عندما رأيت الدماء تنبثق من ساقه مغرقة بنطاله لا أدري ماذا أصابني حقا, لقد شعرت بفزع شديد, وهتفت بتوتر : ياسر, ماذا حدث؟
ارتسمت على وجهه ابتسامة مطمئنة : لا تقلقي, انها فقط اصابة خفيفة
لم تستطع محاولات ياسر طمأنتي, حتى بعد أن استضافنا أهل الشقة التي في الدور الأرضي,بعد أن تجاوزت الساعة العاشرة ليلا
الجيران متعاونون للغاية, والأبواب مفتحة بينهم, بعد أن أغلقوا باب العمارة بالمزاليج
كان الجيران يحضرون الضمادات ويساعدون في تضميد جرح ياسر, وأنا أجلس في الكرسي المقابل له أراقب ما يحدث وساقي تهتز بعصبية وتوتر كبير, واظفري بين أسناني يكاد ينكسر, فقد كان كل تفكيري لحظتها أن ياسر يجب أن يذهب الى المستشفى بأية وسيلة, ولكن كيف؟ وحظر التجول يمنع الحركة في البلد بكل الوسائل
هتف الشاب بما كنت أفكر فيه : يجب أن ننقلك الى المستشفى
رد ياسر بابتسامته التى لم تختفي رغم شحوب وجهه : الإصابة ليست خطيرة, سأكون بخير بعد قليل
دخل علينا الرجل الكبير وهو يقول بغيظ : لقد اتصلت بالاسعاف أكثر من عشر مرات ولا فائدة
قال الشاب : أملنا الوحيد في سيارة اسعاف فهى المسموح لها بالخوض في كل هذا
قالت السيدة وهي تمص شفتيها بتعجب : الشوارع يجول فيها البلطجية بحريتهم ويمنع الصحفيين!!
التقطت الفكرة من كلمات الشاب : بلى, سيارة اسعاف, هي الأمل الوحيد لدينا
الآن أعرف من يستطيع اخراجنا من هنا
اتصلت بيحيى على الفور وطلبت منه أن يرسل لنا سيارة اسعاف لتنقذنا
بالتأكيد كاد أن يجن من الغيظ, لكنه تفهم أننا في مأزق حقيقي
وصلت السيارة بعد ساعتين ونصف قام فيها أهل البيت بواجب الضيافة بحفاوة بالغة, وقدموا لنا العشاء,ونحن نستمع الى حكاياتهم عن المحلة والمصنع والعمال وتاريخ المحلة النضالي
كانت ليلة حافلة, لولا اصابة ياسر التى كانت تقلقني بعنف
ودعنا أهل البيت بكرم بالغ وركبنا سيارة الاسعاف التى انطلقت بنا الى الميدان الكبير
كان ياسر يرقد على المحفة وأنا أجلس على الجانب بجوار المسعف الذي أخذت أتحدث اليه بقلق بالغ وأسأله عن اصابة ياسر ومدى خطورتها ومضاعفاتها
وياسر يحاول أن يهدئ من روعي بشجاعته في التغلب على الألم, وبتعليقاته الطريفة المرحة
فوجئت بزجاج النافذة التى خلفي ينفجر بدوى مرعب أفزعني وجعلني أخفض رأسي بين ساقي وأنا أصرخ برعب, وكذلك فعل المسعف بجوارى, وانتفض ياسر جالسا وقال بتوتر : هل أنت بخير؟
رفعت رأسي وأنا أنتفض رعبا متسائلة : ماذا حدث؟
قال ياسر بتوتر : لا أدري بالضبط, أهو حجر أم ضربة عنيفة على جسم السيارة بقطعة حديد
أخيرا غادرنا المحلة بسلام, واسترخى ياسر بصمت لكنه لم ينم, وأسندت رأسي بإرهاق الى جسم السيارة وبدأ النوم يغزو عيناى فأغمضتهما رغما عني
لا أدري كم مر على, لكنني فجأة انتفضت بفزع وهتفت بلا وعي : الكاميرا, ياسر الكاميرا ليست معي لقد فقدتها
اعتدل ياسر باهتمام وبدا على وجهه الانزعاج للحظة, ثم هدأ بسرعة وبدأ يبث الطمأنينة في : لا بأس, اهدئي, سنجدها إن شاء الله
قلت بضيق : والصور التي صورناها! والفيديو..
كيف سأرفق الصور في الموضوع الآن؟ لن أستطيع النشر أبدا دون صور, لن يصدق أحد ما حدث هنا اليوم
قال ياسر بحزم : أميرة, استمعي الى
بطريقته المغناطيسية وجدت نفسي أنصت اليه دون انفعال وهو يقول بصوت عميق : أنا متأكد أنك نسيتها هناك في البيت الذي كنا فيه, لذلك سنعود قريبا لنأخذها
قلت بقلق : ولكن, ألا يمكن أن تضيع أو يقوموا بتفتيش البيت أو...
قال بابتسامة واثقة : كوني متفائلة, لن يحدث إن شاء الله
هززت رأسي باستسلام تام بعد أن سيطرت ثقته الشديدة على مشاعري وانتقل الى هدوءه
وصلنا أخيرا الى المستشفى, وهناك استقبلني يحيى, ورأيت في عينيه عدم الرضا والضيق
اصطحب ياسر الى غرفة تلقي العلاج,ورافقته أنا رغم اعتراض الاثنين
كنت أقف في غرفة العلاج أراقب الطبيب الذي استدعاه يحيى وهو يعالج جرح ياسر, ووقف يحيى بجوارى صامتا
أما ياسر فقد كان يمزح مع الطبيب ويلقي النكات رغم ألمه وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة شجاعة للغاية وارت كل ملامح الألم
لم أرى ياسر يوما مرحا وضاحكا وظريفا الى هذه الدرجة
عندها فهمت ما يفعله, كان يحاول بكل طريقة أن يشعرني بالاطمئنان
يحاول قدر جهده أن يبعد عني القلق والخوف
لكنه لم ينجح
لقد تغلب قلقي على كل شيء, كنت حزينة وضائقة للغاية, يكفيني شعوري بأنه جريح يتألم, يكفيني شعورى بأنني جزء مما حدث له, كنت عبئا اضافيا على كاهله
كلما تذكرت ما كان يفعله أرى الصورة بوضوح تام, لقد كان يحاول حمايتي بكل وسيلة
إحساس مزعج بالذنب يكبر في داخلي, ويرفض تصديق أنني بريئة مما أصابه
أنهى الطبيب عمله وأخذت أستجوبه عن حالة ياسر والعلاج ومتى سيتحسن
وعرفت منه أنه بخير الآن, فقط سيبقى هنا بضعة ساعات ثم يعود الى البيت
جلست على المقعد بجوار النافذة وقد بدأت أهدأ بالفعل
سألني يحيى : ألن تعودي الى البيت؟
نظرت اليه باستنكار قائلة : سنغادر معا
انسحب من الغرفة وبقي الصمت غالبا على المكان,ورغم أنه لم تلتقي نظراتنا أبدا الا أن ياسر قال : يجب أن تعودي الى البيت
قلت بعصبية واضحة : ليس قبل أن أطمئن عليك
تنهد بضيق وقال : لا تكوني عنيدة, لا شك أن والدتك قلقة عليك
قلت باقتضاب وحالة من الضيق والعصبية مسيطرة تماما على : لن تقلق طالما أنني هنا مع يحيى
قال بتهذيب : بالمناسبة, أرجو ألا تأخذي كلامي على محمل خطأ, ولكني أود أن أدفع فاتورة علاجي بالمستشفى
استشطت غضبا وانتفضت من الكرسي وأنا أقول بانفعال شديد : ياسر, ما هذا الذي تقوله؟
أهذا وقت الحديث عن الفواتير والمال!!! لا أفهم كيف تفكر؟!! أنت حقا تثير جنوني
ألا ترى ما نحن فيه ؟
صمت تماما عندما نظرت الى وجهه, ورأيته مكفهرا وملامحه متجمده
قال بلهجة جادة حازمة : أفهم مدى الضغوط الفظيعة التي تعرضتي لها اليوم, لذلك سأنسى كل كلمة قلتيها الآن, وكذلك الأسلوب الهجومي العنيف في كلامك
ابتلعت ريقي بتوتر بالغ, واحتقن وجهي وحلقي لدرجة أنني شعرت بالألم في حلقي
وزاغت عيناى في كل مكان في الغرفة, وقلت بصوت منكسر : ياسر, أنا, أنا آسفة حقا, لم أكن أقصـ...
نظر نحوى لحظة, لكنني لم أستطع أن أتحمل الموقف أكثر من هذا, فوليت هاربة من الغرفة وصفعت الباب خلفي وأنا أسمعه يناديني أكثر من مرة
كنت أسرع في الممر الطويل وعيناي مغرورقتان بالدموع
حاولت الابتعاد قدر ما أستطيع, ودخلت الى الاستراحة الخالية في ذلك الوقت من الليل,وألقيت بجسدى المنهك على أحد المقاعد, وعندما وجدت دموعي تهطل, أدركت أنني قد فقدت السيطرة على مشاعري تماما
.................................................. ....
كان على غسل وجهي جيدا والبقاء مدة حتى يعود للونه الطبيعي وأتخلص من آثار البكاء
جلست على أحد المقاعد وأسندت رأسي الى الجدار,سمعت صوت أقدام آتية في الممر لم أهتم لها
لكني سمعت صوتا يتحدث مر على أذني من قبل
ثم تبعه صوت امرأة تقول : غرفة 203 جاهزة غدا للعملية د.وسام
انتفضت من مكاني بفضول ووقفت خلف الباب الزجاجي أتطلع الى القادمين في الممر, ولأن الاستراحة مظلمة والممر مضيء فلم ينتبها لي
كما توقعت تماما, كان يسير في الممر مع احدى ممرضات المستشفى
اشتعل غيظى من يحيى, فلقد صدق ظني فيه
فها هو الفارس السمج الذي اعترضني في النادي يعمل طبيبا في نفس المستشفى التي يعمل بها خالي
ولكن لم يكن هذا بالوقت المناسب للعتاب أو العقاب
فكظمت غيظي منه وعدت لياسر بعد أن رحلا ودون أن يراني الفارس السمج
وجدت يحيى معه في الغرفة, ولم أرتاح للنظرات المتبادلة بينهما فلم تكن نظرات ودودة بالمرة
قال يحيى متسائلا : أين كنتي؟
قلت :كنت في الحمام
قال :والدتك تتصل بك طوال الليل
أخرجت المحمول من جيبي ونظرت فيه كان مظلما ثم قلت:لقد انتهى شحنه
غادر يحيى واتجهت أنا للنافذة أتطلع للظلام الخارجي هربا من مواجهته وبقى هو صامتا لمدة حتى قال بصوت هادئ: ايييه،البعض كان يتمنى الإثارة, لعله انشرح الآن
دارت عيني وانتبهت لكلماته فأكمل بدعابة : أرجو ألا تتمني في المرة القادمة ظهور بعض مصاصي الدماء أو هبوط سفينة فضائية
التفت إليه وتطلعت قليلا في وجهه الهادئ السمح ثم انفجرت بالضحك وشاركني هو الضحك وتطلعت إلى وجهه الباسم قائلة : أنت تبتسم في أوقات غير مناسبة إطلاقا
عاد يحيى بعد قليل قائلا :لقد كتبت له إذن الخروج يستطيع العودة إلى البيت الآن وهذه هي ورقة العلاج
مددت يدي اليه فوضع الورقة في كفي فازحت كفي بعيدا قائلة ببرود : المفاتيح
نظر الي بدهشة : ماذا؟
قلت بحزم: مفاتيح سيارتك فسيارتي في المحلة ، ام تظن اننا سنعود على اقدامنا
قلت بلهجة أمرة : غدا ترسل أحدا ليحضر لي سيارتي من المحلة وسأعطيك العنوان
قال بتأفف وغيظ: حاضر ، أي اوامر اخرى
قلت مشيرة : الى ورقة العلاج : اصرفها من الصيدلية الان وأتني بها حالا
نظر الي بغضب ، فقلت باستفزاز : هل ستصرفها الان ؟ ام اطلب من دكتور وسام ان يفعل بنفسه!!
خرج من الغرفة وهو في اشد حالات الغيظ ، اما ياسر فلم يعلق على الموقف كان يعرف جيدا متى يتكلم ومتى يسكت
طوال الطريق وانا اقود السيارة بصمت حتى وصلنا الى العمارة التي يقطن بها عند الفجر وهنا قال وهو يفتح باب السيارة : شكرا لك لكل ما فعلتيه
خرجت من السيارة بسرعة والتففت حول السيارة ووقفت امامه مترددة قلت بقلق هل انت متاكد انك ستكون بخير
ارتسمت على وجهه تلك الابتسامة الشجاعة -اراها دوما كذلك- وقال : اطمئني سأكون بخير انها اصابة بسيطة للغاية
تنهدت قائلة : احسدك على تلك الابتسامة الشجاعة
عقد حاجبيه وقال بدهشة : الابتسامة الشجاعة؟؟
قلت : بلى انها تلك التي تظهر في الازمات لتواري الالم والغضب وتنتصر على الاحباطات
ابتسم ثانية وقال : تعبير جديد على اذني
يجب ان تصدقيني فهذا ليس هو اسوأ يوم في حياتي, بل لا يقارن بمن عاش حياة صعبة
كان عقلي مشغول بشيء اريده منه
فقلت برجاء : اعلم انك لن تفعل ولكني ساكون سعيدة للغاية لو اتصلت بي إن احتجت لاي شيء عندها ربما اكف عن القلق
قال باسما : اطمأني لست وحيدا في الصحراء
ان لي جيران طيبون والبواب ايضا يحب ان يساعدني كثيرا
انتقائه للكلمات والتعبيرات يدل على تواضع جم لا عجب ان يحبه جيرانه والبواب ايضا
قلت اذا هل تسمح لي أن أطمئن عليك بالهاتف
قال : صدقيني لا داعي فانا بخير بالفعل
فهمت الرسالة على الفور ولم الح في طلبي وزفرت بضيق وقلت باحباط: الن تذهب الى البيت لترتاح
قال باسما : بل سأصلي الفجر اولا
قلت : حسنا سأنتظرك حتى تعود
قال : لا داعي هاهو المسجد امامنا وجيراني هناك سيصطحبونني الى البيت
قلت بغيظ : لا تنسى ان تتناول دواؤك في موعده..سلام
غادرت المكان ضائقة وعدت الى البيت اعتقدت انني بعد ان اخذ حمام دافئ واصلي سأسقط في النوم مباشرة لكن هذا لم يحدث ابدا
ظلت عيناي تحدقان في سقف الغرفة وانا مستلقية على الفراش والصداع يعصف برأسي وجاء موعد العمل ولم انم دقيقة واحدة وقررت الذهاب للجريدة بدلا من ان اصاب بالجنون
لم تفلح القهوة السوداء في مساعدتي على التركيز او التخفيف من الصداع ولم استطع تبادل أي حوار مع أي من الموجودين
بصعوبة اكملت المقال وارسلته الى زكي بدون صور
كنت اتامل هاتفي المحمول امامي على المكتب ورغبة قوية تحرقني وتدفعني للاتصال به
اكثر من سبع مرات احاول الاتصال به وفي اخر لحظة اتراجع, اعلم انه لن يتصل بي ابدا
لكني اصبت بذهول شديد عندما رأيته واقفا امام مكتبي بعد الظهيرة لم اعرف ماذا اقول له كان يقف امامي مبتسما وقال بود : كيف حالك الآن؟؟
اخيرا نطق لساني : كيف..
كيف غادرت البيت وأنت مصاب!!
قال باسما : كان على أن آتي لأسلم المقال الذي كتبته
هتفت بدهشة : ولكن, ألم تسمع عن الانترنت أو الفاكس؟ تلك الأشياء تقوم بهذه المهمة
كان يكفي أن تتصل بأى منا ليساعدك
أكملت بغيظ واضح : أوه, نسيت, فأنت تحب أن تتدبر شئونك بنفسك
قال ولا زالت الابتسامة على وجهه : كذلك كان على أن أنجز مهمة عاجلة
وجدته يمد الى يده بالكاميرا
هتفت بدهشة عارمة : لا يمكن أن تكون ذهبت الى هناك ثانية!!!!
قال مازحا : شعرت بالملل وكنت أتمنى بعض الاثارة
لكن ياللعجب, الجو هناك هادئ تماما, فعدت بسرعة
بالمناسبة, الجماعة الذين استضافونا أمس يرسلون لك تحياتهم
لم أكن أدري ماذا يمكن أن أقول, لذلك فقد صمت تماما وقال هو بدعابة : كاميرا من نوع فاخر للغاية, فكرت أن أحتفظ بها رهينة عندي حتى أستعيد ممتلكاتي
ولكني تذكرت أن بها صور يجب أن تنشر في أسرع وقت
فهمت ماذا يقصد بعبارته, ولكني لم أستطع أن أبتسم, فالموقف كان فوق تصورى
ان ما يفعله كثير, كثير جدا
ذهب الى مكتبه وجلست انا على الكرسي وأمسكت لساني بصعوبة بالغة, كنت أعلم أنني لو فتحت فمي لانطلق لساني ولم يسكت
أنهى ياسر عمله في بضع دقائق ثم نهض وسلم على الجميع, كانت مشيته تحمل عرجا واضحا ويبدو انه يتحامل على نفسه حتى لا يظهر لنا ذلك
أخبرنا أنه قدم لزكي طلب اجازة ليرتاح ويسترد عافيته
جمعت حاجياتي بعصبية ووقفت أمامه بسرعة وقلت : سأقلك
قال بحزم به بعض الضيق : لا داعي, سأعود كما جئت
قلت بنفاذ صبر : اعترض كما تريد, ورغم هذا سأفعل ما في رأسي وأقلك
أخيرا رضخ لأول مرة لرغبتي, ولم أهدأ الا عندما أوصلته الى بيته بسيارة يحيى التى لا تزال معي من أمس ورأيته وهو يدخل الى العمارة
وعندما عدت الى البيت أرسلت الصور الى زكي عن طريق النت ليرفقها بالمقالات
كان الارهاق يقتلني قتلا
ولكنى لم أنم, فقد اتصل بي أستاذ فؤاد وأتحفني بخبر أطار النوم من عيني وأشعل نيران الغضب في عروقي
..................................................
أستاذ فؤاد لم يخبر ياسر نظرا لحالته الصحية
لكنه أخبرني أنا ربما استطعت حل الموقف
لقد منع زكي مقالة ياسر من النشر, لكنه سمح لمقالي
أعتقد أنني لو تمكنت من عنقه الآن لكسرته بين أصابعي
هرولت الى الجريدة وقت الانصراف
وقمت بالتحايل حتى استطعت أن أستعيد الصور والمقالات من مكتب زكي, وغادرت الجريدة
لكن زكي اعترضني قبل أن أصل الى البوابة بعاصفة من الغضب وهو يهتف : كيف تسحبين المقال بعد أن أشرت عليه بالموافقة؟!!
لا أدري من أين أتى ذلك البرود الذي هبط على أعصابي فجأة
كان من المفترض أن أشتعل غضبا بعد أن تأكدت أن مقالي ومقال ياسر لن يتم نشرهما بعد كل ما حدث لنا في المحلة
لكن شيء ما في أعماقي كان فرحا لا أدري كيف
ولكنني شعرت أنني أخيرا أشاركه في شيء
أو أنني صرت مثله لي مقالات ممنوعه
قلت لزكي ببرود : أنا لم أسألك لم منعت مقال ياسر من النشر حتى تسألني لم سحبت مقالي
قال غاضبا : أهذه بتلك!!!
قلت بابتسامة مستفزة : أخيرا فهمتها!
هتف : الأمر مختلف, أسلوب ياسر لا يصلح للنشر في هذا التوقيت, خاصة في الموضوعات الساخنة الحساسة, لو قرأت المقال لفهمت ما أعني
قلت ببرود : لا أريد أن أفهم شيء, لقد كنا هناك معا, وأنت الذي أرسلتنا الى هناك
فإما أن تنشر المقالين معا في صفحة واحدة أو لا تنشر أيا منهما
هم أن يعترض, لكني لم أترك له فرصة وغادرت الجريدة
وأخذت أدور في الشوارع بالسيارة شاردة وضائقة, حتى أفقت وأنا أتوقف بالسيارة في نفس الشارع الذي يقطن به
وتعجبت كثيرا من نفسي, ما الذي أتى بي الى هنا الآن!!!
بقيت شاردة عاجزة عن التركيز أو التحرك,
أفقت على رنة هاتفي المحمول, كان أستاذ فؤاد
أجبته بشرود : مرحبا أستاذ فؤاد
رد بود : مرحبا, لقد رحلت مبكرا قبل أن أسألك أتحبين المشاركة معنا في شراء هدية لياسر؟
قلت بدهشة : ياسر
قال : بلى. لقد تشاركنا جميعا في المكتب في شراء هدية له, وسأذهب لزيارته بعد قليل ومعي أحمد ومحمد
لا أدري ما الذي أصابني, ووجدت نفسي أهتف بحماس : حسنا, سألتقيك ونذهب اليه سويا
صمت قليلا ثم قال بهدوء : لا أظن أن هذا سيكون مناسبا, فياسـ...
لم أدعه يكمل, بل لم أسمعه حتى, فقد أصابتني طاقة حماسية مفاجئة لا أستطيع السيطرة عليها فهتفت : سأشترى باقة من الزهور الفاخرة وألتقيكم أسفل العمارة
حاول جاهدا الاعتراض : أميرة انتظري, هذا لن يعجب ياسر أبدا فـ..
هتفت فجأة : سأنتظركم في الخامسة تماما
أغلقت هاتفي رغم اعتراضه الذي لم ألقي له بالا
كنت متحمسة للغاية, يكاد قلبي يقفز من بين ضلوعي
لقد أتيحت لي الفرصة أخيرا لأطمئن عليه
اشتريت الزهور وبقيت أنتظرهم على نار, حتى تخطت الساعة الخامسة بعدة ثواني
أخذت أنظر يمينا ويسارا في انتظار أستاذ فؤاد المعروف عنه دوما الانضباط في المواعيد
مرت خمس دقائق ثم عشر ثم خمسة عشرة دقيقة
الى هنا لم استطع الانتظار، وقررت أن أسبقهم
كنت أصعد السلم وأنا متيقنة أن أستاذ فؤاد سيلحق بي بين لحظة وأخرى
وقفت أمام باب شقته مترددة, ثم استجمعت شجاعتي وضربت الجرس وأنا أتطلع بتوتر الى السلم متوقعة أن أجد أمامي أستاذ فؤاد
فتح الباب..
ووجدتني وجها لوجه أمام ياسر
هممت أن أتكلم, ولكنى صمت من الصدمة, فقد هالني منظر وجهه, كان متغير اللون والارهاق والاعياء مرتسمين في ملامحه بوضوح
لكن ما صدمني حقا أنه كان يمسح بقايا دموع من عينيه
وقفت متجمدة لا أدرى ماذا أقول
عندما انتبه لي ظهر أثر الصدمة العنيف على وجهه وتجمدت عضلاته تماما
استجمعت شجاعتى في ابتسامة مترددة وأنا أقول ببطء : كيف..كيف حالك؟ هل أنت بخير
بقي صامتا ولم يرد
قلت وأنا أتقدم خطوة : أتأذن لي...
تجمدت في مكاني عندما رفع ذراعه وغرز كفه في قائم الباب حتى لا أمر وهو يقول بغضب مكتوم : الى أين؟
فوجئت بتصرفه وفهمت معناه, فقلت بسرعة : هل ستدعنى أنتظر أستاذ فؤاد وولديه على السلم؟!!
عقد حاجبيه بتساؤل, فأكملت : لقد اتفقنا جميعا أن نزورك اليوم في الخامسة لنطمئن على صحتك, وأستاذ فؤاد وولديه سيصلون في أية لحظة
لم يتحرك أو حتى ينزل يده, ولكنه قال بهدوء : أرجو أن تعذريني, أنا آسف حقا, ولكني لا أستطيع استقبالك في بيتي
قلت معترضة : ولكن...
قال بنفاذ صبر : حتى لو كان أستاذ فؤاد هنا, آسف, لن أستطيع ذلك
أرجو أن تتفهمي موقفي ولا تدعي فرصة للغضب ليتملكك
لم أستطع أن أتكلم أبدا, فقد كانت تلك الغصة الحارقة تسد حلقي وتعجز لساني عن الكلام
أدرت وجهي ونزلت السلم دون حتى أن أنظر اليه, وعند آخر درجة من درجات السلم التقيت أستاذ فؤاد الذي قال وهو يلهث : آسف جدا على التأخير, إنه محمد ككل مرة
قطع كلامه عندما رأى وجهي مقفهرا, فقال بفهم : حاولت أن أخبرك أن هذا لن يعجبه, فهو...
قاطعته حتى لا يكمل وأنا أمد يدي اليه بالزهور : أستاذ فؤاد, أرجوك أعطه هذه
أخذ الزهور وهو يقول بأسى : سأفعل
أكملت : أرجوك استدعي له الطبيب يبدو أنه مريض
قال باهتمام : حسنا, سأفعل ان شاء الله
عدت الى البيت, وأغلقت الباب على نفسي حتى لا تسمع أمي صوت صراخي ونحيبي الذي حاولت كتمانه في الوسادة
لا يمكن أن يكون فهم تصرفي على هذا النحو, فهذا ما لا يمكن أن أقصده أبدا
لماذا أشعر أننا كلما تقاربنا يحدث شيء يبعدني عنه؟!!
انها زيارة عادية كزياراتي لأستاذ فؤاد وأستاذ حمدي
لم لا يفهمني على حقيقتي؟ لماذا أكون في عينيه دائما على هذه الصورة؟!!
صورة المستهترة التى تجرى خلفه وتحاول بكل جهدها اصطياده
أخذت أعض الوسادة وأقرع رأسي في خشب السرير وقلبي يكاد يتفطر ألما, وجسدي ينتفض من الهم والغم والبكاء العنيف حتى سقط في النوم من كثرة التعب والارهاق وأنا على حالتي تلك
..............................
عاد ياسر من اجازته بعد أن استرد عافيته, ومنذ دخوله المكتب لم نتبادل كلمة واحدة سوى السلام فقط وكأن بيننا شحنة كهربائية متنافرة
ولكنه عاد من عند زكي غاضبا بشدة واتجه مباشرة الى مكتبي وقال بجدية : لم سحبت مقالك؟
قلت بلامبالاة دون أن أنظر اليه : يمكنك أن تسأل زكي
هتف بطريقة فاجأتني : إن ما فعلتيه خطأ كبير
كان عليك أن تنشري المقال, مقال واحد ينشر الحقيقة خير من ألا تنشر على الاطلاق
منع مقال لي ليس بجديد, بل كنت أتوقعه, وكنت أعتمد عليك في نشر ما حدث, لو بقيت على هذا الخط فستفشلين كصحفية
قلت ببرود : شكرا على النصيحة, لقد انتهى الأمر ولم يعد هناك داعي لكلماتك
زفر بضيق شديد : خطأ, أنت تسيئين التصرف
ذلك الأسلوب الذي تتبعينه لا يصلح للصحافة, يجب أن تتعلمي أن تنحي مشاعرك جانبا وتتصرفي باحترافية
يجب أن يكون هدفك الوحيد هو نشر الحقيقة دون أية اعتبارات أخرى
قلت بلامبالاة : سأحاول أن أتذكر ذلك يا أستاذ يا محترف
زفر بضيق هائل وعاد الى مكتبه بعصبية
غاضب للغاية...
أعلم هذا, كما أعلم أنني أخطأت بسحبي للمقال, لكن كان يجب أن أفعل هذا
فنوعية زكي الجبان يجب أن تؤدب
لقد ندم كثيرا على عدم نشره لمقال ياسر وكذلك خسارة مقالي بعد أن نشرت بعض صحف المعارضة ما خشي هو أن ينشره
وهذا هو ما خرجت به بعد رحلة المحلة الشاقة المرعبة
موضوع قوى لي لم ينشر, وانهيار حلم أن يجمعني أنا وهو تحقيق كبير
بل صرت أنا وهو متباعدين للغاية
لم يعد أى منا يقدم على التحدث مع الآخر
أخيرا اتفقنا على شيء وهو أن يبتعد كل منا عن طريق الآخر
أصبح بداخلي خواء شديد وعدم حماس لأى شيء
حتى التنافس معه والرغبة في أن أقدم ما هو أفضل فقدتها تماما
حتى اللجنة فقدت حماسي لها بعد أن توقف نشاطها عند المظاهرات في شوارع القاهرة والندوات فقط والمطاردات من الشرطة ولم أعد أتصل بابتسام ولا أستاذ حمدي, بل أصبحت أتجنب مكالمات ابتسام وأتهرب منها
أما هو...
يا للعجب, لديه ثبات كبير في المستوى لا يتأثر بأى شيء مما حوله, كل هدفه أن يقدم الحقيقة كما هي دون تجميل حتى لو لم ينشر له شيء
.............................
لم يكف ياسر عن مطاردتي يوما منذ القطيعة التى حلت بنا
بلى, هو الآن يطاردني, ولو لم نتبادل كلمة واحدة
يطاردني بقلمه, كل مقالاته اليومية أرى نفسي في كل حرف فيها
كانت أشبه برسائل متتالية لإيقاظي
كانت كل مقالاته تتحدث عن الإخلاص في العمل وإيقاظ الهمة وعدم الاستسلام لليأس وتغليب الهدف الأسمى على المشاعر الشخصية
ما هذا الرجل؟!!!
يطردني من بيته ولا يكف عن مطاردتي؟!!!
والآن لا يغادر أحلامي
أسعى للخلاص منه بلا جدوى, أحاول أن أطرد كلماته من عقلي ولا أستطيع, أحاول أن أبعده من حيز تفكيرى فلا أقدر
عباراته وكلماته وتعبيراته ولفتاته حفرت في عقلي
عجيب أمر الانسان نرى الأشياء من حولنا كل يوم ولا نفكر أبدا في مدى ارتباطنا بها الا عندما نقرر الابتعاد عنها
وعندما نحاول استنقاذ أنفسنا من دائرتها التى أطبقت علينا نجد أننا توغلنا كثيرا ولا يمكننا العودة أو الخلاص
وجهه في كل شيء حولي
أراه حتى في نظرات أمي اللائمة والحزينة من انهيار مستواي الى هذه الدرجة
لكن ياسر في النهاية نجح
نجح بالفعل في إيقاظ رغبتي في المنافسة والحماس للعمل من جديد
كانت كلماته كعقار يحقنه في خلايا مخي بقلمه
وبدأت أبحث عن الجديد والأفضل, يجب أن أعود الى نجاحي وبأى ثمن, لذلك انخرطت في العمل بكل حماس
العمل هو الشيء الوحيد الذي خفف من الضغط النفسي الذي أعيشه كل يوم
وعدت أخرج في جولات وأبحث عن الموضوعات الجديدة, وأبعدت نفسي عن دائرة ياسر المغناطيسية
وبدأ اسمي يعود من جديد وبقوة على صفحة التحقيقات, ورغم ذلك لم أكن راضية أبدا عما أكتبه
وانتبهت الى أن ياسر أيضا غير راض عما أكتبه, فلو أعجبه تحقيقي لكان أول المهنئين لي, أو على الأقل لرأيت ذلك على عموده اليومي
لكنني تلقيت مفاجأة حقيقية عندما زارتني ابتسام في الجريدة
أخذت تلح على للعودة الى اللجنة والمشاركة في اجتماعاتها
وأخبرتني أن الأستاذ حمدي ود. عبد الفتاح لا يكفان عن السؤال عني
ثم قالت جملة لم أفهمها مباشرة : إن كل من في اللجنة ومن خارج اللجنة أيضا يرغبون في عودتك
رددت بتلقائية دون أن ألقي بالا لما قالته : حسنا. سأعود قريبا, فقط لدي بعض الأعمال الهامة سأنهيها وأتفرغ للجنة
قالت باسمة : كل منا لديه مشاغله ومشكلاته, ولكنك تستطيعين تقديم الكثير
بل ان هناك من يرى أن حماسك وعقلق سيفيد اللجنة كثيرا
ألقت الى بنظرة ماكرة وغمزت بعينها وأومأت بإشارة الى ما خلف ظهرها
أخيرا فهمت ما تعنيه, ولكني لم أصدق فاتسعت عيناي دهشة وأومأت اليها بمعنى (أهو؟)
هزت رأسها موافقة مما جعلني أغرق في دهشتي وحيرتي, فهذا ما لم أكن أتوقعه أبدا, أن يكون ياسر على علاقة بأعضاء اللجنة والأغرب أن يتحدث عني معهم
أجابت ابتسام على حيرتي بصوت خفيض حتى لا يسمعنا وعينى ترمقه من فوق كتفها
قالت بابتسامتها المتلألئة : سأسر اليك بشيء, إنه صديق لعمر
لقد أخبرني عمر أنه طلب منه أن أتحدث اليك وأحاول اقناعك للعودة الى اللجنة
قلت بذهول : هو فعل ذلك؟!!
قالت بابتسامة ماكرة : لقد أظهر اهتماما كبيرا بهذا الأمر, هكذا أخبرني عمر
شردت بعيدا ..
لازال ياسر يطاردني بكل وسيلة, ويتخذ معي دائما الأساليب غير المباشرة
ما الذي يريده هذا الرجل بالضبط؟!!
لم لا يتحدث الى مباشرة؟!! هل يعتقد بحرمة ذلك!!
أم أن هناك سببا آخر لا أفهمه؟
لكنني بقيت صامته لأيام ولم أتحدث اليه أبدا
حتى تلقيت اتصالا من أمي أفزعني بشدة
................................................
يتبع.............................