في بعض الأحيان كان يتكلم عن هذا الموضوع , ولم تكن تحاول أن توقفه لأن العنف الذي أدى به الى العمى يجب أن يجد طريقه الى الخارج, كان الكلام المستمر والمتكررعن الموضوع نفسه يشكل الطريقة الوحيدة لتفجير العقدة التي نشأت في نفسه , وكان أخراجه من قمقم عقدته هذه هاجسا يلاحق أنجي لأن العقدة التي يشعر بها تصبح , أذا لم تعالج بصورة جذرية , أشد خطورة وضررا من شظايا القنبلة التي لا تزال في رأسه , كان يتكلم دائما عن ذلك اليوم وعن رفاقه الذين قتلوا , وأنجي تستمع وتتألم وتشكر الله لأنه لا يستطيع أن يراها وهي على هذه الحالة , كان يستعمل عبارات دقيقة وقصيرة عندما يتكلم عن الدماء والألم والجندي الشاب الذي أختلط صراخه وهو ينازع بندائه لزوجته الشابة الحامل.
قطع رايك حبل تفكيرها حين قال :
" أرغب بفنجان ثان من القهوة , أما زلت معي؟".
" كنت أفكر".
سكبت القهوة وزادت الكريما عليها في فنجانها فقط , ما رايك فقد كان يحبها قوية كما تعودها في الجيش.
" بمن؟ بتوركال دويباس ؟ أفهم أن تكون المرأة فضولية ولكن ليس الى هذا الحد , أذا كان يهمك أن تعرفي فهو أسكتلندي , بدءا من أسمه , وصحافي كان يدور باحثا عن مواضيع ليكتب عنها عندما أصيب , وكان المستشفى العسكري هو الأقرب بين الذين يعالجون هذا النوع من الأصابات ,فنقل اليه وهناك تعارفنا , مسكين هذا الرجل أصابته لا تحتمل نفسيا".
" هل هو متأهل؟".
منتدى ليلاس
" أنه أرمل , وأعتقد أنه بسبب وضعه العائلي غير المرتبط , تمكن من الوصول الى منطقة المعارك , لم يتكلم عن زوجته سوى مرة واحدة , وأستطيع القول أنه حتى تلك اللحظة لم يكن قد تقبل بعد فكرة موتها , أخذها معه في أحدى رحلاته الصحفية , وكانت الأولى لهما معا , فصدمتها دراجة نارية أثناء ذهابها لشراء بعض الحاجيات , بقيت في الغيبوبة لمدة شهرين , وقال لي بأنهم فعلوا المستحيل لأنقاذها دون جدوى , حين ماتت كان قد مضى على زواجهما ثلاثة أشهر".
فقالت أنجي والحزن باد على قسماتها:
" أنه رجل مسكين , لقد نال حصته من مشاكل الحياة".
" نعم , أن المصاعب التي يواجهها الأنسان في الحياة تدفع به أحيانا الى الجنون , لقد ناقشت هذا الموضوع مع والدي وأنتهينا الى نقاش حاد , أنه متدين حتى العظم".
" وأنت ألست كذلك , يا رايك؟".
" من بعض النواحي , ربما , أنت ممرضة يا أنجيلا ولا بد أنك أنك لاحظت أن الأمراض والمصائب تصيب الطيبين أكثر مما تصيب الأشرار , ألم تسألي نفسك عن السبب؟".
فأجابته بهدوء:
" بلى , ربما كان نوعا من التجربة , خذ مثلا عمتي , لطيفة وطيبة لكن حياتها كانت متعبة وقلقة فأجهدت نفسها , ثم , من يعرف ؟ قد تكون الأنانية سلاحا يخفيه الناس الطيبون , في كل حال , أنا لا أود أن أكون أنانية , وأنت؟".
أمتدت يده الى قطعة حلوى على الطاولة , لكنه عوضا عن أكلها فتتها بأصابعه وهو يقول:
" أنا أجلس في الحديقة وأفكر في أشياء كثيرة , أن فقدان البصر يخلق شاشة فكرية تتوالى عليها الصور والذكريات , واحدة تلو الأخرى , أتساءل ما الذي يدفع الناس الى سلوك طرق ملتوية تقود في كثير من الأحيان الى نهايات مأساوية ؟ رغم أن التخطيط وبعد النظر هما صفتان تلازمان الأنسان".
تنهد وراحت عيناه تحدقان في المجهول , في سواد قاتم , حيث تعرف أنجي أن لا وجه ولا شكل معروفا لها هناك , كانت صوتا يستمع أحيانا اليه ويدا يمسك بها في بعض الأوقات , كانت تشعر بضيق لأنها تحس بأن فقدانه لبصره قد أختزلها من ذاكرته فأصبحت صوتا ويدا فقط.
" لو أخترت دخول ميدان العمل في مكتب المحاماة العائد لزوج عمتي , هل تعتقدين بأنني كنت سأواجه الحائط نفسه , والسد نفسه , حيث لا أجد متنفسا أو بابا أستطيع فتحه لأدخل الى حديقة وأرى أزهارها الرائعة؟".
" رايك, بأستطاعتك تلمّس الورود وشم رائحتها , مد يدك ".
فمد يده وأمسك بالوردة الحماء التي قدمها دون كارلوس الى أنجي مع فطور الصباح , تلمّس أوراقها الناعمة الرطبة ثم دفعها الى أنفه وأشتم رائحتها قائلا:
"أنها وردتك , أليس كذلك؟ كما قلت بأستطاعتي أن ألمسها وأشمها لكنها تبقى بالنسبة لي وردة سوداء اللون".
بقيت هذه الكلمات عالقة في ذهن أنجي بينما كانت ترتدي ملابسها لتقوده الى المدينة , ليقابل الصحافي الذي تعرف عليه في المستشفى , والذي حرم مثله من التمتع بحياة طبيعية كسائر الناس.
أن ما يزيد الأمور تعقيدا هو أن عاهة توركال دائمة كعاهة رايك , رايك لا أمل له بأستعادة نظره وتوركال لا أمل له بأستعادة رجولته.
كانت هذه الأفكار تمر ببال أنجي فيما كانت تستعد للخروج , وأنتقت حقيبة وقفازين يتناسبان مع لون فستانها البيج ثم سرحت شعرها وراحت تتأمل نفسها في المرآة , فوجدت أن شكلها أصبح لائقا للخروج , أقفلت باب غرفتها وتوجهت نحو غرفة رايك لترى ما أذا أصبح جاهزا , فوجدت خادمه يرتب الغرفة , أبلغها بأن السيد نزل منذ لحظات وهو ينتظرها في الطبقة السفلى.