6- طائران في الهواء
حاولت كايسي جاهدة أن تحتكر سميتي ما أمكنها , وتسيطر على الحديث معه في تلك اللليلة لتنفس عن ضبها وتنتقم من فلينت , وتعمّدت أن تدير الحديث عن أشخاص وأماكن لا يعرفها غيرهما حتى تحرج فلينت وتتركه جاهلا بما يقولان , ألا أن سميتي لم يساعدها على ذلك , أما بسبب غبائه أو عناده , بل أخذ يدير الحديث ويعود به مرارا لموضوع الزراعة وتربية الماشية , وجلست كايسي في صمت متأففة وهي تستمع الى مواضيع البذور والري والعلف وتأثير الجو على الزراعة والماشية , كما أن فلينت لم يعطها الفرصة لتطلب موافقة آل سميث على أستعارة طائرتهم للجولة التفتيشية , فبسؤال بسيط مهذب حقق فلينت مطلبه وكاد سميتي يطير من الفرح لتلبية طلبه , وعندما وجدت كايسي نفسها وحدها مع سميتي بعد أن تركهما ماكاليستر , أخذت كايسي تؤنب سميتي على فعلته قائلة له:
" الطريقة التي وعدت بها أعارته الطائرة كلما أحتاج اليها كانت طريقة مبتذلة ومقززة , ويخيل اليّ من فرط أهتمامك به , أنك تريد أن تعلّق لافتة تقول فيها أن فلينت ماكاليستر كان يجلس هنا؟".
فردّ عليها سميتي وقد ضاق ذرعا بتصرفاتها وتبرّمها من فلينت ماكاليستر :
" لماذا تبالغين هكذا؟ فأنت تعلمين أن طائرتنا كانت وما زالت دائما تحت تصرفكم منذ تعطلت طائرتكم ,ويبدو أن السيد ماكاليستر لم يعلم بذلك فالواضح أنك لم تخبريه , بل صوّرت له الموضوع وكأنه من الصعوبة بمكان , فكل ما فعلته أنا أنني طمأنته على أستعدادنا لمساعدته كلما أحتاج الينا".
فسخرت كايسي من عبارات سميتي , وشعرت أنها تقف وحدها ضد فلينت ماكاليستر ففي يوم واحد رأت أنبهار أخيها الأصغر به , وتأثر أمها بظرفه وأدبه ووسامته , والآن ضاع أملها تماما بأنضمام سميتي الى جموع المعجبين !
أنسحاب السحاب الأبيض فوق الطائرة بينما أختلست كايسي نظرة نحو الرجل الجالس في الكرسي المخصص للركاب , وفجأة نظرت في العينين اللتين كانتا ترقبانها وتلحظان عبوسها المتزايد كلما أزدادت أفكارها كآبة , لقد مرّت ساعة وهما طائران في الهواء.
تضايقت كايسي من نظراته وسألته , محاولة ألا يبدو عليها الغضب من حملقته فيها , وكأنها تريد أن تنتهي من تلك المهمة الصعبة وهي البقاء معه في مكان واحد.
" ماذا تريد أن ترى غير ذلك؟".
فأجابها وكأنه لا يأبه ألا بالمهمة التي أمامه , والتي جاء من أجلها:
" دعينا نحلّق مرة أخرى فوق المرعى الموجود في الجزء الجنوبي , وأرجوك أن تطيري على أرتفاع منخفض هذه المرة".
وأومأت برأسها تعبيرا عن موافقتها , وبمهارة مالت بجناح الطائرة قبل أن تتم دورتها , ثم أستوت على أرتفاع ثمانمائة قدم فوق سطح الأرض , كان الطيران أحد الأشياء التي تحبها كايسي , وكانت فرحة ومستريحة لأستجابة الطائرة الى لمساتها الرقيقة كأستجابة الجواد المدرّب لأشارا صاحبه ,كما أن الطيران يمنحها شعورا بأنفصالها عن متاعبها , ففي الطائرة الصغيرة هدوء لا وجود لمثله على الأرض , وقال لها فلينت ,بدون أن تخطر بباله فكرة المجاملة :
" أنك طيارة ماهرة".
منتديات ليلاس
فأجابت بهدوء وبلا غرور بل بثقة:
" أعلم ذلك".
" قال لي والدك أنه لا يمكن الأستغناء عنك في المزرعة , ويبدو لي أنه من الذين يقولون ما يعنون".
فأجابت كايسي بثقة للمرة الثانية:
" نعم , هو من ذلك النوع ".
وشعرت كايسي بشعور دافىء من الفخر بأبيها , وبالمديح الذي وصفها به .
وحاولت في قيادتها للطائرة أن تقاوم الهواء وتطير في خط مستقيم , وقالت لفلنت الذي أخذ ينظر اليها:
" المرعى في الجانب الآخر".
وعاد فلينت الى موضوع والدها فقال:
" يعتقد والدك أن في أستطاعتك أدارة المزرعة بمهارة وبمفردك".
قالها فلينت وهو ينظر من النافذة التي يجلس بجانبها , الى ساند هيلز ,فردت بعزم وهي تقابل نظرته بثبات , وتحاول ألا تخرج عن الموضوع الذي أتيا من أجله.
" ظننتك تريد أن تتفقد المزرعة".
" هذا هو جزء مما أريد".
" والغرض الآخر؟".
" رغبتي في معرفتك أكثر مما أعرفك الآن , يا كاسندرا".
قالها ببساطة مع وجود لهجة جادة في كلماته , أشعرت كايسي بأنها الهدف الأساسي من الرحلة .
" كنت متأكدا من أنني , أذا حاولت التقرب منك في المزرعة , ستهربين مني كما فعلت أمس".
ونظر حوله داخل الطائرة وأستطرد يقول:
"أعترفي بأنه لا يمكنك الهروب مني الآن".
" دعنا نتكلم بصراحة يا سيد ماكاليستر , أنني لم أرحب بقدومك الى المزرعة ولم تكن دعودتك لمعاونتنا فكرتي أو فكرة أبي , بل هو البنك الذي أراد رجلا في موقع الرئاسة".
وتعمّدت كايسي وهي تتكلم , أن تضغط على لفظة رجل.
" وبصراحة لم تعجبني قبل أن أقابلك أما الآن قد.......".
فأتم فلينت عبارتها قائلا:
" ما زلت لا أعجبك......تصرفاتك أوضحت مشاعرك , لكن لا بد من وجودي هنا مؤقتا".
" يا له من سوء حظ لنا نحن الأثنين".
" أذا كان هذا موقفك دائما , فأمامنا شهر ونصف في منتهى الصعوبة".
ونظر فلينت اليها في تساؤل , وأتمّ كلامه قائلا:
" أم تقبلين الواقع بأنني مجرد بديل مؤقت لوالدك؟".
فقالت كايسي في قرارة نفسها : أنك لن تستطيع أن تملأ مكانه.
وعاد فلينت يقول:
" الأمر متروك لك , ففي أمكانك معاملتي كقريب أو كزميل في المزرعة مثل جيرانك آل سميث , وفي الحالتين أود أن أذكّرك بحكمة هندية قديمة تقول: ( لا تحكم على أنسان قبل أن تمشي عشرة أميال في حذائه) أي حتى تضع نفسك في مكانه وتشعر بشعوره".
فأشتدت قبضتها على عجلة القيادة وهي تتعجب من فلسفته المتغطرسة , فجزء منها يعترف بصدق عبارته , أما الجزء الأكبر فتبرم لأضطرارها الى الأشتراك في أي حديث معه.
" أوافقك على أننا نحاول أنجاح موقف لا بد لنا منه , والآن...... هل أتجه بالطائرة الى المزرعة؟".
أومأ فلينت برأسه فأضافت كايسي قائلة:
" هناك شيء آخر من الآن فصاعدا أرجو أن تناديني بأسم كايسي , لكن لا تناديني بعد الآن بأسم كاساندرا فأنني أكره هذا الأسم".
طمأنهم الطبيب أن حالة غيلمور تتحسن , وأعترفت كايسي عندما رأته أن روحه المعنوية ممتازة , فبعد الخروج من الكنيسة تطوّع فلينت بأخذ كايسي ووالدتها ومارك الى سكوتسيلاف , وأستأذن السيدة غيلمور في أن يتابع مسيرته لزيارة والديه في أوغالالا ثم يعود ليصطحب آل غيلمور في المساء بعد موعد الزيارة في المستشفى , وبسرعة رحبت الأم بالفكرة ووافقت عليها.
ولاحظت كايسي عودة اللون الى وجه والدها عندما دخلوا عليه في غرفته بالمستشفى , كما لمعت عيناه وهو يمسك بيد زوجته ويجذبها نحوه برفق ,وعندما تبادلا عبارات الشوق , شعرت كايسي بدفء الروابط العائلية الموجودة بينهما , ولم يفتها أن تنظر الى فلينت ماكاليستر لترى أذا كان سمع تبادل العبارات , وكان فلينت قد أوصلهم الى الغرفة عملا بأصول الأدب والأحترام , ورغبة منه في زيارة جون غيلمور.
وتأكدت كايسي من تعبيره الجاد المحترم بأنه سمع ما دار بين الزوجين من كلمات الود والشوق , ورغما عنها قدّرت فيه وقوفه بعيدا عنهم حتى يعطي الأسرة فرصة تبادل التحية , برغم أنه شخصيا كان تواقا الى أن يحيّ جون غيلمور قبل أنصرافه لزيارة أسرته.
وأخيرا صافح فلينت اليد الممتدة اليه وقال:
" يبدو عليك التحسن يا سيد غيلمور ".
وساء كايسي أن فلينت يكلّم والدها بهذا الأحترام ,وكانت تفضل لو أتّبع معه نفس روح التعالي التي أعتادتها منه , أي الطريقة التي لا يمكنها أن تولّد نظرة الأعجاب التي لاحت في عيني أبيها.
فأجاب الأب معترفا بسماحة الزائر :
" أشعر بخير وتحسن ..... وأسمي جون فقط يا فلينت".