طرقات أصابعا الرقيقة تعلن عن نفسها دون حتى أن أسأل من, وسمعت صوتها الهادئ يقول : أميرة, هل أنت مستيقظة؟
قلت مباشرة : أجل يا أمي, تفضلي
دخلت أمي وجلست بجوارى على الفراش وقالت : ما بال أميرتي قلقة في تلك الساعة المتأخرة من الليل!! أهناك ما يشغلك؟
قلت : بلى
نظرت الى الصور التى تعرضها شاشة الكمبيوتر ثم تنهدت بألم : لا حول ولا قوة الا بالله
في حياتي كلها لم أتوقع أن يأتي على يوم وأرى بعيني كيف وصل بنا الحال الى هذه الدونية
طغى التشاؤم والظلام على كل حياتنا حتى أصبحنا نستيقظ كل يوم على عبارة هل من مزيد؟؟
قلت بأسف وأنا أحرك فأرة الكمبيوتر واستدعي مزيدا من الصور والأخبار : هناك دائما أمل في انصلاح الحال
قالت بأسى : الأمل في وجه الله, هو المعطي وهو المانع وهو السميع للمظلومين
الأمر هذه المرة فاق كل الحدود, لم يعد للشباب القدرة على التحمل
الجامعة عندنا تغلى وتفور بالغضب
لم يعد للشباب أى اهتمام بمستقبلهم العلمي أو المهني, كل اهتمامهم هو كيف يعبرون عن غضبهم
قلت بمرارة : أى مستقبل يا أماه ولا أمل لهم في عمل أو زواج أو سكن بعد التخرج!!
تنهدت بحرقة : لله الأمر من قبل ومن بعد, ان ما يقلقني هو ما سيحدث في الجامعة الأيام القادمة, لن يسكت الشباب أبدا
وهذا يعني المزيد من الضغط والمواجهات العنيفة والفصل والإعتقالات
قلت : انه جنون الغضب الذي يغلي في الصدور
ثم أكملت بشرود : وهو أيضا غاضب للغاية
قالت بتساؤل : من تقصدين؟
قلت : ياسر
رددت : ياسر!!
قلت : بلى, انه زميلى بالمكتب
قالت : كنت أسمعك تتحدثين عن فؤاد, شيرين, كمال, لكن هذا الإسم جديد
قلت : بلى, انضم الينا من بضعة أشهر, ولكنه حقق نجاحا كبيرا وصدى واسع في الجريدة
يقول أستاذ فؤاد أن زكي هو الذي عرض عليه العمل في الجريدة بعد أن حقق نجاحا وشهرة لا بأس بها في عدة جرائد ومجلات عمل بها , الحقيقة أنه يستحق أكثر من هذا فأسلوبه في الكتابة من أروع ما قرأت
قالت : أهذا هو ما كنتي تجمعين مقالاته في الدفتر؟
هززت رأسي وعينى على شاشة الكمبيوتر,
ثم سألتها بتردد : أريد أن أعرف رأيك في موضوع يشغلني
قالت باهتمام : وما هو؟
قلت : أتعرفين أستاذ حمدي عضو النقابة؟
قالت : ومن لا يعرفه! تلك الأزمة الأخيرة جعلته شهيرا للغاية
والشباب في الجامعة كثيرا ما يدعونه في الندوات لإلقاء بعض المحاضرات
الحقيقة أن نشاطه كبير وملحوظ
قلت : قابلته عدة مرات في النقابة وكلما رآني يلح على أن أنضم للجنة, أو على الأقل أشارك في فعالياتها وأنشطتها
ولكن, لم يكن لدى الوقت الكافي لذلك
قالت : والآن؟
قلت : والآن.....
قالت تحفزني : والآن ماذا؟
قلت بتردد : أخشى ألا ينجحوا, من الصعب على تقبل أن أكون جزءا من عمل فاشل
قالت بعد تفكير : لو كان كل عمل نعمله شرط فيه النجاح لما بذل الإنسان أى جهد خوفا من الفشل
كلنا نتمنى النجاح في كل عمل نقوم به
لكن الكثير من الأشياء نفعلها بصرف النظر ان كنا سننجح أو نفشل, نفعلها فقط لأنه يتوجب علينا فعلها, وان لم نفعلها فسنحتقر أنفسنا ونسقط فريسة لتأنيب الضمير
قلت بضيق : لكن اللجنة ليس لديها أية فرصة لفعل أى شيء, فكل خطوة تتصدى لها المعوقات وكل باب يطرقونه مغلق في وجوههم بالمزاليج
قالت باسمة : هم يعرفون ذلك جيدا, أليس كذلك؟
قلت : بلى, بالتأكيد
قالت : وهو ليسوا مجانين ولا جهلاء ليبدءوا مشروعا لا أمل ولا فائدة مرجوة منه!
انما يفعلونه فقط معذرة الى الله وبذلا لغاية الجهد, وحتى لا يأتي يوم يلاموا فيه بأنه كان بمقدورهم عمل شيء وتقاعسوا عنه
فالعبرة ليست هنا بالنجاح أو الفشل
انما بمدى ما بذلوه من جهد ومحاولات للوصول الى الهدف
ألا تذكرين كلماتك (اعتدت دائما أن أحاول, نجحت أو فشلت لا يهم)
تنهدت قائلة : يبدو أنني أنسى كثيرا هذه الأيام
قالت باسمة : إن الذكرى تنفع المؤمنين
قلت : ولكن, أشعر أنني لا زلت بحاجة لأن أعرف المزيد عن أنشطتهم
ابتسمت قائلة : تذكرينني بالأيام الخوالي, حينما أردتي الانضمام لفريق الكشافة بالمدرسة لكنك كنت مترددة لأنكي لا تعرفين شيئا عنهم, أتذكرين وقتها بم أجبتك؟
هززت رأسي وأنا أستعيد ذكرى تلك الأيام الجميلة : أجل, قلتي لي لا يمكن أن تعرفي الشيء من خارجه فقط, عليكي أن تفتحي الباب أولا وتشاهدي ما يفعلونه ثم تقرري إن كنتي ستنضمي اليهم أم لا
قالت باسمة : أجل, انها نفس اجابة سؤالك الآن
تعرفي الي اللجنة أولا وشاهدي أنشطتها ثم قرري إن كنتي تريدين الإنضمام لهم أم لا
أشعرتني كلمات أمي بالراحة
ولكن القلق الآخر بداخلي لم يستقر بعد, فقلت بتردد : ولكن أنشطة اللجنة قد تبعدني عن البيت لفترات طويلة
قالت باسمة بفهم : ولا تريدين تركي للوحدة واجترار الآلام, أليس كذلك؟
اطمئني, أنا أيضا لدي عملي بالإضافة الى أنشطة النادي
ومن يعلم, قد تجديني يوما بجوارك في احدي أنشطة اللجنة دون سابق ميعاد أو تنسيق
ارتحت كثيرا لكلمات أمي وبعدها بعدة أيام كنت أوقف سيارتي في شارع فرعي بجوار النقابة بعد أن فقدت الأمل في وجود مكان لسيارتي في موقف السيارات بسبب الزحام , ولأول مرة يدق قلبي وجلا وكأنما أرتاد النقابة لأول مرة
وارتجفت مشاعرى بقوة عندما استقبلتني سلالم النقابة الرئيسية بالشموع المتراصة على الجانبين, فالمعنى واضح ويدمي القلب
وعندما دخلت الى القاعة التى ستعقد فيها الندوة كانت مزدحمة, والنور منطفئ, لكن القاعة لم تكن مظلمة, بل كانت مضاءة بالشموع
شموع في كل مكان وبكل الألوان, ارتجف قلبى بشدة فقد أثار المنظر في نفسي معاني كثيرة وشجون عميقة
وجدت الكوفية الفلسطينية حول أعناق الجميع, وامتلأت جدر القاعة بصور كثيرة وكأنما قد حولوا جدرانها الى معرض للصور
لم أكن أتبينها جيدا على ضوء الشموع, ولكن من السهل أن أستنتج مواضيع هذه الصور وماذا تعني
سلمت على زملائى وزميلاتي من النقابة ومن أعرفهم من الصحف والمجلات الأخرى, رحبوا بي بحفاوة وأخذوا يمزحون معي, والتقيت ابتسام العضوة النشطة في اللجنة, فتاة خفيفة ولذيذة تدخل القلب سريعا, سمراء من أصول نوبية ذات ظل خفيف, استقبلتني بترحاب كبيرة ومودة صادقة وسألتني مباشرة : مرحى, هل غيرت رأيك أخيرا وقررت الانضمام لمجموعة المفترسين؟
ضحكت لخفة ظلها وقلت : لم أقرر ذلك بعد, كما أنني نسيت مخالبي في البيت
قالت ضاحكة : لا بأس, يوما ما ستدخلين القفص بقدميك
كلمة في أذنك, مسموح هنا باللسان السليط, وربما أعيرك بعض الأنياب أيضا
مع ابتسام دائما ما أشعر بألفة تزيل توتري وترددي
سمعت صوتا مألوفا يناديني, التفت لأجد شروق خلفي, سلمت عليها بحرارة وهتفت : كيف وصلتي الى هنا؟ هل انتقلتي الى وسط العاصمة بدلا من المعبر؟
قالت : لا ولكن زميلي حسام تولى مكاني هناك حتى تنتهي اجازتي, وبمجرد أن عرفت بأمر الندوة أتيت على الفور, فلا يمكن أن أفوت ندوة للأستاذ حمدي
قلت باهتمام : أخبريني بصدق, هل ما يذاع على الشاشة من هناك صحيح أم أن به مبالغات كثيرة؟
قالت وهي ترفع حاجبيها بتعجب : مبالغات!! إن الوضع أسوأ بكثير مما استطعنا تصويره, فهو ليس أزمة يوم واحد, انهم على تلك الحالة من شهور
لقد كنا نمنع من التصوير في بعض الأحيان, وهناك مراسلين وصحفيين أعرفهم جيدا تم طردهم من هناك, ولولا ستر الله لكنت تبعتهم
قلت بدهشة : ألهذه الدرجة!!
قالت : ألم يخبرونكم من ذهبوا الى هناك من عندكم في الجريدة؟ لقد التقيت بهم هناك
قلت : عبد العزيز لم يعد بعد
قالت : وماذا عن ياسر حسين المصرى؟ لقد غادر وأنا لا زلت هناك
حاولت قدر استطاعتي أن أكتم الدهشة التى أصابتني وأنا أقول : من؟
كررت : ياسر حسين, انه معكم في الجريدة, أخبرني أنه زميلك بالمكتب عندما ذكرت اسمك أمامه
قلت بتمثيل : نعم, نعم, تذكرته, انه لا زال جديدا في الجريدة
يبدو أنك تعرفتي اليه جيدا!!
قالت ضاحكة : أجل, لقد تعرضت أنا وهو لموقف غريب للغاية
اشتعلت حواسي كلها وأعطيتها أذني بانصات شديد وفضول عارم, وبدأت تحكي, لكن فجأة وجدت أستاذ حمدي أمامي مباشرة يرحب بي ترحيبا كبيرا
انتزعني من تركيزى الشديد وحرمني من سماع القصة التي أتلهف لسماعها بعد أن أصبح ثالثنا وبدأ يحدثني بتعجل عن اللجنة ونشاطاتها قبل أن تبدأ الندوة
تمنيت أن ينتهي سريعا حتى أعود الى شروق وقصتها, لكن خاب أملي, فلقد ناداها مجموعة من معارفها فاعتذرت منا وانضمت اليهم وتركتني أحترق بفضولي
لقد التقت شروق ياسر هناك, ويبدو أنه كان لقاء مثير وشائق على الأقل بالنسبة لشروق, فهكذا شعرت من أسلوب كلامها عنه
بدأت الندوة دون أن أستطيع الإنفراد بشروق مجددا, وفي أثنائها كانت عيني تتسلل لتراقب شروق حيث تجلس
إن شروق جميلة, ولكنها أول مرة أنتبه الى أنها فاتنة للغاية
تلك العيون السوداء الواسعة والتي يزيدها الكحل جمالا وجاذبية, ومع لون ظل مناسب للجفون تصبح فتنة حقيقية
كانت تستخدم الزينة بمهارة لتبرز جمالها وفتنتها
وكنت أنا عكسها تماما, فلا أضع الزينة إلا قليلا وأحب الألوان الهادئة والقريبة للون وجهي, كما أنني لا أحب أن أغير لون شعري أو عيناى
أما هي فإذا ما وضعت عدسات فهى تزداد جاذبية مع شعرها القصير الناعم المصبوغ بآخر صيحة في الألوان
وكلما حركت رأسها يهتز بنعومة شديدة حول وجهها
شروق من المراسلات ذات الجاذبية العالية ولها قبول على الشاشة, كما أنها لبقة ولطيفة, أعرفها منذ عدة أشهر فقد التقينا في النقابة وأمامها مرات عدة وفي مناسبات مختلفة, أكثرها بروزا يوم الإنتخابات, وكانت لدينا فرص كثيرة لتبادل أحاديث مختلفة, ولكن هذه المرة... يبدو أنني لن أستطيع أن أستمع الى بقية قصتها
........................................
كنت أتأمل ياسر المنهمك في عمله على الكمبيوتر, وأكثر من مرة انتابني الشرود وسرحت في كلمات شروق ولقائها بياسر
فجأة وجدت نفسي أسأل أستاذ فؤاد : أستاذ فؤاد, أستاذ حمدى عضو النقابة أخبرني أن اللجنة سترسل قافلة قريبا الى غزة والدعوة مفتوحة للجميع
ما رأيك, ألا تود المشاركة؟
قال بأسى : تمنيت لو أشارك, ولكن تعلمين, لقد كبرت سني ولم أعد قادرا على القفز من هنا لهناك, لا شك أنها ستكون رحلة مرهقة للغاية
وتعرفين أن لدى اثنان في الثانوية العامة, سامحه الله محمد, لو لم يرسب العام الماضي وينضم لأخيه هذا العام لتصبح المصيبة مصيبتين لم صرت في هذه الحالة
ان الدروس الخصوصية تستهلكني استهلاكا, ولولا مساعدة ياسر لهما في بعض المواد لكنت الآن في المرستان
التفت الى ياسر الذي لم يبدو عليه أنه سمع أية كلمة من الحديث الدائر, ثم التفت الى كمال وقلت بلهجة جافة : وأنت؟ لا أظنك مرتبط بشيء
قال بسرعة : لاااا هل ستدور الدائرة على؟ ابتعدي عني
قلت : أنا أعرض عليك فرصة لتصنع منها تحقيقا قد ينقلك من كتاب الدرجة الرابعة لتصبح صحفي درجة أولى
قال هازئا : تريدين أن تفسدي سمعتي بين رفيقاتي!! سينفضون من حولي لو ظنوا بأنني مناضل
نظرت الى شيرين وقلت : شيرين, ها, ما رأيك؟
قالت : أنا لا زلت عروسا حديثة, وزوجي لن يسمح لي أبدا بالتغيب عن البيت كل هذه المدة, أنا آسفة, لا أستطيع
نظرت الى ياسر الذي لم يتبقى غيره, وانتظرت أن ينظر الى حتى, لكنه لم يفعل, كانت عيناه في شاشة الكمبيوتر وكأنه خارج عالمنا, لذلك فقد نهضت من خلف مكتبي وذهبت اليه وجلست أمامه وقلت : ياسر
قال مباشرة دون أن ينظر الى : نعم
قلت : أسمعت الحديث الذي دار قبل قليل؟
قال : بلى
قلت : وما رأيك؟ أتود أن تشارك؟
قال : كلا, لن أستطيع, فلدي عمل كثير ويجب أن أنهيه
قلت برجاء : لا زال الوقت مبكرا, تستطيع أن تنجز عملك ثم تأتي معنا
قال : آسف فرصيد اجازاتي لا يسمح
قلت بانفعال : هذا ليس بعذر
التفت الى فجأة وظهرت الدهشة على وجهه وقال : ولكنك تقبلتي أعذارهم جميعا دون نقاش
قلت بصدق : الأمر بالنسبة لك مختلف, فقد كنت هناك بالفعل, وليس هذا فحسب, لقد اخذا اجازة خصيصا لذلك, ولم تذهب بتكليف من الجريدة بل على نفقتك الخاصة
قال : وهذا هو ما أقوله, ليس لدى اجازات
قلت باصرار : سأتحدث مع زكي لأجلك
قال بلهجة محذرة : عفوا, ولكن فقط أذكرك أنني قلت لك من قبل أنني أستطيع أن أدبر شئوني بنفسي
قلت بانفعال : هل ستتهرب مثله؟
سمعت صوت كمال من خلفي يعترض باستنكار : الله!!!
قال ياسر بحدة ووجهه غاضب : ماذا تقصدين بكلامك هذا؟
زفرت بضيق : أعتذر, حقا أعتذر, ولكنك استفززتني
قال بدهشة : استفززتك!!
تجهم وجهه وقال بجدية : هل يمكنني أن أسأل ما الذي تريدينه مني يا آنسة؟؟
اندفعت أقول بصدق شديد : أريد أن نكون أصدقاء
فاجأته صراحتى للغاية وظهرت الدهشة على وججه
وسمعت صوت صافرة طويلة من كمال, جعلت ياسر ضائقا
أما أنا فقد تجاهلت كل ذلك, فقد كنت سعيدة بانطلاقي في الحديث معه, منذ صغري وأنا أكره أن أكتم شيء في صدري دون أن أبوح به, سواء كانت مشاعر سلبية أو ايجابية
فيقيني أن ما أخفيه عن الناس هو بالضرورة خاطئ
مما يجعلني أقاوم الخطأ وأتجنبه بالصراحة والصدق, حتى لو كانت صراحتى مؤلمة أو ربما توقعني في مشكلات
علمني أبي أن التصرف الذي لا أخجل منه, لا أخجل من أن أعلنه أمام الناس
نعم, لدى رغبة قوية في أن نكون أنا وهو أصدقاء, صداقة بريئة لا تشوبها شائبة كصداقتي ليحيى مثلا, أو أستاذ فؤاد
كان ياسر قد ترك كل شيء في يده وبقي صامتا يفكر
قلت أتعجله : ها, ما رأيك؟ لقد أطلت التفكير ولا أعتقد أن الأمر معقد الى هذه الدرجة؟
قال ببطء وكأنما يحاول اختيار الكلمات المناسبة : هلا أوضحتي لي مفهوم كلمة صديق لديكي؟
قلت بحماس وابتسامة واسعة تخرج من داخلي لتملأ كل وجهي : أعني أن أعرض عليك مقالاتي لتبدي فيها رأيك وكذلك أقرأ مقالاتك وأعطيك رأيي فيها, أن أساعدك وتساعدني أن أستشيرك في أمور العمل وغيرها, ونتناقش في كل الموضوعات مثلما أفعل مع أستاذ فؤاد, لا يهم ان اتفقنا أو اختلفنا, المهم أن يثري كل منا أفكار الآخر ونتبادل الخبرات والآراء
لم ينظر الى, انما كان ينظر لوجوه من حولنا, ويبدو أنه لم يكن مرتاحا لما قرأه في وجوههم, لكنه قال بهدوء : عفوا يا آنسة أميرة, ولكني مختلف معك في أساس وجوهر الموضوع
ابتسمت بود قائلة : لم لا تناديني أميرة كما يفعل الجميع
تنهدت قائلة : وأنا أدرك ذلك جيدا, ولكن ألا يبدو لك أن اختلافنا فقط في الشكليات والأمور الظاهرية؟ وحتى لو كنت مختلف معي في الجوهر كما تقول, لم لا نبدأ من الموضوعات التي نتفق فيها؟
أخذ يجمع مجموعه من الأوراق التي أمامه على المكتب ويرتبها ويقول : ليت الأمر بمثل هذه البساطة, ولكني لا أتقبل أبدا فكرة الصداقة بين رجل وامرأة
قلت ببساطة : اذا فأنت مصر أن نبدأ من نقطة خلاف, لا بأس, ما رأيك أن نتناقش في ذلك الموضوع على الغداء؟
التفت الى وأثر الصدمة باد في وجهه
أعلم الآن ما تقوله عيناه بصورة واضحة لا تقبل التأويل, تتهمني بالجرأة الشديدة
عجبا, هل أنا ماهرة حقا في قراءة لغة العيون أم أن عيناه تعبر عما في داخله بصدق لم أره في أى انسان آخر!!
بقيت صامتة أتأمل عيناه, أحاول أن أقرأ فيهما ما يحدثه به عقله
لكن يبدو أن تركيزي في وجهه أشعره بالحرج, فأدار وجهه وزفر بقوة, ثم حمل الأوراق التي رتبها وترك مكتبه متجها الى باب الغرفة, فلحقته بالسؤال بصوت مرتفع هذه المرة : لم أسمع ردك على دعوتي لك على الغداء؟
تجمد في مكانه للحظة, ثم قال بسرعة : أعتذر عن تلبية دعوتك, فكما قلت, لا أعترف بفكرة الصداقة بين الجنسين
غادر الغرفة وأخذت أطرق بأظفاري على زجاج مكتبه بضيق حتى سمعت كمال يقول بصوت وصل لمسامعي : ما أكثر المغفلين هذه الأيام
قالت شيرين : تسرعتي هذه المرة يا أميرة, كان عليكي أن تدركي أن ياسر لن يتقبل أسلوبك الجرئ بسهولة, وقد لا يفسر تصرفك بطريقة صحيحة فهو لا يعرفك جيدا
قلت ببساطة : على العكس, انه يفهم جيدا أكثر من أى انسان آخر أنني لا أعني بكلماتي سوى كل حرف نطقت به
قال كمال ساخرا : ألا تظني أنه بعقليته المتشددة قد يظنك فتاة سيئة
نظرت اليه نظرة قاسية : ياسر لديه عقل يزن به آلاف من أمثالك ذوي النوايا الخبيثة, فهو ليس لديه ظاهر ولا باطن, بل هو وجه واحد فقط
وما يقوله بلسانه هو حقا ما يؤمن به بقلبه ويصدقه عقله
زفر أستاذ فؤاد بضيق وقال : اذا فأنت تدركين أنه لا يمكن أن تعاملينه بهذه الطريقة, فهي تتعارض مع مبادئه وأفكاره
عدت الى مكتبي وأنا أقول له : أظن أنه آن الأوان ليغير بعضا من أفكاره
هز الأستاذ فؤاد رأسه بأسف ولم يعلق, لكن رأيه واضح تماما
وقد يكون محقا, فياسر شخصية في منتهى القوة والثبات على المبدأ
ولكنني منذ هذه اللحظة قررت أن أجعله يغير من نظرته لي ويصدق أنني أنا أيضا مثله بوجه واحد وقلب واحد, وما أقوله بلساني هو حقا ما أعنيه
.................................................. ..