استيقظت من نومي على مكالمة من ياسر ليلقي الى بمفاجأة جديدة من مفاجآته العديدة
طلب مني أن ألتقيه على الفور, فذهبت اليه على عجل, وفوجئت أنه اختار مكان اللقاء بجوار مكتب النائب العام
ثم ألقى الى بالمفاجأة الثانية وطلب منى أن أتقدم ببلاغ للنائب العام بكل المعلومات التى جمعتها عن المستشفى الخاص وعلاقته بالمخزن
وعندما وجدني مندهشة من تصرفاته أخرج لي المفاجأة الثالثة, انها الكاميرا..
هتفت بذهول : هل ذهبت الى هناك ثانية؟!!
أجاب بطريقته العملية التى لا تدع لي أية فرصة للتفكير والاستيعاب : لا وقت الآن لمناقشة أى شيء, يجب أن تتقدمي بالبلاغ الآن
هتفت معترضة : ولكن لأى شيء والام سأسـ..؟
قاطعني مباشرة : ستقدمين اليه الفيلم الذي صورته الكاميرا
صرخت بحماس : هل التقطت الكاميرا شيء
قال : أكثر مما توقعت
هتفت باعتراض : ولكن..
التفت الى وقال بلهجة آمرة وبصوت تخلل خلاياي واشتعل في قلبي : اسمعيني جيدا, الأمر خطير بالفعل, أنت الآن معروفة لديهم, ومن السهل الوصول اليك
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يضعك في منطقة الأمان هو كشف القضية كلها وفي أسرع وقت
هذه المرة يجب أن تنشري الموضوع
أفهمت؟
يجب أن تنشريه مهما حدث, أرجوك لا تخذليني هذه المرة
دخلت الى مكتب النائب العام كالمنومة مغناطيسيا
كنت تحت تأثير شخصية ياسر وكلماته القوية
ألقيت بعقلي جانبا ونفذت كل ما قاله لي بالحرف, حتى أننى عجزت عن الاعتراض عندما رفض الدخول معي
خرجت من مكتب النائب العام وكما توقعت لم أجد ياسر
لقد رحل..
بل اختفى تماما, لم يأتي الى الجريدة مما جعل الغيظ يشتعل في قلبي
ولم أعرف الى أين ذهب الا بعد يومين
عندما تابعت على شاشة التلفاز تلك المغامرة الخطرة التى يخوضها قاربان صغيران يتجهان نحو شواطئ غزة
سفينتي غزة الحرة, وحرية
كان من الغريب حقا اطلاق لفظ سفينة على حجمهما الصغير
كانت مغامرة جريئة لها ألف معنى, فهم لم يأتوا كل هذا الطريق فقط ليقدموا ما معهم من معونات
فحجم السفينتين صغير, لا يحملان سوى النذر اليسير
انما الهدف أقوى وأعمق, لقد قطعوا تلك المسافة الطويلة من شواطئ اليونان الى شاطئ غزة مباشرة ليحطموا أسطورة الحصار
بل هو طعنة في قلب الأسطورة الاسرائيلية المرعبة, وتهديد للنفوذ الصهيوني على الرأى العام العالمي باعتبارها دولة تفعل ما تريد
عجبا. هل هذا هو عصر كل يفعل ما يريد!!!
مدير المستشفى هو أيضا يفعل ما يريد,
تلك الرحلة المذهلة هزت مشاعر العالم والعيون كلها متعلقة بالتلفاز تراقب المغامرون على متن السفينتين والأخطار التى يتعرضوا لها
كانت التهديدات الاسرائيلية مستمرة طوال الرحلة بضرب السفينتين
ومن قبل الرحلة تلقى كل المشاركين اتصالات تهديد هم وأهلهم الهدف منها تخويفهم وإثنائهم عن تلك الرحلة
لكن لأول مرة يظهر للعالم أن هناك من لا يخشى الجبروت الاسرائيلي
كانت صورة رائعة للشجاعة والتحدى أمام التهديدات الاسرائيلية الصريحة
مجموعة من البشر من مختلف الجنسيات, أغلبهم لا تربطهم علاقة بأهل غزة, لكنهم من منظمات انسانية وحقوقية
كنا نراقب ما يحدث على السفينتين وكيف تعرض كل من عليها لدوار البحر والإعياء
ثم انقطع الاتصال بالسفينتين
كان هناك تشويش على جميع أجهزة الاتصالات من انترنت وهواتف محمولة وأجهزة ملاحة
لكن القنوات الفضائية أخذت تكرر الأفلام التي التقطت للسفينتين بصورة مستمرة في جميع نشرات الأخبار في انتظار أية أخبار جديدة تصلهم من السفينتين
لوقت طويل تخيلت نفسي معهم على سطح السفينة, وتمثلت خوفهم وتوحدت مشاعري معهم
كيف يكون الانسان منقطعا عن العالم فوقه السماء وتحته البحر فوق قطعة من المعدن, ولا شيء حوله ولا هاتف معه ولا يدري من أين يأتيه الخطر
وقد يفاجئ بصاروخ ضل طريقه يسقط فوق رأسه, أو طوربيد تائه أمامه
في رحلة كتلك, كل شيء محتمل الحدوث, والخطر هو أقرب للتصور من الأمن
لقد تم التشويش على أجهزة الملاحة والانترنت وقطع الاتصالات عن القمر الصناعي
والفاعل معروف بالفعل
تلك الرحلة الانسانية الرائعة التي هزت العالم لا تخلو من جانب مرعب شديد الفزع, فعند اقتراب القاربين من شواطئ غزة, التفت الزوارق الحربية الاسرائيلية حولهما
كانت محاولات لإرهاب كل من على السفينتين وتهديد صريح بعدم الاقتراب ورسالة واضحة أن عودوا من حيث أتيتم
وراقبت بقلب مرتجف تلك اللحظات العصيبة لرجال ونساء لا أعرفهم ولم أرهم من قبل
لكن من الصعب للغاية على أى قلب حي أن يتخيل موتهم بتلك الطريقة البشعة وعلى بعد خطوات من تحقق أملهم
ففي لحظة قد يهز العالم نبأ غرق السفينتين بطوربيد اسرائيلي
لكن اسرائيل لم تفعل, هكذا دأبهم, الاستخفاء والاغتيالات بعيدا عن أنظار العالم, لكن المواجهة لا
كان التهديد مخيف بالفعل, ولا أمل لهم في المرور, الحل الوحيد هو الالتفاف والعودة من حيث أتوا, لكن هؤلاء البشر الذين قطعوا كل تلك المسافة ليصلوا الى شواطئ غزة لم يستكينوا لخوف, ولم يتراجعوا, بل أثبتوا أنهم نوعية بشرية جديدة لا تعترف بمفاوضات ولا تخضع لتهديد
أصيبت احدى السفينتين اصابة طفيفة
وصار التهديد أقوى وأقرب
ومن جديد شطح خيالي خلف أملي البعيد
أعلم أنه هناك الآن, ربما لا يزال يقف على البوابة, أو ربما دخل بشكل عادي.. أو غير عادي
لكنه هناك الآن.. أنا متأكدة
أكاد أراه بين جموع المرابطين على الشاطئ في انتظار وصول السفينتين
ربما يكون في احدى قوارب الصيد الفلسطينية التى امتلأت بأعداد كبيرة وخرجت في البحر لتستقبل السفينتين استقبال حافل بالأعلام الفلسطينية وأعلام الدول التي قدم منها هؤلاء المغامرون
أراه في وجوه الفرح العارم والسعادة الغامرة بنجاة السفينتين من كارثة محققة بعد أن تركتهم الزوارق الحربية يمرون أخيرا لتلتحم السفينتان بمئتي قارب من قوارب الصيد الصغيرة محملة بالفرح العارم والترحاب الكبير
والتفت قوارب الصيد الصغيرة حول السفينتين كما لو كانت تحتضنهما
نجح أخيرا كسر الحصار, وأصبحت تلك البقعة الصغيرة محط أنظار العالم
وعلى شاطئ غزة تفجر الفرح عارما وارتفعت الرايات والأعلام, وعلت الزغاريد والتكبيرات والتهليلات والأناشيد
خرجت غزة كلها تستقبل أحرار العالم الذين انتصروا على الخوف والتهديد بأعلام دولهم التي أتوا منها ممتزجة بأعلام فلسطين
تأملت في شاشة التلفاز الوجوه الفرحة المحتشدة للترحيب بالمغامرين المتضامنين وفي داخلي يقين بأنني سأرى ياسر هناك
لكنني لم أره
في تلك اللحظة وصلتني مكالمة من أستاذ حمدي يدعوني فيها لرحلة سريعة الى غزة غدا
كان صوته يحمل مشاعر شتى, فرح, شجن, حماس..
وافقت على الفور
وفي اليوم التالي عندما وصلت الى مكان التجمع للمشاركين في الرحلة, وجدت حافلتين فقط, انها رحلة سريعة بالفعل
ووجدت ابتسام وعمر ود. عبد الفتاح, الكل مستعد ومتحمس لأقصى درجة
أدركت أن هناك من يجلس منتظرا, مترقبا فقط أن يفتح الباب ولو لدقائق فيلج في لحظة خاطفة محققا أملا طال انتظاره
هناك من يفضل رحلة كتلك على عمله وبيته ومصالحه الشخصية, وقد يتحمل في سبيلها المشاق والخطر
ملأني الشعور بالفخر بأنني بين هؤلاء البشر
بالفعل لسنا أقل من من قدموا من أطراف العالم متحملين المشاق والأخطار تضامنا وتأييدا لغزة
شعور قد يدفع الانسان حياته برضا من أجل أن يصل اليه
سارت الرحلة محملة بالآمال الكبيرة للوصول الى غزة
وقد نلتقي هناك المتضامنين الذين أتوا لكسر الحصار,فتكون الفرحة أفراح وعندها أستطيع أن أحصل منهم على مجموعة من الأحاديث الصحفية
لكن الأمل قتل عند كوبري السلام
ووئدت الفرحة في قلوب الجميع وتحولت الى قهر مؤلم
فقد عجزنا عن دخول سيناء بأية وسيلة
وعادت القافلة الصغيرة أدراجها محملة بحطام الأمل وأشلاء الفرح
لكن هذه المرة لم نعد الى بيوتنا, بل عدنا الى النقابة لنتدارس الموقف ونتفق على ما سنفعله
لقد تم منعنا من دخول جزء من بلدنا, وصددنا عنوة عن احدى محافظاتنا,وعلينا ايصال صوتنا لكل الناس في الداخل والخارج
لا يمكن أن نقبل أبدا أن يتم كسر الحصار عن طريق البحر ومن بشر قادمين من أقاصي الأرض
ونحن لا يفصلنا عن غزة سوى أمتار ونعجز عن كسر الحصار
..............................
..........................
طالت غيبة ياسر, وانتابني غضب شديد, فلقد سيطرت على فكرة وحيدة وهي كيف له ألا يخبرني بأنه ذاهب الى هناك؟ بل كيف لم يهتم حتى أن يدعوني للذهاب معه الى هناك وهو يعلم جيدا أهمية تلك الرحلة بالنسبة لي؟
وكأن من حقي أن أذهب معه, و أنه أخطأ خطأ فادحا لأنه لم يخبرني بأنه سيذهب الى هناك
قضيت الأيام أتخيل ماذا سأقول له, وكيف سألومه على ما فعله عندما أراه
لكن شيء من هذا لم يحدث, لقد نجح ياسر أن يحطم غضبي ويزيله تماما بأسلوبه الخاص
لقد فوجئت تماما عندما دخل علينا المكتب وفي يده كعكة فاخرة وسبقت تهنئته الأنيقة لي غضبي
لقد هنأني بلباقة شديدة وبفخر حقيقي على تحقيقي الصحفي عن تجارة الأعضاء الذي هز البلد من شرقها الى غربها, وكان سببا في كشف عصابة كبيرة للإتجار بالأعضاء البشرية وتقديم أفرادها للمحاكمة
انعقد لساني أمامه وعجزت عن الرد
ما كنت أتوقع أن يقوم ياسر بالإتفاق مع الأستاذ فؤاد لإقامة حفل لي في المكتب
بالفعل كانت مفاجأة قوية هزتني من الداخل, وأقوى ما فيها أنها كانت خطوة جريئة من ياسر لم أتوقع أبدا أن تصدر منه
لقد استطعت أخيرا أن أنتزع اعجاب ياسر بتحقيق قوي لي, وكان هذا بالنسبة لي هو أكبر تقدير حصلت عليه
بعد الاحتفال, عاد كل الى عمله, وأخذت أنظر نحو ياسر بتردد محاولة استجماع شجاعتي لأتحدث اليه
أعلم أنه سيرفض, بالتأكيد سيرفض, لكن لا مفر من أن أعرض عليه الأمر
جلست أمام مكتبه, فاتسعت ابتسامته وعينه في الأوراق التي أمامه
وضعت أمامه هاتف محمول حديث كان مستقرا في حقيبتي منذ اليوم الذي اشتريته فيه في انتظار أن تأتيني الشجاعة الكافية لأقدمه اليه
نظر الى الهاتف, وعلى عكس ما كنت أتوقع لم يتجهم وجهه, بل ابتسم وقال بهدوء : ما هذا!!
قلت بتوتر : اشتريته من فترة وكنت أود أن..
لم أجد كلمات مناسبة أكمل بها الجملة, فقد كنت أتحرز لضيقه وغضبه, ولكنه لم يغضب, بل اتسعت ابتسامته وقال بهدوء : ألا يكفي أن تحملت التكاليف الباهظة لإصلاح السيارة رغم عدم رضاي عن هذا التصرف؟!!
قلت بقلق : لقد تسببت في كل تلك الخسائر وعلى أن أصلح ما أفسدته
قال : حسنا. لن أناقش ذلك رغم ضيقي به, والآن!! هاتف محمول حديث!!!
قلت بسرعة : أرجوك أن تقبله, يكفي كل ما فعلته لأجلي, لقد كدت تفقد حياتك بسببي
قال بلهجة هادئة : أولا لم يكن ما حدث بسببك, فدعي عنك الشعور بالذنب, لأنه لو تكرر ذلك عشرات المرات لفعلت ما فعلته تماما عن طيب خاطر
ثانيا لن أستطيع قبول تلك الهدية الغالية, أنا آسف, فهذا لا يتفق مع مبادئي وأفكاري
زفرت بإحباط وهززت رأسي بأسف : أعلم, أعلم أنك لن تقبلها أبدا, لكن ذلك يؤلمني حقا
صدقني لا أستطيع أن أتحمل ذلك الشعور بالذنب
لقد تسببت في جرحك وفقد هاتفك وكسر نظارتك, فقط أحاول أن ..
قاطعني باسما : الأمر أبسط مما تعتقدين, حياتي لم تكن يوما رفاهية سعيدة, إن ما حدث لا يعد شيئا أمام ما نراه في حياتنا كل يوم, فلا تستسلمي للإحساس بالذنب
قلت بضيق : اذا, فلن تقبله؟
قال باسما : بالتأكيد كلا
قلت بألم : لا أدري ما الذي يمكن أن أفعله لأشكر لك صنيعك لأجلي؟
قال باسما : لا تتعجلي, ربما كنت أطمع في شيء آخر أغلى بكثير من مجرد هاتف محمول
أصابتني جملته الأخيرة في الصميم, وكدت أترك العنان لمشاعري وأحلامي
لكن ما ألجمني هو خوفي من أن أكون قد فهمت جملته على غير ما يعنيه
لم أعد أستطيع أن أقرأ ما في عقله من خلال عيناه كما في السابق
أو بمعنى آخر, أخاف أن أقرأ ما يفكر فيه وأخطئ التفسير وقد أسقط من برج أحلامي التي تعلو فوق السحاب
وعندها لن أستطيع أبدا أن ألملم شظايا قلبي
المشكلة أن ياسر لم يصرح بشيء, مجرد كلمات تحتمل آلاف المعاني لا أستطيع أن أضع عليها آمالا
ومرت الأيام وأنا في حالة من الترقب والانتظار
أحتاج لإشارة, لكلمة, لأى شيء
لكن ما حدث كان عكس ما توقعته وتمنيته وما كنت أنتظره
لقد تغيرت معاملته لي تماما, وبعد أن كنت أظن أننا نحرز تقدما نحو التقارب
وجدت أننا قد عدنا الى ما خلف نقطة البداية
أصبح ياسر يتجاهلني تماما ويبتعد بشكل ملحوظ عن أية مناقشة أو حوار يمكن أن يجمعنا
لم يكن هذا وهما في عقلي, بل ان أستاذ فؤاد نفسه لاحظ ذلك وسألني بيني وبينه إن كان صدر مني شيء دفع ياسر الى ذلك التغير الغريب؟ لكنني أكدت له أنني لم أتصرف أى تصرف يوغر صدره ضدي
بدأت أشعر بتخبط شديد بداخلي وفراغ هائل, وكلما مر يوم علي وهو يعاملني بجفاء قاتل, أجد نفسي أتألم بعمق ولا أجد سوى وسادتي كل ليلة أسمح لها برؤية دموعي وألمي
وكم قضيت أوقاتا طويلة أتحدث الى سترته السوداء المعلقة على خزانتي وألومها وأسألها عن سبب تغيره الغريب وما الذي فعلته لينقلب على بهذه الطريقة
وأهملت اللجنة تماما ولم أعد أذهب الى الاجتماعات ولا الندوات ولا ألبي الدعوات التى تصلني
فقد انحصر نشاط اللجنة على المظاهرات والاعتراضات فقط, وهذا هو أسوأ ما في الأمر
وتجنبت كل المكالمات الهاتفية التي تأتيني من ابتسام وأستاذ حمدي ود. عبد الفتاح وأخذت أتذرع بحجج شتى بعيدة عن الواقع للهروب منهم
ولاحظت أمي تغيري وكآبتي وحاولت أن تعرف مني أى شيء ولم تفلح, واستعانت بيحيى صديقي الوحيد لينصحني أو حتى يعرف ما بي
وكانت المرة الأولى التي أراه يأتي خصيصا عند مضمار الخيل دون أن أستدعيه
لكن الغريب أن رؤيته لم تثر بداخلي تلك المشاعر الأخوية الجياشة التى تغمرني كلما رأيته
هذه المرة سلمت عليه ببرود, وتمنيت أن ينتهي اللقاء سريعا ليعود من حيث أتى
وشعر هو بمدى انغلاقي وابتعادي عنه فرحل دون أن يعرف ما جاء ليعرفه, لقد أدرك أخيرا كم اتسعت الفجوة التي بيني وبينه
عجبا, ما أغرب تقلبات الانسان!!
ذلك الصديق العزيز الذي كانت مجرد رؤيته تثير في قلبي الشوق والفرح
لم يعد بامكاني البوح له بما في قلبي, ولا بالألم الذي يزداد داخلي يوما بعد يوم
لقد أدار ياسر ظهره لي وأصبح واضحا أنه يتعمد الابتعاد عن المكتب لأطول فترة ممكنة
والآن على التصرف, يجب أن أفعل شيء, يجب أن أتحدث اليه
لكن في المكتب لا أستطيع فقد يعرض عنى أو يحرجني أمام كمال وشيرين وأستاذ فؤاد وهذا ما لن أتحمله أبدا
لقد أصبح ياسر شخصا آخر منغلقا وضائقا بكل شيء, وفارقته الابتسامة البشوشة التي كانت تزين وجهه دائما
كان يبدو كما لو كان يمر بمحنة أو ظرف مؤلم أو بضغوط شديدة الوطأة
لذلك كان اصراري للتحدث اليه ومعرفة ما به يزداد يوما بعد يوم
فقد رأيت أن من واجبي أن أطمئن عليه وأهتم لآلامه, ان لم يكن للتقدير الكبير الذي أحمله له في قلبي, فعلى الأقل بصفته زميل وصديق وانسان ساندني في مواقف كثيرة
واعتقدت أن الفرصة أتت عندما أخبرتني ابتسام أن اللجنة اتفقت على تسيير قافلة جديدة الى غزة
وقررت أن أقنعه بالذهاب معنا هذه المرة
وأخيرا جرؤت على الاقتراب منه والجلوس أمامه, لكن الضيق الذي كسا ملامحه جعلني أتردد قليلا
قال بأسلوب جاف : أهناك شيء؟
تجاوزت ذلك الأسلوب الخشن الذي لم أعتده منه وقلت مباشرة : بلى, هناك قافلة ستخرج بعد غد الى غزة
قال باقتضاب : وفقكم الله
قلت بسرعة : يجب أن تأتي معنا
قال بحدة : كلا
فاجأتني مباشرته الحادة, لكنني قلت برجاء : ياسر, أرجوك, هذه المرة يجب أن تأتي معنا, عمر سيسره ذلك كثيرا, وأستاذ حمدي وأعضاء اللجنة
قال بضيق : تعلمين أن مشاركتي في اللجنة هي من الأمور المستحيلة
قلت بانفعال : كيف تقول هذا!!الكل هناك يعرفك وينتظرون منك تلك الخطوة, لن أقوم من مكاني حتى توافق
قال بحدة : الموضوع منته, لن أذهب
اشتعل غضبي وهتفت بصوت سمعه كل من في المكتب : بل ستأتي, حتى لو رغما عنك, لقد كنت هناك أكثر من مرة
لأول مرة ينظر الى, لكن نظراته كانت مخيفة, وشعرت بعضلاتي ترتجف من التوتر, وقال بلهجة جمدت دمائي : حذرتك من قبل أن تلزمي حدودك ولا تصرخي في وجهي, واعلمي أن ذهابي أو عدمه هو شيء خاص بي ولا دخل لك ولا لأى مخلوق فيما أفعله, أفهمت؟
لم أستطع أن أنطق, لقد جف حلقي تماما والتصق لساني في موضعه
لكنني انتفضت من أمامه وأخذت حقيبتي وغادرت المكان بخطوات تدك الأرض غضبا دون أن ألتفت لأستاذ فؤاد الذي أخذ يناديني
كان على الهروب بأسرع ما أستطيعه والاختفاء في مكان أستطيع فيه أن أترك دموعي تغسل غضبي وألمي واحباطي بعيدا عن أى عين
لقد سحق ياسر فؤادي, والمشكلة أنني لا أفهم ما الذي فعلته ولا أعرف سبب تغيره نحوي
كانت ذكرياتي معه تتداعى الى رأسي وأنا أسكب دموعي ونحيبي في وسادتي
كنت أحاسب نفسي كل دقيقة ما الذي فعلته ليتغير نحوى بهذه الطريقة؟!!
وكانت أمي تدق الباب على كل فترة لتطمئن, وأنا لا أستطيع أن أفتح لها وأنا على تلك الحالة المزرية
هدأت دموعي أخيرا وغسلت وجهي جيدا وفتحت لها الباب, وأخذت تلح على بقوة لتعرف ما بي, ولكنها لم تصل معي لشيء
وأنا أحاول قدر جهدي أن أطمئنها بأنني قوية وراشدة وسأتجاوز أى أزمة تمر بي
لم أستطع أن أطمئن قلقها, لكنها استسلمت أخيرا لرغبتي في ادارة شئوني بنفسي ومواجهة أزماتي دون عون خارجي
....................................
يتبع