أحبتي في الله
أعتذر لكم عن الرد على كلماتكم الجميلة وتعليقاتكم المفيدة
وقت العيد ضيق جدا كل عام وانتم بخير
وان شاء الله لي عودة قريبا للرد علي كل تعليق
تقبلوا تحياتي وتقديري
..........................................................
بدأت أشعر بالدموع الساخنة تهاجم جفوني, كنت أدعو دعاء المضطر في الكربات
ومع الدعاء كان على بذل أقصى جهد عقلي لأخرج من هذا المكان بأقل قدر من الخسائر, قاومت دموعي وأنا أحاول استدعاء الشجاعة بتلاوة أدعية الكربات والأزمات المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم
وبدأ عقلي يتخلص من سجن الخوف, وأدركت أنه لا أحد عرف مكاني حتى الآن, اذا فعلى مواصلة السير بنفس الطريقة عكس الاتجاه الذي قدمت فيه بالسيارة وأستدعي كل مشاهد الذاكرة التي مرت على في طريق القدوم, عندها سأصل ان شاء الله الى الطريق الرئيسي
عبرت المنطقة التي فيها سيارتي والرجل الغريب متسللة بهدوء فوق أرض المصرف, وحمدت الله كثيرا, عندما تذكرت أن الظلام كما هو مخيف الا أن له فائدة عظيمة بأن يخفيني عن الأعين المتربصة
سرت طويلا حتى وصلت الى نهاية المصرف, وكان ونيسي في تلك الرحلة المخيفة ضوء القمر الشاحب, وأنا أحاول بكل قوتي ادخال الشجاعة عنوة الى عقلي وقلبي لتبعد أفكاري السوداء من وجود حشرات ضارة وثعابين في هذا المصرف
أخيرا وصلت الى نهاية المصرف وصعدت المنحدر بسرعة الى الطريق, وجريت بكل قوتي عكس الطريق الذي أتيت فيه بالسيارة, كانت هناك سيارات قليلة على الطريق, ولم يكن من الممكن المجازفة بأن أوقف احداها وأنا لا أعلم من فيها ولا ماذا ينتظرني
كانت المنطقة زراعية على جانبي الطريق, قليلة الخدمات فلا هواتف ولا محلات ولا دكاكين
أخيرا وجدت مجموعة من الرجال يجلسون على جانب الطريق وقفت وسألتهم عن أقرب نقطة شرطة, فأجاب أحدهم بأنها على بعد ثلاثة كيلومترات
كدت أن أستأنف السير لولا أن عرض على أحدهم المساعدة, فشكرته بسرعة : شكرا لك, لقد سرقت سيارتي وأريد عمل محضر في نقطة الشرطة
لم أنتظر لحظة وانطلقت في اتجاه النقطة حتى وصلت أخيرا
حمدت الله الذي رعاني حتى وصلت الى منطقة الأمان
دخلت الى مكتب ضابط برتبة رائد وحكيت له القصة باختصار وما أتى بي الى هنا وكل شكوكي وشكوك أهالي القرية, وما رأيته في المخزن
ولكن لا أدري حقا كيف أغفلت موضوع الكاميرا التي تركتها فوق سطح المخزن؟ وهل نسيت فعلا أم أنني أغفلتها عمدا؟ لا أذكر حقيقة, كل ما أذكره أنني كنت مرتبكة للغاية وقلقة
استمع الضابط الى جيدا في هدوء ثم سألني : اذا فالأمر كله مجرد شكوك ولم تري شيء بعينيك
هتفت بانفعال : لقد رأيت بعيني حجرة العمليات, أهناك سبب مقنع لوجود حجرة للعمليات مجهزة في ذلك المكان الغريب الا لو أن في الأمر مصيبة؟؟ حتى لو لم تكن هناك مصيبة ولا جريمة, ولكنها حجرة عمليات لا أحد يعلم عنها شيء
أم أن نقابة الأطباء ستسمح بانشاء حجرات للعمليات السريعة في كل قرية خدمة للمواطنين!!!
يبدو أن سخريتي استفزته فقال بضيق : ألا يمكن أن يكون مخزن عادي يحوي أدوات طبية مخزنة واختلط عليك الأمر؟ أو ربما من أخبرك يريد تضليلك؟ أو..
تعجبت للغاية من رد فعله البارد وكلماته المستفزة, وبدأ القلق يغزو عقلي, لكنني أفقت على سؤاله المفاجئ لي : أين الكاميرا؟
قلت مدعية الدهشة والبراءة :الكاميرا!!
فقد وجدت نفسي لا أرغب في اخباره أين الكاميرا الآن, يبدو أنني في الفترة الأخيرة قد تحولت مشاعري بصورة كبيرة تجاه أجهزة الأمن والشرطة
قلت مدعية البراءة : للأسف لم يأتي المصور معي, لقد رفض المدير اعطاؤه اذن للخروج معي, قال لي أن أجمع المعلومات واذا ما توصلت لشيء فسوف.. لن أشغل رأسك بتفاصيل عملنا
همهم قائلا : ولكن بالتأكيد معك هاتف بكاميرا, وربما صورت بعض الصور
ازداد ارتيابي به أضعافا مضاعفة, فهتفت بتمثيل : أوه, ذكرتني, أتصدق ما حدث لي, لقد انقطع شحن هاتفي
قال بتأفف : اذا فلا دليل لديك على ما تقولينه, أنصحك بالانصراف يا آنسة
ابتلعت ريقي بتوتر, وقلت له : على الأقل أريد تقديم بلاغ للشرطة لتبحث لي عن سيارتي
قال بتأفف وهو يخرج ورقة وقلم من درج مكتبه : تفضلي, اكتبي بيانات سيارتك وسنجري التحريات اللازمة
تركني ونهض من خلف مكتبه وقال للجندي الواقف على الباب : اياك أن تتحرك من هنا حتى أعود
هبط قلبي فى أقدامي, فبصورة ما شعرت أن الأمر الذي أصدره (بألا تتحرك) المقصود به أنا وليس الجندي
وبقيت أفكر في الورطة الجديدة التي علقت بها
شعرت أنني مسجونة في القسم وأن على حراسة
والآن كيف سأتصرف؟
أخذت أدعو الله في سري أن ينجيني,وأخذت أتأمل الهاتف المحمول للرائد وقد تركه على مكتبه
يا للإغراء فقط لو أنفرد به لبضع دقائق
لا بأس من محاولة
التفت الى الجندي وأخرجت من جيبي مبلغا من المال وقلت له : من فضلك, هلا أتيت لي بكوب ماء
قال بآلية : غير مسموح لي بمغادرة المكان
قلت أستعطفه وأنا أعطيه المال : من فضلك, أكاد أموت عطشا, لن أخبر الضابط بأى شيء, أنت لم تغادر المكان
نظر الى قليلا ثم ذهب ليحضر لي الماء بعد أن وضع المال في جيبه
خطفت الهاتف وضغطت مفاتيحه بسرعة على رقم منقذي والذي أحفظه في عقلي عن ظهر قلب
وأدركت أنني أيقظته من نومه عندما جاءني صوته ناعسا: السلام عليكم
لم أضع ثانية واحدة وقلت بصوت خفيض : ياسر, أنا في ورطة كبيرة, أحتاج للمساعدة, لم أكن أ..
قاطعني صوته الجاد المنتبه يغمره القلق : أين أنت الآن؟
قلت بارتباك شديد وعيني على الباب : أنا آسفة, لم أجد سواك لأطلب منه العون
قاطعني بحزم : أميرة, أخبريني أين أنت بسرعة
أخبرته بمكان نقطة الشرطة بدقة ثم قلت : ولكني أشعر بأنني سجينة هنا, هذا الضابط لا أستطيع أن أثق به, وكأنه يدبر لشيء ما
أخرجت رأسي من باب الحجرة وأخذت أنظر يمينا ويسارا أراقب الممر حتى لا أفاجأ بعودة الجندي, وسمعته يقول : سأكون عندك في أسرع وقت, حاولي الخروج من عندك بأية وسيلة, لا تبقي هناك وحيدة ولا تعطيه أية بيانات عنك أغلقت الهاتف فجأة عندما وجدت الجندي قادم, ووضعت الهاتف في جيبي مضطرة, أعطاني كوب الماء وشكرته ممتنة, وأخذت أفكر في حيلة جديدة للفرار من هذا المكان, قلت له : أ لديكم هنا حمام؟
قال : بلى
قلت : أحتاج للذهاب الى الحمام
قال : ولكن ..
قلت بسرعة : لا أعتقد أن الضابط يمكن أن يمانع في ذهابي الى الحمام؟ كما أننا في مكان بعيد عن العمران, والساعة الآن تقترب من منتصف الليل
كاد أن يصطحبني الى الحمام, لكن مبلغا آخر من المال جعله يلزم مكانه, وبدلا من أن أتجه حيث أشار لي, اتخذت الجهة الأخرى, وسرت بأكبر ثقة في نفسي وعبرت بوابة القسم وأنا ألقي السلام على الجندي الواقف عند البوابة, ثم انعطفت يمين القسم, ولكنني ارتددت برعب عندما وجدت الضابط هناك,كان يقف مع رجل ألقى منظره في قلبي الريبة
ترى, هل شاهدت الكثير من الأفلام البوليسية في الفترة الأخيرة, أم أن هذا الرجل منهم بالفعل؟!!
فما الذي يضطر ضابط الشرطة الى مغادرة مكتبه في تلك الساعة ليقف مع رجل في مكان شبه مظلم خلف القسم, أما كان عليه استدعاؤه الى مكتبه؟!!
في موقفي هذا على افتراض أسوأ الظنون الى أن يثبت العكس, وتذكرت كلمات ياسر : لا تثقي أبدا بأى انسان
تراجعت بهدوء الى الناحية الأخرى, وأخذت أجد في السير حتى ابتعدت عن نقطة الشرطة, عندها فقط انطلقت أجري بأقصى قوة لدي حتى أنهكني التعب وتقطعت أنفاسي
لم أشعر بالأمن وأنا على الطريق الرئيسي, فما أسهل أن تجدني أية سيارة للشرطة اذا ما فكر الضابط في تتبعي
اتجهت الى داخل الأرض الزراعية عموديا على الطريق وسرت في الظلام على الأرض الطينية بين المزروعات
ورأيت أشباح سوداء طويلة للغاية وعرفتها على الفور,واتجهت اليها وكأنما ألوذ بها, كانت بضع نخلات متجاورات, جلست في كنفها أنتظر ياسر في الظلام والخوف يأكل قلبي ,وحاولت قدر جهدي أن أشغل عقلي بأي شيء بعيدا عن المخاوف والوساوس من لصوص وقطاع الطرق وحيوانات برية كالسلعوة والثعالب
هذا غير الحشرات الكبيرة وهوام الليل
أدركت لحظتها كم هي عظيمة نعمة القرار في بيت يستر ليلنا
انتفضت بفزع هائل عندما سمعت صوت موسيقى, أخذت أبحث عن مصدره وأنا أرتجف
الآن فقط تذكرت أن هاتف الضابط لازال معي
يا لحظي العثر, انها جريمة سرقة, ولا شك أنه الضابط يتصل وهو يعلم أنني أخذت الهاتف
أخرجته من جيبي وجعلته على الصامت لكي لا يفضح صوته مكاني ولم أرد
يبدو أنه لا شيء سيء على الاطلاق, فهناك الكثير من الايجابيات حتى في أسوأ المواقف
لقد امتلكت وسيلة تربطني بياسر, وبمجرد أن توقف الاتصال اتصلت بياسر على الفور, لم تكتمل الرنة حتى أتاني صوته يغمرني باطمئنان غريب : أنا قريب منك للغاية, كيف الحال عندك؟
ابتسمت رغما عني, فقد أدركت أن ياسر عندما ينطق كلمة فهو يعلم بذكاء بالغ كيف يضعها في مكانها المناسب
لقد وقعت كلماته على قلبي بردا وسلاما فقلت : حسنا لقد فعلت كل ما قلته لي ونجوت من نقطة الشرطة, وأنا الآن أختبئ في أحد الحقول التي على الطريق
جاءني صوته فرحا : هذا أروع خبر سمعته اليوم لقد وفرت على مشكلة كبيرة, اذ ليس على الآن اقتحام نقطة الشرطة والصراع لإخراجك من هناك
قلت بابتسامة كبيرة : أو كنت ستقتحم النقطة لأجلي
قال مازحا : لم يكن هناك حل آخر أمامي, ولكن عندها سيكون عليك تحمل العواقب الرهيبة عندما يزج باسمك في قضية ارهاب دولية
فأنت أكثر من يعلم كيف ينظر الأمن لأمثالنا
قلت ضاحكة : هل صارت الصحافة مخيفة الى هذه الدرجة!!
قال بهدوء : أتمنى ألا تندمي يوما على اختيارك لي لمساعدتك
قلت وأنا مستمتعة تماما بالحوار معه فقد جعلني أنسى خوفي : لا ليس الى هذه الدرجة, أعلم أنك صحفي مشاكس للغاية ولكن لا أعتقد أنك خطر
قال مازحا : بل ربما وصل الأمر الى محاكمة عسكرية أو خلية صغيرة معدة ومضبوطة على مقاسنا
أضحكني مزاحه كثيرا حتى دمعت عيناي وهو يكمل : تعلمين أنني لست قليلا في هذه البلاد
مجرد تواجد اسمي في هاتفك المحمول قد يجعلهم يشتبهون بك ويضعونك تحت المراقبة
تركته يتكلم وأنا أشعر بسعادة غامرة وأقدر تماما ما يفعله لأجلي
لقد لمس ياسر مدى خوفي, وما كان مزاحة الا لإشعاري بالأمن والطمأنينة, ونجح في ذلك بالفعل
قال عندما طال صمتي : أميرة, سأنهي المكالمة الآن
هتفت بدهشة : ماذا!!
قال بهدوء : لا أريد أن أفاجأ بأن شحن جوالك قد انتهى, وعندها سأظل أبحث عنك طوال الليل بلا جدوى
يمكنك أن تغلقي الهاتف الآن, وفي أية لحظة تشعرين بالخطر, فقط رنة واحدة وأكون معك
قلت وأنا أشعر بالدموع تملأ عيني : حسنا, سأفعل كل ما تقوله لي
قال : في رعاية الله
أغلقت الهاتف, ونزلت الدموع الساخنة من عيني وأنا أمسك الهاتف بين يدي وكأنني أمسك بقلبي
لازال ياسر مصر أن يثبت لي في كل لحظة أن هناك رجال في هذا الكون من النبلاء
تركت الهاتف يرن مرات ومرات وأنا أضعه على الصامت, لا شك أنه سيجن ان لم يصل الى, وقد يرسل سيارة الشرطة للبحث عني
أخيرا جاءني الاتصال الذي كنت أنتظره, رددت بسرعة : ياسر
قال مباشرة : لقد تركت خلفي نقطة الشرطة, وأنا الآن على الطريق, حاولي أن تحددي مكانك بدقة
قمت من مكاني بسرعة واتجهت الى الطريق الرئيسي, وعندما وصلت الى الأسفلت قلت له : أنا على الطريق الآن
قال : جيد, ابحثي عن علامة مميزة على الطريق
أخذت أجد في السير وأنا أتلفت في كل اتجاه أبحث عن أية علامة مميزة على الطريق, كانت الأرض الزراعية ممتدة على الجانبين, وصلت أخيرا الى لافتة كبيرة عليها اعلان, وصفت له الاعلان وأخذت انظر يمينا ويسارا حتى وجدت مسجد على الجهة الأخرى من الطريق, كان مظلما لكن مئذنته واضحة على ضوء السيارات العابرة وضوء أعمدة الطريق
تملكني فجأة شعور هائل بالقلق لم أعرف ما مصدره الا عندما التفت خلفي ووجدت رجلا يتبعني بأمتار قليلة
قلت بتوتر : ياسر, يبدو أن أحدهم يتبعني
هتف بتوتر : لا تدعيه يمسك بك, كدت أصل
أطلقت ساقاى عدوا وأنا أمسك بالهاتف وياسر معي على الخط وعقلي مع من يطاردني والذي كان يقترب بسرعة, وأنا أحاول الفرار بأقصى جهدي, لكنه كان أسرع مني
وعبرت الطريق الى الجهة المقابلة التي فيها المسجد بتلقائية كما لو كنت ألجأ لربي لأحتمي ببيته, فليس لي سواه الآن, وأنا أصرخ بقلبي : يا رب يا رب
وبمجرد أن عبرت الطريق حتى مرقت سيارة بيني وبين مطاردي عطلته قليلا’ ثم عاد يطاردني
نزلت من الطريق الأسفلتي الى الأرض الطينية وأنا أسمع من خلفي صوت صرير عجلات سيارة تحتك بشدة بالأسفلت وفرملة قوية
لم ألتفت خلفي أبدا, لكني شعرت بمن يمسك ذراعي بعنف ويجبرني بقوة على التوقف, لقد أمسك بي الرجل
وجمدني الرعب في مكاني
..................................
................................
أخذت أنظر الى ذلك الوجه الأسود الذي زاده الظلام سوادا وشرا وكأنما أتى من وكر الشياطين
لقد انتهى أمري
لكن في لحظة أتت النجدة من السماء
لقد انشقت السماء عن شبح طويل قفز فوق مطاردي تماما فأسقطه أرضا, واختل توازني بعد أن كاد أن يجذبني معه الى الأرض, ولكنني استعدت توازني بسرعة وابتعدت في الوقت المناسب
وقفت أتفرج على الأشباح السوداء التي التحمت في معركة يدوية على الأضواء الخافتة للطريق
وتعجبت من نفسي, فمن لحظات كدت أموت رعبا
لكن الآن انمحى أى شعور بالخوف وغمرني اطمئنان عجيب
لا عجب, فقد وصل ياسر أخيرا
كان ياسر يتمتع بلياقة بدنية عالية, وتغلب على خصمه بسرعة
كان من الصعب حقا أن أكتم اعجابي هذه المرة
ورغم هذا فلم أجد أية فرصة لإبداء اعجابي, فقد هتف بي وهو يلهث : هيا
صعد الى الأسفلت قفزا, وتبعته مسرعة
لكنه توقف فجأة وتوقفت بدوري عندما فوجئت بمجموعة من الرجال أمامنا مباشرة, ودق قلبي بعنف, لقد حوصرنا
وأدركت بعقلي أنهم يعملون لدى أصحاب المخزن والمستشفى
وجدت نفسي أرتعد خوفا وأتوارى خلف كتف ياسر الذي لم يتحرك أبدا من مكانه
كانوا أربعة يقطعون الطريق بيننا وبين سيارة ياسر, وأخذوا يتقدمون منا بثقة
همس لي وهو يراقبهم وهم يقتربون : اسمعيني جيدا, سأحاول تعطيلهم قدر ما أستطيع وأنت انطلقي الى اليمين على الأرض الطينية في الظلام, والتفي من خلفهم بسرعة وعودي الى الطريق وستجدي السيارة التي أتيت بها بابها مفتوح والمفاتيح بها
انطلقي بها بأقصى سرعة ولا تنظري خلفك أبدا
نظرت اليه بدهشة وأنا أهمس معترضة : وأنت!!
همس بحزم قاسي : أطيعيني ولا تزيدي في الكلام
فكري في شيء واحد فقط, إن نجاتك تعتمد على سرعة وصولك للسيارة
أصبح الأربعة على مقربة منا, وتبينت ما في يد أحدهم, كان مسلحا برشاش
انتابتني رعدة هائلة في جسدي وتشبثت أصابعي بكم ياسر بلا وعي
همس قائلا : الآن
انطلقت أجري فجأة ولم أنظر خلفي أبدا كما أمرني
لم أكن أحتاج للإلتفات لأعرف أن ياسر يخوض معركة رهيبة ضد أربعة رجال أشداء وأحدهم مسلح, فقد كانت الأصوات التي تصل الى أذني تكفي لأفهم
وصلت الى السيارة بفضل من الله, ثم بتنفيذي لكلام ياسر بالحرف دون تفكير
الا في نقطة واحدة فقط
ألا أنظر خلفي, ولكن لم يكن باستطاعتي أن أفعل هذا وأنا مدركة لمدى الخطر الرهيب الذي يواجهه وحده وبسببي
التففت عائدة بالسيارة , ورأيتهم وهم يتكتلون عليه
المراقب لهذا الموقف يدرك تماما أن معركة ياسر خاسرة, وأنه هالك لا محالة
لكن هدف ياسر لم يكن الفوز عليهم, ولا حتى النجاة منهم
بل تعطيلهم لأطول وقت حتى لا يصلوا الى
وهذا بالضبط ما حدث
لا أدري كيف انتابتني الشجاعة لأفعل هذا, ولكنني فعلته
وجدت نفسي أندفع بالسيارة تجاههم بسرعتها القصوى
فجأة برز أحدهم أمام السيارة, وكان ذلك مرعبا للغاية
حاولت جهدي أن أتفاداه, وانحرفت بالسيارة, ورغم كل هذا صدمته بالفعل
فجأة صمت أذناي أصوات طلقات رصاص متوالية أفزعتني بعنف وأجبرتني أن أهبط الى قاع السيارة
وشعرت بجسد السيارة يهتز مع صوت الطلقات, وأدركت أن السيارة أصيبت وحاولت النجاة من الباب الثاني,وفتحته بالفعل ووليت هاربة, ولكن الى أين أذهب؟!!
التفت بخوف أبحث عن ياسر لأحتمي به, وفوجئت بمنظر لن أنساه في حياتي
كان ياسر ممسكا بالرجل المسلح, والصراع بينهما على أشده, وياسر يحاول انتزاع الرشاش منه, والمشهد يوحي أن الغلبة للأشرار, اثنان منهم يهمان بتطويق ياسر من الخلف
لكن يبدو أن لوجودي نفع كبير, فقد تركا ياسر وانطلقا يطارداني, وفهمت لحظتها أن المطلوب هو القضاء على أى شخص يحاول كشف حقيقة المخزن وما يدور فيه
انطلقت أجري على الطريق الأسفلتي نجاة بحياتي, لكنني لم أبتعد كثيرا, فقد سمعت ياسر يصرخ : توقفوا
تلاه صوت رصاص كثيف أرعبني وجعلني أتوقف وأخفض رأسي
التفت أخيرا لأجد الوضع تبدل بصورة عكسية, فياسر الآن هو الذي يمسك بالسلاح, والرجل الذي صدمته بالسيارة ملقى في الأرض لا يستطيع الوقوف, وصاحب الرشاش تحت أقدام ياسر, والاثنان الآخران توقفا تحت تهديد السلاح
جريت نحو ياسر بعد أن تبدلت مشاعري في لمح البصر ووقفت خلفه أحتمي به, وغمرتني سعادة هائلة وفخر كبير بذلك الفارس المنقذ
وفي لحظة شعرت وكأن ياسر ألقى بي داخل قصة قديمة من عالم ألف ليلة,وكأنني تحولت فجأة الى صبية غضة المشاعر لينة الفؤاد تتحول مع كل حكاية جديدة الى ست الحسن أو الأميرة المسحورة أو.. أو...
يا الهي, هل يمكن أن يغرق الانسان في الحلم الى أن يتحول فجأة الى حقيقة
هكذا تفجرت المشاعر الجياشة في قلبي وبلغت الاثارة مني مبلغها وأنا أراقب ما يحدث, وحاول أحد الأشرار أن يشهر مسدسه, لكنه لم يجد فرصة ليطلقه, فقد عاجله ياسر برصاصة واحدة وبدقة مذهلة أطاحت بسلاحه وأجبرته على الاستسلام, وأنا مذهولة تماما من دقة تصويبه ومن أن مدفع رشاش أراه دائما في السينما يبذر الرصاصات بذرا يمكن أن يطلق رصاصة واحدة بهذه الدقة
تأملت ياسر مليا
وقفته المتحفزة, طريقة إمساكه بالسلاح, ذلك التعبير المخيف الذي ارتسم على وجهه, ولم أصدق نفسي وأنا أشعر أنني في حمى ليث, ليث حقيقي
لم يكن هناك ثمة أثر لزميلي الهادئ المهذب البشوش خفيض الصوت
كان شخصا مختلفا تماما, أشعل في قلبي الذهول والعجب, وربما الخوف والرهبة أيضا
هتف بصوت مخيف : من أراد منكما أن يقتل قبل الآخر فليتبعنا
تراجع ياسر نحو الأرض الزراعية والظلام, وأنا على أثره خطوة بخطوة, وتوغلنا في الأرض الزراعية بعيدا عن الطريق الأسفلتي محتمين بالظلام
اعتدل فجأة وقال : هيا
انطلق يجري بسرعة وأنا خلفه تماما
لكنني توقفت بعد فترة وقد أنهكني التعب وقلت وأنا ألتقط أنفاسي بصعوبة : لا أستطيع أن أكمل
ارتميت على الأرض من التعب
قلت بعد دقائق وأنا أنظر حولي : ألديك مصباح كهربي يكسر حدة هذا الظلام؟
قال : بلى, في هاتفي المحمول
فجأة سمعته يقول بضيق : لا حول ولا قوة الا بالله
قلت بدهشة : ماذا حدث؟
قال : لقد سقط الهاتف من جيبي أثناء الشجار
زفرت بضيق هائل وقلت بأسف : يا لها من ليلة, ياسر, أنا آسفة حقا
قال مباشرة : أعطيني هاتفك
أطعته دون تفكير وأعطيته الهاتف دون أن أنظر فيه
سألني وهو يفتحه : هاتف من هذا؟
قلت بسرعة : انه هاتف الـ..
قطعت الكلمة بعد أن كدت أقع بلساني وأعترف له بأن الهاتف هو لضابط النقطة
لقد ورطت ياسر معي في مشكلة لا حل لها,و بسبب هذا الهاتف قد يجر اسمه في قضية لا يعرف عنها شيء
استسلمت لقدري وقدره وأقنعت نفسي أن الله لن يتخلى عنا
سألته : بمن تتصل؟
قال مباشرة : أتصل بصديق لي ليحضر سيارة لنا تلتقطنا من على الطريق
وضع الهاتف على أذنه, لكنه قال بتأفف كبير : أستغفر الله العظيم, نفذ الرصيد من البطاقة
جحظت عيناى من المفاجأة, الى هنا وعجزت تماما عن التحمل
أعلم أن الموقف دقيق وخطير للغاية, ولكنني فجأة ودون مقدمات, انفجرت في نوبة من الضحك الهستيري
لا أدري كيف ولم, ولكنني ضحكت كما لم أضحك أبدا في حياتي
التفت ياسر الى بدهشة, ثم قال بسخرية مغتاظة : جميل جدا
ما أجمل أن يكون الانسان ذو روح عالية حتى في أحلك الظروف
كنت مقدرة تماما لضيق ياسر وقلقه, بل كنت مستاءة من نفسي
لكنني لم أستطع التوقف عن الضحك
ويبدو أن الضحك قد منحني شجاعة ما, أو أنه بلد مشاعري تماما فألقيتها اليه وقلت بصوت متقطع من بين ضحكاتي : ذلك الأبله البخيل, لم يشحن البطاقة بالرصيد
لقد كان يبدو لي كطاووس منتفخ خلف مكتبه
التفت ياسر الى باهتمام وتساؤل وقال وكأنما قد فهم شيئا : ترى, من هو صاحب الهاتف؟
أكدت له حدسه وأنا أضحك بهستريا : إنه هاتف ضابط النقطة
قال بلهجة متهكمة مغتاظة : رائع, رائع جدا, أحسنت الاختيار
هاتف ضابط النقطة معك والكلاب تطاردنا , اذا لا أمل لنا في اللجوء الى الشرطة, فقد نجد عندها محضرا محررا باسمك بسرقة هاتف محمول لضابط شرطة
أهنئك على وصولك لهذا المستوى, لم أتوقع أبدا ذلك التقدم المذهل في الأداء
كانت كلمات ياسر المغتاظة تؤجج ضحكي الهستيري حتى آلمتني عضلات بطني وانهمرت دموعي بغزارة, وقال هو : الحمد لله, من ينظر الى نصف الكوب الممتلئ يرى أننا خرجنا من تلك الكارثة بمصباح صغير ينير لنا الطريق
والآن, هل تسمح الآنسة وتتفضل لنكمل الطريق, أم ستقضين باقي الليل ضحكا؟!!
لم أستطع أن أرد عليه, فلا أزال منهمكة في الضحك
قال بتأفف : جميل أن تكوني مستمتعة بما يحدث الى هذه الدرجة
بدأ ضحكي يهدأ, وأعطاني ياسر بعض المناديل الورقية لأجفف بها دموعي وأنفي, ثم قمت لأستأنف الطريق معه
أضاء ياسر المصباح لتصفعني مفاجأة هزتني وعبرت عنها بشهقة فزع : ياسر!! أنت مصاب!!
كان جبينه مجروح جرحا كبيرا وخيط من الدماء يسيل على جانب وجهه
ورغما عني وبحركة لا ارادية امتدت المناديل التي في يدي لتمسح جرحه
لم يكن يتوقع ياسر أن يصدر مني ذلك التصرف, فانتفض بعنف كما لو أن سلكا كهربائيا صعقه, وهتف بعنف : من فضلك
وابتعد وأدار ظهره لي, ووقفت أرتجف من ردة فعله العنيفة وغضبته الهادرة التي أشعرتني أنني ارتكبت جرما شنيعا في حقه
لم أكن أدري كيف أتصرف, ولا ماذا أقول,وكان احساسي بالذنب يتضاعف حتى كدت أنفجر في البكاء
لكن ياسر انتزعني من بين مشاعري المرتبكة المتضاربة وقال بعد أن أخذ نفسا عميقا : علينا أن نسير الآن
تبعته بصمت تام وسرنا لمدة طويلة للغاية بعيدا عن الطريق العام, فمن المؤكد أن هناك من يبحث عنا على الطريق
كان الظلام حالكا لا يخفف منه سوى ضوء الهاتف المحمول والقمر الشاحب
واستطعت أن أتجاوز مشاعري السلبية بسرعة وهدأت نفسي واستقرت تماما
في هذه الليلة الغريبة تأكد لي شعور انتابني من فترة, ولكنني أحاول بكل جهدي انكاره وعدم تصديقه
لكن ذلك الشعور يتأكد بقوة ويتضح جليا كلما تواجد ياسر معي
فكلما التقينا معا يتضح لي أنني بلهاء حقيقية, وساذجة تماما
شعور بغيض بالفعل, لكنه ثبت لي فعليا صحته هذه الليلة, عندما تذكرت فجأة ذلك الاكتشاف المذهل, فقلت له بسذاجة مطلقة : ياسر, ما رأيك أن تستبدل شريحة ذلك الهاتف بشريحة هاتفي؟
توقف عن السير فجأة والتفت لي متسائلا : وهل معك هاتف محمول؟
قلت ببراءة : بلى في حقيبتي
ظل صامتا لفترة, ثم بدأ يضحك : لا أصدق, حقا يا لها من ليلة مذهلة!!
كانت ضحكاته تقطر غيظا وهو يقول : ولم لم تخبريني أن هاتفك معك!!
ابتلعت ريقي بتوتر بعد أن أدركت كم أنا بلهاء, ثم قلت بأسف : أنا آسفة حقا, لقد انتهى شحن الهـ...
عاجلني منهيا الموضوع : حسنا, أعطني الهاتف
قام بتبديل الشريحة وهو يقول : أدعو الله ألا ينتهي الشحن قبل أن أجري تلك المكالمة, فقد استهلكنا المصباح لمدة طويلة
ولكن مع الأسف حدث ما كان يخشاه ولم يعمل الجوال ثانية
قال بغيظ : الآن, عدنا الى المربع الأول وعلينا أن نستكمل طريقنا في الظلام
ابتلعت لساني وفي حلقي غصة محرقة : فقد كان الندم يقتلني, وما حدث لياسر بسببي الليلة كارثة
شج رأسه وانكسرت نظارته وضاع هاتفه وتحطمت سيارة صديقه
حقا يا لها من ليلة
.....................................
...............................
يتبع