انها نجلاء
ألقت التحية على الجميع
الكل رد سواى, منذ أن افترقت عن أيمن وهي تتجنب الأماكن التي يمكن أن أتواجد بها, لكن المفاجأة هي عندما دخل خلفها عم سعيد الساعي وهو يحمل علبة شيكولاته كبيرة فاخرة يدور بها على كل من في المكتب
هل يمكن أن أحذر المناسبة السعيدة التي جعلتها تقدم الشيكولاته الفاخرة لكل العاملين بالمكان؟
لا داعي فقد سألها كمال, وأجابته وهي تعطيني ظهرها متعمدة, وبصوت بدا في أذني يحمل رنة خجل عظيمة : بمناسبة خطوبتي
رغم محاولاتها لتجنبي إلا أنها في النهاية وصلت عندي, قدمت لياسر الشيكولاته ثم التفتت الي وقالت بصوت خفيض : مرحبا أميرة, كيف حالك؟
وضعت ساقا فوق الأخرى وارتفع حاجبي الأيمن بتحدي وأنا أقول بتهكم : الحمد لله, أحاول التواؤم مع تناقضات المجتمع
يبدو أن انتظارك لم يطل كثيرا؟
ظهر الإحراج البالغ في ملامحها وقالت محاولة اسكاتي : تفضلي الشيكولاته
قلت باشمئزاز : كلا, شكرا, فأنا أتخذ حمية, وتلك الشيكولاته ستفسد معدتي
نظرت الى باب الغرفة لأجد مدحت الكومي يدخل من الباب ومعه زكي, فنهضت من الكرسي وقلت لها بصوت لم يصل اليهما, هنيئا لك خراب البيوت, ما كنت أتصور أن يأتي اليوم الذي أرى فيه رفيقة الجامعة زوجة أب وخرّابة للبيوت!!
قالت بانكسار : لا تظلميني فهو لن يطلق زوجته
ارتفع حاجباى دهشة : لقد بدأت التنازلات مبكرا
أخذت أنقل نظراتي بينها وبين مدحت الكومي الذي اقترب منا قائلا لها : هل انتهيتي يا حبيبتي؟
قالت بطاعة : بلى
قلت ساخرة : لا تتعجلها أيها الجني.. أقصد أيها العريس, لا يمكن أن ترحل قبل أن تتلقى تهنئتي بزواجها الأسطورى
حقا, ان ما نالته لم تكن لتحلم به حتى في أيام الجامعة
رجل لا ينقصه شيء, مال, شهرة, وقريبا جدا سلطة, وعمرا ضعف عمرها, وتجربة حافلة في مجال النساء, بالإضافة الى ضرة وأولاد لكيلا تشغلى بالك وترهقي جمالك بحمل وانجاب
التفت الى الكومي وظهرت في عينيه نظرة قاسية وهو يتأملني من فوقي لتحتي : لا أعتقد أن هذا الأمر يهمك كثيرا؟
قلت وأنا أرميه بنظرة أقسى منها : إن هذا الأمر لا يهم أحدا سوى زوجتك الأولى
قال ساخرا : اطمئني, زوجتي تعلم وتوافق على هذا الزواج
قلت ساخرة : حقا!! هنيئا لكم أنتم الثلاثة, فلتشربوها معا بالشفاء
قال ببرود : هيا يا حبيبتي, فليس لدينا وقت نضيعه هنا
رحلا وهتفت من غيظي وأنا أرتمي على الكرسي أمام مكتب ياسر : يا الهي!! أهناك بشر بتلك الشخصيات المريضة!!!
انظر كيف يتكلم بكل غطرسة وتبجح وكأن النساء لعبة بين يديه!!
هذه هي مأساة الزواج الثاني, إنه اهانة للمرأة بكل المقاييس
يجب على الأزهر أن يصدر فتوى لإيقاف تلك المهازل المهينة, لا بد من تقنين الزواج الثاني والثالث بأية وسيلة, على الأقل يضعوا له شروطا تعجيزية تكف يد كل من هب ودب عن استغلال الشريعة لمآربه الشخصية
فجأة تحدث ياسر بجدية : الأزهر لا يمكنه فعل ذلك
هتفت بغيظ : ماذا!!
قال بهدوء : لا يمكن أن نطالب بتغيير جزء من الشريعة لتتناسب مع حالة فردية اصطدمنا بها في حياتنا
اذا لطالب كل من وقع في مشكلة وكل من يريد جزءا أكبر من الميراث بتغيير الشريعة لتتناسب مع مطالبه
قلت بغيظ : تتكلم هكذا لأنك رجل, ان الزواج الثاني والثالث هو امتهان لكرامة المرأة
قال بهدوء : الخطأ ليس في الشريعة لنغيرها, بل في من يستغلونها لصالح أهواءهم
يبدو أنك لم تلاحظي أن الاثنتان قد وافقتا على ذلك الوضع, لم يجبرهما أحد, كان من الممكن أن يرفضا
قلت بضيق : انظر اليه, انه يحصل على كل ما يريده من نساء, في حين أن آلاف الشباب قد فاتهم قطار الزواج, ولا يستطيعون التحصل حتى على زوجة واحدة, ولا أمل لهم في الزواج
انها مشكلة بلد بأكملها, أحلام الشباب تشيخ وتموت من قبل أن تتحول الى واقع, والأزهر من واجباته علاج تلك المشكلات التي تدمر الشباب, أو على الأقل التنبيه لها واصدار فتاوى تكون مرجعا لكل من يحب أن يعود اليها
قال : الأزهر لا يستطيع اصدار فتوى كهذه دون أدلة شرعية
هتفت : وماذا عن المصلحة العامة, والعرف؟ ألا ترى أن البلد الآن بحاجة الى ذلك؟
قال : الأزهر ليس مؤسسة مصرية فقط
قلت بدهشة : ما الذي تعنيه بأنه ليس مؤسسة مصرية؟ العالم كله يعلم بأن الأزهر هو مصر
قال ببساطة : الأزهر موجود في مصر, لكنه ليس تابعا للحكومة المصرية, أو بمعنى أدق, لا يجب أن يكون كذلك
لعقود طويلة والأزهر جامعة عالمية يرتادها المسلمون من كافة الأرض
يرسل دعاة وأئمة ومفتيين الى كل البلاد يفتون بفتاوى الدين ويعلمون الناس الدين ويقضون في مشكلاتهم الفقهية بما تعلموه في الأزهر من مذاهب وعلم شرعي
هناك بلاد الزواج الثاني والثالث بل والرابع فيها ضرورة حتمية, وعرف ومصلحة عامة, وفي بعض الأحيان يكون هو الحل لإصلاح المجتمع
عندما يفتى الأزهر بفتيا تقنين أو تحديد ما أحله الله من زواج ثاني وثالث ورابع, اذا فهو يتجاهل مصالح تلك البلاد ويتجاوزها الى مصلحة بلد واحد, وهو البلد الذي يقع فيه
كنت أتأمله بذهول وأنا أستمع الى كلماته العجيبة, ثم أفقت من شرودى عندما سكت, وسألته : ولكن, أليس الأزهر هو مؤسسة مصرية تابعة لمصر؟
قال بثقة : الأزهر مؤسسة عالمية موجودة في مصر, يستمد عالميته من الإسلام نفسه, فهو دين عالمي وليس حكرا على بلد دون الأخرى
في رأيي أن الأزهر يجب أن يكون مثل البيت الحرام والمسجد الأقصى, أى أن يكون وقفا للمسلمين كافة, فهو منارة العلم لأزمان طويلة, منه انتشر الإسلام في بلاد لم تكن تعلم عنه شيء
عندما نأتى الآن ونحوله لمجرد مؤسسة تابعة لدولة ويخضع لسياستها ويتناول علماؤه رواتبهم من حكومتها , اذا فنحن نقتله قتلا ونحوله الى مسجد عادى كأى مسجد آخر في مصر
بل ونمحو تاريخه الحافل كمجمع اسلامي عالمي يلتف حوله المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها
مع الأسف, لقد فقد الأزهر أهم ميزة فيه وهي أنه مؤسسة عالمية لا تتبع سياسة أى دوله ولا يتحكم فيها سوى شرع الله فقط
لا أدرى ما هذا الهدوء الذي هبط على من السماء بعد أن كانت كل عضلة في مشتعلة بالغضب
لا أفهم بالضبط كيف صمت صمت التلميذ المطيع أمام ذلك المنطق الهادئ والحوار العقلاني, حتى استفقت على كلمات أستاذ فؤاد له : أتعلم أنك محق في كل كلمة قلتها, فتلك هى المأساة الحقيقية التى يعيشها الأزهر الآن
قلت بأسى : ولكن, كيف يمكن أن نمنع أمثال ذلك الكومي من استغلال ماله ونفوذه واستغلال الشرع لصالحه والإستيلاء على ماليس له بحق
تنهد الأستاذ فؤاد وقال بتعاطف : مسكين أيمن, كان يحبها للغاية
قال ياسر متسائلا : ومن أيمن؟
قال أستاذ فؤاد : إنه أخوها, وكان خاطبا لنجلاء
ابتسم ياسر : الآن فهمت, لقد كنت متعجبا من أسلوبك الساخر العنيف معها, كنت تكيلين لها الكلمات الحارقة كيلا
قال أستاذ فؤاد : أميرة صريحة للغاية, لا تستطيع أن تجمل الكلمات ولا أن تسكت عما تراه خطأ
ابتسم قائلا : بلى, رأيت ذلك من أول يوم لي هنا
لم ينظر نحوي, ولكني أخذت أتأمل ابتسامته الهادئة وأنا أتعجب في قرارة نفسي من عقله ومنطقه, كان وجها جديدا لم أتعرف اليه قبلا, كما أن أسلوب حواره هادئ وودود للغاية
يبدو أنني قد اقتنعت تماما برأى أستاذ فؤاد عنه, فمعاملته كزميل ليست شيئا سيئا على الإطلاق
قال بعد صمت : إنها ليست مخطئة
استفزني من جديد فهتفت : ماذا!! ليست مخطئة!!
لقد تركته هكذا ببساطة كما لو كانت تلقي بثوب قديم لديها
قال : أخوك هو المخطئ, فقد أساء الإختيار من البداية
رفعت حاجبي الأيمن قائلة : وما الذي تعرفه عن الحب أيها السيد؟ لقد كان يحبها بجنون, وهي لم تقدر ذلك الحب
رد بهدوء : ذلك هو أصل الداء (يحبها بجنون) مشكلة الحب المجنون أنه أعمى, يعمي صاحبه عن رؤية العيوب في محبوبه
لا شك أنه كان للأمر مقدمات, ولكنه تغافل عنها, أو أقنع نفسه بأنها عيوب بسيطة يستطيع اصلاحها بعد الزواج
لم يختر على أساس سليم, فليحمد الله أن الأمر انتهى في فترة الخطوبة والا لكانت المصيبة أعظم بعد الزواج
صمت مرة ثانية أمام منطقه ولم أستطع الرد, فقد كان محقا
لقد حكى لي أيمن أكثر من مرة أحداث وحوارات دارت بينه وبين نجلاء, كان ينتقد بشدة بعض تصرفاتها, لكنه تغاضى عنها من أجل حبه لها وينوى أن يصلحها بعد الزواج
عجبا, انه بالفعل نفس الكلام الذي قاله أيمن لي
استطاع ياسر أن يثبت للجميع جدارته كصحفي محترف وكاتب ممتاز, وبدأ يشتهر بين قراء الجريدة بسرعة كبيرة, ليصبح له جمهور لا بأس به يرسل اليه ايميلات خصيصا له يعبر فيها عن اعجابه بمقالاته وعموده الثابت وتحقيقاته الجريئة
ورغم شعوري بالغيرة المهنية, الا أنني انضممت الى قائمة المعجبين بكتاباته, وأخذت أنتظر كل ما يكتبه على نار, سواء في عموده الثابت, أو تحقيق جديد له
والأكثر من هذا أنه أثبت لنا جميعا أن كل مخاوفنا من شخصيته المنغلقة وأسلوبه المتشدد لا أساس لها, حتى كمال بدأ يرتاح لوجوده ويمزح معه في أحيان كثيرة
كان يبدي تعاونا رائعا مع الجميع ولا يرفض أي طلب يطلبه منه زميل أو زميلة, لذلك اكتسب احتراما كبيرا لدى الجميع دون ضجة أو ثرثرة
ولم يمانع عندما عرضت عليه شيرين إحدى مقالاتها ليبدي رأيه فيها قبل أن تنشرها , فلم يكتفي بإبداء رأيه بل وأخذ يعمل على تصحيح المقالة لغويا, مما جعل شيرين ممتنة له وتتقبل نقده لأسلوبها وموضوعاتها بصدر رحب
وكنت أتعجب لملاحظاته على مقالها فهي نفس الملاحظات التي نبهتها إليها سابقا ولكنها لم تكن تتقبلها مني
لكنها تقبلتها منه وعملت بها, وعندما تحدثت إلى أستاذ فؤاد بذلك قال لي : ذلك لأن أسلوبك في النقد لاذع قد لا يتقبله الكثيرين, أما هو فأسلوبه هادئ منمق, يجيد إيصال رأيه للآخرين دون انفعال ولا حدة
الأستاذ فؤاد محق, فحتى كمال يتقبل نقد ياسر وملاحظاته, بل ويتبع بعضا من نصائحه فقط لأن ياسر قبل بأن يقرأ ما يكتبه كمال
يبدو أن الغيرة المهنية لدي بدأت تتجاوز الى غيرة اجتماعية
فبرغم قدمي في المكان الا أن ياسر استطاع في عدة أشهر قليلة أن يكسب تأييد وصداقات لم أحققها أنا في سنوات ليصبح نجما ساطعا في المؤسسة ليس فقط لمهارته كصحفي, بل لمعاملته الممتازة للجميع
لا شك أن تلك الغيرة أثرت على علاقتي به فلقد بدأت أشعر أنه يتجنب الحوار المباشر معي
واذا ما تداخلت برأى أو كلمة في مناقشة بينه وبين أستاذ فؤاد أجده ينهي المناقشة سريعا ويتحجج بأية حجة ليغلق باب المناقشة في وجهي
استفزتني تلك المعاملة بشدة وانتظرت حتى خرج من المكتب لأسأل أستاذ فؤاد عما يحدث بالضبط, فأجابني بكل ما كان يدور في عقلي من هواجس
الأستاذ ياسر يتجنب المناقشة معي بكل وسيلة, وكان استنتاج أستاذ فؤاد ببساطة هو أن أسلوبي لاذع للغاية وعنيدة في التمسك بما أراه صواب, وليس بمقدور كل انسان أن يتقبل هذا
رغم ضيقي الشديد من كلماته لكنني أعلم أنه على حق
فبسبب ذلك ليس لي صداقات كثيرة
وبعد هذا الحوار مع أستاذ فؤاد وجدتني أتبع نفس الأسلوب وأتجنب الحديث معه الا ما تقتضيه ضرورة العمل فقط, ورغم ذلك كنت حريصة للغاية على قراءة كل ما يكتبه في الجريدة ولم أكن أتخيل يوما أنني سأشعر بكل هذا الضيق عندما أفتح الجريدة ذات صباح بحثا عن مقاله لأجد بدلا منه اعتذار عن الكتابة بسبب السفر
نظرت الى مكتبه الخالي أمامي وطويت الجريدة وألقيت بها جانبا بعصبية ثم نظرت الى أستاذ فؤاد قائلة : أستاذ فؤاد, هل حصل ياسر على اجازة؟
قال : بلى, ودعني أمس وقال أنه سيسافر الى البلد لبعض الوقت
قلت بفضول : أى بلد؟
قال : ياه, أتصدقين!! نسيت أن أسأله من أى محافظة هو
ان تلك اللكنة التي في كلماته تنبئني أنه ربما شرقاوى
قلت وأنا أدعي اللا مبالاة : ألم يخبرك متى سيعود؟
قال : كلا, لم أجد الفرصة لأسأله فقد كان متعجلا
...........................................
أدركت بوضوح هذه الليلة أنني أفتقد شيئا ما
دخلت على أمي حجرتي وأنا جالسة على فراشى والجرائد مبعثرة حولي في فوضى كبيرة, وأنا أعمل المقص بجد واهتمام في احداها, فقالت بدهشة : ماذا تفعلين؟
قلت ببساطة : أقص بعض المقالات
نظرت الى الدفتر الذي أمامي على الفراش ورأت بعض المقالات قد ألصقتها بصفحاته بعناية فقالت : عجبا, لم أرك تفعلينها منذ تخرجك!! ألا تشتري الكتب التي تعجبك!!
قلت وأنا منهمكة في لصق احدى المقالات على احدى صفحات الدفتر : ولكن هذا الكاتب ليس لديه كتب بعد
قالت باسمة : ولم لا تجمعيها في ملف على الكمبيوتر؟
قلت : لا أحب القراءة من شاشة الكمبيوتر, فالكتاب هو حبي الأول والأخير
قالت : اذا لم لا تنتظري حتى يصدر مقالاته في كتاب؟
قلت : لا قدرة لي على الصبر, منذ أن كنت في الإعدادية لو لم أجد الكتاب الذي أريده فأنا أصنعه بنفسي وأحتفظ به
ضحكت وهي تتذكر : نعم, لا يمكن أن أنسى تلك القصة التي استعر تيها من احدى زميلاتك وقضيت أسبوعا في نسخ دؤوب لها حتى أرهقت عضلات كفك
قلت بعتب : طلبت منك أن تعيريني سلفة من مصروفي لأصورها ولكنك رفضتي, أتذكرين؟
قالت باسمة : انه جزء من التربية, كما أنني كنت أريد أن أكتشف الى أين يمكن أن يصل بك العناد والرغبة لتحقيق ما تريدينه
قلت وعينى على العمل الذي أنجزه : كان على اعادتها في الموعد وفي نفس الوقت الإحتفاظ بها ولم يكن مصروفي يكفي وقتها لشراء نسخة منها
قالت بحنان : أعلم أنك تحتفظين بها وتحافظين عليها حتى الآن رغم شراءك لنسخة منها فالشيء الذي نبذل فيه جهدا كبيرا لا يمكننا التفريط فيه بسهولة
لا أدري لم قفز هذا الموضوع في رأسي الآن لأجد لساني ينطق رغما عني : اذا لم قدمت استقالتك من المنصب الذي تعبت في الوصول اليه؟
تجهم وجهها وأدركت أن كلماتي أصابتها بالضيق, لكنني لم أستطع أن أتراجع, فقد كان بداخلي حنقا شديدا منذ أن سمعت بنبأ استقالتها, فأكملت وأنا أعلم من داخلي أنني يجب أن أسكت : كان يجب أن تكملي معركتك للنهاية
ابتلعت مشاعرها وتقبلت ما قلته وردت عليه : عندما لا تقدرين على تغيير ما ترينه خطأ وتعجزين عن تنفيذ ما تؤمنين أنه صواب بما في يدك من سلطات, فالأفضل أن تتركي المنصب لمن يقدر على التغيير
لم أعني هذا حقا, ولكنه انسكب من فمي : أكره سياسة الإستسلام للأمر الواقع
قالت بضيق : أنا لم أستسلم, الإستسلام هو أن تخضعي لما يريدونه, وأنا لم أخضع أبدا, لقد كان المنصب كالبدلة الجبس أعجز عن الحركة فيه أو حتى الكلام
لقد تركت عمادة الكلية واكتفيت بمشاركتي في نادي أعضاء هيئة التدريس, هناك أستطيع الحركة والتحدث بحرية, كما أجد من يعينني
قلت بعصبية : كان عليك فرض سياستك وأسلوبك, الهروب والإستقالة ليس حلا, هل كل مشكلة تواجهنا نرد عليها بالإنسحاب!!
أغضبتها, أعلم أنني أغضبتها, لكن لا حيلة لي, فعندما يقهرني موقف ما أو يستفزني أعجز عن السيطرة على لساني
أستاذ فؤاد محق, وياسر أيضا محق في تجنبه للحوار معي, ففي أحيان كثيرة يتحول لساني الى سوط يجلد أقرب الناس الى
لقد فقدت علاقتي الحميمة بأيمن بهذه الطريقة, والآن, أغضب أمي
لكنها كانت معتادة على أسلوبي هذا وتتقبله مني بصبر الأم وحلمها
تنهدت بأسى وقالت : أنت لا تدركين كيف تسير الأمور هناك في الجامعة, لا يمكن أن أتقبل تدخل الأمن في كل صغيرة وكبيرة وكل قرار أتخذه
قلت بتسرع : بل أفهم تماما, فكل ما تقولينه كان يحدث عندنا في الجامعة وأكثر منذ أن كنت هناك
قالت : إذا فأنت تتفهمين أنني كنت بين خيارين, إما أن أتقبل تلك المعاملة المهينة والتدخل السافر حتى في أنشطة الطلبة واختيار أعضاء الاتحاد وغيرها من أمور وأتحول الى عميدة شرفية, أو أستقيل وأحتفظ بكرامتي وحريتي وحب الطلبة واحترامهم لي
قلت بضيق : أليس هناك حل ثالث؟
قالت : كلا, لم يكن هناك أي حل, فأى قرار أتخذه لا ينفذ الا بعد الموافقة عليه
أى أنها عمادة مع ايقاف التنفيذ
ما كنت لأقبل على نفسي أن أكون مجرد طرطور يجلس على كرسي العمادة, بل والأدهى أنني مطالبة بالتحدث للطلبة وتبرير تصرفات وقرارات هي أبعد ما تكون عن مبادئي وأفكاري
قلت بسخرية مريرة : انه تمدد هائل للرقابة على كل شيء
احمد الله أنني اخترت أن أعمل في جريدة تابعة لمؤسسة عالمية فهي تمنحني الحرية في كتابة ما أريده
قالت ساخرة : نعم, لأن توزيعها أقل هنا
ضايقتني الكلمة ولكنها محقة, فزفرت بضيق وعدت أنهمك في عملي لصناعة كتابي الخاص لكاتبي المفضل الجديد الذي لم يصدر له بعد أى كتاب
.......................................
أخيرا عاد من اجازته
وجدناه يدخل علينا المكتب في الظهيرة, لكن مظهره كان غريبا, كان يحمل حقيبة سفر صغيرة من النوع الذي يعلق على الكتف بالإضافة الى حقيبة أوراقه الجلدية
ملابسه غير مهندمة, وشعر لحيته طويل والإرهاق باد في ملامحه
لأول مرة أراه على تلك الحالة, فقد كان دائما حريص على أناقة مظهره
سلم على الجميع بصوت بدا فيه الإرهاق واضحا, ورحب به أستاذ فؤاد وهتفت أنا : ياسر, حمدا لله على سلامتك
أجاب ببضعة كلمات غير مسموعة واتجه مباشرة الى مكتبه, ووضع حقيبة السفر بجوار مكتبه على الأرض
ثم بدأ يفرغ محتويات حقيبته الجلدية على المكتب
قفزت من مكاني واتجهت الى مكتبه وسألته بفضول : لم أوقفت مقالاتك الفترة السابقة؟
قال بشرود وهو يواصل افراغ محتويات الحقيبة ببطء : كنت مسافر
قلت : كان بإمكانك ارسالها عبر الإنترنت, من الخطأ أن توقف عمودك لأى سبب بعد أن اكتسبت قاعدة من القراء
لم يرد مباشرة, كان يبدو عليه أن عقله مشغول وذهنه شارد, بل كان يبدو وكأنه لم ينم منذ وقت طويل
لكنه قال بعد مدة : أهناك شيء؟
قلت وأنا أجلس على الكرسي المقابل لمكتبه : نعم, كنت أنتظر مقالاتك وساءني كثيرا أن أفتح الجريدة فأجد اعتذارك بدلا من المقال الذي أنتظره, كان يجب أن ترسل المقال في موعده
قال بعد صمت : لم أكن أستطيع, فالمقالات كانت بحاجة لتنقيح, ولم أجد الوقت الكافي لذلك
وضعت مرفقي على المكتب وأسندت خدي الى كفي وقلت بابتسامة كبيرة : كان بإمكانك الاستعانة بصديق
لم يبدو عليه أنه سمعني, فقد كان منهمكا في تنظيف حقيبته واخراج بعض الأوراق التالفة منها وإلقائها في السلة
كان مظهره عجيبا كما لو كان عائد لتوه من رحلة طويلة مرهقة
قلت : أستطيع أن أساعدك في تنقيح بعض مقالاتك
لم يرد, كان شاردا تماما, لكن كمال الذي كان متابعا للموقف لم يترك الأمر يمر دون تعليق سخيف من تعليقاته : هنيئا لك سيدي
التفت وألقيته بنظرة قاسية أخرسته, عدت الى ياسر الذي يبدو أنه لم يسمع كلمة مما قيل, فأعدت طلبي بإلحاح : ياسر هل يمكنني مساعدتك في تنقيح المقالات؟ فنحن زملاء
التفت الى لأول مرة وقال بعينين شاردتين : شكرا, أستطيع تدبر أمورى بنفسي
أصابني رفضه بالضيق, ولكنني أخذت أراقبه وأراقب أشياءه وأوراقه التي بعثرها على المكتب, وبالطبع خاتمه الفضي المميز الذي أجهل حقا لم يجذب عيناى بهذه الطريقة
التفت الى أستاذ فؤاد قائلا : هل أذن الظهر؟
رد مباشرة : بلى,منذ ربع الساعة
وضع كفيه في جيبي البنطال وكأنما يبحث عن شيء ما لكنه أخرجهما خاليتان وتنهد قائلا : حسنا, اذا طلبني أستاذ زكي أرجو أن تخبره أنني أصلي الظهر
قال أستاذ فؤاد وهو ينهض من كرسيه : سأرافقك
بادرته قائلة قبل أن يخرج من المكتب : إن سأل عنك سأخبره أنك تصلي
قال ولا زال الشرود في عينيه : شكرا
غادر المكتب مع أستاذ فؤاد وبقيت أنا جالسة في مكاني وعيناي على أوراقه يتملكني فضول قاتل لقراءة أى شيء كتبه, ورغم ترددى أن يغضب إن مددت يدي الى أوراقه لكن شوقي الشديد لأسلوبه الآسر في الكتابة غذى فضولي ودفعني للعبث بأوراقه, لكن يدي تجاوزت الأوراق لتمتد مباشرة وبطريقة مغناطيسية لدفتر بني موضوع بجوار الأوراق, أخذته على الفور وبدأت في تصفحه, وسمعت شيرين من خلفي تقول : أميرة! ماذا تفعلين!! ربما غضب ياسر
قلت باقتضاب أسكتها : كلا, لن يغضب
فجأة وجدتني أغوص في صفحات الدفتر داخل سطوره بين حروفه ليبدو لي وجها جديدا تماما لياسر
وجه أديب حقيقي
لقد وقعت على كنز, فالدفتر يمتلئ بالخواطر الرقيقة والقصص القصيرة الرائعة
سحرتني تماما رقة المشاعر التي تنضح من كلماته, وأخذت أقلب الصفحات بنهم لا أسمع ولا أرى ما حولي, لكنني استفقت على صوته فوق رأسي تماما يقول بصوت جاف : أيمكن أن أعرف ما الذي تفعلينه بالضبط بأغراضي!
لم أظهر شيء من ارتباكي له, ولم أحول عيني عن الدفتر, بل تظاهرت أنني لم أسمع شيئا مما قال, بل لم أشعر حتى بوجوده
فهتف بصوت اتضح فيه الضيق : آنسة أميرة
ارتحت كثيرا للعبة الصمم التى أمثلها فتماديت فيها وهو يناديني بغيظ ولا أرد
وشعرت به يلتفت الى أستاذ فؤاد متسائلا دون كلام عن كيفية التخلص من ذلك المحتل, وكعادته هز أستاذ فؤاد أكتافه كمن أسقط في يده ولم يتدخل, لم أكن بحاجة لأنظر اليهما لأعرف ما يدور حولي, فقد كانت عيناى على الدفتر وعقلي معهما
سمعت كمال يقول ساخرا : لن تنجح أبدا في زحزحتها
زفر ياسر بزهق وقال بصوت مرتفع : آنسة أميرة
التفت اليه وقلت ببطء وكأنما انتبهت لتوى لوجوده : هه!! أهناك شيء!
قال بغيظ : بلى, أتسمحين؟
قلت ببراءة مصطنعه : أسمح بماذا؟
قال بحدة : دفتري, أريد دفتري
قلت بشرود تمثيلي : أى دفتر!!
قال بزهق : هذا الذي بين يديكي
قلت وأنا أعود للقراءة : حسنا....
اغتاظ أكثر عندما لم يجد مني أى ردة فعل وقال بحدة : آنسة أميرة, أتسمحين بالدفتر
مثلت انهماكي التام في القراءة ونهضت ببطء من الكرسي وعدت الى مكتبي, وعندما أعطيته ظهرى ألقيت بنظرة من جانب عيني الى أستاذ فؤاد الذي بادلني النظر ولم يتكلم
هتف ياسر بغيظ : الدفتر لو سمحتي
قلت وأنا أجلس خلف مكتبي دون أنظر اليه : سأعيده اليك حالما أنتهي من قراءة هذه الصفحة
قال كمال ضاحكا : كان غيرك أشطر
زفر ياسر بغيظ وعاد الى مكتبه وأخذ يجمع أوراقه بعصبية وأنا أكتم ضحكاتي حتى لا أستفزه أكثر, ثم غادر الغرفة متجها الى مكتب زكي واستمتعت أنا بصفحات وصفحات أخرى من القراءة, حتى عاد الى المكتب, لكن عودته هذه المرة كانت كالريح العاصف, كان غاضبا بشدة مما جعلنا ننتبه اليه جميعا بعجب
أخذ يلملم حاجياته بعصبية ويدسها في حقيبته, وعندما سأله أستاذ فؤاد عما حدث قال بصوت غاضب : زكي رفض نشر المقالات
هتفت بدهشة : ماذا!!
كانت سابقة لم أسمع بها من قبل في الجريدة, لذلك فقد استثارني الأمر بقوة, وانتبهت له بكل حواسي
سألته شيرين بدهشة : لم؟ ماذا كتبت ليرفض نشره
قال بصورة مقتضبة : كتبت الحقيقة كما هي
سأل كمال بفضول : أهو موضوع ديني!!
لم يرد ياسر, لكن أستاذ فؤاد قال : اهدأ قليلا واجلس لنتحدث ربما وجدنا حلا للمشكلة
قال : تلك المشكلة لا حل لها
نهضت من خلف مكتبي قائلة بحماس : كيف يرفض نشر مقالاتك!! نحن في صحيفة حرة, اسمع, سأذهب الي مكتبه وأسمعه ما لم يسمعه في حياته, كيف يفكر هذا الرجل؟ هل سيفرض علينا وصايته!!
حمل حقيبته الجلديه وحقيبة السفر الصغيرة واتجه الى مباشرة قائلا بصوت آمر : الدفتر لو سمحتي
كان الغضب الذي في عينيه كفيل أن يخرسني تماما ويجعلني أسلم اليه الدفتر دون اعتراض أو حتى رجاء أن يبقيه معي لعدة أيام, لكن ياسر الهادئ الرصين لم يكن أبدا في حالته الطبيعية هذا اليوم
غادر المكان وتركنا في حالة اندهاش وتعجب من الموقف كله مما جعلني أسأل أستاذ فؤاد بتعجب : ما الذي يمكن أن يكتبه ليرفض زكي نشره؟
كان الموقف يضايقني بشده, فهو بمثابة جرس انذار أن موقف كهذا يمكن أن يتكرر معي ولا أدري وقتها كيف يمكن أن أتصرف
لكن ما أنا متأكدة منه هو أنني لن أسكت أبدا
كما أن خروج ياسر بهذه الطريقة الغاضبة جعلني أقلق ألا يعود ثانية, أو يقدم على تقديم استقالته
................................................
أصيل.....
حصاني المفضل, ذلك الصديق العزيز الذي كلما فكرت أن أذهب الى النادي, لا أركب غيره, وخليل السائس يعلم ذلك جيدا, وكلما انتويت أن أذهب الى النادي أتصل به قبلا ليعد لي أصيل
انها متعتي الحقيقية التى تمنحنى الشعور بالراحة والهدوء, وتزيل عني أى ضيق
فكلما اشتد ضيقي لا أجد سواه ليخفف عني
الحصان هو أجمل صديق للإنسان, وكلما توطدت الصداقة بين الإنسان وحصانه فهما يتشاركان مشاعر الفرح والضيق
رغم استمتاعي بالوقت الذي قضيته على ظهر حصاني, الا أنني كنت بحاجة الى التحدث الى صديق من نوع آخر, صديق من البشر
صديق أثق به وبرأيه, صديق أحب الإستماع اليه منذ سنوات طويلة
انه يحيى
اتصلت به على هاتفه المحمول, وطلبت منه باصرار أن يلتقيني في النادي
في البداية رفض متحججا بانشغاله بالعمل, لكني كنت أعرف من طول عشرتي معه كيف أجعله ينفذ ما أطلبه منه
وبالفعل أتى استجابة لإلحاحي الممزوج بقليل من الدلال وبعض التهديد
ابتسمت عندما رأيته قادما نحو الطاولة التى أجلس عندها, ولوحت له بطول ذراعي ليراني
ياه, مضت فترة طويلة لم أره فيها, كان هو منشغلا ما بين تأسيس عيادته الخاصة والعمل الدءوب في المستشفى الخاص, فهو جراح أنف وأذن وحنجرة, ولمت الظروف والحياة التي فرقتني عن صديق عزيز مثله, وأخذت أسترجع ذكرياتي القديمة معه والتي أعدتها الى حجرة الذاكرة بمجرد أن وصل عندي
قال وهو يصافحني بحرارة : مرحبا أميرة, حقا اشتقت اليكي كثيرا, وافتقدت مزاحك وضجيجك ومشكلاتك
قلت مبتسمة بسعادة لرؤيته : بل كيف حالك أنت, ألا تسأل عني! ألا تهتم إن كنت لا زلت حية أم ميتة
ارتمى على الكرسي المقابل لي وقال بتأفف : هل أتيتي بي الى هنا لأستمع الى موشح اللوم والعتاب والأيام الخوالي
قلت أغيظه : كلا, بل لأذكرك أنني عندما أحتاجك في مشكلة أو أستشيرك في أمر, فعليك أن تلبيني دون نقاش
نظر الى وقال مازحا: سمعا وطاعة يا أميرتي
أعلم أنكي لا تستدعيني بتلك الطريقة العاجلة الا عندما يكون هناك موضوع يأكل عقلك وتفكيرك وتريدين البوح به
قلت باسمة : يعجبني ذكاءك, لا أحد في هذا العالم يفهمني مثلك, فمن لي غيرك يا صديقي العزيز يسمعني وينصحني!!
قال ساخرا : دون بكش, أو أونطة ماذا وراءك؟
ولكن قبل أن تبدأي أخبريني أولا, كيف حال أمك؟
قلت بغيظ : لقد استقالت
قال : بلى أعرف
قلت : وما رأيك؟
قال بأسلوبه العملي : رأيي أنها راشدة وعقلها يزن بلدا بكامل ما فيها, ولها حق اختيار ما يناسبها فلا داعي لتنغصي عيشها كل يوم بكلامك المسموم
قلت متهكمة : ومنك نتعلم يا سيد يحيى
قال : دكتور, دكتور, هل أنقشها على يدك؟
وأيمن, أهناك جديد بشأنه؟
قلت : كما هو, بل يزداد سوءا
قال : أظنه يحتاج لشيء قوى يشغل عقله وتفكيره
قلت : دعنا منه فقد بدأ ينتابني اليأس من تصرفاته
قال : حسنا, وماذا عنك؟ ما جديدك؟
قلت مباشرة : ياسر حسين
هتف بدهشة : من!!
قلت : ياسر حسين, زميلي في الجريدة, انه كاتب وأديب موهوب
قال باسما : تغيير جذري في الأفكار, هل دق القلب أخيرا؟
قلت بتحذير : لا تجعل عقلك يذهب بعيدا, انه فقط زميل, والآن, كاتبي المفضل
أخرجت الدفتر الذي صنعته لمقالاته ومددته نحوه وقلت : عليك أن تقرأ هذا وتعطيني رأيك بمنتهى الصدق
أخذ يقلب في الدفتر قليلا ثم قال بتأفف : ألم تنسي تلك العادة الطفولية!! ألم تسمعي عن شيء اسمه الكمبيوتر يتم تخزين الملفات به!!
قلت : لا شأن لك بما أفعله, المهم أنني أريد رأيك في أسلوبه, غدا سأتصل بك لأسمع رأيك, واياك من غضبي إن عرفت أنك لم تقرأ بعد
قال مغتاظا : ياللتفاهة, استدعيتني الى هنا على وجه السرعة من أجل هذا فقط؟
قلت بثقة : بالطبع, ألست أنت من علمني الإدمان على القراءة! حتى أنني لم أكن أقرأ الا ما تختاره أنت لي, والآن عليك أن تتحمل مسئولياتك وتعطيني رأيك فيما أقرأه
نظر الى نظرة أعرفها جيدا وقال : وماذا أيضا؟ هيا ألقي الي بما يقلقك مرة واحدة
تنهدت : إن ما يؤرقني حقا هو أنه قد لا يستمر في الجريدة
رأين هذا في عينيه اليوم بعد أن رفض زكي نشر مقالاته
قال بدهشة : لم؟ ما الذي كتبه ليتم رفضه؟ هل أساء الى شخص أحد؟
قلت : لا أعتقد, فهذا ليس أسلوبه في الكتابة, ولكن ما حدث له قد يحدث لي أنا أيضا في يوم ما, عندها قد أقيم الدنيا ولا أقعدها
قال : أفهمك تماما, مجنونة وتفعلينها
لكن اعلمي أن الجريدة التي أنت فيها الآن هي منتهى أمل لصحفيين كثيرين, كما أنها تتمتع بسقف للحرية أكثر من غيرها, وتأكدي أنك لو تركتيها وعملت في أى مكان آخر فستواجهين بنفس الموقف
قلت مندهشة : اذا فلا حرية كاملة هنا!!
قال : بلى, هناك دائما سقف لا يمكنك تجاوزه, أو الطيران خارجه, لكن ارتفاعه يختلف من مكان الى مكان
قلت : وما الحل في نظرك وأنت رجل صاحب خبرة في الحياة وتدرك معنى الحرية جيدا
قال : لا حل, عليك أن تتقبلي الواقع وتتعايشي معه
وقد يكون الإنترنت بديلا مؤقتا وصالح لنشر المقالات الممنوعة في الصحف
يمكنك أن تؤسسي مدونة لكي
قلت باحباط : تعلم أنني رغم اجادتي التامة للكمبيوتر لكنني أفضل القراءة والكتابة والنشر بالأساليب القديمة, فذلك يشعرني بأنني واحدة من الصحفيين العظام الذين أدمنت القراءة لهم
قال ساخرا : كلاسيكية أنت ورومانسية للغاية يا حبيبتي
ويبدو أن صديقك هذا من نفس النوع, والا لما غضب كل هذا الغضب وفكر أن يترك عمله لمجرد أن بعض مقالاته لن تنشر
قلت بشرود : أتعلم أنك محق, إنه بالفعل كذلك
لديه دفتر بني يكتب فيه خواطر وقصص قصيرة
سأموت لو لم أستعير منه هذا الدفتر لأنسخه أو أصوره
هتف ساخرا : متعك الله بالعقل الرشيد
ما بال هذا الجيل كثر فيه المجانين!!
ألا زلتم تكتبون في الدفاتر والدول المتقدمة اخترعت الورق الإلكتروني!! ألا تستخدمين الكمبيوتر أيتها المتحضرة!!
لم أرد على كلماته الساخرة, فقد كنت أفكر في ياسر وما كتبه في الدفتر وأنا أقول : ليتك تقرأ ما في هذا الدفتر
قال : لم يعد لدي الوقت الكافي للقراءة كما في الماضي أيتها الحالمة
فأنا الآن أكافح لإفتتاح العيادة الجديدة
قلت ساخرة : حسنا, لا تنسى أن تدعوني للإفتتاح وسأحضر معي باقة فاخرة من الشاش والقطن والمطهرات
انتبهت لمحمولي يرن وعندما نظرت في شاشته ووجدت اسم استاذ حمدي تغير وجهي, ولاحظ يحيى ذلك لكنه لم يعلق
ورغم ترددي أن أرد عليه لكنني فتحت المحمول أخيرا : مرحبا أستاذ حمدي
قال بصوت جاد : مرحبا أميرة, أين أنت؟ لم أسمع صوتك من مدة؟
قلت باعتذار : عفوا انشغلت قليلا ببعض الأمور
قال : لا بأس, أنا أدعوك الى النقابة الأسبوع القادم لتحضرى الندوة التي تقيمها اللجنة
قلت : الحقيقة أنا آسفة فلن أستطيع المجيء لأن...
قاطعني بضيق ظهر واضحا في صوته : ألن تكفي عن التهرب؟
هتفت مدافعة : أستاذ حمدي, أرجوك, أنا...
قاطعني ثانية : الحقيقة أنني لا أتوقع منك أنت على وجه الخصوص هذا الموقف
قلت باحتجاج : لم يكن...
لم يدعني أكمل : حسنا, أنت حرة, أنا لن أضغط عليكي, ولكن اعلمي أن اللجنة بدأت عملها بالفعل
أكمل بصوت بالغ الأسى : الوضع أسوأ بكثير مما يمكنك أن تتصوريه, أو حتى مما يعرض عبر وسائل الإعلام والصحف
قلت : فقط أعطني فرصة...
قال بحزم : خذي الوقت الذي تحتاجينه, ولكن دعيني أقول لكي بكل صدق نحن في حاجة اليكي
أنهى المكالمة بعد أن ترك في حلقي غصة أعجز عن ابتلاعها
بقيت شاردة لفترة وأنا ممسكة بالمحمول بين أصابعي حتى قال يحيى ساخرا : هاى, الى أين ذهبت؟ لقد انتهت المكالمة منذ دهر
نظرت اليه دون أن أرد, فقد كانت خلايا عقلي في حالة صراع رهيب
قال بفهم : الا زال يلح عليك؟
هززت رأسي مؤيدة وأنا في قمة الضيق
قال باسما : اطمئني, عما قريب ستحسمين أمرك وتتخلصين من كل تلك الضغوطات
تنهدت بضيق : متى هذا؟
قال : بمجرد أن تعلني موافقتك
نظرت اليه بدهشة : أنت واثق للغاية!!
قال باسما : أفهمك تماما يا حياتي, لن يمضي وقت طويل حتى توافقي
قلت : ولكن ألن تحاول اقناعي بالعكس؟
قال بمكر : من قلة العقل أن أرهق نفسي في قضية منتهية
فطالما اسم جلال ملتصق باسمك فلن تفلتي أبدا من هذا المصير, انه طريق ولا بد أن تسيري فيه, وانت موقنة بذلك في داخلك
لذلك فقد حسمت أمرك منذ وقت طويل يا صغيرتي
ولكن كل ما تحتاجين اليه هو شخص يقول لكي لا تفعلي
أتدرين لم؟
لأنك تعشقين التحدي, ومخالفة الآخرين
ضعي في رأسك أنني لن أكون هذا الشخص أبدا
فليس لدي الوقت الكافي لأعمل على تكسير رأسك الحجري
كان يحيى هو الأقرب الى, أقرب حتى من أيمن, يستطيع أن يفهمني ويكشف ما بداخلي بسرعة
لا عجب فقد تربى معنا في البيت
وقضى معنا فترة طويلة حتى التخرج من الجامعة
وكان أبي رحمه الله يعتبره فردا من الأسرة ويساعده في دراسته
فهو أصغر إخوة أمي, ويكبرني بعشر سنوات, تولت أمي مسئوليته بعد وفاة جدي وجدتي وهو لا يزال في الثانية عشر
لذلك فأنا أدعوه يحيى لتعلقي الكبير به منذ أن كنت صغيرة, وذكرياته الرائعة معي
كان دوما ما يلاعبني ويستذكر معي دروسي ويقرأ معي القصص ويشرح لي المعاني التي أعجز عن فهمها لصغر سني
وكم من مرة يخفي عن أبي وأمي أفعالي الشيطانية وأخطاء الطفولة
ولكم اصطحبني أنا وأيمن الى النادي, وكنت أحب تشجيعه لي وأنا في خطواتي الأولى لركوب الخيل
والآن, تغير كل شيء, فمنذ أن عاد من بعثته الدراسية في لندن واستقل في السكن
بدأ يجري خلف مستقبله المهني وانشغل عنا
ولكني دائما ما أشتاق اليه, خاصة لو كان هناك أمر يحيرني أو موضوع شائك أحتاج فيه لرأيه
.............................................