ التى كانت بانتظارنا ثم أستقليناها سوياً وتوجهنا إلى قصره..
كنتُ أشعر بشوق شديد إلى عائلتى لكنى لم أجرؤ على التصريح بالأمر لمُعاذ فلزمتُ الصمتُ وتركته يقود السيارة مُتجها ً إلى القصر...
وما أن لاح القصر من بعيد حتى شعرتُ بصدرى ينقبض وبالشعيرات الدمويه فى وجهى تضيق ..!
كم أشعر بضيق لا حدود له حينما ألمح ذلك القصر العظيم ..!
صحيح أن هذا القصر أكثر مما حلمت به... وصحيح أنه فارق كبير بينه وبين منزل والدىّ... وصحيح أننى أنبهرت برؤيتة لأول مرة...
لكن هناك شعور ما يسيطر علىّ ويأبى أن يفارقنى ألا وهو أنه لا مكان لى وسط كل هذا البذخ...
وبرغم ضخامة القصر دائماً أشعر به يضيق علىّ ويتضاءل حجمه من حولى حتى لم يعد ليساع حجمى...
كم أتمنى أن ينتهى هذا الجحيم المُسمى بالزواج سريعاً ..!
" لِم أنت واقفه هكذا ..؟ "
أنتبهتُ على صوت مُعاذ إلى أننى أقف منذ فترة أحدق فى باب القصر دون أن أجروء على الدخول إليه...
نظرتُ إليه بأسى ، فقابلنى بنظرات مُستعجبة ومُستفهمة فى آنٍ واحد...
ترددتُ قليلا ً ثم قلتُ :
" أنا........ "
وصمتُ... ذ أدركت أن طلبي مرفوض مُسبقاً ..!
أطرقتُ برأسى أرضاً فى أسى وحزن شديدين وكدت أواصل طريقى لولا أنه قال :
" تريدين الذهاب إلى عائلتكِ ..؟ "
انتشلنى سؤاله من حيرتى وضياعى... رفعتُ بصرى إليه مُتشبثه بالأمل...
وسألته فى خفوت :
" هل تسمح لى ..؟ "
تعجبتُ كثيراً حينما راح يحدجنى بنظرة طويله وكأنه يريد أن يقول لى : لِم أنتِ خائفة منى إلى هذا الحد ..؟
ثم قال :
" طبعاً... "
وأضاف بضيق :
" أكنتِ تظنين أننى سأمنعكِ عن زيارتهم ..؟ أروى بالله عليكِ ما الذى تظنينه بى ..؟ "
حرت كثيرا ً... ولم أدرى بم أجيبه ..؟
فى الحقيقه لقد توقعت أن يسجننى بقصره العظيم... وتوقعت ألا أرى ضوء الشمس بعد ذلك...
سألته مُتشككة :
" ألن تمنعنى عنهم ..؟ "
قال :
" طبعاً لا . "
وابتسم ثم قال :
" أصعدى إلى غرفتك وأغتسلى لكى نذهب لزيارة عائلتكِ . "
قال مُعاذ ذلك وفتح باب القصر ثم دلف إليه وتركنى غارقة فى حيرتى وأفكارى ..!
نذهب ..؟!
هل قال نذهب ولم يقل تذهبين ..؟
أتظنون أنه يقصد الجمع بالفعل أم أنها كانت ذلة لسان ..؟
لم أدقق كثيرا ً فى الأمر... بالتأكيد كانت ذلة لسان... فلستُ أتوقع من مُعاذ بك أن يتواضع ويتنازل ويزور أسرتى الفقيرة منزلهم المتواضع ..!
أغتسلتُ وابدلتُ ثيابى ، ثم ذهبتُ إلى غرفة مُعاذ وطرقتُ بابها... وبعد لحظة قصيرة فُتح باب غرفته وأطل مُعاذ من خلفه رافعاً حاجبيه فى دهشة ، ثم قال :
" هل أنتهيتِ من إرتداء ملابسكِ ..؟ "
قلتُ :
" نعم... هل أذهب الأن ..؟ "
ظل مُعاذ صامتاً لبعض الوقت ثم قال :
" أمُشتاقة إليهم إلى هذا الحد ..؟ "
قلتُ :
" نعم... مُشتاقة إليهم كثيراً . "
ابتسم وقال :
" أذن هيا بنا . "
وغادر الغرفة فى طريقة إلى باب الجناح ، فيما بقيتُ أنا بمكانى أنظر إليه فى حيرة ..!
قال :
" لِم واقفه بمكانكِ هكذا ..؟ هيا أروى تحركى "
سألته :
" هل تقصد أنك ستوصلنى إلى منزل أبى ..؟ "
قال باستغراب :
" بل سنزورهم معاً... ظننتكِ فهمتِ هذا . "
وأمسك بيدى يقودنى إلى الخارج ..!
استقلينا سيارة مُعاذ الذى يقودها بنفسه مُتجهين إلى منزل والدىّ...
وفجأة توقف مُعاذ عند إحدى محلات الحلوى ، وهم بمغادرة السيارة لولا أننى أستوقفته قائله :
" إلى أين ..؟ "
قال :
" سأشترى بعض الحلوى لعائلتكِ... "
وأضاف :
" لا يجب علينا أن نزورهم دون أن نجلب لهم هدية . "
شعرتُ بضيق لا أدرى سببه وقلتُ له :
" لا داعى لهذا يا مُعاذ... عائلتى لا ينتظرون أن تأتيهم الصدقة من أحد . "
ندمتُ على جُملتى بعدما تفوهتُ بها حينما رأيت علامات الأسى التى أرتسمت على وجه مُعاذ وهو يحدقنى بنظرات مُستهجبنة ، قبل أن يقول :
" أعرف هذا... ولم يكن فى نيتى أن أتصدق عليهم يا أروى... لو كنت ذاهب لزيارة أحد من عائلتى لكنت أشتريتُ له هدية أيضاً . "
شعرتُ بخجل شديد من نفسى ، فقلتُ مُعتذرة :
" أنا أسفة . "
أطال مُعاذ النظر إلىّ ثم قال :
" لا عليكِ... هل أذهب لشراء الحلوى أم أن هذا يجرحكِ ..؟ "
قلتُ بخجل :
" لا بأس... فلتذهب كما تشاء . "
أحضر مُعاذ علبة الحلوى ثم توجهنا بعد ذلك إلى منزل والدىّ...
لن أصف لكم مدى سعادة عائلتى بزيارتنا هذه...
ومدى سعادتهم بزيارة مُعاذ...
فقد ساهمت زيارته شيئاً ما فى تصديق تلك الكذبة المُسماه بزواجنا ..!
عدنا إلى القصر فى مساء ذلك اليوم وتوجهنا إلى الجناح الخاص بنا...
ألقيتُ جسدى على أقرب مقعد بتهالك... لقد كان اليوم حافلاً ومُرهقاً...
أنتبهتُ إلى مُعاذ الواقف بالقرب منى يتأملنى ، فأعتدلت فى جلستى وضبطتُ حجابى حول شعرى ثم قلتُ :
" أهناك شيئاً ..؟ "
رأيتُ شبه إبتسامة على زواية فمه وهو يقول :
" كان وقتاً جميلاً هذا الذى قضيناه فى منزل والديك . "
سألته بتشكك :
" حقاً ..؟ "
فأومأ برأسه إيجاباً ولزم الصمت لبعض الوقت...
كان يبدو مُتردداً وكأنما يريد أن يقول شيئاً ما دون أن يجرؤ على ذلك...
تعجبتُ كثيراً وهممتُ بسؤاله عن ذلك ، لولا أن قال :
" تصبحين على خير يا أروى . "
وتوجه إلى غرفته ودلف إليها ثم أغلق بابها خلفه فى هدوء ..!
..~
فى صباح اليوم التالى ، بينما كنا جالسين حول مائدة الطعام نتناول فطورنا أنا ومُعاذ وتشاركنا أياه شقيقته سالى التى لا تفتأ تسألنا عن تفاصيل رحلتنا إلى باريس ، حضر إحدى الخدم وتوجه نحوى وأعطانى ظرفاً قائلاً :
" وصلكِ هذا الظرف بالبريد اليوم . "
تعجبتُ كثيراً وضربتُ أخماساً بأسداس...
من هذا الذى أرسل إل هذا الظرف ..؟ ولماذا ..؟
مُعاذ نظر إلىّ فى تساؤل ثم نقل نظراته إلى الظرف فى فضول ثم قال :
" من أرسل لكِ هذا ..؟ "
قلتُ :
" لا أدرى ..! رُبما كان أبى . "
وحقيقة لم أصدق عبارتى أو أقتنع بها... وقررت تأجيل فض الظرف إلى بعد تناولى للفضول ، لولا أن قال مُعاذ يحثنى على فضه :
" دعينا نرى من أرسله . "
لم أجد مفراً من فضه ، فمزقتُ الظرف من طرفه وأفرغته و.....
واتسعت عيناى فى دهشة وأنا أرى حبات العقد المُنفرطة التى كان الظرف يحويها...
هل تذكرون هذا العقد ..؟
نظرتُ إلى مُعاذ فوجدته يشاركنى دهشتى... ثم وجهت نظراتى إلى سالى فإذا بها مُنهمكة فى تقطيع الطعام ولا تنتبه إلينا...
عدتُ بنظراتى إلى حبات العقد وتأملتها فى حيرة لا تضاهيها حيرة ..!
تُرى من أين عرف صاحب العينين الزرقاويين منزلى ..؟!
~ ~ ~ ~ ~
تتبــع