لا أدري كيف عدت الى البيت, ولا كيف قضيت ليلتي
هناك مواقف تمر على الانسان يعجز عن وصفها أو وصف مشاعره
فأى كلام يمكن أن يصف ما أشعر به الآن؟
في اليوم التالي لم يأتي ياسر الى المكتب, وحاول أستاذ فؤاد أن يعرف منى ما الذي حدث بالأمس, ولكنى لم أنطق بكلمة
لكن صدمة جديدة صفعتني بقوة وحطمت ما بقي لي من أعصاب
فالمقال الذي تشوهت صورتي في عيني ياسر بسببه لن ينشر
رفض زكي نشره بسبب أسلوبه الصريح المباشر اللاذع
لم يعد بإمكاني التحمل, فغادرت الجريدة وذهبت مباشرة الى النادي, وفي مضمار الخيل فوجئت بالفارس السمج يركب حصاني وعندما رآني ابتسم واقترب منى وهو يلقي التحية
لكنه صدم عندما صرخت في وجهه بعنف : انزل عن حصاني
لم يصدق نفسه عندما وجدني مصرة أن يترك حصاني
ونزل بالفعل وحاول الاعتذار بتهذيب لكنني لم أمنحه أية فرصة
وانطلقت بالحصان في المضمار بلا تروي
كنت أفرغ ضيقي وغضبي وجنوني في الحصان, وضربته أكثر من مرة, رغم أننى في العادة لا أفعل هذا
وانتهى اليوم الكئيب بكارثة, فقد سقطت عن ظهر الحصان بسبب تهوري وعدم تحكمي في انفعالاتي
وبقيت فترة طويلة غائبة عن الجريدة وزارني كل زملائي عدا ياسر, ولم أهتم بالسؤال عنه , ولا عن أخباره
وحاول أستاذ فؤاد أن يفتح معي الحديث ويعيد استجوابي عما حدث بيني وبين ياسر, لم أعطه أية أجوبة, وغادر دون أن يرتاح
أستاذ فؤاد بمشاعره الطيبة يحاول أن يصلح ما فسد بيننا, يحمل نفسه الذنب لما حدث
لكن الأمر أكبر من ذلك بكثير
لقد جرحني ياسر جرحا عميقا لا براء منه
وكان لا بد لأمي أن تتكلم أخيرا بعد أن وجدت أن الصبر والصمت لن يفيدا أمام حالتي المستعصية وكآبتي التى توشك على التحول الى مرض
ورغم أنني لم أخبرها بأى شيء مما حدث, الا أن حديثها كله كان منصبا على ياسر
كنت صامتة تماما أستمع اليها وهي تقول : لم أرك يوما ضعيفة ومشتتة كما أنت الآن, لا أدري كيف أصف ذلك الكائن الذي حل فجأة بحياتك وأحالها الى ما هو أمامي الآن
حتى لو سألتك عما حدث فلن تخبريني
والآن لا أملك لك سوى النصيحة والدعاء
لا تدعي أحدا ينفذ الى رأسك ويسيطر على عقلك وتفكيرك
مهما بلغت مشاعرك تجاهه فلا تسمحي له أن يهز ثقتك بنفسك ويحطم ارادتك مهما حدث
شعرت بالدموع تملأ عيناي, عجبا, وكأنما تعرف ما حدث دون أن أبوح لها بشيء
استطاعت أمي أن تضع يدها على جرحي الغائر دون حتى أن تراه, فقلت لها والألم يعتصر روحي : أتدرين ما هي مشكلتي الحقيقية؟
أنه نجح في ذلك بالفعل
غادرت أمي الغرفة بصمت بعد أن أدركت أن كلماتها لم يعد لها فائدة ترجى, وأنني وصلت الى حالة متأخرة للغاية
...........................
بمجرد أن وقفت على قدمى ذهبت الى النادي مباشرة, فقد عرفت من زملائي في النادي أن أصيل حزين للغاية وأصابته حالة شديدة من الكآبة, لذلك كان على زيارة صديقي الوفي والاطمئنان عليه
أخذت أمسح على ظهره ورقبته وأداعبه وأطعمه بيدي وأنا أقول له : لا بأس عليك يا صديقي, أحزين أنت لأنني سقطت من فوق ظهرك؟
شردت بعيدا وأنا أكمل : هناك من أسقطني قبلك من عينيه, وكانت سقطته قاتلة
لم يعد هناك ما أحزن لأجله ولا أتألم له بعد أن انتهت القصة تلك النهاية المريعة
لقد صدقت أمي وصدق يحيى, إن ما بيننا مسافات شاسعة وجدران عالية لا نستطيع اجتيازها
ما أسوأ أن يأتي الحب مع تناقض الأفكار
لن يفهمني أبدا
..........................
عدت الى عملي محاولة تجاهل ذلك الانسان الذي هو أمامي كل يوم كما يتجاهلني هو ويتجنبني
لم يهتم حتى بمرضي ولا بعافيتي خلاف الجميع, وكأنني نجس لا يجب أن يقربه
وأستاذ فؤاد ينظر الينا بأسى مستشعرا ذنبا هو بعيد عنه لفشل تلك القصة الجميلة التى ما كان لها أن تتم
أما كمال فهو لا يدري أى شيء, فقد كان فاقد الوعي في ذلك اليوم ولم يخبره أحد بما حدث
حتى المقالة التى كانت معه نسي أمرها تماما
ما كنت أعتقد يوما أن ذلك التافه يمكن أن يكون سببا في تحطيم سعادتي وأملي!!
رغم الألم العميق المستقر في نفسي, الا أنني نجحت أن أعود لهدوئي واتزاني, وقررت الابتعاد عن أى شيء يتعلق بياسر وقاطعت كتاباته التى تستفز مشاعري من تحقيقات ومقالات وأى حرف يكتبه
ورغم كل ذلك لم يتركني لحالي
يا الهي.. أبعد كل ما حدث يجرؤ على التقدم الى مكتبي والجلوس أمامي!!
أشحت بوجهي بعيدا و شغلت عيناي بالنظر بعيدا عنه
قال بصوت يملؤه الألم : لم أكن أود حقا أن تصل الأمور الى هذه الدرجة
أيا يكن رأيك وتفكيرك ومدى اختلافي معه..
تنهد وصمت قليلا وكأنما لا يجد ما يقوله, وصمت تماما رافضة للرد على كلماته أو ابداء أى ردة فعل
لكنه قال بعد قليل : أيا يكن ما حدث فقد حدث وانتهى
أعلم أنك ترفضين كل ما أقوله, لكن واجب الزمالة, وحق النصح يحتم على أن أقول لك أنك تتعاملين مع الحياة ببراءة شديدة واندفاع يصل الى درجة التهور وهذا الأسلوب قد يوردك المهالك
فالحياة ليست بتلك الطيبة ولا السهولة لنقتحمها ونعتركها دون أن يكون لنا درع حامي من تروي وتعقل وتبصره ووزن للأمور
عليك أن تأخذي حذرك وتفكري في كل خطوة تقدمين عليها
صدقيني, سيكون ذلك أكثر أمنا وحماية لك ولسمعتك
صمت قليلا وعندما لم ألتفت اليه قال : قد يمنعك غضبك من تقبل كلامي الآن, ولكن ربما تتذكرينه يوما ما, وقد تلتقي الوجوه ثانية أو لا تلتقي, ولكني لا أحب أن أرحل وفي صدرك شيء
رنت كلمة (أرحل) في رأسي عدة مرات, ولكني لم أستطع أن ألتفت اليه أو أرد عليه
بالفعل كان في صدري الكثير والكثير من الغضب
قال : لو أنني أسأت اليك يوما ما عن قصد, أو حتى عن غير قصد, فأنا أرجوك أن تقبلي اعتذاري
وحتى ان لم تستطيعي ذلك, فأدعو الله أن يوفقك الى ما فيه الخير
خرج ياسر من المكتب وارتجف قلبي بعمق
معنى كلامه واضح تماما, لقد قرر ترك الجريدة ولن أراه بعد اليوم
لم أجرؤ على سؤال أستاذ فؤاد عنه ولا حتى زكي
فبأي صفة أسأل عنه وعن أخباره؟ وبعد ما حدث بيننا لا يمكنني التغلب على غضبي وتجاوز الاهانة الصريحة التى وجهها لي والتي لا يداويها اعتذاره ولا كلماته لي
بقدر ما يكون الغضب ضروريا في بعض الأحيان, لكن الانسان لا يندم على شيء قدر ندمه على قرارات اتخذها في لحظات غضب
وهذا ما حدث لي تماما
لقد أصبت بأرق عنيف وكآبة سيطرت على, كنت أمنى نفسي بأن الأمر أشبه بالإدمان, وستمضي فترة طويلة قبل أن أعتاد عدم وجوده في حياتي
لكنني كنت حزينة للغاية, تملأ دموعي وسادتي كل ليلة, ولا أستطيع البوح لأى انسان بآلامي
فلا سبيل لإحياء قصة حب وئدت في مهدها وعلى أن أنسى وألتفت الى عملي
لكنني لم أدرك حقيقة حجم ما فقدته الا بعد يومين فقط
.....................................
جاءتني مكالمة في الساعة الثانية عشرة وأنا على مكتبي زلزلتني
كانت من ابتسام التي صرخت في أذني بانفعال عنيف : أميرة.. لقد قصفوا غزة بالطائرات
صرخت بفزع حقيقي : ماذا تقولين!!
قالت بصوت باكي : الخبر الآن حيا في قنوات الأخبار
سألني أستاذ فؤاد بقلق : أهناك شيء؟
هتفت بانفعال : ضربوا غزة بالطائرات
ألقيت بالهاتف وجريت الى القاعة الكبيرة وخلفي أستاذ فؤاد, ووجدت الكثيرين قد تركوا مكاتبهم وتجمعوا حول التلفاز ليشهدوا كارثة جديدة من كوارث اسرائيل
ففي الساعة الحادية عشر والنصف صباحا قصفت اسرائيل غزة في أماكن عديدة, مستهدفة أعضاء حركة حماس وحكومتهم
خيم الذهول علينا جميعا ولم نستطع النطق ونحن نشاهد عشرات القتلى ودماؤهم تغرق الأرض والجرحى يصرخون بالشهادتين في مشهد مفزع يحرق القلوب, ولا أحد يستطيع في هذه اللحظات المفزعة تحديد حجم الكارثة ولا ادراك الخسائر في ظل صدمة فاقت كل تصور
صرخ أستاذ فؤاد فجأة بفزع : ياسر, لك الله يا بني
ترى أين أنت الآن وكيف حالك!!
التفت اليه بدهشة عارمة ولساني يردد بلا وعي : ياسر!!! ياسر في غزة؟!!
قال بألم وهو يتصل بهاتفه المحمول : لقد عاد لأهله بمجرد أن ترك الجريدة
اتسعت حدقتاي وارتفعت ضربات قلبي بعنف وأنا أردد : أهله!!
كان الخبر جديد على تماما, وأنا أتمتم بذهول وكل عرق في يرتجف : يا.. ياسر من غزة!! ياسر حسين المصري!!!
من غزة!!
ارتميت على أحد المقاعد ولساني يردد اسمه بلا وعي وعقلي يكاد أن ينفجر من الصدمة
هتف استاذ فؤاد بصوت باكي : يا الهي, انه لا يرد, أخشى أن يكون قد أصابه مكروه, اللهم سلم, اللهم سلم
لم أخفى عنى الحقيقة, لم لم يخبرني؟!!
أهو سر مخيف الى هذه الدرجة!!
الى هذه الدرجة لا يثق بي!!
لقد ذبحني ياسر ورحل دون أن ينظر خلفه
عاد الى غزة قبل يومين فقط من وقوع الكارثة
أخذت أحدق في الشاشة بذهول فوجدتها قد ملأت بالجثث المغطاة بالدماء
وكلما نظرت الى احدى الجثث أجد أمامي وجه ياسر
أبعدت عيني عن الشاشة بعد أن عجزت عن التحمل
وعدت الى البيت حطام
........................................
.........................................
يتبع