مرت أيام وصفعتني مفاجأة جديدة لا تقل قوة عن مفاجأتي أن أخي الوحيد سيهرب خارج بلاده مع أجنبية
فتحت الجريدة لأقرأ التحقيق الجديد لياسر لأفاجأ بأنه عن شركة الاستيراد التي تستورد القمح الروسي والذي يستخدم في صنع الخبز المدعم
استشطت غضبا, فما كنت أتصور أن ياسر يفعل هذا!!
أخذت الجريدة ووقفت أمامه وهو جالس خلف مكتبه وقلت بغضب : ياسر, ما هذا التحقيق الذي نشر لك اليوم!!
قال بهدوء : هل أعجبك؟
قلت بغضب : أتجرؤ أن تسألني أنا هذا السؤال!!
التفت الى بدهشة كبيرة وقال : ما هذه اللهجة التي تتحدثين بها؟!!
قلت بعصبية : ما كنت أعتقد أبدا أن تفعل هذا
أنت, أنت بالذات ما كنت أنتظر منه هذا!
قال بحدة وقد بدأ يغضب : مهلا, مهلا, أوضحي ماذا تعني بكلماتك
قلت وقد أعماني الغضب : أتدعي البراءة!!
انتفض من كرسيه وهتف بطريقة هزتني من الداخل : كفى, لن أسمح لك بكلمة أخرى
نعم
شروق محقة, إن لديه هيبة عجيبة حقا
لأول مرة يخرس لساني أمام انسان وأنا موقنة أنه أخطأ في حقي
لكن ياسر مختلف, حقا مختلف عن أى انسان قابلته في حياتي
كانت عيناه تشتعلان بالغضب من كلماتي
غضب مخيف, يبدو أنني تماديت كثيرا
ابتلعت ريقي وحاولت أن أسترد رباطة جأشي أمامه وأنا أقول : هذا التحقيق كان من المفترض أن أقوم به أنا
قال متهكما : لم!! أهو احتكار أم أن اسمك قد كتب عليه!!
قلت بعصبية : لا تستفزني بكلماتك
قال بحزم : وأنت التزمي حدود الأدب معي, فلن أتقبل أسلوبك هذا أبدا
تدخل أستاذ فؤاد بسرعة : توقفا أنتما الاثنان, لا يجوز أن تتراشقا هكذا بالألفاظ, تذكرا أنكما زملاء
قلت بغضب : انه لم يراعي أصول الزمالة معي
قال بغضب : اسمعيني جيدا, اما أن تقولي ما لديك مباشرة, أو تسكتي
قال أستاذ فؤاد : ما الذي جرى لكل هذا يا أميرة؟
قلت بضيق : الموضوع الذي أعمل عليه من مدة طويلة, موضوع شركة استيراد القمح الذي عرضته على زكى ووافق أن أقوم به, وتعبت كثيرا في جمع المعلومات عنه, وكنت أعد سلسلة من التحقيقات القوية
وأفاجئ اليوم بأن الأستاذ سبقني ونشره
قال ياسر بغضب : قبل أن تتهميني, اعلمي أنه لا معلومات لدي عما تقولينه الآن
قال أستاذ فؤاد : لا تتسرعي, لم لا تسألين زكي أولا؟
رفعت حاجبي الأيمن والغيظ يأكلني : حسنا, سنرى
خرجت من المكتب بخطوات غاضبة متجهة الى مكتب زكي, اقتحمت المكتب فقال بدهشة : كيف تدخلين المكتب بهذه الطريقة!!
هتفت : وكيف تفعل بي هذا!!
أسند ظهره للكرسي وقال ببرود : آه, فهمت
قلت : لقد سرقت عرقي وجهدي, وبعد أن أعطيتني موافقتك للعمل الجاد في هذا التحقيق
ألديك فكرة كم تعبت في جمع المعلومات حول هذا الموضوع!!
قال بابتسامة مستفزة : ولكنك تأخرتي
قلت باستنكار : تأخرت!! كيف تقول هذا!!
قال : ظننت أننى سأحصل على التحقيق سريعا, ولكنك سافرت الى العريش
هتفت بغيظ : انه يوم واحد فقط
أتعاقبني على سفري للعريش!! لقد قدمت لك تحقيقا لم تكن لتحلم به
قال : هذا صحيح, لقد كسبت الجريدة تحقيقك الرائع, وفي نفس الوقت خسرت مقالات ياسر, وكان على أن...
لم أدعه يكمل : الموضوع كان لي من البداية, وأنت وافقت عليه, فما دخل ياسر بالأمر؟
أتجامله على حسابي!!
قال : ياسر قدم تحقيقا رائعا وفي زمن قياسي, وأنت تأخرتي
صمت تماما أمام تلك الكلمات العجيبة, وأنا أحاول أن أعمل عقلي لأفهم ما الذي يريده زكي بالضبط
قال بمهادنة : لا تغضبي, أرجوكي, أعدك ألا يتكرر هذا الأمر ثانية, ولن...
قلت بلهجة مهددة : أنت تحاول الإيقاع بيني وبين ياسر, لقد جعلت الأمر كما لو كان سباقا بيني وبينه, دون حتى أن ندري بذلك, لقد استغفلتنا, وأشعلت نيران المنافسة بيننا
قال مدافعا : أنت لم...
هتفت بعنف : أنت لا يهمك سوى الإثارة والتوزيع والسبق الصحفي, لا يهمك أن تتحول غرف الجريدة الى بؤر للمنافسة الحارقة, وبدلا من التعاون تحترق بنيران الغيرة بين الزملاء
عجبا, لم تكن هذه هي السياسة التي تتبعها قبلا!!
آسفة, لا يمكنني الاستمرار في جو كهذا
تسابقت أقدامي خارجة من تلك الغرفة الخانقة وأنا أسمعه يهتف من خلفي : أميرة, انتظري, فلنتفاهم
عدت الى المكتب وأنا لا أرى شيء أمامي سوى الغضب, ولم ألتفت لأى انسان في المكان ولا حتى لشيرين التي هتفت : أميرة, ماذا فعلتي مع زكي؟
جمعت أشيائي بسرعة وأفرغت درج مكتبي بعصبية, وأستاذ فؤاد وشيرين يحاولان فهم أى شيء مني, ولكني قلت باختصار : زكي لا يمكن أن يكون مديرا محترما, ان ما فعله شيء لا يمكن احتماله
قال كمال ساخرا : لم تأتي بجديد
فجأة قال ياسر وهو واقف أمام مكتبي مباشرة : ترك الجريدة لن يحل المشكلة, عليكي البقاء ومواجهة المشكلة
فوجئت بكلماته وتجمدت في مكاني ونظرت اليه بصمت, فقد كان الخجل يغمرني, حاولت أن أقول له أى شيء, أى شيء لكنني لم أستطع, فحملت أغراضي وكدت أخرج من الباب, لكنه اعترض طريقي, وقال بحزم : يجب أن تفهمي أنك لن ترحلي من هنا بهذه الطريقة, ولن أكون سببا في تركك للجريدة
ابتلعت ريقي ونظرت اليه وأنا أستجمع أكبر قدر لدي من شجاعة الاعتذار وأنا أقول : ياسر, أنا. أنا آسفة حقا, عن كل ما قلته
زكي يريد الايقاع بيننا, يريد أن يحولنا الى متنافسين, لهذا كلفك بنفس الموضوع الذي كلفني به وانتظر أسبقنا اليه لينشرله
ما آسف له حقا هو أنني ما كان يجب أن أشك لحظة في نزاهتك
قال بهدوء : أخبرتك من قبل أنه ما من مكان في هذا الكون مكتمل, كل ما نستطيعه هو وزن العيوب والمميزات
صدقيني, لو تركتي عملك فستتعبين كثيرا للحصول على غيره
قلت : شكرا لنصيحتك, لكن الأمر بالنسبة لي منتهي
غادرت المكان وأنا أحترق غضبا, ومرت على عقلي كلمات ياسر, انه محق, أعلم جيدا أنني لن أجد عمل آخر بهذه السهولة وإن وجدت فلن يكون على نفس المستوى
لكن ما حدث لا يمكن أن أسكت عنه
في اليوم التالي كنت في النادي مع صديقي الوفي.. أصيل
ركوب الخيل هو الشيء الوحيد الذي يشعرني بالراحة, ويخفف عني الغضب والتوتر
كنت عصبية للغاية وأنا أجرى به في المضمار, لا أنكر أن أصيل صديقي تحملني وتحمل غضبي وضغطي عليه
بل كنت أقسو عليه وهو يحاول حمايتي
فهذا المخلوق الراقي له عقل وقلب ويفهم ويشعر كما البشر
لذلك فإن وجوده بجانبي يشعرني بأمان كبير وايناس
لم أنزل من على ظهره الا عندما شعرت بالتعب, وبعدها جلست الى احدى الطاولات التي لها مظلة في الحديقة, وتناولت عصير البرتقال وأنا أنظر الى ما حولي من خلف نظاراتي الشمسية بلا تركيز
سمعت رنة هاتفي المحمول, كان أستاذ فؤاد الذي قال مباشرة : مرحبا أميرة, أين أنت الان؟
قلت بلا حماس : مرحبا أستاذ فؤاد, أهناك شيء؟
قال : هل أنت في البيت؟
تعجبت من سؤاله وقلت : كلا, أنا في النادي
هتف بحماس : رائع, انتظريني سأكون عندك بعد قليل أنا وياسر
هتفت بذهول : ياسر!!!
استثارتني كلمة ياسر بقوة, وصمت قليلا مفكرة, فقال أستاذ فؤاد : أأنت معي؟
ارتفع حاجبي الأيمن تلقائيا وقلت : سأبلغ الأمن عند البوابة لتدخلا بسهولة, وسأنتظركما عند مضمار الخيل
قال : جميل, ونحن في الطريق
أغلقت هاتفي والاثارة تغمرني, أسرعت الى السائس وطلبت منه أن يعد أصيل, ثم أخذت أعدل من مظهري وأطمئن الى أناقة ملابسي, وأخذت أتحسس شعري المربوط على شكل ذيل حصان وأحكمت قبعتي الرياضية البيضاء حول رأسي
عندما أمسكت بلجامه بين أصابعي, وأخذت أربت على عنقه وجبينه أخذ يهز رأسه وكأنما يسألني عما غير مزاجي, فهمست في أذنه : اليوم سأعرفك الى صديقي, نعم, هو صديقي حتى ولو لم يرغب في صداقتي, يكفي أنني أعتبره كذلك
فكرت قليلا ثم قلت بحزم : هناك صديق آخر يجب أن يراه ويتعرف اليه
أخرجت هاتفي المحمول من جيبي واتصلت بيحيى وكالعادة اعتذر وتحجج بالعمل, لكني مارست عليه أشد أساليب الضغط والتهديد, حتى استسلم أخيرا ووعدني أنه سيأتي حالا
أخذت أترقب وصولهما بشغف والاثارة تملؤني وقلبي يدق بشدة وأنا فوق حصاني
حتى رأيته قادما من بعيد فأخذت أختال بحصاني يمينا ويسارا وأدرت وجهي وكأنني لم أره, وبدأت في الاستعراض فأخذت أسرع بالحصان وأقوم بالحركات الصعبة, وعندما اقتربا من المضمار ناداني أستاذ فؤاد بصوت عالى
التفت نحوهما ولوحت بذراعي وأنا أهتف : مرحبا, سأنتهي حالا وأنضم اليكما
ضغطت أسناني بغيظ وأنا أقول لنفسي : ويل لك مما سأفعله بك إن لم تأتي الان يا يحيى
كنت أستعرض مهاراتي مع الحصان ثم التفت نحوهما ولكم أغرقني الغيظ عندما وجدت ياسر قد أدار ظهره لي واندمج في الحديث مع أستاذ فؤاد, فضلا عن تلك النظارة السوداء التى استبدل بها نظاراته الطبية التى يلبسها باستمرار
كان الغيظ يأكلني وأنا أراه لا يلتفت حتى لي, كانا يقفان خارج المضمار بالقرب من أحد الحواجز العالية, فانطلقت بالحصان بأقصى سرعة نحو الحاجز وقفزت من فوقه مما أفزع أستاذ فؤاد الذي هتف : هاى, اهدئي قليلا أفزعتينا
التففت بالحصان نحوهما, وعدلت قبعتي الرياضية فوق جبيني
أخيرا التفت ياسر نحوى
بداية طيبة عندما ينظر الى حصاني تجعلني أأمل أن ينظر يوما ما لمن فوقه
نعم, أنا متأكدة أنه ينظر الى الحصان رغم أنه يخفي عيناه خلف تلك النظارة السوداء السخيفة
قال أستاذ فؤاد مازحا : أتسمح الفارسة القديرة بالنزول قليلا عن حصانها لنحصل منها على حديث صحفي
قلت باسمة : حالا سأكون معكما
أدار ياسر وجهه الى جهة أخرى
أعلم أنه لا يصوب نظراته نحوى أبدا, ورغم أن تلك العادة تدل - كما علمني أبي - على مدى تمتع صاحبها بالاحترام والتهذيب, الا أنني شعرت بالغيظ الشديد من لا مبالاته وعدم التفاته لي
في بعض الأحيان يكون الانسان مهذبا أكثر من اللازم!!
قلت أستفزه لينظر لي : مرحبا ياسر, كيف حالك؟
فشلت خطتي فقد رد على دون أن ينظر نحوى : الحمد لله
أخيرا , سمعت صوت يحيى يناديني, ولوحت له بسعادة : يحيى, مرحبا, تعالى
نزلت عن حصاني وانضممت لهما ولم تمضي لحظات حتى اقترب يحيى منا وصافحته بحرارة : كيف حالك, ألا يمكن أن أراك الا مصادفة؟
قال مازحا : لا يحق لك لومي فالصحافة هى التي أخذتك منا
قدمتهما اليه قائلة : أستاذ فؤاد, تعرفه بالطبع, وياسر زميلي في المكتب
راقبتهما وهما يتصافحان وقلت : يحيى, صديقي العزيز
لا شك أن هدوءه وجمود ملامحه سوف يصيبني بالجنون
منذ أن جلسنا نحن الأربعة حول طاولة مظللة في الحديقة ولم تخرج من فمه كلمة واحدة, يا له من رجل!! حتى الجدية والتحفظ في مكان مثل هذا!!
تكلم الأستاذ فؤاد كثيرا عما حدث في الجريدة وعن زكي, ولكن ما استفزني حقا أن كلمة (ياسر) تخللت حديثه الطويل بعدد لا يحصى من المرات
ياسر قال.. ياسر فعل.. ياسر ينصح.. ياسر لا دخل له...
والمذكور في الحديث لم ينطق بربع كلمة ولم يعبر عن نفسه أو يقول أى شيء
وكانت الجلسة للترضية, وتدخل يحيى في الحديث وطلب أن يسمع القصة كلها وحكى له أستاذ فؤاد, وأنا صامته أتأمل ياسر من خلف نظارتي الشمسية وأنا متأكدة أنه لا ينظر نحوي ولو حتى خلسة, فهذه هي أخلاقه كما أعرفها, كما أنه يمم وجهه نحو أستاذ فؤاد ويحيى
رن هاتف أستاذ فؤاد, فتحه وابتسم ابتسامة واسعة وهو يقول : مرحى
ثم صمت قليلا, وبعدها قال : هذا رائع, نحن هنا في النادي, حسنا, سننتظرك
أغلق هاتفه وأنا أشك في شخصية المتحدث, حتى أعلنها وأكد لي ظنوني : زكي قادم الآن
قلت بعصبية : زكي!!
وما الذي يريده؟ أنا لن أعود للعمل في الجريدة, هذا قرار نهائي
هتف يحيى : الأمر لا يستحق كل هذا الانفعال, فما أكثر ما نواجهه من مقالب ومشكلات في مجالات العمل المختلفة, وما أكثر المواقف السخيفة التي ستقابلينها في عملك, لو كل موقف صدرتي له عنادك وغضبك فلن تبقي في عمل واحد أكثر من أسبوع
وصل زكي وتنحنح بإحراج وبدأ يقدم الاعتذارات أمام الجميع
قلت بلوم : لقد جعلتني أظن السوء في ياسر وأخطئ في حقه
قال باسما وهو يلقي بنظرة خاصة نحو ياسر : وهو لم يقصر, لقد ترك استقالته على مكتبي وهددني إن تركتي العمل في الجريدة فسيتركه هو أيضا, إنه مستقيم للغاية وصاحب مبدأ
هتف أستاذ فؤاد لياسر : ماذا!!! لم لم تخبرني بذلك؟!
اعتدلت فجأة وقلت بذهول : أفعلت هذا حقا!!! لماذا؟! كنت تنصحنى ألا أترك العمل والا فسأتعب كثيرا حتى أحصل على غيره
لأول مرة يتكلم ياسر منذ أن جلسنا في هذا المكان, قال بهدوء : أخبرتك من قبل أنني أبدا لن أكون سببا في تركك للجريدة
صمت تماما أتأمل ذلك الكائن الغريب الذي لا أدري أى شهاب أو نيزك ألقى به على أرضنا هذه
لفترة طويلة كنت أعتقد أن ذلك النوع من البشر قد انقرض, أو في طريقه للإنقراض
دائما ما يسبقني بخطوة, فعندما غادرت الجريدة غاضبة لم أفكر كيف سأرسل لهم باستقالتي, ربما بالفاكس, أو أعطيها لأستاذ فؤاد, لم أهتم بالتفكير في هذه النقطة
أما ياسر فقد كتب استقالته وقدمها بالفعل
لأى شيء؟ لأجلي, لأجلي أنا, لأجل أن أظل في الجريدة!!
بل إنه لم يحادث أحدا بما فعله سوى زكي, لم يخبر حتى أستاذ فؤاد الذي رافقه طوال الطريق
ما هذا الرجل!! ما هذه الشخصية العجيبة المملوءة بالقوة والحزم!! ودون ضجة أو ثرثرة أو اعلانات أو استعراضات!!!
هل يمكن أن أطلق عليه رجل المواقف والأفعال وليس الكلمات
ولكن ما أقرأه له على صفحات الجريدة ليست كلمات بل طلقات رصاص , فأسلوبه كما قلت سابقا قوى للغاية ومؤثر
إن ذلك الضغط الذي مارسه على زكي جعله يقدم على خطوة ما توقعتها أبدا منه, لقد أتى بنفسه ليعتذر لي
بالتأكيد لا يمكنه أن يتحمل أن تخسر الجريدة ياسر وأنا في نفس الوقت
قال زكي بلهجة اعتذار : إن كان هذا الموقف قد أصابك بكل هذا الضيق, فأعدك ألا يتكرر ثانية, وأنا..
لم أستمع لأغلب كلامه, فقد كنت أتأمل ياسر من خلف نظاراتي
لا أستطيع أن أستوعب أننا حتى الآن لسنا أصدقاء!
كيف أستطيع التغلب على تلك الفكرة التي في رأسه!
كيف يمكنني أن أكسر ذلك الحجر الذي وضعه بيننا!!
إن رفضه لفكرة صداقتنا تثير جنوني, كيف يمكن أن أجعله يثق بي وبأخلاقي مثلما أوليته ثقتي التامة
بل إن شعورى بالثقة والاحترام نحوه فرض علي فرضا
انتهت الجلسة برجوعي الى العمل وتمزيق زكي لإستقالة ياسر أمامنا جميعا, وصافحهم يحيى جميعا, وكذلك أنا, ولكن عند ياسر ومددت اليه كفي قائلة بمكر : مع السلامة, أراك غدا في الجريدة
لم يرفع يده ليصافحني كما كنت أتوقع, بل تجمد تماما أمام ما فعلته
فقلت بخبث شديد ويحيى بجواري يراقب : آه, نسيت أنك لا تصافح النساء
أعلم أن ما فعلته من باب الخبث والمكر
ولكن كان على أن أفهم يحيى كل شيء عن ياسر وكيف يفكر ليعطيني رأيه وانطباعاته عنه بصورة صحيحة, وأعلم أن الرسالة وصلت يحيى بدقة
رحل الجميع ووقفت بجوار يحيى أراقب ياسر وهو يبتعد وكأنني لا أرى سواه, حتى أيقظني يحيى بضربة خفيفة على كتفي وقال بصوت اتضح فيه الغضب : هل يمكن أن تشرحي لي ما يحدث هنا؟
ما هذا الذي أحضرتني الى هنا لأراه؟
قلت بحماس : ها, ما رأيك؟ أليس رائعا؟
أرأيت كيف أجبر زكي أن يأتي الى ؟
قال بغيظ : لقد جننتي!!
لا يمكن أن تكوني معجبة بذلك الشخص ذو الأفكار المنغلقة؟
قلت باستنكار : اذا فأنت لم تقرأ شيئا مما كتبه؟
قال : لا يمكن أن تكون فتاة مثقفة ومتفتحة مثلك, وتعجب بشاب من هذه النوعية!!
قلت معترضة : مهلا مهلا, وما المانع؟
أنت لا تعرف كم هو رائع وذو شخصية قوية ومحبوب من الجميع, إنه ليس كما تظنه
أو بمعنى آخر, ليس كما تصوره السينما والتليفزيون منغلق متخلف جاهل مقزز حافي يتقعر في الكلام, ولا يفهم شيئا في الحياة
إنه مختلف كلية عن تلك الصورة الكاريكاتيرية التي نراها على الشاشات, فهو مثقف للغاية وذو أفق واسع وجم التهذيب واجتماعي
حتى كمال التافه السخيف زير النساء يحترمه ويقدره بل ويمزح معه أحيانا كثيرة
أرأيت بنفسك كيف أن أستاذ فؤاد الذي يكبره بأكثر من ضعف عمره مبهور به وبشخصيته وبكلامه؟
عاد اليه الهدوء فجأة, وعندها فهمت أنه يعد لخوض معركة طويلة في اقناعي كما كان يفعل معي دائما وأنا صغيرة
قال بهدوء : سأفترض معك أن كلامك صحيح, وأنك معجبة به وترغبين في التقرب اليه
هل تعتقدي أنه هو أيضا لديه نفس الرغبة؟ أو حتى يستطيع الاقتراب منك؟
هل فكرتي لحظة واحدة كيف ينظر اليك وكيف يفكر فيكي
قلت وأنا رافضة لفكرته التي اتضحت فجأة أمام عيناي : ماذا تعني؟
قال بأسف : أعتذر عما ستسمعينه مني, ولكني أحب أن تسمعينه مني أنا لا منه هو
فأنت تدركين كم أحبك وأخاف عليكي وعلى مشاعرك أن تجرح لأى شيء ومن أى شخص مهما كان
إن هذا النوع من الرجال يا ابنة أختي الحبيبة يراك فتاة متحررة لا يمكن السيطرة عليها أو تحويلها لتابع له يواريه في بيته ويشكله حسب أفكاره ومعتقداته, لذلك فأنت أبعد ما يكون عن تفكيره
يجب أن تصدقيني, فأنا أفهم ذلك النوع جيدا
فهو لا يمكن أن ينظر الا لفتاة تتوافق عقليتها وتصرفاتها (وملابسها) مع أفكاره
فهمت تماما ما يعنيه وهو يضغط حروف كلمة ملابسها, وقلت بتوجس وأنا أشير الى وجهي في دائرة : أتعني...
قال بصراحة : بلى, فتاة ترتدي الحجاب ولا تختلط بالرجال
قلت باعتراض : لكن كل هذه شكليات لا تعبر عن الجوهر الحقيقي للإنسان
قال : مع الأسف, قد تكون تلك الشكليات أهم عند ذلك النوع من العقليات من الجوهر نفسه
كنت محبطة تماما من كلام يحيى, لا شك أنه أثر بي تأثيرا كبيرا
أيمكن أن يكون ياسر بهذه العقلية المنغلقة!! أيمكن أن يكون مظهري الخارجي هو الحائل بيني وبينه!!
كانت تلك الفكرة تحرقني من داخلي وتقض آمالي, وتهزم ثقتي بنفسي
فهى تعني أن ياسر ينظر الى كفتاة متحررة
كلا, فلأكن صريحة مع نفسي وأختار التعبير الأصح, (فتاة منحلة) تعرض صداقتها على الرجال وتضع الزينة وتكشف أجزاء من جسمها
نفضت رأسي بقوة محاولة أن أقاوم تلك الفكرة الكئيبة التي سيطرت على
مستحيل أن تكون هذه فكرته عني
مستحيل
فهي فكرة خاطئة تماما
..........................................
يتبع.......................................