كانت أمي منفعلة للغاية وهي تقول لي أن هناك من اتصل بها ليخبرها أن أيمن في مستشفى في ليبيا
هرولت مغادرة بفزع دون أن أستطيع أن أتكلم مع أحد
سافرت أنا وأمي ومعنا يحيى الى ليبيا, وسهلت لنا السلطات الليبية اجراءات عودتنا, واستطعنا العودة بأيمن الى القاهرة ليكمل علاجه في احدى المستشفيات الخاصة ومنه الى البيت بعد أن استرد صحته
لم يستطع أيمن أن يخبرنا بما جرى فقد التزم تمام الصمت, ولم نلح عليه بالسؤال, فقد كان كل ما يهمنا صحته, وعرفنا ما جرى له بصورة مجملة وموجزة من الاخبار, وهو أن القارب الذي كان يقله هو ومجموعة كبيرة من الشباب غرق قرب سواحل ليبيا قبل حتى أن يغادر الى ربع المسافة
.............................
كنت أجلس خلف مكتبي شاردة أفكر في أيمن وأنا لا أدري هل أشعر بالحنق منه أم بالشفقة عليه
أخيرا وبعد مدة طويلة أجد ياسر يجلس أمام مكتبي
قال بهدوء : كيف حال أخاك؟
نظرت اليه برهة وأنا أفكر, كان هذا هو أول تفاعل بيننا منذ مدة طويلة
قلت : هو الآن بخير, شكرا لسؤالك
قال : أى تجربة سيئة علينا أن نبحث عن جوانبها الايجابية ونستفيد منها
قلت : بلى, سمعت هذا منك قبلا
قال : عليك أن تتبعي الخط الذي سار فيه وتبحثي عن أسباب المشكلة
قلت بتهكم مرير : لو أن أيمن تحدث مع كل العالم فلن يتحدث معي أنا
تنهدت بألم وأنا أسأله : أخبرني أيها الزميل, لو كنت مكانه فهل كنت ستتحدث عن فشلك واحباطك أمام أهلك؟
قال بهدوء : أنت محقة, الأمر صعب بالفعل
قلت بألم : بل لا يمكنك تخيل مدى صعوبته, أنا بالذات عندما أتحدث معه..
صمت, لم أكن أدري ما الذي يمكن أن أقوله
لكنه استطاع أن يلتقط الفكرة بذكاء, فقال بفهم : فهمت, أسلوبك معه لا يساعده على البوح
قلت : الأمر ليس على هذه الصورة, ولكن...
رغما عني, كل هذا رغما عني, فأيمن على وجه الخصوص لا أستطيع أن أمسك أعصابي أمامه, لا أستطيع أن أتقبل منه أى خطأ, لا أستطيع أن أتقبل فشله واستسلامه, لا أستطيع أن أتقبل أعذاره
رغما عنى وأنا أمامه تتفجر براكين الغضب والحنق بداخلي وأجد نفسي أقول كلاما لا يجب أن يقال
أعلم أننى أغضبه وأحزنه ولكنى لا أستطيع أن أتوقف
قال بفهم : بلى, الأمر يكون صعبا للغاية عندما يتعلق بمن نحبهم
صمت عندما أدركت أن كلماتي فهمت بشكل صحيح, ثم قال هو : اذا فيجب أن تخاطبيه بطريقة مختلفة
سألته : كيف؟
قال : أنا متأكد أنه يقرأ مقالاتك, عليك أن تخاطبيه بقلمك
اللسان قد يتسرع ويخطئ كثيرا, لكن القلم يفكر أولا ويراجع ويعيد ويكرر وقد يمزق كل ما كتبه
أخذت أفكر في كلماته وأنا شاردة
فأكمل هو : ما رأيك أن تقومي بعمل تحقيق حول رحلته؟
قلت بيأس : لقد قتل هذا الموضوع بحثا فما الجديد الذي يمكن أن أقدمه؟
قال باسما : الجديد هو أن الموضوع هذه المرة سيكون له قلب, فمن يكتب هو من اكتوى بناره , جربي وسترين النتيجة
قلت باحباط : أيمن يقاطعني تماما, لا أتوقع أن يساعدني في هذا, أو حتى يحكي لي عما حدث له
قال باسما : إن كان هو لا يستطيع أن يحكي, فهناك غيره يتمنى أن يسمعه أحد
شغلي حاستك الصحفية وستصلي بالتأكيد
تركني ياسر بعد أن أشعل في داخلي جذوة من فضول تكبر وتكبر كل لحظة حتى تحولت الى نيران مشتعلة تدفعني الى الجرى خلف ذلك التحقيق
انطلقت بحماس هائل أجمع المعلومات من محاضر الشرطة, وسافرت الى قرى وبلدان الشباب الذين شاركوه في الرحلة المشئومة
وبالفعل كان ياسر محقا فهناك من يرغب في أن يصل صوته ولا يعرف كيف؟
فكل الشباب الذين زرتهم جمعت منهم الحكاية قطعة قطعة, ورأيت كيف يعيشون وسبب تمسكهم بفكرة الهجرة وماذا فعل أهلهم ليدبروا لهم المال اللازم للسفر
واتبعت نفس الطريق الذي اتبعوه خطوة بخطوة وعرفت كيف تسللوا الى ليبيا ورأيت الحجرة الرديئة التى كانت تضمهم لأيام قبل تجهيز القارب, وصورت القارب, أعنى قارب آخر مشابه له
وبعد أسابيع قليلة خرج التحقيق متكاملا الى النور
وصدق ياسر في كل كلمة قالها
هذه المرة كان التحقيق مدويا, وأحدث ضجة في الجريدة, وتلقيت عليه التهاني وأتتني رسائل الكترونية كثيرة جدا تعلق على التحقيق
ولكني لم أشعر بشيء من كل هذا فالانسان الوحيد الذي أردته أن يقرأ ما كتبته مغلق عليه بابه وغارق الى أذنيه مع الكمبيوتر هاربا من العالم كله
دخلت على أمي غرفتي وهي منشرحة للغاية وهنأتني بحرارة, وسألتها هل قرأتيه كله؟
قالت بابتسامة حزينة : وكأنني أرى أيمن في كل حرف في المقال, استشعرت في كل كلمة الصدق الشديد ووصلت الى قلبي مباشرة
ولكن..
لقد كنت أقرأ الجريدة في صالة الاستقبال وتركتها هناك, وعندما عدت اليها لم أجدها, كنت أريد قراءة المقال ثانية, وبحثت عنها طويلا
أتعلمين أين وجدتها؟ في غرفة أيمن
انتفضت من السرير وأنا أهتف غير مصدقة : حقا!!! لا أكاد أصدق؟!!!
لقد صدق من أتفاءل بوجهه في كل كلمة قالها
لقد قرأ كل ما كنت أريد أن أقوله له
الآن أؤمن بكل كلمة يقولها زميلي
أن الصحفي عندما يضع قلبه على سن قلمه يستطيع أن يفعل الأعاجيب
في اليوم التالي دخلت مباشرة من باب الجريدة الى مكتبه, وقلت له كلمة واحدة : ياسر, شكرا لك
التفت الى بابتسامة كبيرة وقال : اذا لقد قرأ المقال
قلت بحماس : بلى, رغم أنه لم يتحدث معي, لكنني اكتشفت أنه قرأه
قال : اذا فهذا الوضع لن يستمر طويلا, سيعود قريبا, فقط يحتاج الى مزيد من الصبر والتفهم والاحتواء
قلت بتردد : لا أدرى ,لكن تلك التجربة جعلتني قريبة جدا من أيمن ومن تفكيره, لقد عانى كثيرا, كثيرا جدا
قال باسما : اذا فهذا هو أول الطريق لعودة التقارب بينكما من جديد
قلت بأسى : أو يكون طريق لتباعد أكثر
قال : كوني متفائلة, كما أن هناك قوة فعالة دائما ما نغفل عنها
انها الدعاء
نظرت اليه قائلة : إن أمي تدعو له باستمرار
قال باسما : بعض الاشياء لا يصلح لها دعاء فرد واحد بل تحتاج الى الكثير من الالحاح والعزيمة, وتحتاج للصبر
قلت باسمة : لم أكذب حينما قلت أنني أتفاءل بوجهك كثيرا, أصدق الآن أن نظرتك لا تخطئ
(أميرة)
التفت خلفي, لم أكن أصدق أنها تأتي الى بعد كل ما حدث وتقدم على التحدث الى
قلت ساخرة : مرحبا بالعروس الأسطورية
قالت بانكسار : أود أن أتحدث اليك قليلا من فضلك
كنت مضطرة أن أذهب معها رغم كراهيتي لذلك
جلسنا خلف مكتبي, وبدأت هي : أنا سعيدة حقا أنك تحققين كل يوم نجاح جديد, مقالاتك بالفعل رائعة
كنت أعلم أنها تريد أن تقول شيء ولكنها مترددة, فقلت أتعجلها لأنهي ذلك الموقف السخيف : وبعد؟
ابتلعت ريقها بتوتر : لقد.. لقد قرأت تحقيقك الأخير وعرفت ما حدث لأيمن, وحزنت كثيرا لأجله
قلت وأنا أهز ساقي ضجرا : سأبلغه مدى حزنك وأسفك, أهناك شيء آخر؟
قالت : بلى, كنت أود أن تساعديني, ... أريد أن أعود اليه
قلت بدهشة حقيقية : ماذا؟!!! وزوجك؟!!
قالت بتوتر : لقد انفصلت عنه, ألم يصلك الخبر؟
قلت : لا أهتم كثيرا بالأخبار الفنية خاصة لو لم تكن تعنيني
وماذا عن الأفلام والكليبات؟!! هل تخليت عن كل هذا ببساطة؟ أم أن المنتج السينمائي الشهير اتضح أنه تاجر شاطر وصفقاته دائما مربحة, يحصل على البضاعة بأقل الأسعار ويتخلص منها بأقل الخسائر؟
قالت بانكسار والدمع في عينيها : بحق الصداقة القديمة لا تقسي على, لقد دفعت الثمن غاليا, بل أغلى مما تتصوري
قلت بجفاف : وما هو المطلوب مني الآن؟
قالت : أتمنى أن تكلمي أيمن ربما..
هتفت بدهشة : ربما ماذا؟؟!! آه, فهمت, لجوئك الى الآن يعنى أن محاولاتك مع أيمن فشلت تماما, ولا يريد الرد على اتصالاتك ولا يريد أن يستمع اليك,
اذا فأنا آخر ورقة لديك؟
قالت ببكاء : أنا لازلت أحبه, أحتاج اليه أكثر من أى وقت مضى
قلت ببرود : أنا حقا أشفق عليك, لقد تخلى عنك الجميع وتساقطت أحلامك دون حتى أن تستطيعي الإمساك بها
ولكن لا شيء بيدي لأفعله, فأنا أحترم كثيرا قرارات أخي واختياراته, كما أحب أن أخبرك بشيء مهم من أخلاقه وطباعه
قلت بقسوة : أخي لا يأكل أبدا من فتات غيره
انهمرت دموعها أمامي بغزارة ورحلت كسيرة بصمت دون أن تستطيع النظر الى
لم أستطع أن أشعر بالتعاطف معها أبدا
وعندما غادرت المكتب هتفت بغيظ : يا الهي, يا الهي, أهناك بشر كهؤلاء؟!!
ماذا حدث للدنيا؟!! أين المطالبون بحقوق المرأة؟!! كيف يغفلون عن تلك النماذج المريضة
سمعت صوت ياسر الهادئ يملأ المكان : حرية الإنسان تبدأ عندما يكف عن الطمع فيما في أيدي غيره
لقد أصاب ياسر, أصاب تماما, لخص كل ما أردت أن أصرخ به
أدركت أخيرا أن الكف عن التفكير في ياسر ومحاولة الاقتراب منه هو بالفعل الذي يقربني اليه
وكلما استغرقت في العمل تماما وانشغل تفكيري كلية به
أجد ياسر متواجد باستمرار وبحضور كبير
.......................................................
لا أستطيع أن أنكر أن لياسر الدور الأكبر في المستوى الهائل الذي وصلت اليه وذلك الشعور الجميل بالرضا عن عملي
ليس هذا فحسب, لقد بدأت بالفعل في تكسير الحواجز التي بيني وبين أيمن, فقد اتبعت معه نفس الأسلوب الذي علمني اياه ياسر, أن أتفاعل معه بشكل غير مباشر
بدأت أبحث عن كل ما يحبه وأفعله دون كلام
أضع له الزهور التي يحبها في غرفته وهو نائم, وأشترى له الحلوى التي يحبها وأضعها في مكان يصل اليه
لم أشعر منه بأى تغيير أو ردة فعل, لكنني لم أتوقف وأخذت أكثر من الدعاء له في كل صلاة
أما ياسر..
حرصت بشدة على أن أحافظ على علاقة الزمالة والتواصل العقلي بيني وبينه, لقد تحددت تلك العلاقة بعدد ساعات العمل التي نقضيها في المكتب, والحديث فقط حول العمل ومشكلاته, ولا شيء خارج هذا الإطار
حرصت ألا يفسد ذلك أى تصرف أو كلمة أو شيء وان كان بريء
وعندما أفكر أن أتصل به, ألغي الفكرة تماما من عقلي, فأنا أكثر من يعرف خطوة مثل هذه يمكن أن تهدم العلاقة بيننا تماما, وتجعله يعود الى الصدود والاعراض التام عن التحدث معي
ولكن هذه المرة كنت مضطرة
لقد دفعتني الظروف دفعا للإتصال به, فلم يكن هناك غيره لينقذني, رغم يقيني أن اتصالي به قد يسيء الى صورتي في عينيه
أعلم أن ما فعلته لن يعجبه, وأنني في نظره مخطئة على طول الخط
لكن الورطة الكبيرة التي وقعت فيها والخوف الشديد الذي تملكني جعلني أتصل بالإنسان الوحيد الذي أوقن تماما في عقلي أنه سينقذني
........................................