السلام عليكم
اليكم الجزء الجديد أولا
ثم أعاود الرد على كل أحبتي في الله
............................................................ ...
............................................................ ..........
فهمت أمي كل شيء من خلال المكالمة التي سمعتها ورغم أنها لم تعلق بكلمة لكن الاستياء الشديد كان واضحا للغاية في عينيها، وكيف لا والأمر حقا يدعو الى الصدمة والدهشة
الصدمة من تصرفي والدهشة مما فعله ياسر
في اليوم التالي كنت مضطرة للذهاب رغم عدم رغبتي لمواجهته
الأمر كله غريب، موقف لم أتعرض له من قبل
عندما دخلت الى المكتب في الصباح وأنا أقدم رجلا وأؤخر الأخرى وعندما رأتني شيرين قالت بلهفة : أميرة!! اتصلت بك كثيرا أمس وهاتفك مغلق
قلت بهدوء : شكرا لك يا عزيزتي، أخبرتني أمي باتصالك
جلست خلف مكتبي ونظرت أمامي، لم يكن ياسر موجود بالمكان
كنت مندهشة وأجاب كمال بأسلوبه السمج على سؤال لم أسأله : لا تتطلعي كثيرا الى المكتب الخالى من صاحبه، فهو الآن في قاعة الاجتماعات يشاهد التلفاز
نظرت اليه نظرة قاسية فعاد لعمله بصمت
لم أستغرق طويلا في التفكير، خاصة عندما أومأ لي الأستاذ فؤاد مشجعا أن أذهب اليه وأحاول إصلاح الأمر
دخلت قاعة الاجتماعات واقتربت منه بطء، كان يتابع القنوات الإخبارية
نظرت الى ما كتب أسفل الصورة وتعجبت، لم يكن خبرا محليا ولا حتى عربيا كما كنت أعتقد بل كان خبرا عن استقلال كوسوفا والاحتفال برفع العلم في عاصمة الإقليم (برستينا)
أنصت باهتمام للمراسل : كوسوفا هي سادس ولاية تعلن استقلاها عن صربيا منذ عام 1991 بعد سلوفينيا وكرواتيا ومقدونيا والبوسنة ومنتجرو، ورغم الجهود الروسية والصربية لعرقلة قيام الدولة في البلقان، الا أن الاعترافات الدولية بكوسوفا تتابعت بدءا بالولايات المتحدة، ثم باريس ولندن وألمانيا، ثم توالت الاعترافات تباعا ....
بعدها بدأ المراسل في استطلاع آراء أهل الاقليم في تلك الخطوة، ومدى تأييدهم لإعلان الدولة في هذا التوقيت، وتوقعاتهم بشأن مستقبل الدولة الوليدة وردود أفعال العالم تجاهها
وفي خلفية الصورة احتفالاتهم وأفراحهم
تنهدت وأنا أجلس في أحد الكراسي ٍالموازية له وقلت دون أن ألتفت اليه : كنت أظنك تتابع خبرا محليا أو عربيا
عندما طال صمته ظننت أنه قد اتخذ مني موقفا ومقاطعة تامة،لكنه قال بعد صمت طويل بصوت عميق : انه خبر اسلامي
تذكرت لحظتها أن كوسوفا 93% من سكانها مسلمون
سألته والصور تتداعى في رأسي : اذا فهذا هو سبب اهتمامك الكبير بهذا الخبر!!
لم أعرف بالضبط هل تلك الزفرة الحارة التى خرجت من صدره ضجرا من كلماتي أم تأثرا بما يراه على الشاشة التى لم تتركها عيناه لحظة،ولكنه قال بجدية تمتلئ بالأسى : ليس هذا فحسب، بل هي رغبة قوية لرؤية اكتمالا لمشهد دموي حفر آثاره العميقة في الذاكرة بالألم
أنصت اليه باهتمام وعقلى تتداعى اليه ذكريات وصور عن مذابح الصرب وجرائمهم البشعة في البلقان
وكأنما صوته يخرج من عقلي وهو يقول : إن الحرية لها ثمن غالي لابد من دفعه
كوسوفا لم تنل الاستقلال إلا عندما تخضبت أرضها بالدماء
ثم أردف بلهجة حزينة هزت قلبي : إنها دماء مسلمة
"معركة كوسوفو التاريخية بدأت قبل ستة قرون ولم تنته ، آن الأوان لاسترداد الصرب لأرض كوسوفو ، نحن مستعدون أن نضحي بثلاثمائة ألف مقاتل صربي لاستئصال الإسلام من سراييفو إلى مكة؟"*
لازال أبي يردد تلك الكلمات حتى موته ورغم اختفائها من ذاكرتي بمرور السنوات لكنها تعود لتطفو فوق أفكار العقل مع أى مؤثر ولو بسيط
قلت بتأثر : بلى لازلت أذكر، كانت مذابح (سربرينتسا) رهيبة ومفزعة
قال بهدوء : (سربرينتسا) في البوسنة لا كوسوفا
أسكتتني غصة مؤلمة في حلقي ومرارة في قلبي وصورة أبي ماثلة أمام عيني وهو يحكي لنا عن تلك الأيام الرهيبة المؤلمة
ثم قلت بخفوت : نعم، لقد اختلط على الأمر
ابتلعت الغصة بسرعة ومعها دموعي التي بدأت أشعر باقترابها وقلت باستفسار : ولكن كيف لأمريكا أن تسمح بإقامة دولة مسلمة في أوروبا!!
قال بلهجة ساخرة : عندما تدخل أمريكا لعبة فمن المؤكد أنها لن تخرج منها قبل اصطياد عشرة عصافير على الأقل
فهي تعاقب روسيا خصمها القديم على موقفها من الدرع الصاروخي
كما أن استقرار الوضع في البلقان يعني سحب قوات الناتو لإعادة نشرها في أماكن أكثر اشتعالا كالعراق وأفغانستان
قلت بتعجب : ولكن دولة اسلامية!!
قال : بل دولة علمانية بدستور علماني, وربما بتدخلات أوروبية أمريكية عند اللزوم
وبرغم التهديدات الصربية وضغوط روسيا لإفشال تلك الخطوة وانذارها باستخدام الفيتو
يبقى ما حدث شيء رائع بكل المقاييس وخطوة هامة وأمل جديد لشعب عاني من الاحتلال والابادة العرقية لإلتقاط أنفاسه وتذوق بعض الحرية
قلت بشرود : وربما أملا لشعوب أخرى لتحقق ما حققته كوسوفا
التفت الى الشاشة أتابع مراسم رفع العلم في اعادة للصور والمشاهد المصاحبة للخبر
تذكرت فجأة أستاذ حمدي واشتعلت مشاعر غريبة في قلبي
اندفع سؤال من عقلي وخرج الى لساني مباشرة بصدق : ترى هل سيحدث يوما ما أن نشهد مراسم رفع العلم في القدس وعلى سائر فلسطين بإعلان استقلالها؟؟
عقد حاجبيه والتفت الى ببطء وتجمد كل شيء فيه
ارتجف قلبي بقوة من ذلك الصدق الهائل والقدرة الخاصة على التعبير
كانت لحظة نادرة أستطيع فيها قراءة عيناه بسهولة, كانت عيناه تشبهان نهرا شديد الصفاء أستطيع أن أرى أعماقه بوضوح
فلقد أدركت أن هذا السؤال بالذات هو الذي كان يدور في رأسه في نفس هذه اللحظة
ولم تخفى علىّ دمعة التأثر التى سكنت عمق عيناه,
الا أن جمود ملامحه بات هو المسيطر على عضلات وجهه
نهض من مكانه متجها الى باب القاعة بصمت, فقلت أستحثه : لم لم تجب على سؤالي؟
توقف لحظة وقال دون أن يلتفت الى : ليس المهم أن نرى ذلك, بل أن نبذل جل طاقاتنا ليحدث في القريب
غادر دون أن يزيد كلمة, ولكنه ترك في قلبي ألما عميقا وندم كبير أن تكلمت
فلقد كنت أشعر أنه رماني بسهم نافذ يعني به ما فعلته, أقصد ما لم أفعله في الحقيقة
.................................................. ....
كنت موقنة أنه لا يزال غاضبا مما حدث, وأنا أيضا كنت أتحرق وأتألم لذلك الأسلوب الجاف المتحفظ الذي يعاملني به
ورغم أنه شديد التهذيب معي منذ أن عرفته وفي كل المواقف , الا أنه مستاء للغاية, كل تصرفاته تقول هذا
استغرق الأمر مني أياما كثيرة حتى أستطيع فقط أن أستجمع شجاعتي وأتجه الى مكتبه في محاولة لكسر الحاجز النفسي الصعب الذي علا بيننا منذ آخر مواجهة, وكان أستاذ فؤاد يشجعنى دائما للتحدث اليه, وفي كل الأحوال كانت لدى رغبة لإنهاء ذلك الموقف على أى وجه
جلست أمامه وكالعادة لم يلتفت لي
لكن الجديد أنه ترك فأرة الكمبيوتر من يده وبفي ساكنا مما أوحى لي أنه مستعد لأن يسمع ما سأقوله
قلت بعد تردد : كنت, كنت أريد أن أشكرك على ما فعلته
قال بصوت هادئ يحمل رنة سخرية مريرة : وبعد!!
صمت قليلا أحاول ابتلاع سخريته, ثم قلت بصدق : منذ أن أغلقت الحدود ثانية وأنا أشعر بألم كبير وندم لأنني لم أعبر الحدود وأذهب الى هناك
قال بأسف : صدقيني, ما كان الأمر ليحدث فارقا كبيرا, لقد كنت هناك وأعرف
قلت بصراحة : كل شيء كان يطبق على روحي, لم أستطع أن أحرك القلم أو أخط حرفا, وكأنني أصبت بالشلل
قال بأسى : لم أكن أنتظر هذا منك!!
قلت بضيق : لقد تركتني هناك وذهبت
قال بهدوء : ظننت أنك قد فهمتيني عندما طلبت منك أن تبقي هناك وتسجلي كل ما تشاهدينه
ولكن يبدو أنني لم أستطع أن أشرح لك هدفي بوضوح, لقد أردتك أنت بالذات أن تنقلي الصورة بكافة أبعادها من هناك
قلت بانفعال : وما الذي يمكن أن أضيفة!! عبد العزيز هناك ينقل الأخبار أولا بأول
التفت الى بحدة وقال : ولكني أثق بقلمك أنت, تلك القضية لا يكتب عنها الا من يستشعر نحوها بانتماء حقيقي
من سكنت قلبه كعقيدة ووطن, من على استعداد أن يدفع روحه ثمنا لها عن طيب خاطر
أخرستني كلماته لبعض الوقت, فقد أشبعتني عباراته ألما
قلت بخفوت : تمنيت أن أذهب معك الى هناك
قال : تعلمين أنني لم أكن أستطيع ذلك, كما أنه كان على انجاز الكثير من المهام والواجبات
قلت بصدق : تمنيت أن أسير معك الى هناك
قال بلهجة جادة : تريديني أن أسير معك في شوارع غزة!!
سأقولها لك بكل صراحة, فقط أرجو ألا تغضبك صراحتى, إن ما لا أرضاه لأختي لا أرضاه لك
صمت تماما أفكر في تلك العبارة التى قالها, ورغم أن تلك العبارة كانت من المفترض أن تثير في نفسي عاصفة من الغضب, لكنني وجدت نفسي سعيدة وهو يشبهني بأخته
اذا فهو يحمل لي تقديرا خاصا على أى وجه, حتى لو أخويا
أعلم أنني قد أكون مخطئة بنسبة كبيرة ولكني كنت متمسكة بذلك الشعور الرائع ولا أريد أن أفكر في معان أخرى لكلماته أو أفلسف الأمر
بل أخذت الكلمات بحروفها
ورغم ذلك قلت بعناد ومكابرة : ولكنه عمل, محض عمل
رد بهدوء : وعلى المعبر أيضا عمل
لقد أراد لنا زكي أن نكون متنافسين, وأردت أنا أن نتعاون
أنا هناك وأنت هنا, وكنت أظن أنك ترغبين في ذلك أيضا
لقد كنت أخطط لعمل تحقيق مشترك كبير عليه اسمينا معا يشرح الصورة بكافة أبعادها
لكن زكي قوض هذا الحلم
كنت أرسل اليه المقالات وأنا معتقد أنه ينشرها في نفس الصفحة التي تكتبين فيها
لم يخبرني أنك توقفت عن الكتابة حتى لا يفاجأ بأى رد فعل من جهتي وهو يعلم أنني لن أقرأ الجريدة الا عند عودتي
لا زلت لا أفهم, كيف استطعت الا تنشري المقالات!!
قلت بأسى : لم أعد أثق بأن هناك من يقرأ
قال : لا تشغلي بالك بالآخرين, أنت صحفية ليس عليك سوى الكتابة, لا التفكير فيمن يقرأ ومن لا يقرأ
قلت ساخرة : لقد طغت الكرة على كل شيء, أتدري كم عدد الصحف الرياضية الموجودة على الساحة الآن؟! ان أخبار الكرة هي الشيء الوحيد الذي يقرأ هذه الأيام
رد بنفس السخرية : هل تتمنين أن تعملي في الصحافة الرياضية!!!
ربما كنت محقة فهي أربح كثيرا
وربما التقيت بلاعب كرة مليونير أو مدرب شهير يطلبك للزواج
لم أتحمل ما قاله, فبصورة ما شعرت أنه يشبهني بنجلاء
لم أستطع أن أرد عليه, فعدت الى مكتبي بصمت
لقد خذلته, اعتمد على وخذلته, لم أفهم هدفه من كل هذا, لم أقدر ما يفعله حق تقديره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــ
*سلوبودان ميلوسوفتش في نوفمبر 1989
............................................................ ..........................
قد يعتقد البعض أنني سعيدة بالتحقيق الذي كتبه ووضع عليه اسمي
لكن الحقيقة خلاف ذلك, فهذا التحقيق على وجه الخصوص هو الشاهد على فشلي, لقد أصابني باحباط لا مثيل له وبدأ الشعور بالفشل يستقر في أعماقي
لقد كشفني ياسر أمام نفسي, فأنا صحفية فاشلة لا أجيد التحكم بمشاعري, ولا أجيد استغلال المواقف ولا البحث عن الأخبار ولا استقصاء الحقائق رغم أن ياسر يسر لي كل شيء ليخرج التحقيق في أكمل صورة
ولكنني لم أستغل الفرصة بل عجزت حتى عن التحكم في انفعالاتي
مما بنى بيني وبينه حاجز أشد وأعلى فأنا الآن التي لا تستطيع الاقتراب منه ولا النظر في وجهه حتى لا أتذكر فشلي
وبقيت أتألم لمدة طويلة, فلا تمر ليلة الا وتشرب الوسادة من دموعي, فما أقسى الشعور بالفشل
وسافر أيمن ضد رغبة الجميع، وصمت ولم أتكلم حتى لا أزيد من ألم أمي
فقط لو يعلم ذلك الغبي كم الألم الذي تركه في قلوبنا لما أقدم على تلك الخطوة الحمقاء
واستبدل الحوار بيني وبين أمي بالصمت كما لو كنا نخشى أن نتحدث فيجرنا الحديث الى منطقة الألم والفشل المسماة بأيمن
لم أكن أريد أن أتحدث عنه أبدا..
يكفيني ما يحدث لي كل ليلة عندما تجتمع علىّ ذكريات حياة طويلة تشاركناها معا بضحك ودموع وفرح وألم وتعاطف ومودة
كان على أن أفعل أى شيء للتخفيف من الشعور باليأس والإحباط والألم الذي سيطر على, مما جعلني أكثف من زياراتي للنادي وركوب الخيل لأشعر بنفسي وبأنه لا زال هناك شيء يحقق لي لذة النجاح والتميز
ولكني فوجئت يوما وأنا في مدرج الخيل أن هناك غيري يركب أصيل
كانت صدمة أشعرتني بضيق كبير, رغم أنني اتصلت بالسائس قبل حضوري كالعادة, ولكني وجدت ذلك الشاب يركبه بدلا مني
عندما رآني السائس أتى الى وأخذ يعتذر كثيرا فقد أخبر د. وسام ألا يركبه, ولكنه أصر ودخل بنفسه الى الاصطبل وأخذه
قلت منهية الموقف : لا تعتذر, لم يحدث شيء
سألني : هل أعد لك حصانا آخر
قلت : لا داعي, لن أركب اليوم
غادرت مدرج الخيل والضيق يملأني وألقيت بجسدي على كرسي بجوار احدى طاولات الحديقة المظللة والملل والضيق يكاد يفتك بي, حتى وجدت فجأة من يقف أمامي مباشرة ويقول بأسلوب مهذب : أرجو المعذرة يا آنسة
نظرت اليه بدهشة, هو نفس الشاب الذي كان يركب أصيل
قلت باقتضاب : نعم؟
قال : أود أن أعتذر منك, فلم أكن أدري أن من عاداتك ركوب أصيل بالذات
صمت ولم أرد وأخذت أتفحصه
تلك الوسامة المفرطة, والابتسامة الساحرة والعيون الجريئة واللباقة المتناهية والقوام الرياضي الممشوق والأناقة الشديدة, صورة تصلح...
قطع أفكاري وهو يقول بجرأة : أتسمحين لي بالجلوس قليلا؟
جلس بالفعل عندما لم يتلقى ردا مني
ولا أدري لحظتها لم انعقد لساني أمام جرأته ولم أرد, واستمر هو بالكلام : أخبرني السائس أن أصيل هو حصانك المفضل, من اللطيف حقا أن يكون للمرء حصان خاص لا يركب غيره, عندها يعتاد الحصان عليه ويتفهم عاداته وأسلوبه ويعرف ما يحب وما لا يحب و..
كان يتحدث بلباقة شديدة وثقة عالية بالنفس بها بعض الغرور
وكان يتفحصني بعينين جريئتين وأنا لا زلت صامتة لا أرد
قال فجأة : عفوا, لقد أخذنا الحوار بعيدا ونسيت أن أتشرف بمعرفة اسمك, دعيني أخمن ما اسم الفارسة؟ أظنه لويزا
ضحك بخفة, ثم صمت عندما لم يجد أى رد فعل لدي
قال : حسنا, لست ماهرا في القاء النكات بمثل مهارتي في ركوب الخيل
لذلك تسرني دعوتك لمشاركتي ركوب الخيل, وسأركب أنا حصانا آخر
أذهلتني جرأته ونزعت نظارتي بحدة, فهتف قائلا : واو, أتعلمين أن لديك أجمل عينان رأيتهما في حياتي!! من الظلم أن تخفيهما خلف نظارة قاتمة كتلك
من جديد بقيت صامتة متجمدة تماما ولم أرد, لكن حاجبي الأيمن ارتفع
قال باسما : ما رأيك؟ هلا شاركتني تلك الهواية التي أعشقها؟
قلت فجأة : هل تريد ذلك حقا؟
قال بثقة : سيسعدني ذلك بكل تأكيد
قلت : اذا افعل ما يسعدك
نهض سعيدا وهو يقول : سأخبر السائس ليجهز لنا الخيل
بمجرد أن اختفى من أمامي حتى انتفضت من مكاني بتأفف وعصبية شديدة وحملت حقيبتي وغادرت النادي كله
لا أدري من أى قصة من قصص المراهقين الرخيصة خرج ذلك الأراجوز ليفرض نفسه على, لم يجرؤ أحد على فعل ذلك من قبل
منذ أن شببت عن طور المراهقة وشباب النادي لا يحاولون مجرد محاولة الاقتراب مني, فالجميع هنا يعرفني ويعرف أسرتي ويعرف رأيي عمليا في علاقات النادي
نعم لي صداقات من الجنسين, ولكني أختار أصدقائي بعناية كبرى وبعد تفكير ودراسة وكلهم شخصيات غاية في التهذيب والاحترام فكرت كثيرا أن أقلب عليه الطاولة وأسمعه ما لم يسمعه في حياته، لكن شيء ما جعلني أسكت، وكأني كنت أنتظر أن يقع بالكلام ويعترف بسذاجة هكذا بعلاقته بيحيى
فلقد سمعت السائس يناديه بدكتور وسام
كلمة دكتور خرقت طبلة أذني
يبدو أن يحيى لم يعرف بعد أنني كففت منذ سفره عن قراءة قصص المراهقين الرخيصة ليرسل لي ذلك النموذج الغريب!!!
لعلني اسيء الظن بيحيى والأمر كله مجرد مصادفة؟
وهل مصادفة أن يركب حصاني المفضل قبل دخولي الى النادي بدقائق!!
ترى هل شكت له أمي من الحالة النفسية التى أمر بها هذه الأيام فأرسل لي تلك الدمية السمجة لتسليني!!
أو ربما لتلهيني عن التفكير بياسر
أقسم بالله يا يحيى لو ثبت لي أنك خلف هذه الدمية السخيفة لتواجه بعاصفة عنيفة من عواصفي القديمة
لا شك أنني مجنونة تماما، فحتى الآن لم أرد له سترته الجلدية السوداء، ولا أدري لماذا؟
هو أيضا لم يطلبها أظن أن خجله وحياؤه منعاه من ذلك
في أحيان كثيرة أخرجها من خزانة الملابس وأعلقها على بابها وأتحدث اليها كما لو كنت أتحدث الى صاحبها
قد يكون التحدث الى الأشياء مفيدا في بعض الأحيان فقد وضعت يدي على مشكلتي بدقة
فمشكلتي هي أنني أشعر بالانكسار أمامه, ولن أستطيع مواجهته أو التحدث اليه أو حتى العودة الى سابق عهدي معه الا لو شعرت أنني أكافئه , وعدت قوية كما كنت
فهو لا يهدأ ولا يكل تحقيقاته تتوالى بغزارة ويزداد تألقا ونجاحا يوما بعد يوم, أما أنا فقد شغلت نفسي في التفكير في كيفية استعادة مكانتي السابقة والعودة الى تألقي بموضوع تحقيق جديد يهز الجريدة ويرفع من نسبة مبيعاتها
رغم أنني لا زلت أحرر عمودي, لكنني لم أكن مقتنعة بما أكتبه
فقد كنت ضائقة ملولة يائسة, ولا أدرى كيف الخلاص من تلك الحالة المدمرة؟
..............................................
كان يوم ينتظره الجميع ويعدون له العدة, بعد كل الحملات والدعاية والمناقشات التي دارت حوله على الانترنت وفي صحف المعارضة
انه يوم الاضراب المصرى, وفي اليوم السابق له اجتمع زكي بكل الصحفيين وجعل غدا يوما مفتوحا ينتشر فيه الجميع في المحافظات لتغطية أحداث ذلك اليوم الهام
كانت قاعة الاجتماعات مزدحمة, البعض امتلأت بهم المقاعد والبعض وقف في الخلفية ومنهم ياسر وباستقراء بسيط لعقليته فهمت الى أين سيذهب, وكان على استباقه واستباق الجميع لأحصل على ذلك المكان الهام
قلت بسرعة قبل أن يسبقني أحد عندما سألنا زكي عن الأماكن التي يمكن أن نذهب اليها : أنا سأذهب الى المحلة
صمت زكي وظهر عدم الاقتناع واضحا على ملامح وجهه, ثم قال : المحلة مكان غير مناسب لك, لا أظن أن الأمر سيكون سهلا
قلت بإصرار : أعلم, ولكني سأنجز تحقيقا جيدا ان شاء الله
هز رأسه موافقا باستسلام, رغم أن كل تعبيراته تقول أنه غير مقتنع
ألقيت بطرف عيني الى ياسر الذي كان واقفا في الركن عاقدا ساعديه وصامتا تماما ولم يشارك بأية كلمة, لدرجة أن زكي لاحظ ذلك فسأله : وأنت يا ياسر! علام انتويت؟
قال بهدوء : سأفكر ثم أبلغك
صمت زكي على مضض
وانتهى الاجتماع, وشعرت بنشوة انتصار, كنت أعلم أن ياسر ينوى الذهاب الى المحلة, ولكني سبقته هذه المرة
وكما توقعت, بمجرد أن عدنا الى المكتب قال لي مباشرة : أميرة
قلت ببساطة مدعية اللامبالاة : نعم, أهناك شيء؟
قال بحزم : أريدك أن تتخلي عن فكرة الذهاب للمحلة
قلت بتحدى : اطمئن, أستطيع الاهتمام بشئوني جيدا
تجهم وجهه وقال بضيق : ألا تعلمين أنهم يصدرون بيانات شديدة اللهجة وتحذيرات مخيفة
الأمر هناك سيكون مختلفا عن أية محافظة أخرى
كما أن العمال ينتظرون هذا اليوم ويعدون له العدة
قلت بعناد : فرصة عظيمة لصناعة موضوع جيد
هتف بغضب : أتظني أنها لعبة!! الوضع سيكون في غاية الخطورة وعليكي ألا تذهبي الى هناك
قلت بتحدى : لا يملك أن يقول لي ذلك سوى المدير المسئول
التمعت عيناه ببريق الغضب وقال منذرا : اذا فأنت مصرة على عدم الأخذ بالنصيحة؟
غافلتني ابتسامة سعادة وخرجت من داخلي لترتسم على وجهي : أشكر لك نصيحتك, ولكني كما قلت لك أستطيع تدبر أموري بنفسي
زفر بغيظ وغادر المكتب, أستطيع أن أستنتج بسهولة الى أين سيذهب الآن بعد أن فشل في اقناعي
أخذت أترقب عودته من عند زكي بتوتر حتى موعد الانصراف, ولم يعد
وأخذتني الأفكار, ترى هل رفض زكي لذلك غادر ياسر الجريدة؟
في الصباح كنت أنطلق بسيارتي الى المحلة, وكان واضحا بشكل كبير أن الاضراب قد بدأ بالفعل, وأن المراهنين على قدرة الشعب على القيام بالاضراب والصمود من أجله سيكسبون
فها هي البشائر هلت, بدت الشوارع هادئة بشكل ملحوظ, ولا زحام
رن هاتفي المحمول, كان زكي الذي قال بعجلة : أميرة, هناك أمر هام جد, لقد اعتذر أحمد لظروف قهرية, وعليك الذهاب مكانه الى وسط البلد
قلت بحسم : ابحث عن غيري, فأنا الآن في الطريق الى المحلة
هتف قائلا : كلا, لن تذهبي الى المحلة
قلت بعد أن تأكد لي ما فهمته : اذا, فقد أرسلت ياسر الى هناك؟
اتفقت معه على تلك التمثيلية برغم أنك وافقت أمس
قال بحدة : الأمر ليس مؤامرة عليك, لقد تحدث الى وأقنعني بوجهة نظره
المحلة ستكون مكانا خطرا للغاية اليوم والعيون كلها مترصدة لما سيحدث من مواجهات, والتدابير الأمنية ستكون أضعاف أى مكان آخر
قلت بغضب : لا يهم, سأذهب رغم كل هذا, ولن تستطيع منعي
قال : وأنا كمديرك غير موافق, وستتحملين عواقب مخالفتك..
قاطعته بانفعال : لقد وافقت أمس أمام الجميع, أتذكر؟؟
لن يستطيع أحد اثنائي عن هدفي
أنا ذاهبة الى المحلة ولا تتصل بي مجددا لأنني لن أرد عليك
..................................................
صار الأمر واضح لكل عين
الإضراب بدأ بالفعل، الشوارع الرئيسية في العاصمة بدت خالية وهادئة
وصلت الى المحلة وأخذت أتجول فيها، في الميادين الرئيسة كانت الاستعدادات الأمنية متواجدة بشكل مكثف وغير عادي
صفوف من الجنود بزيهم الأسود وخلفهم السيارات المصفحة الضخمة
تذكرت رحلتي مع اللجنة وما دار فيها
أخذت أسترجع كلمات ياسر، كان محقا في كل كلمة، فالمشهد مخيف بالفعل
نفضت الخوف وأخذت أصور المكان, كانت أغلب المحلات والدكاكين مغلقة والأعداد قليلة في الشوارع
مررت على بعض المدارس الثانوية وسألت البواب عن نسبة حضور الطلبة والمدرسين اليوم
بالفعل كان الحضور قليل بشكل ملحوظ, ثم أجريت حوار مع بعض الناس في الشارع
على خلاف ما توقع المتشائمون, كان هناك وعى جيد بفكرة الإضراب ورغبة حقيقية في انفاذه
ولكن على نحو آخر كان هناك قلق وخوف مما يمكن أن يحدث جعل الكثيرين يتركون أشغالهم ويلزمون بيوتهم رغم عدم ايمانهم بالإضراب وجدواه
مر نصف النهار بلا مشاكل، وأتاني اتصال على هاتفي المحمول من رقم غير مسجل لدي
رددت : من؟
جاءني صوت ياسر : أين أنت الآن؟
هتفت بدهشة عارمة : ياسر!! أأنت حقا!!
قال بضيق : هل على أن أبحث عنك في المحلة كلها؟
قلت وأنا تحت تأثير الدهشة : كيف حصلت على رقم هاتفي؟
سمعت صوته حقيقيا من خلفي : لم تثيرين المشكلات دائما؟
التفت بحدة لأجده واقفا على بعد عدة أمتار مني
عندما أراه أعجز حقا عن التحكم في ابتسامتي التى تتفجر تلقائيا من داخلي
رأيته متجهما فتقدمت نحوه وأنا أقول بفرح حقيقي : هل أستطيع أن أقول أن هذا هو أول تعاون مشترك بيننا؟
صمت طويلا ولا حظت أن التجهم اختفى من ملامح وجهه, بل إن هناك ابتسامة تريد أن تشق طريقها بين قسماته لكنه يكبحها
قال بهدوء : لم تعاندين كل من حولك؟
قلت باسمة محاولة الهروب من حصاره : أتعلم؟ الجو هادئ تماما هنا خلاف كل التوقعات لدرجة أنني بدأت أندم على اختيارى لهذا المكان, أتمنى مكانا أكثر اثارة
تنهد مستسلما, ثم تلفت حوله متأملا متفحصا المكان : لا تتعجلي, لم تحن بعد ساعة الصفر
عند خروج العمال سنرى ما سيحدث
قلت بمرح : أين كنت؟
قال : كنت عند المصنع
تعجبت من قدرته على ابتلاع غضبه وتبديل مزاجه بسرعة
قلت : وما الأحوال هناك الآن؟
قال : هناك مفاوضات مطولة مع العمال والكل ينتظر نتيجتها التى ستحدد كيف سيصبح المكان بعد ساعات؟
قلت بزهق : اذا علينا البقاء قرب المصنع
قال : لقد بدأ الناس يتجهون الى هناك بالفعل
نظر الى وقال متعجبا : ما هذا الذي ترتدينه؟
نظرت الى ملابسي وقلت بدهشة : ما بها؟ انها ملابسي العادية
قال متهكما : أتأتين الى مكان كهذا في يوم كهذا بملابسك العادية؟
لم أفهم ماذا يعني, لكنه سألني : أين سيارتك؟
قلت مشيرة الى الشارع الجانبي : هناك
قال بسخرية مرحة : أحضرتيها معك الى هنا!! أهنئك على جرأتك
ألا تثير هذه المناظر أية مخاوف لديك على السيارة؟
قلت وأنا أدور بعيني في المكان : حقا, ان التواجد الأمني غير مسبوق, لا أفهم هل يستعدون لخوض حرب ما؟
قال ساخرا : لا ينقص المكان سوى ثلاثة ميركافا واثنين أباتشي وصلحوا
ضحكت من تعليقاته الطريفة
كانت المرة الأولى التى أشعر فيها بتباسطه معي في الكلام, رغم أن حدوده كما هي لا يتخطاها أبدا
وصلنا الى السيارة وقال هو : علينا ابعاد السيارة من هنا, أعطني المفاتيح
قلت بدهشة : لا أعتقد أن الأمر خطير
قال : الاحتياط واجب
هتفت وأنا أعطيه المفاتيح : ولكن, كيف سنتنقل دون سيارة؟
قال باسما : لا مشكلة, سنعيش عيشة أهل البلد لبعض الوقت
حتى ينجح عملك هنا, عليك أن تكوني مواطنة محلاوية اليوم
عندها ستنجحين في وصف حياتهم ومعاناتهم وسعادتهم وآلامهم وآمالهم بدقة
أسرني تواضعه وسماحته وبساطته
عندما عدنا الى المصنع كانت الأعداد المتجمعة بالمكان كبيرة جدا, ويقابلها أعدادا أكبر وأكبر من جنود الأمن
انتشرنا أنا وياسر نجري حوارات مع الأهالي
الكل مترقب بوجل وتوتر ولهفة ما سيفعله العمال عند خروجهم من الوردية
فالعمال بأعدادهم الهائلة يمثلون الغالبية العظمى من أهل البلد والإضراب الموازى أشعل آمال الناس بأن شيء ما يمكن أن يتغير
صلينا العصر في مسجد قريب وهناك أدركت ما كان يعنيه ياسر بأن أكون مواطنة محلاوية
فلقد صليت بين مجموعة من نساء البلدة مرتدية رداء الصلاة الموقوف للمسجد, ثم جلست بينهن بعد الصلاة نتبادل الحديث بود
نساء خرجن من بيوتهن ليساندن رجالهن ويطالبن بحقوق أولادهن
وشرحن لي الأوضاع المتردية للعمال ومطالبهم
بعدها عدت الى المصنع مع ياسر, ثم بدأ خروج العمال
وانهمكت في تصوير خروج العمال من المصنع وياسر يراقب ما حوله باهتمام بالغ
قلت بدهشة وعيني على الكاميرا : ما الذي يحدث هنا
رد ساخرا : تقصدين ما الذي لا يحدث هنا
بالفعل هو محق, فهذا ما لم نكن نتوقعه أبدا, بل لم يكن يتوقعه أحد, فقد كان خروج العمال هادئا تماما وعاديا ككل يوم وهم ينفضون كل في طريق متجهين الى بيوتهم, مما جعل ياسر يقول : أستطيع الآن أن أقول أن المفاوضات نجحت, لقد خرج العمال من كفة الميزان
يبدو أننا لسنا الوحيدين المعترضين على ما يحدث
لقد بدأ البعض يتذمر ويعترض, وبدأت بعض الهتافات تعلو على الجانبين بتردد وعلى استحياء
سمعت صوت ياسر بجانبي يقول بتوتر : علينا أن نبتعد من هنا
قلت بتركيز : انتظر قليلا حتى أنتهي من التصوير
كان ياسر محقا في قلقه, لقد بدأ الجنود يتحرشون بالأهالي بطريقة مستفزة, بل وحاولوا اسكاتهم بالإرهاب والقوة
الغريب أن الأهالي لم يسكتوا, بل ان تصرفات الجنود كانت تزيدهم اصرارا لتعلو الهتافات وتتطور بسرعة
ثم بدأ الجنود يتطاولون على الناس بالسباب والضرب ليشتعل الغضب بينهم, واشتبك بعض الشباب مع الجنود بالفعل
وكأنما تلك المشادات الفردية هي الفتيل الذي نزع ليتفجر الجنون في المكان
فقد بدأ الجنود الضرب في الناس بالعصي دون تمييز وبوحشية
لكن هذه المرة لم يتلقى الناس الضربات ويسكتوا, بل كان الرد عنيفا والاشتباكات مخيفة
وتجمدت تماما في مكاني كالتمثال والكاميرا في يدي تصور ما يحدث
لم أستطع التحرك الا عندما صرخ في ياسر : إجرى
جريت خلفه برعب بعد أن تحول الميدان الى ساحة حرب, وبدأت أسمع أصوات فرقعات عالية من خلفي
حاولت أن ألتفت لأرى ما يحدث فاصطدمت برجل يجري من الاتجاه الآخر فسقطت الكاميرا على الأرض
ارتبكت بشدة, فآخر ما يمكن أن أتحمله أن أفقد الكاميرا
توقفت وانحنيت بسرعة لألتقطها ولمحت ياسر يجري بعيدا بين الناس التى تجري في كل اتجاه بفوضى وعشوائية
وكان على حفظ توازني بصعوبة ممن يتخبطون بي
علت صوت الفرقعات حتى كادت تصم أذناي فوليت هاربة من المكان
لكن فجأة انفتح الجحيم في وجهي وأظلمت الدنيا
...............................................
يتبع...................................................