10- النظرة تحدث دوائر
ظلّت ذكرى الليلة تلاحق كايسي أياما طويلة , فبأستثناء موقفه من سميتي ظل فلينت في خدمتها ورهن أشارتها بقية الليلة , لكنه تعمّد أن يظلا بين جموع المدعوين ولم يحاول الأنفراد بها , كما لم يحاول ذلك في الأيام التي تلت الحفل , وشعرت كايسي كأنه كان يقصد أبعادها عن طريقه .
وتمنت لو كان في أمكانها أن تصبح فتاة مجرّبة تلفت نظره بحنكتها كبقية الفتيات , ثم ضحكت من نفسها وتعجبت كيف تجول مثل هذه الفكرة في خاطرها , كان فلينت محقا عندما قال أنها ليست من ذلك الصنف ومع ذلك لم يغير هذا من حقيقة تعرفها تماما وهي أن فلينت لن يرضى ألا بعلاقة عابرة بينهما , فأن ثراءه ومعرفته بالحياة أقصياه عن أي منافسة مع غيرها يكون الزواج نتيجتها.
وألقت كايسي بحصاة في الماء وراقبت الدوائر التي أحدثها سقوطها وقالت في نفسها أن نظرة من فلينت تحدث في داخلها أثرا أقوى من هذه الدوائر فأن رغبتها العاطفية أستقرت ونضجت وأتضح لها أن حبها لفلينت مثل رغبتها , قد أصبحا لا يحتملان النكران , كما أزداد حبها له يوما بعد يوم.
وحاولت أن تتجاهل الأسابيع القادمة لأن أباها سيعود قريبا من المستشفى مما سيضطر فلينت ألى الرحيل , وهالها أنها في وقت من الأوقات كانت تتوق لمجيء ذلك اليوم , أما الآن فقد بدأت تشعر بالفراغ الذي سيحدثه رحيله في حياتها , وهو فراغ أخذ يهددها ويكشر لها عن أنيابه ويلتهمها ويتركها نهبا لحياة خاوية , وأذا كانت فكرة رحيله تسبب لها مثل هذه الكآبة , وهو ما زال موجودا , فكيف يكون الحال بعد رحيله؟
منتديات ليلاس
وسقطت قطرة ماء على ذراعها بينما سرت في الأرض رجة لم تفتها مغزاها فتحولت عيناها عن البحيرة ورفعتهما ألى السماء , ورأت البرق يومض وهو يشق طريقه عبر السحب المتراكمة التي تسير بسرعة في طريقها وسرعان ما أهتزت الأرض ثانية بأصداء خفية بينما سقطت عليها قطرة أخرى من الماء , فقد كانت العواصف الفجائية شيئا عاديا بالنسبة لولاية نبراسكا , وألتفتت كايسي نحو المنطقة المزروعة التي تركت حصانها يرعى فيها.
كان رأسه منتصبا وعيناه تزوغان خوفا من البرق المنبعث من بين سحب العاصفة , وفجأة تحفز الحصان , ووقف على قدميه عندما دوّى الرعد ثانية قبل أن ينطلق بعيدا عن البحيرة وفهبت كايسي واقفة تنادي على الحصان الذي أخذ يعدو خائفا بعيدا عنها , ورأسه عال وهو يميل بها ألى أحد الجانبين ليمنع اللجام من المجيء في طريق أقدامخ كايسي تنادي بكل قواها :
" تالي , تالي!".
ألا أن نداءها راح هباء , وتلاشى مع صوت المطر المنهمر , وفي لحظات أبتلت ملابسها وقالت لنفسها أن لا فائدة ترجى من الوقوف هكذا , وهي تنظر ألى الحصان الهارب , فمشت ألى قمة التل تتبعه وتحاول أستدعاءه لكنه كان يختفي عن نظرها , وفي ثورة غضبها وضعت أصبعين من يدها في فمها وأطلقت صفيرا لأستدعائه , لكن بلا طائل , أذ لم يبطىء الحصان من خطاه , ونظرت مترددة ألى السحب القاتمة قبل أن تبدأ مسيرتها متجهة نحو المنزل الذي يبعد سبعة أميال تقريبا عن المكان الذي كانت فيه , وتمنت وقتئذ لو أمكنها ألا تشعر بالندم والرثاء لنفسها لوقوعها في هذه الورطة , وألا تضيع وقتها بالنظر ألى السماء , أذ بدأت أقدامها تؤلمها وهي في حذائها الطويل.
وفجأة سمعت صهيل حصان , توقفت له خطواتها وأبتسمت أبتسامة الأمل وظنت أن تالي قد عاد أليها , ولكن عندما نظرت أمامها رأت كايسي حصانا أبيض يقترب منها , وكانت المفاجأة ! فصاحت قائلة :
" كيف حالك اليوم يا ميركوري؟".
وكان صوتها ناعما , مداعبا للحصان الذي أخذ يضع فمه بالقرب من وجهها , وقالت مسترسلة في حديثها :
" ليس لديّ سكر اليوم ".
وومض البرق ثانية وكان قريبا منها هذه المرة , أقتربت بكل عنفها , وتأكدت كايسي أن لديها فرصة واحدة للوصول ألى المنزل قبل أن تنفجر العاصفة بأقصى شدتها وينهمر المطر , لكنها لم تركب ميركوري من عدة سنوات وكانت المشكلة هي قدرتها للسيطرة عليه وتوجيهه ألى المزرعة بمجرد وخز ركبتيها في جنبيه.
ولم تجد أمامها مناصا من تجربة هذه الطريقة القديمة , وأنتاب الحصان الفزع عندما أعتلت ظهره العاري من السرج , وتحرك الحصان تحتها بقلق بينما أخذت كايسي تتحدث أليه بصوت خافت وتحاول أن تبعث فيه الهدوء , قبل أن تطلب منه الأنطلاق في طريقه ألى منزل المزرعة فأخذ الحصان يسير بتردد وبطء وهو يحاول أن يعوّد نفسه على الثقل الذي وجده فجأة على ظهره , والذي لم يشعر به منذ سنوات , ألا أن الذكريات والعادات القديمة سرعان ما عاودته , وهكذا نجحت كايسي في دفعه للعدو , وكان الحصان الأبيض العجوز يستجيب لأقل ضغط من سيقانها بنفس السرعة التي كان يستجيب بها عندما كان صغيرا وكان هو وكايسي لا يفترقان.
وسقط المطر بغزارة وأصبحت قطراته كحبات البارود وهي تقع عليها وعلى حصانها وسرت في الأرض ذبذبات وأصداء تحت حوافر الحصان مثل دوي الرعد , بينما أخذت السماء تلمع بوميض البرق ثم تعود ويسود لونها ثانية , وأسرع ميركوري في خطاه حتى أخذ يعدو بكل قواه , وكانت سرعته تزداد تدريجيا بدون أن تتنبه كايسي لذلك حتى لاحظت الأرض وهي تنطوي تحتهما بسرعة هائلة.
ولم تكن لديها طريقة تهدىء بها سرعة الحصان وكل ما كان في وسعها هو الضغط على جانبيه المبللين بالمطر بساقيها المبتلين , وأخذ قلبها يدق في حلقها وهما يسرعان فوق أرض ساندهيلز وأيقنت كايسي أنه يجب الأبطاء من سرعة الحصان , أذ أن السرعة ضارة لمن في مثل سنه , لكنها مثل حصانها , كانت تذكر تلك الأيامي الخوالي , عندما كانا يعدوان هكذا عبر البراري , وأخذت تقنع نفسها أنه ربما لا يجهد نفسه وأن خطاه لم تكن تسبب له عناء كعهدها به دائما.