يبدو أن هذا المدعو ياسر قد احتل مكانا كبيرا في عقل أستاذ فؤاد الذي لم يعد يهتم لي ولا لمشكلاتي
فمنذ أن أهل علينا لم يعد باستطاعتي أن أتحدث معه حديث مطول كما في السابق الا ويتخلله اسم ياسر بأى شكل من الأشكال
لا أعتقد أنني سأتحمل ذلك طويلا, واليوم على وجه التحديد أحتاج لرأى أستاذ فؤاد في أمر يهمني, لذلك فقد بكرت في الذهاب للعمل هذا الصباح لأنني أعرف عادة أستاذ فؤاد في التبكير, وأن أنسب وقت للتحدث اليه هو قبل حضور الزملاء, وخاصة ذلك المحتل
عندما دخلت الى المكتب وجدت أستاذ فؤاد وحيدا كما توقعت, لكنه كان منهمكا في قراءة نسخة من الجريدة التي تصدرها المؤسسة
وضعت أغراضي على المكتب واقتربت منه وانحنيت أنظر في ظهر الجريدة التي بين يديه لأجد أنها اصدار اليوم, فسألته بدهشة : يبدو أنك تقرأ مقالة هامة!
قال دون أن تترك عيناه الجريدة : انه التحقيق الذي كتبه ياسر
ارتميت على الكرسي أمام مكتب الأستاذ فؤاد, لا أصدق!! انه يحاصرني تماما
هتفت : يا الهي!! ياسر, ياسر, ياسر, لقد حضرت اليوم مبكرا خصيصا حتى أستطيع التحدث اليك في أمر يهمني كثيرا قبل أن أجده يحتل هذا الكرسي
وضع الجريدة جانبا وسألني باهتمام : ما بك يا ابنتي!! يبدو عليكي التوتر اليوم, أهناك شيء يقلقك؟
قلت بتململ : كلا, ولكن ذلك المدعو ياسر بدأ يزعجني حقا, فأنا لا أكاد أتحدث اليك كما في السابق
قال باسما : حسنا, أنا أتعمد ذلك
قلت بدهشة : ماذا! لم أكن أتوقعها منك!!
قال : ياسر لا زال حديثا في المكان, ومنذ وصوله ولم يقابل سوى بالتحدي والتشكك والنفور, رغم أننا لم نر منه سوى الخير
قلت بضيق : ألم تر كيف كان يعاملنا من أول يوم!!
قال باستنكار : كلا, لم أرى شيئا, فهو لم يخطئ في حق أى انسان هنا, هو فقط يفعل ما يراه صوابا من وجهة نظره, ولكن هذا لا يعني اساءة لأى شخص
أردف بلوم : كنتى دائما موضوعية في نظرتك للأمور, مالي أراك اليوم متحاملة عليه بلا سبب منطقي
بدأت أتأثر بكلماته العقلانية, فقلت : اذا فالخطأ عندي!!
قال بصدق : إنك تعاملين كمال أفضل مما تعاملينه رغم تحفظك التام على تصرفاته ورفضك لأفعاله السيئة!
لم لا تنظرين لياسر بنظرة أخرى وتتقبلينه كزميل بصرف النظر عن معتقداته الشخصية؟
قلت : حسنا, سأحاول
قال وهو يعاود الإمساك بالجريدة : اذا فعليك قراءة تحقيقه المنشور اليوم
قلت وأنا أنحي الجريدة جانبا : سأفعل فيما بعد, هلا استمعت لي من فضلك, فهناك ما يهمني أن أعرف رأيك بصدده
ترك الجريدة أخيرا وقال : نعم, كلي آذان صاغية
قلت : استاذ حمدي اتصل بي أمس أكثر من ثلاث مرات
قال باسما : ألا يزال مصرا على ضمك الى اللجنة؟
تنهدت وأنا أقول : بلى, من قبل تأسيس اللجنة وهو يحاول معي, والآن اللجنة تكونت بالفعل وأعلن عن وجودها
قال باسما : وما المانع, أنا أؤيده في اصراره عليك, فأنا أعرفك جيدا عندما تتحمسين لشيء قد تبذلين حياتك في سبيله
قلت بضيق : هذه هي المشكلة, لا أظن أنني مستعدة الآن لتلك الخطوة, أخشى أنني لو التحقت الآن باللجنة فلن أؤدى فيها كما ينبغي, ولا أحب أن أكون من المقصرين
قال بفهم: نعم, أستطيع أن أتفهم أن مشاركتك في أنشطة اللجنة قد تؤثر على عملك في المؤسسة بشكل مباشر, بل ربما تفقدين عملك بسببها, وأنت لست مستعدة لذلك الآن
قلت بضيق : أرجو ألا تفهم تصرفي بصورة خاطئة, فأنا أعتقد أن عملى هنا سيخدم القضية بأفضل من مشاركتي في اللجنة التي لا أعتقد أنها ستصمد طويلا أمام الضغوط الفظيعة التي تمارس عليها, بالإضافة الى أن كل خطوة أو نشاط تقوم به سيواجه بعراقيل وتعنت قد يقوضه من أساسه
أعتقد أنهم لن يستطيعوا تنفيذ أى نشاط أو فعاليات يضعونها في خططهم, اذا فعملي في اللجنة لا فائدة منه
قال بفهم : أميرة, أنت تخشين أن تفاجئي بنفسك يوما خلف القضبان
ابتلعت ريقي ونظرت اليه وقلت محاولة الدفاع عن نفسي : الأمر ليس...
قاطعني مكملا : أفهم شعورك جيدا, أنت لا تخشين هذا بقدر خشيتك أن تفقدي عملك هنا, كما أن الحال التي وصل اليها أخاكي يجعل ابتعادك عن البيت أمر شبه مستحيل, فمن واجبك التخفيف عن أمك وتجنيبها صدمة جديدة قد تحطم قلبها
قلت باحباط : وضعت يدك على الجرح
كيف أضحي بعملي الذي أنجز فيه وأستطيع أن أخدم فيه القضية بشيء شبه موقوف, وعند أول خطوة أخطوها فيه أجد المعبد قد تهدم بأكمله فوق رأسي!!
قال بأسى : لا تحزني, فكلنا كذلك
قلت بضيق : لا أفهم لم يلح على أنا فقط بهذه الطريقة؟
قال : إن من له قضية يبحث دوما عمن يؤمن بقضيته ويساندها, لا أعتقد أنه يلح عليكي أنت فقط, بل هو يحتاج لكل من يتوسم فيهم سرعة الإستجابة والإيمان والوطنية وحب الخير والإنتماء
لقد كان يعرف والدك جيدا كما أخبرتيني من قبل
لم تطل علاقتهما الى أمد طويل, أليس كذلك؟ ولكنهما كانا كما نقول أو كما يمكن أن نطلق عليهما (رفيقي طريق) في وقت ما, مما جعله يتمنى أن يجد شخص مثله, وعندما التحقتي للعمل بالصحافة وأصبح يراك باستمرار في النقابة شعر أن من الممكن أن تكوني هذا الشخص, هو يتوسم فيك أن تسيري على دربه
قلت بألم : الزمن خلاف الزمن, لا أعتقد أن اللجنة يمكن أن تنجز الشيء الكثير, فالمعوقات أكثر وأكبر
قال باسما : إن ضميرك اليقظ هو ما يؤرقك, لو كنتي شخص آخر لحسمتي الأمر سريعا لصالح عملك, أو بمعنى أدق لمصلحتك الشخصية, لكن ضميرك هو العائق الأساسي في انهاء ذلك الصراع النفسي, وأستاذ حمدي يفهم ذلك جيدا لذلك فهو يستمر بالضغط عليكي للإنضمام الى اللجنة, فهو موقن أن النتيجة في النهاية لصالحه, وان لم توافقي اليوم فستوافقين غدا, المهم أن يكون ضميرك دائما في حالة يقظة وأرق مستمر
قلت بضيق : حسنا, وكيف أتخلص من تلك المطاردة؟
قال باسما : لن تستطيعي, أتعلمين, أنا أيضا أوافقه الرأى
مشكلتك الحقيقية مع نفسك وليست معه, بإمكانك ببساطة أن تقطعي عليه الطريق وتعلني رفضك صراحة
ولكنك لا تقدرين, أتدرين لم؟
لأن والدك بداخلك, لديكي رغبة ملحة وأمنية قديمة أن تصبحي مثله
لا زالت أعماله الصالحة قائمة أمام عينيك وفي عقلك وقلبك
اهتز كل شيء بداخلي عندما أتى الأستاذ فؤاد على ذكر أبي, وشعرت بألم شديد يغزو أعماقي ولم أستطع الرد عليه
قال بهدوء : تريدين رأيي؟ لا تتسرعي وخذي وقتك الكامل في التفكير ودراسة الأمر على كل الوجوه, لأنك عندما تتخذين القرار بعد تفكير فلن تندمي أبدا
قلت باستسلام بعد أن بدأ الهدوء يسكن أعماقي بسبب كلماته العقلانية : حسنا, سأفكر مليا في الأمر, ولدي فرصة جيدة لأرى بعيني نشاطات اللجنة وفعالياتها, وهل ستنجح حقا في فرض نفسها على الساحة, أم أنهم سيئدونها في المهد كما هو متوقع؟
قال باسما : أحمد الله أنك هدأتي أخيرا, والآن, هل تسمحين لي بإكمال التحقيق من فضلك؟
قلت بملل : التحقيق الذي كتبه ياسر!!
قال ضاحكا من أسلوبي : بلى, ألم تقرأيه بعد؟
قلت وأنا أقوم من مكاني وأعود الى مكتبي : كلا
هز رأسه قائلا : لقد فاتك الكثير بالفعل
قلت بعجب : الى هذه الدرجة!!
قال بحماس : ذلك الفتى له عقل جبار, ان موضوعه غاية في الروعة
لو كان هذا الكلام صدر من أى انسان آخر لما ألقيت له بالا
لكنه صدر من الأستاذ فؤاد, والأستاذ فؤاد في مجال العمل لا يعرف المجاملة ولا الكلمات المنمقة, وعندما يصف تحقيقا بوصف من قبيل في غاية الروعة, فهذا يعني أنني يجب أن أقرأه, وقد يفوتني الكثير بالفعل لو لم أفعل
نجح الأستاذ فؤاد بجدارة أن يستفز فضولي لقراءة التحقيق, فقلت باهتمام : ألديك نسخة ثانية من الجريدة؟
قال باسما : هل بدلتي رأيك أخيرا؟ عموما, ها هي واحدة
تناولت منه الجريدة وجلست خلف مكتبي وأخذت أقرأ التحقيق
لقد كان على حق, لقد أخذني المقال تماما
ذلك الأسلوب الرائع في الكتابة, وترتيب الأفكار بطريقة تسلسلية بارعة, انه محترف حقا
ولكن من أين له بكل هذه المعلومات المثيرة والإحصائيات المدهشة؟
كان التحقيق عن احدى الشركات الكبرى الشهيرة في صناعة الدواء, وكشفه للتلاعب الذي وصل مداه في ميزانية الشركة والذي أثر بشكل كبير على جودة الدواء, وفضائح الدواء منتهي الصلاحية والغير مطابق للمواصفات و....و...و..
استغرقني التحقيق المثير تماما حتى أن كمال وشيرين دخلا الى المكتب ولم أشعر بهما, وياسر أيضا وصل, بل وألقى علينا التحية ولم أسمعه
التهمت سطور التحقيق حتى آخر حرف, وطويت الجريدة ونظرت الى ياسر قائلة بحماس صادق : لقد حضرت! حسنا. أقدم لك تهنئتي على تحقيق اليوم الرائع
قال ببرود : حقا!
تقدمين التهنئة الآن ومنذ قليل لم تهتمي حتى برد السلام؟
قلت مندهشة : وهل ألقيت السلام؟ عموما كل من هنا يعرف أنني عندما أستغرق في قراءة شيء يعجبني فلا أسمع ولا أرى ما حولي
قال بلهجة هادئة : حسنا, فهمت, هل أعجبك التحقيق حقا؟
قلت بابتسامة واسعة : أتعلم أن لك أسلوب مميز في الكتابة
تدخل كمال باستظراف في الحوار قائلا : هنيئا لك, لقد شهدت لك الأميرة, غيرك يتمنى منها ربع كلمة ولا ينالها, انها حتى لم تفكر أبدا أن تقرأ مقالا كتبته
قلت بتهكم : أتسمي (العك) الذي تكتبه مقالا!!
التفت الى ياسر الذي كان مسندا مرفقيه الى سطح مكتبه وفي يده قلم يلفه بين أصابعه, لكن خاتمه الفضى المميز يجذب العين أكثر من القلم
قلت بحماس صادق : أتعلم أن ما يدهشني حقا هو كم المعلومات التي أوردتها في التحقيق
نهضت من خلف مكتبي واتجهت مباشرة الى مكتبه وفي طريقي تناولت كرسي من أمام مكتب أستاذ فؤاد ووضعته أمام مكتب ياسر وجلست عليه, فظهرت الدهشة على وجهه بوضوح وقال متسائلا : هل لي أن أسأل عن ذلك التغير المفاجئ في المعاملة والأسلوب
قلت بمرح : حسنا, يمكنك أن تسميه سوء للفهم تم تصحيحه بعد تدخل صديق
القى بنظرة سريعة نحو أستاذ فؤاد الذي ابتسم له وهز رأسه مؤيدا, فارتسمت ابتسامة هادئة على شفتيه وقال : تغير ايجابي أرجو أن يكون دائما
قلت بفضول : لم تخبرني بعد من أين أتيت بكل هذه المعلومات؟
قال وعيناه على القلم الذي بين أصابعه : الصحفي الجيد لا يكشف مصادره أبدا, هكذا تعلمنا
قلت بمرح : أنت محق
لا شك أنك عملت على هذا التحقيق لمدة طويلة حتى وصلت الى هذه النتيجة
صمت فجأة عندما دخل الى المكتب آخر شخص يمكن أن أتمنى رؤيته
..................................................