1_الحب من أول نظرة
توقفت موراغ هندرسن عن التدقيق في دفتر حسابات الفندق الصغير الذي كانت تباعد والدتها في أدارته,ووضعت رأسها بين كفيها على الطاولة أمامها , وراحت تحدق من خلال نافذة غرفة الطعام الى الأمواج المتلاطمة والجزر الداكنة التي كادت الأمطار الغزيرة تحجب رؤيتها , فالخريف في تلك السنة بدأ بداية قاسية أوقعت كثيرا من الأضرار في ذلك المنتجع الصيفي الصغير , على الشاطىء الغربي لأسكوتلندا حيث كانت تقيم موراغ هندرسن , ولحسن الطالع أن الفندق لم يتكبد ألا القليل من تلك الأضرار , مما أفرح موراغ بعض الشيء لأن موازنة حسابات الفندق لا تسمح ألا بصرف مبلغ زهيد من المال لأصلاحه , أضافة الى المبلغ المتوجب صرفه لأصلاح الأضرار العادية التي أصيب بها الفندق في الصيف الماضي .
ويا له من صيف! فالشمس لم تشرق فيه ألا أياما قليلة في مطلع حزيران ( يونيو) وأيلول( سبتمبر ) , أما في سائر الأيام , فكان المطر المنهمر بغير أنقطاع , والريح الهوجاء , يحملان المصطافين , نزلاء الفندق , على العودة الى مدنهم قبل أنتهاء عطلتهم الصيفية , ولولا بعض النزلاء , ومنهم بيتر مورتن , الذي كان يدير أعمال بناء محطة لتوليد الطاقة الكهربائية في مكان مجاور على ذلك الشاطىء ,وزميله المهندس في أدارة تلك الأعمال , لعجز الفندق عن تحقيق أية أرباح في تلك السنة .
فهل كانت جين هندرسون والدة موراغ على علم بالحالة المالية البائسة التي كان يعانيها الفندق؟ هذا ما كان يشغل بال موراغ , على الرغم من أنها كانت تثق بأن والدتها بعيدة عن الحماقة والتهور , فكلما حاولت أقناعها بالتقليل من وجبة الطعام كضرورة لتجنب الخسارة , رفضت وقالت:
" كيف يقوم الرجال بأعمالهم خير قيام بوجبة هزيلة من الطعام ؟ وكذلك , فكيف أحتفظ بسمعتي كأفضل طاهية للطعام على طول هذا الشاطىء وعرضه؟".
منتديات ليلاس
وكان هذا صحيحا , فهي تعلمت فنون طهي الطعام في أشهر مدارس البلاد ,وكذلك فعلت أبنتها موراغ , ولكن لفترة قصيرة لأن والدها مات فجأة منذ سنة وبضعة أشهر , فأضطرت الى العودة من مدرستها لمساعدة والدتها في أدارة شؤون الفندق.
وكان والدها الذي كان يعمل في شركة المقاولين التي تعاقدت لبناء محطة توليد الطاقة الكهربائية هو الذي أتى ببيتر مورتن الى الفندق حين بوشر بناء المحطة لأربع سنوات خلت , أما الآن , وبناء المحطة أشرف على الأنتهاء , فلم يبق لبيتر مورتن ولزملائه المهندسين وسواهم من المستخدمين ألا أن يغادروا المكان عائدين الى حيث جاؤوا , وهكذا يرجع المكان الى ما كان عليه سابقا من الحياة الرتيبة.
وفيما كانت موراغ غارقة في التفكير , صاحت والدتها تسألها أين أنت ؟ فلما أجابت أنها في غرفة الطعام , قالت لها والدتها:
" ماذا تقدرين أن تفعلي يا أبنتي , والغرفة كاد يلفها الظلام؟".
قالت هذا الكلام ودخلت الى الغرفة لتضيء كل الأنوار , ثم أسرعت الى النوافذ وأسدلت الستائر المخملية الطويلة , فعادت الحياة الى الغرفة ,وعندئذ ظهر ما كان في الغرفة من طاولات صغيرة وكراسي , فضلا عن خزانة ضخمة من خشب السنديان مطعّمة بالنحاس , وبدت النار في الموقدة المبنية بالأجر الأحمر على وشك التحوّل الى رماد , فما كان من جين هندرسن الوالدة ألا أن ركعت متأففة غاضبة تزيح الرماد وتضع مكانه قطع الحطب.
ثم وقفت وحدّقت الى أبنتها التي ظلت جالسة الى أحدى الطاولات , وقالت لها :
" كفاك أستسلاما لأحلام النهار! هل أنهيت التدقيق في دفتر الحسابات؟".
قالت ذلك وأخذت تخرج الملاعق والصحون من الخزانة , وترتبها على مائدة الطعام.
فأجابتها موراغ وهي تتمطى وتتثاءب :
" كلا , لم أنهه بعد , سأنهيه هذا المساء أن شاء الله , ما بالك تهيئين موائد الطعام ؟ هل حان الوقت؟".
فقالت أمها:
" نعم , وكان عليك أنت أن تهيئيها من قبل , لأن بيتر سيصطحب رجلا آخر هذه الليلة...... رجلا أسمه ديفيد , وسيقيم هنا الى كانون الثاني ( يناير).
فسألتها موراغ بغير أهتمام أذا كان الرجل قادما من لندن , وكانت تلملم بعض الفواتير والوصولات وتضعها في أماكنها الخاصة بها , وكانت موراغ , بينها وبين نفسها , لا تبالي بأولئك الرجال البريطانيين ذوي القامات النحيلة , واللهجات الغريبة , والتصرفات المرحة , الذين جاؤوا للعمل في محطة التوليد الكهربائي , ذلك أنها , وهي الخجول بطبعها , لم تجد ما تقوله لهم , على الرغم من أن جمالها كان يستهويهم وكان لديهم الكثير مما يقولونه لها , وذلك قبل أن يلاحظوا قلة أهتمامها بهم , فتركوها وشأنها , أما الآن فتمنت أن يكون القادم الجديد كهلا ومتزوجا , بحيث لا يكون عليها أن تتحمل , كعادتها , الدعابة والمزاح اللذين طالما أزعاجا وأحرجاها.
وقالت لها أمها :
" هذا القادم الجديد سيحل محل أحد المهندسين في محطة التوليد الكهربائي , بعد أن أقعده المرض , وكان فيما مضى يشغل الوظيفة نفسها , ولكنه رقي الى وظيفة أعلى وأحتفظت الشركة به في مكاتبها بلندن , وبيتر يعرفه جيدا , ويبدو أنه مسرور لمجيئه الى هنا".
فقالت موراغ:
" كم تضحكيني عندما تتكلمين عن المحطة كأنك تعرفين كل التفاصيل ........ أو كما لو كنت أحد مهندسيها !".
فأجابت أمها:
" نعم , أشعر أحيانا كأنني أعرف كل شيء , بعد أن أصغي الى أحاديث بيتر والآخرين , وتمر أيام تبدو فيها محطات التوليد الكهربائي كأنها طعامنا وشرابنا , خصوصا في فصل الشتاء , حين ينقطع مجيء الزائرين , والآن فاتني أن أسألك ماذا يقول آندي في رسالته , هل يذكر متى سيعود؟".
وأخرجت موراغ الرسالة من جيب سروالها وتمعنت في طابع البريد , وكانت الرسالة وصلتها ذلك الصباح من آندي روبرتسن الذي كان في عرض البحار على أحدث ناقلة للنفط , حيث يتناوب العمل كمهندس بحري.
وقالت موراغ لأمها:
" يقول آندي أنه سيعود في عطلة الأعياد , ورسالته مصدرها أثينا حيث رست الناقلة من دون ميعاد , وكان هذا من حسن حظ آندي , لأن الشمس هناك مشرقة والطقس جميل ودافىء , آه , كم أتوق الى السفر , فهذا المكان , دارليغ , موحش وكئيب في فصل الشتاء , بحيث يغادره الى أنكلترا أو سواها جميع الذين في سن الشباب , فبعد قليل سيذهب جوني الى الجنوب ,وتقول آن أنها حالما تنهي , هي وفرانك , دراستهما في كلية الفنون سيرحلان الى كندا وهكذا أودع أقرب أصدقائي اليّ".
وهنا رمقت جين أبنتها بنظرة كلها حنان , وعادت بالذاكرة الى الوقت الذي قطعت فيه موراغ دراستها لتعةود الى البيت حتى تساعدها في أدارة الفندق بعد موت زوجها , وقبلت جين هذا الأمر على مضض , لأنها كانت تفضّل أن تتابع موراغ دراستها الجامعية , بحيث تحصل على درجة علمية تؤهلها العمل في سبيل الرزق , ولكن موراغ رفضت ذلك بعناد , وها هي الآن جالسة الى الطاولة بقامتها الهيفاء , والرسالة في يدها , وعيناها الزرقاوان الواسعتان مليئتان بالشوق والحنين تحت أطراف شعرها الأسود القصير , وشفتاها المكتنزتان تتدليان قليلا حول مبسمها , وكم تمنت جين في تلك اللحظة أن تكون لها القدرة على أقناع أبنتها بالعودة الى أستئناف دراستها الجامعية , أذن لكانت تجنبت أن تراها على ما هي عليه من التذمر والخيبة.
كانت موراغ في التاسعة عشرة , فلا عجب ان يجتاحها قلق الشباب وعناده , ثم أنها آمنت أيمانا قاطعا بالحرية الفردية وروح التجديد في الرأيء والسلوك واللباس , وحين فارقها آندي , في شباط ( فبراير) الماضي , للقيام برحلته البحرية الطويلة , تعاهدا على أن لا يعدا أحدا بخطوبة أو زواج , الى حين عودته , وعندئذ نظران في أمر الزواج , واحدهما من الآخر , وكان هذا التعاهد مليئا بروح الشجاعة الهوجاء , ذلك أن الزواج في تلك السن المبكرة لم يكن قائما على التعقل , بقدر ما كان زيّا متبعا عند أبناء ذلك الجيل , ومع أن جين لم تكن , في قرارة نفسها , توافق على الزواج المبكر , ألا أنها قالت لموراغ على سبيل تعزيتها:
" آندي سيعود قريبا , وربما تزوجتما في مطلع السنة الجديدة!".
فقالت موراغ:
" هذا أذا أدخر المال الكافي , لأنه قال لي مرة أنه لن يتزوج حتى يجمع مالا يكفي لشراء بيت....... وهذا قد يستغرق سنين , ومن قال أن شراء بيت ضروري الى هذا الحد؟ فأنا لا أريد أن أتزوج ليكون لي بيت أقيم فيه , بينما هو بعيد عني في عرض البحار".
فقالت أمها:
" أنت غير ملزمة بالزواج منه , فأنت غير مخطوبة له خطوبة رسمية".
منتديات ليلاس
فأجابت موراغ :
" أعرف ذلك".
ثم قالت:
" ولكنه لم يطلب الزواج مني , وأنا لم أعده بأنني أنتظره".
ولاحت على فمها أبتسامة مفاجئة وهي تقول:
" لا تقلقي عليّ في هذا الشأن يا أمي , أنه الطقس الكئيب والتدقيق في دفتر حسابات الفندق هما اللذان ينغّصان عيشي , وستتحسن الحال حين يسقط الثلج ويصبح بأمكاني التزلج عليه".
وفتح الباب الخارجي , ثم الباب الداخلي , فدخلت الريح الغربية الى الغرفة , فبعثرت الأوراق وأخرجت الدخان من باب الموقدة , فصاحت الأم وأبنتها : " أغلق الباب !".
فأنغلق الباب بضجة شديدة ودخل بيتر مورتن الى الغرفة وقال معتذرا:
" كنا , أنا وديفيد , نحمل بعض الحقائب , في أيدينا فلم نستطع أن نقبض على الباب الخارجي جيدا , فأنفتح وهجم الريح وفتح الباب الداخلي , فمعذرة منكما ...... ذهب ديفيد ليأتي ببقية الحقائب".
ولاحظت موراغ , وهي تجمع الدفاتر والملفات , أن بيتر , كالعادة , لا يلتفت ألا الى أمها جين , كان بين الأربعين والخمسين من عمره , ذا شعر أسود وعينين عسليتين وملامح صلبة , ويتصف كمواطنيه اليوركشايرين بقوة العزيمة والشخصية التي تنم عنها نظراته الخاطفة وحركاته المتباطئة .
وقال بيتر لموراغ مداعبا :
" أما تزالين منصرفة الى جمع الأرقام؟".
فلم تجبه , بل مرّت من أمامه وهي تحمل بين يديها كومة من الدفاتر والأوراق , عبر باب غرفة الطعام , الى البهو الخارجي.
ولم تتمكن موراغ أن ترى رجلا مديد القامة يقترب نحوها , أكثر مما تمكن هو أن يراها , ذلك أن باقة الزهور الصفراء التي كان يحملها بين يديه حجبت عنه الرؤية , فكان أن تصادما بشدة , فوقع الرجل ممددا على الأرض , وموراغ على صدره , والدفاتر والأوراق مبعثرة في كل أتجاه , وقبل أن تتمكن من النهوض , كانت ذراع الرجل تلفها وتمنعها عن ذلك , وكم كان خوفها شديدا حين شعرت بخد خشن يضغط على خدها , وبصوت هازىء يقول لها:
" يدهشني أنك تهتمين بعملك كل هذا الأهتمام!".