أهناك شيء يا أميرة!!
أأنت متعبة؟
نظرت الى الأستاذ فؤاد وأدركت أنني شردت كثيرا
فكلمات يحيى لا زالت تسيطر على عقلي منذ أسابيع, تزورني في صحوي ونومي, وياسر كما هو يعاملني برسمية ولا يزيد في الكلام, ولا ينظر نحوى
ألقيت عليه نظرة خاطفة, كان يعمل على الكمبيوتر كعادته لا ينظر لأى شيء حوله
قال أستاذ فؤاد : أراكي مهمومة منذ مدة, أكل شيء على ما يرام؟
قلت محاولة ابعاد كلمات يحيى عن ذهني : أفكر في مشكلة أيمن, لا أدري ما الذي يمكن أن يصلحه؟
قال بأسف : إنه لأمر محزن للغاية, لن أخفي عليك, فلا يمكنني أن أتخيل أن يفعل ذلك واحد من أولادي, قد أموت بالحسرة والقهر لو أن ذلك حدث معي
تنهدت بألم : وهذا ما يقلقني, فأمي تحاول أن تتظاهر أمامي بالقوة, ولكني أعلم أنها تتمزق من داخلها
سمعت فجأة رنة جوال ياسر المميزة والتفت تلقائيا تجاهه, ورد هو على الفور : السلام عليكم...
انتفض فجأة من كرسيه هاتفا : ماذا!!! أأنت متأكد!!
انتبهنا جميعا لردة فعله الغير طبيعية والتي تنبئ بخطب ما, وانتظرناه يقول أى شيء, لكنه أغلق الجوال وانطلق يجري خارج الغرفة
هتف أستاذ فؤاد بقلق : الى أين؟
أجاب وهو يسرع للخارج : الى التلفاز
تبعته بلا وعي وقد بلغت قمة الإثارة, وقد كنت الأقرب للباب, وفوجئت بأن الأستاذ فؤاد خلفي مباشرة
ويبدو أن ردة فعلنا دفعت شيرين وكمال يتبعوننا أيضا
اندفع ياسر الى قاعة الاجتماعات وشغل جهاز التلفاز ذو شاشة العرض الكبيرة المثبتة على الجدار, وأمسك جهاز التحكم وأخذ يقلب بين القنوات الفضائية الاخبارية, حتى توقف عند احدى القنوات
التف الجميع حول الشاشة وأخذوا يراقبون ما يعرض عليها باهتمام
كانت القناة تبث صورة حية لمجموعة من النساء في حالة اندفاع ومواجهة مع جنود وحولهم دخان كثيف يغطى أغلب المشهد, ثم فجأة انفجرت خراطيم المياة في المكان, لقد فتح الجنود مدافع الماء على مجموعة النساء اللاتى كن في حالة تدافع واندفاع عنيفة
هتف أستاذ فؤاد بدهشة : ما الذي يحدث في الضفة!!!
سمعت صوت من خلفي يقول : ليست الضفة, انها الحدود
رفع ياسر صوت التلفاز ليطغى على أى صوت آخر, وعرفت مراسلة القناة من صوتها, انها شروق بالطبع :
قامت عشرات النساء باقتحام المعبر يقدر عددهن بما يزيد على 50 وقام جنود الأمن بالتصدي لهن بقنابل الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه مما تسبب بسقوط حالات اغماء كثيرة بين المتظاهرات وتم نقل بعض الحالات الى المستشفيات المصرية،
وتقول النساء المحاصرات داخل المعبر أن الأمن يحشد المزيد من جنوده المددجين بالعصي للضغط على المتظاهرات للعودة، وتصر النساء على عدم التراجع الا بعد كسر الحصار وفتح البوابة المصرية
مما جعل الكثير من الصحفيين المتواجدين بالمكان يصفونها (بانتفاضة النساء)
هتفت بلا وعي : ما الذي يفعلونه بالنساء
هتف كمال بانفعال : ما هذه القناة!! أليس هناك غيرها!! انها متحاملة علينا دائما
ينتقدوننا ويبرزوا كل ما نفعله وكأنه جريمة
اختطف جهاز التحكم من ياسر وبدل القناة، فهتفت بغضب : كمال، أريد أن أستمع لتعليق شروق
ما كان صياحي في وجهه يمكن أن يجعله يترك جهاز التحكم، لكن نظرة الغضب العنيفة التي ظهرت في عيني ياسر أجبرته أن يعيده اليه بصمت ويعود ياسر الى نفس القناة التي تبث الأخبار وكانت شروق تكمل :
(.... اسرائيل امداد الوقود الى محطة الكهرباء الرئيسية في غزة يوم الثلاثاء مما خفف بعض الشيء من الحصار الذي أغرق معظم القطاع في الظلام التام يوم الأحد الماضي عندما توقفت المحطة عن العمل تماما
ويذكر أنه ليس لإسرائيل وجود في رفح, الا أن اتفاقا بينها وبين الفلسطينيين أبرم بوساطة أمريكية يقضي بعدم فتح المعبر دون موافقتها)
انتهى الخبر,. وانتقل المذيع الى خبر آخر وغرقت القاعة في صمت تام
لا أنكر أنني تأثرت بعمق، مهما يكن فهم مجرد مجموعة من الفتيات والنساء, وفي المقابل جنود مسلحين بالعصي والهراوات بل ويحتمون خلف الدروع
أظنني أستطيع الإحساس بمشاعرهن بما لي من تجربة سابقة مشابهه
هتف كمال : إنها قناة سخيفة ومبالغة وتبث الأخبار من وجهه واحدة فقط
لم أكن أستطيع أن أصدق أن ذلك يحدث بالفعل، كانت هناك شوكة في قلبي يكبر ألمها كل لحظة
قلت بصوت خفيض : أستاذ فؤاد، من من الجريدة هناك؟
قال : لا أدري بالضبط، سمير أو عبد العزيز
قال أحدهم من خلفي ممن تجمعوا من المكاتب الأخرى لمتابعة الخبر الهام : عبد العزيز هناك
نظرت شذرا الى كمال : غدا سنعرف من الصادق ومن المبالغ
قال كمال بعناد : أتصدقين ذلك حقا!!! إنه كذب وافتراء
قال ياسر بصوت غريب لم أسمعه منه من قبل : إن كانت القناة تكذب فالصورة لا تكذب
التفت اليه ونظرت الى جانب وجهه وبدا لي لحظتها أن لون وجهه مختلف، وأنه أصبح داكنا أكثر, كما أن الجمود الذي كسا ملامحه اختلط بقسوة شديدة
شعرت بالقلق وشغلني التفكير في تصرفاته وردود أفعاله
حتى سمعت من خلفي أحدهم يقول : لماذا؟ ما الذي سوف يستفيدونه من تلك المعمعة والدعاية السيئة؟ ألم تضخ اسرائيل الغاز لهم اليوم؟
هتف كمال : حتى تصدقوني, انها مجرد تمثيلية لإثارة الرأى العام ضدنا
قال الأستاذ فؤاد بضيق : لا يجوز أن تقول هذا, هل اختزلت كل المشكلات والحصار المميت في ضخ بترول يكفي لإعادة الكهرباء ليوم أو يومين وبعدها يعود الظلام من جديد!! وماذا عن الطعام والدواء وبقية الاحتياجات الانسانية!!!
هتف كمال : كل هذا بسبب تلك الصواريخ اللعينة التى يطلقونها, هم يلعبون بالصواريخ البدائية العبثية ونحن نحرج ونهان أمام العالم, وليس لنا في الطور نصيب ولا الطحين كما يقول المثل
التفت الي كمال وقلت بغضب : هل تفقه حقا عن أى شيء تتحدث!!
ألديك دماء تجرى في العروق وقلب ينبض!!
ألديك بعضا من عقل!! أتفهم ماذا تعني كلمة مقاومة !!
هناك بشر يموتون كل يوم لعدم وجود دواء, وأطفال يعيشون في البرد والظلام, كل ما بيننا وبينهم هو مجرد باب
وعليك أن تسأل نفسك من أغلق هذا الباب؟
لا أفهم لم أضيع وقتي في التحدث مع شخص مثلك لا يفهم ولا يقدر ما يبذله الآخرين من تضحيات
الكلام معك ما هو الا مضيعة للوقت
هتف كمال بعصبية : أنتما تصدقان!! حسنا هذا شأنكما
ولكني متأكد أن هذه القناة متحيزة وتقدم الخبر من منظور واحد فقط
خرج كمال من القاعة غاضبا وتبعته شيرين ثم خلت القاعة من كل من تجمعوا من المكاتب الأخرى،وخرج أستاذ فؤاد وهو يحوقل ويضرب كفا بكف
التفت الى ياسر لأجده متجمدا أمام الشاشة وكأنما لا يرى سواها
قضى ياسر بقية النهار صامتا شاردا يحملق في شاشة الكمبيوتر كالتمثال دون أن يحرك أية عضلة من جسده
لم أره أبدا غاضبا الى هذه الدرجة، حتى أننا جميعا خشينا الاقتراب منه أو التحدث اليه، وظلت نظرات الدهشة و القلق تدور بيننا أنا وشيرين وأستاذ فؤاد, أما كمال فقد رحل حتى لا يضطر الى سماع المزيد من الاهانات
في المساء اتصل بي أستاذ حمدي وطلب مني الحضور للنقابة
وبالفعل ذهبت مسرعة الى هناك، ووجدت المكان مزدحما والتقيت ابتسام وخطيبها ورفقاء الحافلة، أما شروق فهي هناك بالطبع على الحدود
وقفت في أحد الأركان أبحث عن شخص ما وشعور قوي في داخلي يؤكد لي أنه موجود هنا اليوم، ولكني لا أجده، وتعجبت كثيرا كيف يكون مؤمنا بالقضية الى هذه الدرجة ولا يشارك في أية فعاليات للنقابة ناهيك عن كونه لم ينضم الى اللجنة حتى الآن!
انتهت الأمسية وتركت شحنة عاطفية شديدة بعد مظاهرة الشموع التى قام بها الأعضاء والندوة التي عقدت بعدها وألقى فيها الأستاذ حمدي كلمة صادقة مؤثرة سالت فيها دموعه ودموعنا وانتهت بدعاء يهز المشاعر ويفتت القلوب من أحد أساتذة الأزهر علا فيه النحيب والبكاء وتلوعت القلوب
وعدنا الى بيوتنا على وعد بالخروج بقافلة جديدة الأسبوع المقبل
واكتملت ليلتي بالجلوس أمام الانتر نت لأعيش مع أحداث اليوم بالصوت والصورة، حتى أنني نمت أمام شاشة اللابتوب
سمعت أمي يوما تقول : قد تفعل الأم أي شيء من أجل أطفالها
انه الخوف الذي دفعهن الى ذلك
خوف الأم و الزوجة والبنت
أخرجهن الظلام والموت, ودفعهن دفعا الى المواجهة
لكن خوفهن لم يجد له سوى خراطيم المياه المثلجة في قسوة الشتاء و الغازات المسيلة للدموع
التوقيت كان في غاية الأهمية
فإسرائيل تحاول اقناع العالم انها لا تقتل غزة بالحصار, وما ضخ البترول الهزيل الذي لا يكفي لإضاءة المدينة لبضعة أيام الا دعاية واستعراض لإسكات الضغوط العالمية التى تطالب برفع الحصار المميت
كانت المظاهرة النسائية واقتحام المعبر على الهواء مباشرة
مما حرم الصهاينة من الاستفادة الاعلامية من ضخ البترول
فقد كانت أنظار العالم موجهة نحو نساء خرجن من داخل الظلام والموت للمطالبة بحقهن في الحياة
انهن النساء ثانية..
عندما خرجن لإنقاذ الرجال المحاصرين في بين حانون بصدور مفتوحة لإستقبال الرصاص الحي في مواجهة أخرى ولكن هذه المرة مع الصهاينة
عندما ذهبت الى الجريدة ما كنت أتوقع أبدا ما حدث
غاب ياسر هذا اليوم ..
وفوجئت بمكالمة من ابتسام على هاتفي المحمول أصابتني بصدمة ذهول
لقد فتحت الحدود
لا.. بل تم اقتحامها
......
الأخبار تقول أنه تم تفجير الجدار الحديدي بين رفح فلسطين ورفح مصر،ودخل عشرات الألاف من الفلسطينيين الى رفح المصرية
كانت مفاجأة مذهلة بحق, وبعد مرور عدة ساعات فقط على أحداث أمس
هرولت مسرعة الى النقابة التي تحولت الى خلية نحل، وبعد مناقشات كثيرة واقتراحات عديدة اتفق الجميع على تأجيل أمر القافلة بضعة أيام حتى تتضح الصورة ويتبين لنا ما هي المواد التي تنقصهم هناك ليتم تجهيزها وارسالها مع القافلة
أصابني الكثير من الاحباط من هذا القرار شأني شأن الكثير من شباب اللجنة، فقد كان منتهى أملنا أن نكون هناك الآن ٍ
في اليوم التالي كنت في الجريدة، وأدركت بشكل يقيني أن ياسر ذهب الى رفح عندما لم أجده على مكتبه في الصباح
وأصابتني حالة ضيق غريبة سيطرت تماما على عقلى، فقط لو كان أخبرني لكنت ذهبت معه دون تردد
لم أكن أعتقد أن أحلامي اقتربت الى درجة كبيرة الا عندما وجدته يدخل علينا المكتب عند الظهيرة
قفزت من مكاني وأنا أهتف بسعادة فائقة : ياسر!!!
ورحب به أستاذ فؤاد بحرارة
سلم على الجميع بعجلة وهو يتجه الى مكتبه مهرولا ويبحث في أدراجه ويجمع أوراقه وينظمها في حقيبته
كان يبدو عليه التوتر والعجلة، اتجه اليه أستاذ فؤاد وقال : أستطيع تقديم المساعدة
قال ياسر مباشرة : شكرا لقد انتهيت
حمل حقيبته ونهض من مكانه مغادرا, وجريت نحوه وأستاذ فؤاد يقول بدهشة : الى أين يا ياسر؟
قلت بحماس : الى الحدود بالطبع
اعترضت طريقه فهتف قائلا : ماذا تريدين؟
قلت بحسم : سآتي معك
صرخ في وجهي صرخة أخرستني وجمدتني في مكاني : كلا
ثم أردف بتوتر : عليكي أن تبقي بعيدة، أنت بالذات يجب أن تبقي بعيدة
رحل مهرولا ووقفت أنا ألملم أعصابي المبعثرة تحت وطأة غضبته المخيفة، وسألت أستاذ فؤاد بدهشة : ألا ترى معي أن ياسر يهتم بهذا الموضوع اهتماما زائدا عن اللآزم!
قال : ومن منا لا يهتم، الأمر هذه المرة فاق حد التصور
قلت : ولكني أشعر أن غضبه هذه المرة أشد
قال : إن لم يكن هو سيغضب، فمن سيفعل!!
كما أنه متدين وملتزم
هو ينظر للأمر كعقيدة ولاؤه الأول لها
.................................................. .......
لا أدرى هل أنا مجنونة!!
كيف اتخذت مثل هذا القرار بهذه البساطة!!
كانت سيارتي تنطلق نحو الحدود وأنا فيها, كيف انطلقت هكذا بلا تفكير!!
ان كل ما شعرت به هو الغيرة, الغيرة المهنية العنيفة
لقد انطلق ياسر بلا تردد ليواكب الحدث في وقته ودون انتظار توجيه أو أمر من أى انسان
انطلق فقط بحسه الصحفي
وأنا لست أقل منه, أنا أيضا لدي دافع قوي, لقد كنت هناك سابقا وعدت بالكثير من الألم والاحباطات
لكن هذه المرة الوضع مختلف, والكل متفائل
لكن المشكلة أنني هنا وحدي تماما
وما المشكلة...
ليست هذه هي المرة الأولى التي أسعى فيها خلف خبر وأسافر لجمع المعلومات عنه
اتصلت بأمي التي فوجئت تماما بنبأ سفري, وحاولت بكل وسيلة اثنائي عن ذلك
ولكنني كنت قد حسمت أمري ولم أتصل بها الا وأنا في منتصف الطريق الى الاسماعيلية حتى لا أستسلم لضغوطها وأضطر للعودة, واستسلمت هى مرغمة لعقلي العنيد
وصلت عند كوبرى السلام قبل المغرب بقليل, يالحظي, لقد كان مغلقا, وقفت بين طوابير السيارات المتراصة في انتظار فتح الكوبرى الذي يدعون أنهم سيفتحونه بعد قليل
أخذ قلبي يدق بعنف, فلم أكن أتحمل كلمة عودي مرة ثانية
مر الوقت بطيئا وأنا أكاد أموت زهقا وقلقا
خرجت من السيارة فلفحني الهواء البارد, وسرت في جسدي القشعريرة
كان الجو باردا ويزيد من برودته توتري وقلقي
لففت ذراعي حول جسدي وتمنيت لو كنت عدت الى البيت لآتي بمعطف أو سترة جلدية تقيني قسوة الجو البارد في ذلك الوقت من العام, فسترتي الصوفية لا تشعرني بالدفء
ولكن كان هناك شعور آخر لذيذ الى جانب البرد والقلق والتوتر بدأ يحتل جزءا من مشاعري المرتبكة
لكم كنت دوما أعشق لون السماء عندما تميل للغروب بنفس قدر عشقي لها وهي تشرق بالضياء عند الفجر
فهي تترك في القلب لمسة شاعرية دافئة ورجفة نشوى لذيذة تتغلب على البرد القارص
ومع الجو المشبع برائحة الماء المالح المميزة تملأ القلب روعة ما بعدها روعة
أخذت أروح وأجيء أمام سيارتي لعل الحركة تمنحني بعض الدفء, وأنا أتأمل الحافلات والسيارات التي تجمعت في انتظار افتتاح الكوبري وكانت أغلبها تحمل بضائع ومساعدات وامدادات للعريش
عمار يامصر
لكم أشعر بالسعادة لأنني أنتمي لهؤلاء البشر وهذه البلاد
جذب أذني اسم جلال, إنه اسم أبي تشعر أذناي نحوه بالألفة في أى وقت وأى مكان
ورغم هذا لم ألتفت للمنادي الذي ينادي بالتأكيد على شخص يعرفه
لكن تكرار الاسم بدأ يوقظ انتباهي, كما أن شعوري بأنني سمعت هذا الصوت قبلا جعلني التفت
كدت أكذب عيناي, لا يمكن أن يكون هو!!
ياسر!!
نعم هو
تفجرت فرحة عارمة في قلبي لتغمر وجهي بابتسامة كبيرة وأنا أراه يطل من باب احدى الحافلات الواقفة على بعد أمتار من سيارتي
كان يلوح بذراعه كله لأراه ورأيت الخاتم الفضي يلمع في يده في ضوء شمس الغروب
أخذت أقدامي تتسارع باندفاع تجاهه وأنا أراه يقفز من الحافلة ويسرع الخطا نحوي
لا يمكن أن أصف مشاعري الجياشة التي تفجرت فجأة لرؤياه
وكأنني داخل فيلم عربي رومانسي قديم
كان قلبي يدق بعنف وفرح هائل وعيناي على ابتسامته الواسعة التي تلونت بألوان الشفق
صدقت عيناه أخيرا فقد كانت تنطق بالفرح لرؤياى
توقفنا على بعد عدة خطوات, وهتفت بسعادة بالغة : ياسر!! لا أصدق أنني التقيتك أخيرا!!
لا أدري لم قلت هذا رغم أننا كنا معا منذ عدة ساعات في الجريدة
ولكن في هذه اللحظة كنت أشعر وكأنني أراه بعد غياب طويل
لم يرد مباشرة, ابتلع ريقه ووضع كفيه داخل جيب سترته الجلدية السوداء والتف بزاوية وكأنما يحاول أن يسيطر على تلك السعادة الغامرة التى كنت أراها بوضوح في عينيه ووجهه
أصبح الآن منتهى أملي أن أعبر معه الى الشاطئ الآخر, أنا واثقة أننا سنفعلها معا, لقد فشلت سابقا, ولكن هذه المرة سننجح, فأنا أتفاءل كثيرا بوجهه
نظرت الى جانب وجه الذي لم تختفي ابتسامته الكبيرة وهو يقول بلهجة عتاب هادئة : لم تستمعي لكلماتي, وقطعتي كل تلك المسافة وحيدة!!
قلت ضاحكة : تريدني أن أضيع تلك اللحظات النادرة وذلك السبق الصحفي العظيم
لم أشعر بالاستياء أو الضيق من كلماته, بل انتابني احساس غريب أن نصيحته لي وربما صراخه في وجهي كان دافعه الأساسي هو الخوف على, لدى رغبة قوية لأصدق هذا سواء كنت على صواب أو خطأ ليس مهما, المهم أن أحيا تلك اللحظات في ظل تلك المشاعر وبين تلك الأجواء ومع هذا الإنسان
أخذت أتأمل جانب وجهه الذي تغير لونه بفعل اضاءات السماء الرائعة, وغمرني احساس غريب بالدفء رغم نسمات الهواء البارد التي تلفح وجهي وتحرك شعري وتعبث بملابسي
قال بصوت هادئ ودون أن يلتفت نحوي : كان عليكي احضار ملابس ثقيلة فالجو شديد البرودة
قلت باسمة : لم أستطع العودة الى البيت, فلم يكن الوقت كافيا
أعتقد أن هناك ضحكة تريد أن تخرج من صدره وهو يكبحها وهو يقول : أو ربما تخشين اعتراض شخص ما على تلك الخطوة
قلت بصدق : لم تكن أمي لتوافق, لذلك فلم أخبرها الا عندما اقتربت من الاسماعيلية
بدأ الخفوت يزحف على ابتسامته كما يزحف الليل على مياة القناة
وشعرت من تغير ملامح وجهه (رغم أنه لم يوجه أى نظرة نحوى) بالاعتراض وعدم الرضا عن تصرفي وقال : أنت عنيدة للغاية
قلت باسمة : والدي كان يقول لي هذا دائما
صمت تماما, فصمت أنا أيضا واتجهت نظراتي الى القناة والكوبري الذي طال انتظارنا له
لم نتبادل أى حوار بعد تلك الكلمات القليلة سوى طلبه مني من وقت لآخر البقاء في السيارة, وكنت أفعل في أحيان وفي أحيان أخرى لا أستطيع من الزهق ونحن في ساعات الانتظار المملة, لم أكن بحاجة لأى حديث معه وخاصة وهو ضائق ومتوتر الى هذه الدرجة, كان يكفيني الشعور بوجوده في المكان ليزول كل قلقي وتوتري
لكن الوقت طال علينا أكثر من اللازم وبدأ الضيق والملل يتسرب الينا, ومن وقت لآخر يذهب ياسر الى الأمن ليسأل متى سيفتح الكوبري, فلا يحظى بإجابة محددة سوى كلمة بعد قليل
ساعات وساعات ونحن ننتظر حتى بدأ الصبر ينفذ, وقال ياسر بضيق : يجب أن تعودي
قلت باعتراض : كلا, لن أستطيع ليس للمرة الثانية, لن أحتمل ذلك, هذه المرة يجب أن أصل الى هناك حتى لو قضيت أياما في الانتظار
تنهد بضيق ثم تركني واتجه الى حافلته فهتفت بلا وعي : ياسر!! لا يمكن أن تتركني وحدي هنا
نظر نحوى قليلا ثم عاد الى حافلته
ارتد الى القلق فجأة مضاعفا, وشعرت بالغيظ الشديد من تصرفه هذا
.................................................. ..
أخذت أدلك ذراعاي بكفي
سمعت صوته خلفي مباشرة يقول بجدية : هيا بنا
نظرت اليه بدهشة كبيرة غير مصدقة، ألقى بحقيبة سفره الصغيرة في المقعد الخلفي لسيارتي وفتح الباب الأمامي وهو يقول : فلنتجه للمعدية ربما حالفنا الحظ هناك
ركبت خلف المقود وتحركت بالسيارة وأنا لا أكاد أصدق أنه هنا بجانبي
لم يشأ أن يتركني وحيدة في مكان غريب أطأه لأول مرة
أعلم أنه غير راض عن ذلك الوضع، وغير مقتنع بسفرى وحيدة، ورغم ذلك يأبى عليه خلقه ورجولته أن يتركني وحيدة
كان واضحا عليه الضيق الشديد والزهق لذلك فقد ربط لساني جيدا لكيلا ازيد من غضبه وضيقه، يبدو أنه يشعر أنه لن يستطيع الوصول الى هناك، أما أنا فقد كان تفاؤلى بلا حدود، مما جعلني أتحمل الوقت الطويل الذى قضيناه في انتظار المعدية
وانقشعت تلك الغيمة بمجرد أن دخلت السيارة الى المعدية, غادر السيارة ووقف بجوارها يتأمل الماء بشرود وكفيه في جيبه
غادرت السيارة ووقفت الى جواره وأنا لا أشعر ببرودة الجو, وتنهدت بفرح قائلة : أدعو الله أن يفتح لنا الطريق كما فتحه على أهل غزة
التفت الى ونظر الى بشرود لكني لا حظت التأثر يبدو في عمق عينيه, أدار وجهه الى الماء وبقى صامتا شاردا, فسألته بدهشة : لم أنت صامت!! أتحمل هم نقاط التفتيش؟
قال : لا أدري ما هو الوضع هناك الآن أدعو الله أن يكون دخول العريش ميسرا بلا معوقات
غادرنا المعدية لنلتقي بأول نقاط التفتيش, كان من الواضح الجلي أن الإجراءات المتبعة مشددة للغاية
حتى أنني بدأت أعتقد أن تلك الإجراءات المتعنتة انما هي لإرهاق المسافرين واصابتهم باليأس ليعودوا من حيث أتوا, لكنا كنا نحمل في قوبنا عزيمة ورغبة في الوصول الى هناك تتحدى كل المعوقات والصعاب
غادر ياسر السيارة وجلس الى مقدمتها في انتظار أن يفرج الله علينا بمواصلة المسير, كان دائم التمتمة والهمس وهو يزفر بضيق, وأدركت أن الاستغفار والدعاء هما دأبه, مما منحنى دافع قوى لتقليده فلزمت الاستغفار قدر استطاعتي وأنا أدعو الله أن يحقق لنا أملنا
وبمجرد أن عبرناها حتى تنفسنا الصعداء وطلب مني ياسر أن يتولى هو القيادة, وأدركت أنه يريدني أن أرتاح قليلا من عناء القيادة
وبالفعل تبادلنا الأماكن, ومع كل نقطة تفتيش جديدة كان الوقت يمضي بطيئا ثقيلا قلقا, وياسر صامت شارد يحاول أن يسيطر على قلقه بالدعاء والاستغفار
كانت ليلة في غاية الغرابة, فأنا وياسر معا على الطريق لساعات طويلة دون أن نتبادل كلمة أو حوار أو حتى سؤال
بل أنه لا يكاد يستقر في السيارة فبمجرد أن تتوقف عند احدى نقاط التفتيش فهو يغادرها ويبقى خارجها الى أن نعود للتحرك من جديد, كان يبدو لي وقتها وكأنما يحمل هما فوق طاقته
توقف فجأة على جانب الطريق, وعندما سـألته عن السبب, قال باقتضاب : على أن أصلى الفجر
أخرج من حقيبته سجادة صلاة صغيرة وزجاجة ماء وبدأ يتوضأ منها
لم أستطع أن أقف بعيدة طويلا, فتقدمت منه وأخذت الزجاجة التى وضعها فوق السيارة وبدأت أسكب له الماء على كفيه لأساعده على الوضوء
فوجئ تماما بتصرفي وبقي متجمدا للحظات, وظهر الإستنكار الشديد على وجهه
ولكني خفضت عيناى ولم أظهر له أننى أبالى باعتراضه الصامت
فعاد للوضوء بصمت
نعم,لم أسأله أو أستأذنه قبل أن أفعل هذا
فأنا أعرف الإجابة مسبقا, سيرفض بالتأكيد ويقول لي ككل مرة : استطيع الاهتمام بشئوني بنفسي
لم أكن لأجرؤ على فعل ما أفعله مع أى رجل آخر
ولكن مع ياسر شعورى بالأمان لا حدود له وتتحول تصرفاتي الى التلقائية الشديدة
فأجد نفسي دون وعي أو احتراز أو حساب لأى شيء أتصرف وأتحدث بتلقائية وسجية غريبة
انتهى من الوضوء وحدد مكان القبلة كما لو كان يعرف المكان جيدا
انتظرته حتى بدأ الصلاة وأخذت النصف الباقي في زجاجة المياة وتوضأت به بسرعة, ثم أخذت الوشاح الكبير من درج السيارة وصليت خلفه بعد أن سبقني بركعة
أنهيت صلاتي ووجدته يقف بعيدا وظهره لي, اقتربت منه وبمجرد أن شعر بي حتى التفت وقال وهو يبتسم ابتسامة صافية : فلنكمل الطريق
عدنا الى السيارة وأخذ هو يتمتم بالتسابيح والأذكار بهمس وبدأت في تقليده من جديد
استغرقنا وقتا طويلا للغاية في الطريق, ومع كل نقطة تفتيش نتجاوزها كان الأمل يزداد ويكبر, حتى أشرقت الشمس
لم أصدق نفسي عندما سمعت صوت ياسر ينطق بأول كلمة منذ وقت طويل ويقول بعاطفة : العريش
التفت له بدهشة لأفاجأ بابتسامة حالمة زينت وجهه
رغم أنه لم يلتفت الى ولم تترك عيناه الطريق لكنى لم أستطع أن أبعد عيناى عن ابتسامته, كانت ابتسامة نادرة بحق, لم تكن فقط ابتسامة بل هى تحمل في طياتها مشاعر جياشة وعاطفة غامرة
لم أرى ياسر يوما على هذه الصورة
أصدق تماما أن سعادتي ما كانت لتصل أبدا لهذه الدرجة لو كنت اجتزت هذا الطريق مع القافلة
لقد غير ياسر كل شيء
أكاد أقسم أنه لولا وجوده ما كنت تحملت تلك الليلة الطويلة العصيبة
بل ربما كنت عدت مع أول عائق عند كوبرى السلام, لكن الأمر مختلف هذه المرة ومع شخص مميز للغاية
كانت ابتسامته تشرق في وجهه كما تشرق الشمس في ساعات الصباح الأولى ونحن نعبر بجوار لافتة مرحبا بكم في العريش
وكأن تلك اللافتة كتبت خصيصا لأجلنا
أخيرا بدأ ينطق بعد ساعات صمت الليل الطويلة, وقال بمرح دون أن يحول عيناه عن الطريق : أهذه هي أول زيارة لكى للعريش؟
قلت بسعادة : بلى, أول مرة أدخلها, زرت محافظات كثيرة غيرها, ولكنها أول محافظة أشعر بكل هذه السعادة لمجرد أن دخلتها
ومع شروق الشمس, انه أمل جديد
أخذت أنظر للطريق, عجبا مع ساعات الصباح الباكر أرى زحاما كبيرا
بشر كثر على جانبي الطريق وزحام من سيارات, بشر يحملون أشياء كثيرة, صناديق ومتاع وحقائب
قال ضاحكا وهو يهز رأسه : لقد قضت العريش ليلة لا تنسى!!
أنا أيضا لم أكن أصدق ما يحدث, كما لم أكن أحلم يوما أن أرى ابتسامته المتلألئة ولا لمعة السعادة الغامرة التى تشرق في عينيه
لكنى فجأة انتبهت على صوته : الله أكبر, أعتقد أن السيارة لن تكمل معنا الطريق
جرت عيناى الى عداد البنزين وأصابني فجأة الاحباط
لكن العجيب أن ياسر لم تتأثر سعادته الغامرة, بل قال بمرح كبير : لا مشكلة سنكمل على أقدامنا
أوقف السيارة على جانب الطريق وأخرج حقيبته وأحكم اغلاقها وأعطاني المفاتيح
سألته بقلق : ولكن, ألا يمكن أن يسرقها أحد؟
قال باسما بثقة : لا تقلقي, لن يحدث لها شيء بإذن الله
غمرتني ثقته ومحت أى أثر للقلق
تبعت خطواته الواسعة قفزا بحذائي الرياضي, وهواء الصباح البارد يلفنا, ولكن الحماسة والسعادة والنشوى تدفئ قلوبنا, كما أن زحام كبير ابتلعنا وشعرت وكأنني أسير في العتبة أو الموسكي ليلة العيد
أو كأنني أصلي في ميدان عمرو بن العاص ليلة 27 رمضان
نعم ان الشعور الداخلي للإنسان لا يفرق بين مكان ومكان أو بين ليل أو نهار
فهى نفسها تلك النشوى والعاطفة والحب الفياض, وكأننى أعيش اللحظة ذاتها رغم اختلاف الزمان والمكان وحتى الجو
ولكن تبقى المشاعر واحدة في داخلنا
من وقت لآخر كنت أنظر لياسر, لم يكن يسير, بل كان يطير على أجنحة السعادة
وأخذت أتأمل الناس في الزحام
نعم كما لو كنا ليلة عيد حيث ينهمر الناس على الأسواق, لقضاء احتياجاتهم وشراء ما يلزمهم للعيد
وكأنني بالفعل في العيد
انه ذلك الصخب والثرثرة وصراخ الأطفال ومرحهم, الكل يسير في كل اتجاه, وهناك ترى كل أنواع الركائب من سيارات ودراجات نارية وعربات تجرها الحيوانات بل وجميع الحيوانات من خراف وعجول وغيرها
خشيت أن أبتعد عن ياسر وأتوه في الزحام بعيدا عنه, فبقيت قريبا منه
فجأة سمعت بعض سائقي سيارات الأجرة ينادون بعالي الصوت : غزة, غزة
نظرت نحو السائق بدهشة كبيرة, ثم التفت الى ياسر وقلت بعجب : لا يمكن أن تكون هذه السيارة متجهة الى غزة بالفعل
ضحك بسعادة وقال : وما المانع؟ لقد فتحت الحدود أخيرا
وكأنما انتقلت الى مشاعره, فوجدت السعادة تغمرني وأنا أتأمل في وجوه الناس الفرحة من حولي
انها مشاعر لا يمكن أن توصف
مشاعر لم أشعر بها ابدا في حياتي من قبل, وأنا أتذكر أن هؤلاء البشر حرموا من كل مقومات الحياة لشهور طويلة
حرموا من الأشياء البسيطة التى تحيي الإنسان
بل حرموا أن يعيشوا بشرا
والآن يستعيدون بعضا ولو قليلا من حقهم في الحياة
تأملت واجهات عرض المحلات والدكاكين التى خلت من البضاعة المعروضة, حتى توقفت أمام احدى الصيدليات التى لم يعد فى واجهة عرضها الزجاجية ولو دواء واحد
وتذكرت الحافلات وسيارات النقل التى تحمل البضائع والطعام والدواء وهى قابعة عند كوبري السلام, وأدركت بوضوح لم لم تقوم اللجنة بتسيير قافلة سريعة الى غزة في هذا اليوم؟
فهمت الآن فقط كيف سمح لنا باستكمال الطريق والوصول الى هنا
لأننا لم نكن نحمل شيئا, لا بضائع ولا مساعدات ولا شيء
لقد بدأت العريش تخلو من البضائع بعد أن اشتراها أهل غزة بأموالهم, ترى هل لا زالت الأسعار على حالها؟!!
أتاني صوت ياسر يناديني ليوقظني من أفكاري, فاتجهت اليه وأعطاني سترته الجلدية قائلا : هل تسمحين؟
أخذت السترة وقال هو : سأغيب فقط دقائق, سأشترى بعض الحاجيات
هززت رأسي بصمت وراقبته وهو يختفي داخل محل مزدحم بالبشر, وسمعت من خلفي صوت مجموعة تتحدث مع بعضها البعض وهم سائرين, واستفزني للغاية ما سمعته, فقد كان أحدهم يقول بسخط : اشتريت كيلو سكر بخمسة وعشرون جنيها
قال الثاني : وليتني وجدته بهذا السعر, لقد اختفي بعد أقل من ساعة
ومن جديد عدت الى أفكارى, أهل غزة يشترون البضائع بأضعاف ثمنها ورغم هذا لا يجدونها, لقد أصبحت العريش هي الأخرى منطقة محاصرة, وغلو البضائع يعنى ندرتها
والبضائع هناك مكدسة فى سيارات النقل عند كوبرى السلام, اذا...!!
عاد ياسر ليقطع أفكارى من جديد وهو يمد يده الى بحقيبة بلاستيكية صغيرة بها بعض المعلبات والبسكويت, ويقول بأسف : معذرة, هذا هو ما تبقي في المحل, تناولت منه الحقيبة وأنا شاردة في أفكاري, ثم تبعته الى احدى سيارات الأجرة المتجهة الى رفح, وجلست في المقعد الخلفي وأخذت أراقب ياسر الجالس في المقعد المجاور للسائق, كان شاردا من الفرح يتأمل كل ما حوله من النافذة ويستنشق الهواء بعمق, يشمه ويتذوقه
حاولت أن أفعل مثله وأغلب السعادة على القلق الذى عشش بداخلي
أظنه هواء بطعم الانتصار, لم يستطع أحد أن يكسر الحصار, لكن غزة استطاعت بعد أن كانت على شفا الاحتضار
انتصرت ارادة الحياة والبقاء
شعرت فجأة أنني جزء من تلك اللوحة الرائعة, بل شريكة فيما يحدث الآن
وصلنا الى رفح وكان علينا السير عدة كيلو مترات حتى نصل الى السور الحدودي
وكان ياسر يستحث السير بعجلة وفرحة وكنت أنا ألاحقه جريا في خطواته الواسعة
وقف فجأة وتوقفت أنا بدورى أنظر اليه ووجدت تعبيرا غريبا على وجهه لا أستطيع أن أصفه, كان دهشة وفرح وذهول وسعادة متمازجة بشكل عجيب وهو ينظر نحو البوابة الحدودية المفتوحة وكأنما لا يصدق نفسه
قلت وأنا ألهث : لم توقفت؟ هيا لنجتاز البوابة
التفت الى فجأة وعيناه تلمعان بحماس وقال : أميرة, على أن أنجز بعض الأمور الهامة, سأتركك هنا و...
هتفت بدهشة وارتباك : تتركني!! لم؟ وكيف؟
ألن, ألن نبقى سويا ونعود معا؟؟
صمت قليلا وكأنما يفكر ثم قال : أعطيني مفاتيح سيارتك
قلت بدهشة : ولكن هل..
هتف فجأة : أعطينيها دون نقاش
قلت بارتباك وأنا أمد يدي اليه بالمفاتيح : ولكن أريد أن أفهم...
قال بثقة : فقط ثقي بي
يجب أن أرحل الآن
هتفت بضيق : ياسر لا يمكن أن تتركني وحدي, فأنا هنا غريبة تماما
نظر الى, لا يمكن أن أصدق, بالتأكيد يهيوء لي
لا يمكن أن يكون ما أراه في عينيه صحيحا
كانت في عينيه نظرة حنان غامرة وابتسامته الواسعة تزين شفتيه وهو يقول بلهجة مطمئنة : أنت هنا لست وحيدة, أنت مواطنة مصرية على أرض مصرية, وبمجرد ابراز هويتك ستعودين الى بيتك في أى وقت تريدينه
لا تقلقي من أى شيء, انظرى لما حولك
لا تنسي في أى لحظة أنك صحفية, تأملي في وجوه هؤلاء البشر, فخلف كل وجه قصة
أريد منك تحقيقا لا مثيل له
كنت أنظر اليه مشدوهة لا أستطيع أن أحول عيني عن وجهه أو حتى أتكلم
كنت كالمنومة مغناطيسيا, فكلماته الواثقة القوية تنفذ الى خلاياي وتسيطر على عقلي
نظر خلفي وقال باسما : انظرى خلفك وستجدي أنك هنا لست وحيدة أبدا
التفت خلفي أنظر الى حيث ينظر, ورأيت شروق تقف بعيدة تتحدث الى الكاميرا التي يحملها زميلها المصور
قلت باعتراض وأنا أعود لأنظر اليه : كلا, لن أنضم الى شروق وكما أتينا سويا فسنعـ...
فوجئت أنه اختفى من أمامي, فأخذت أتلفت حولي يمينا ويسارا وأنا أناديه بغيظ شديد
لمحته يجرى بعيدا بين الناس ويذوب وسطهم , فناديته بصوت أعلى عله يسمعني ويعود, ولكنه لم يفعل
شعرت باحباط هائل وغضب شديد, وانتبهت فجأة للسترة الجلدية السوداء التى لا زالت بين يدي
فمنذ أن خلعها ياسر عند محل الأطعمة وأعطانيها ونسيت أنها لا زالت معي, وهو أيضا لم يطلب استردادها
ولكن لم أسأل نفسي أبدا لم خلعها؟؟
ان استنتاجا واحدا فقط يطرق ذهني بقوة, وهو أنه ترك لي سترته لأنه شعر أن ملابسي ليست كطافية لتقيني لسعات البرد
أتعجب دائما منه ومن تصرفاته وأفعاله, فإن كان الأمر كذلك فلم لم يقدمه لي أمس ونحن على الطريق طوال الليل؟؟!!
هل خجل من هذا التصرف؟؟أو ربما خشي أن أفهم تصرفه بطريقة خاطئة
وربما لأنني كنت أقضي أغلب الوقت داخل السيارة فتحميني من البرد, ولكن الآن السيارة ليست معي
يا الهي!! ما الذي يمكن أن أفعله معك أيها الفارس النبيل؟؟
لا, النبيل هنا ليست اللفظ المناسب, انه فارس خجول
هو يعلم أني بحاجة لشيء يدفئني, ولكنه لا يستطيع أن يقدمه الى مباشرة
ابتسمت ابتسامة حالمة وأنا أرتدي سترته وغمرني دفء شديد
فجأة سمعت صوت من خلفي يقول : أميرة!! أنت هنا؟
.................................................. .....
يتبع...................................