وتابعت وهي تمسح جبينه بأصبعها :
" لا تنسحب رايك ما زلت قادرا على الصمود والمقاومة , أنت تواجه معركة في حياتك , ألا تريد أن تربحها؟".
فأجابها بمزيج من الحزن والنقمة:
" أن العدو موجود داخل رأسي , وأنا لا أستطيع أن أقتل عدوا لا أراه".
" لا تكن قاسيا ".
" أما كنت تشعرين بالمرارة لو كنت مكاني؟".
" ربما".
" في هذا الموضوع ليس هناك ربما , أن الورود في الحديقة حيث أمشي ما زالت سوداء اللون والنساء ما زلن بدون وجوه ".
لم ير رايك الألم الذي كان ظاهرا بوضوح على وجهها :
" رايك , هل تحاول دفعي الى البكاء؟".
فهز رأسه مجيبا :
" لا , أنما أحاول أفهامك مرة أخيرة ".
" أنا أفهمك , صدقني".
" أذن قولي لي ما الذي يجب أن أفعله في حياتي , هذا لو أفترضنا أنها لا تزال طويلة أمامي؟".
" لقد قلت لك , بأستطاعتك أن تتدرب على المحاماة , لأن لديك ذهنا حادا وسرعة بديهة".
" حتى متى؟ يمكن لهذه الشظايا الملعونة أن تتحرك الآن فتصيبني بالجنون , فيما نحن جالسان هنا".
" حتى ولو كان هذا الأمر صحيحا , أنت لا تستطيع أن تقضي أيامك جالسا في الحديقة ومنتظرا حدوثه , لقد كنت جنديا وتعلمت الأقدام, كنت تعلم دائما أنه من المحتمل أن تصاب برصاصة أو بقنبلة تنفجر في وجهك".
" أن الكلام سهل جدا يا أنجي , لكن القلق يدمر أعصابي رويدا رويدا , في الليل أحلم , وأنت تعلمين ما هو حلمي الوحيد في هذه الليالي , وعندما أستلقي على سريري صاحيا , أجد نفسي لا شعوريا أحاول أن أفتح عيني قدر الأمكان , وأن أدع نور الشمس يتسرب أليهما دون جدوى , أنت لا تعرفين بأنني أعيش في فراغ ووحدة محاطا بغمامة سوداء كثيفة لا تزول , أنا...... أنا لم أعرف معنى الخوف ألى أن حلت علي هذه اللعنة!".
لم تتحمل ما كان يقوله فوجدت نفسها تقول له وهي تعانقه :
" يا عزيزي........".منتدى ليلاس
فدفعها بعيدا:
" لا تفعلي هذا ...... لا تشفقي علي!".
" أنا لا أشفق عليك أنما أريد أن أشاركك أحزانك".
" أنت لا تعلمين ماذا تقولين , أنت لا تستطيعين مشاركتي في سمائي السوداء , تماما كما أنا لا أستطيع مشاركتك في سمائك الزرقاء , لا تتصرفي بطريقة عاطفية أيتها الممرضة!".
ثم غرق في مقعده وأشاح بوجهه عنها , فراحت تحدق به وتتأمل عضلات فكه وهي تتراقص من الغضب , فأحست بألم في أعماقها وساد الصمت , وصلت مايا ودخلت الى السيارة , جالسة في المقعد الخلفي , كانت قد سرحت شعرها وغيرت رداءها ووضعت أحمر شفاه مناسب.
بادرها رايك بالقول:
" هل رتبت هندامك جيدا؟".
" وهل صديقك جذاب وساحر الى هذا الحد؟".
أحست أنجي بأضطراب مفاجىء بسبب هذا السؤال , أن ما قاله لها رايك عن توركال كان سريا ولم يكن من الممكن أبلاغه لمايا , أن هذه الأخيرة قد عاشت حياة هادئة هانئة وآمنة أكثر من أنجي , وهي بالتالي لم تتعود على المشاكل وما زالت طرية العود , أن أخبارها بقصة توركال سوف يصدمها بشكل لن يسمح لها بالتصرف معه بصورة طبيعية , عندما يصل الى بايلتار لقضاء عطلته.
قادت أنجي سيارة المرسيدس بهدوء وأنعطفت نحو الطريق المحاذي لشاطىء البحر والذي يقود الى وسط الجزيرة , كان البحر هادئا كالزيت يلتمع كاللؤلؤ , تجاهل رايك السؤال الذي طرحته مايا حول توركال وسألها بدوره:
" كيف يبدو البحر اليوم؟".
" يبدو كما رسمه رسامك المفضل على الكانفا , أما زلت تعتبر ترنر أفضل رسام للطبيعة؟".
" عندما أقتنع بشيء , لا أغير رأيي بسهولة".
" يا ألهي كم أنت متغطرس يا رايك!".
ثم أنحنت وضربته بتحبب على عنقه وسألته:
" هل أطباع صديقك مثل أطباعك؟".
" لا , أن أصابتنا البليغة هي الشيء الوحيد المشترك بينننا على ما أعتقد".
" أنا أفضل جراحك على طباعك ".
وتابعت وهي تحيطه بذراعيها بغنج :
" أنت تبدو قويا وقاسيا , يا أخي الكبير , أتذكر , أنت الوحيد الذي كان يهتم بنا دائما في الأيام الخوالي , كم كانت جميلة تلك الأيام , وكم كنا نضحك ونلعب غير عابئين بشيء , أتذكر؟".
" نعم , عندما عدت من المستشفى كنت أشعر بفراغ في رأسي , ولم أكن أتذكر كل التفاصيل , أما الآن , فأن الوضع تحسن عن ذي قبل وأستطيع أن أتذكر الأشياء بوضوح أكثر , لا يبدو أنني أتذكر الأشياء بوضوح أكثر , لا يبدو أنني أتذكر أذا كانت أنجي جميلة أم عادية".
ضحكت أنجي وسألته:
" وهل هذا يهم؟".
كانت تقود السيارة على الطريق العريض الذي يمر بمحاذاة المدفن الذي دفنت فيه روزادي زالدو , فأحست أنجي بأنقباض لم يختف ألا بعد أن تجاوزت السيارة المكان في حين لم تنتبه مايا للأمر لأنها كانت تطرح على شقيقها سؤالا:
" كيف تتصور شكل أنجي الخارجي؟".
" ذكرياتي عنها لا تزال عالقة بعنبر الأيام الغابرة , كل ما أذكره أنها كانت خجولة وكانت جدائلها تصل الى خصرها".
" ما رأيك بهذا الوصف يا أنجي؟".
" علينا جميعا أن نقبل بالحياة كما فرضت علينا".
أوقفت السيارة على رصيف الميناء وخرج منها الجميع , فقال لها رايك:
" أنا أتذكرك عندما كنت طفلة , أما الآن فأنا بالكاد أعرفك ".
فسمعتهما مايا يتهامسان فتدخلت قائلة:
" ما هو الداعي لهذه الثرثرة على أنفراد ؟".
" كنت أسأل أنجي عما أذا كانت ملابسي تبدو مرتبة , أن هذه هي أحدى سيئات فقدان البصر".
فقالت له مايا:
" أرجوك يا رايك لا تتكلم بهذا الشكل , فأنا لا أستطيع الأحتمال ".
" كفكفي دموعك يا صغيرتي ولتخبرك أنجي عن حاستي السادسة ( الرؤية بالوجه ) فهذا سيخفف الوطأة عليك".
فوقفت مندهشة وسألته:
" أحقا رايك؟".
" من المحتمل أن يكون الأمر كذلك , أعتقد أنها طريقة الطبيعة في التعويض على فقداني البصر , فلنذهب للقاء توركال".