فتوى " الكاشير " ومرجعية العلماء !
مرة أخرى , يحدث الاشتباك بين الأطياف داخل المجتمع . وينال بعض كتابنا ممن يدعون ريادة الفكر , وفضاء الحرية الواسع من كبار علماءنا , متشامخين على أهل القدر والمنزلة العظيمة , التي رسمها لهم - خادم الحرمين الشريفين - في خطابه الشهير , عندما نظم الفتوى , وقصرها على هيئة كبار العلماء . وأطلقوا الكلام على عواهنه , وصالوا وجالوا على طول وعرض , بلغة متشنجة , وألفاظ جارحة , وأسلوب شوارعي , وبمقالات تفتقد إلى النضج العلمي . كاسرين كل حواجز الدبلوماسية , ومخطئين لسبعة من أعضاء هيئة كبار العلماء في السعودية , وانبروا عبر مقالاتهم , يعلمونهم - تارة - ما الذي ينبغي أن يقال , وما لا ينبغي . ويتهمونهم - تارة أخرى - بالغفلة ؛ لأنهم يتأثرون بطريقة السؤال " الملغم " ؛ لاستنطاق حكم التحريم , أو التحليل من أفواههم , حتى تكون فتاواهم في نهاية المطاف , في انسجام تام مع ما يرونه لهؤلاء , دون أن يتعارض مع التيار الفكري الذي يستهويهم .
قد يصححني من يراني على خطأ , فليس هناك حجر على آراء أحد , ويبقى الحوار الهادئ والمتزن حول اجتهادات العلماء , وفتاويهم محل نقاش بين المهتمين به , في إطار الطرح العلمي والموضوعي والأخلاقي , ومراعاة ظروف المجتمع وطبائعه .
كنت أرجو , أن تكون الحجة قائمة , والحيلة مدبرة , والبديهة حاضرة أمام بعض كتابنا , وهم يقرؤون ما نشرته صحيفة الرياض , يوم الأربعاء : 26 / 11 / 1431هـ , في العدد " 15472 " , عن وجود " 64 " ألف وظيفة نسائية , ضائعة بين وزارات " الصحة والتربية والتعليم والتعليم العالي " , دون أن توجد لتلك الملفات الشائكة حلولا , وفتح مجالات وظيفية أمام المرأة في تلك القطاعات , في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها . وكأنه لم يبق من كل الوظائف المتوفرة لدى وزارة العمل في معركة البطالة , إلا أن تعمل المرأة " خادم " , أو " كاشير " . أليست هذه عنوان لبداية القطيعة , والتي تنذر بانطباع غير مريح لطاقات مهدرة , يزخر بها الوطن . فهل نحن عاجزون عن إيجاد الحلول , وتوفير الفرص ؟ . - لاسيما - وأن الأرقام الرسمية , تؤكد على : أن نسبة البطالة للربع الأول من عام 1427هـ , تصل إلى " 3, 26 % " من الإناث . وهي معضلة مرشحة للتفاقم - مستقبلا - ما لم يتم مواجهتها , نتيجة استمرار عدم التوازن في فرص
العمل المتاحة للمرأة , من جهة . ومن جهة أخرى , يريد القطاع الخاص إشغالنا عن المطالبة بسعودة وظائف لها قبول في المجتمع .
و ثمة نور في آخر النفق , وهو ضرورة النظر إلى تقاعد الموظفات بشكل عام , وتخفيض سن التقاعد المبكر إلى عشرين , أو خمسة عشر سنة , لما يترتب عليه من مصلحة عامة للمرأة والمجتمع , وأن تحصل على حقوقها دون نقص . - لاسيما - ونحن نشهد تكدسا هائلا لأعداد كبيرة من الخريجات , وصلت إلى أرقام خيالية , وهي مشكلة تعاني منها كثير من النساء , اللاتي حصلن على شهادات عليا بعد سنوات طويلة من الجد والاجتهاد . وخذ على سبيل المثال : ما كشفه - مدير عام الشؤون الإدارية والمالية - بوزارة التربية والتعليم , الأستاذ : صالح الحميدي , عن تفوق عدد المعلمات عن المعلمين في الوزارة , حيث يبلغ عددهن " 232 " ألف معلمة في مدارس التعليم العام . فما رأيكم لو تم استحداث الدوام الجزئي للمعلمات , إضافة إلى فكرة المعلمة المساعدة ؟ . عندئذ كم من الوظائف سنوفر سنويا لأجيال قادمة ؟ . وما رأيكم - أيضا - لو انسحبت سياسة التقاعد المبكر على كل النساء , اللاتي يشغلن وظائف في الدولة ؟. ويبقى سؤالي : لماذا دائما ننتظر عنق الأزمة , حتى نبدأ الحلول ؟ .
لا يجدي اليوم إنكار الواقع المأساوي بكل تفصيلاته , فكم سيكون متوسط الرواتب لهؤلاء " الكاشيرات " ؟ . أجزم أنها زهيدة , في مقابل ساعات عمل طويلة , لا يوازي الجهد المبذول . ولماذا انشغلنا في عمل المرأة " كاشير " فقط , عما هو أجدى حلا للبطالة , وهو نسبة السعودة في تلك الوظائف الأساسية . وما رأيكم بفتاة تحمل مؤهلا جامعيا , والمهنة بعد ذلك " كاشير " ؟ . ألم تحمل إحداهن رسالة كتبتها بأحرف من ذهب إلى معالي وزير العمل , نشرت في صحيفة الرياض , يوم الثلاثاء : 25 / 11 / 1431 هـ , العدد " 15471 " , تحت عنوان " يا معالي الأمين .. لن أعمل كاشير " . وهي تقول : " نريد أن نشارك في الأعمار , ونساهم في صناعة الإنجاز . نتعلم ؛ لنعمل وفق تخصصنا , لا شأن لنا بما قيل وما يقال , لا شأن لنا بمؤامرات , ولا حركات تغريب , ولا مقاطعات . أنا هنا أتحدث بلسان آلاف الخريجات اللواتي أصبن بخيبة الأمل , من جراء هكذا خبر , فبات مستقبلهن الوظيفي داكنا مسودا . وبدلا من توفير فرص العمل المناسبة , ودعم الفتاة في المشاريع الصغيرة , تٌرانا نزيد الطين بلة , وغدت الحلول على وزن : ( تعالي معنا كاشير ) , واذكري أيام الجامعة , وأربع سنوات بالخير ! " .
بين ورقة وقلم , نطالب بالوصول إلى كلمة سواء مع كل قضية تهم المرأة , والترحيب بالمناقشة النزيهة ؛ لتقديم صورة دقيقة عن الواقع , تحترم الذوق العام . دون الخوض في تمزق قيمي , أو تطاول ادعائي , من خلال سياسة خلط الأوراق بعضها ببعض . فما سبق بيانه , يؤكد على : أن هناك ثمة فرص عمل كثيرة , لا تعد ولا تحصى , نستطيع أن ندعم من خلالها فرص عمل المرأة فيها .
أخيرا , سيبقى علماؤنا همة وهامة , وقامة عالية , وغيمة نستظل بها . وتلك المنزلة على أهميتها , لا تقف عند هذا الحد , بل تعبر إلى مرحلة الانكشاف , وعدم مراوغة القاريء . فمكانة أهل العلم , وعدم جواز القدح فيهم , أو تسفيه آرائهم , - مطلب مهم - . واحترامهم مظهر من مظاهر رقي الأمة وتحضرها , - لاسيما - وأن وزنهم على الساحة يشهد به القاصي والداني . وكم يعتريني الألم , وأنا أقرأ لقلة من كتابنا , نالت من علماءنا , ومن مكانتهم العلمية ؛ من أجل الدفع بآرائهم في سبيل تغيير ما يرونه خطأ . فسببت كتاباتهم فرقة واختلافا بين الناس , وتصنيفهم إلى أحزاب .
د . سعد بن عبد القادر القويعي