امتقع وجه ذلك المسئول الكبير في شدة، وهو يطالع تلك الرسالة العاجلة، التي أرسلها إليه العقيد "هشام"، ورفع وجهه إلى رئيس أمنه، متسائلاً في هلع، لا يتناسب مع منصبه الرفيع:
- ما الذي يعنيه هذا؟!
هزّ رئيس أمنه كتفيه في حيرة مضطربة، وهو يقول:
- نُظم صنع بطاقات الرقم القومي عسيرة وشديدة التعقيد، بالإضافة إلى أن أجهزتها رفيعة المستوى التكنولوجي، ومن المستحيل أن يستطيع مزوّر عادي مجرّد الحصول عليها.
سأله المسئول في توتر:
- ألا يمكن تزويرها؟!
تردد رئيس أمنه لحظات؛ فصاح به في حدة:
- أهذا ممكن أم غير ممكن؟!
واصل رئيس أمنه تردده لحظات أخرى، قبل أن يقول في توتر:
- غير ممكن على المستوى الشعبي.
انعقد حاجبا المسئول في غضب، مع ذلك الجواب الهلامي؛ فتابع رئيس أمنه في تردد واضح:
- وليس على المستوى الدولي.
تراجع المسئول بحركة حادة، متسائلاً في انزعاج:
- ماذا تعني؟!
أجابه في سرعة:
- أعني أنه أمر مستحيل، لمزوّر عادي؛ لأنه لا يحتاج إلى براعة فائقة فحسب؛ ولكن إلى مهارة تكنولوجية غير عادية، وإلى أموال طائلة، يستحيل أن يحصل عليها، ولا تساوي النتائج هذا في النهاية؛ ولكن بالنسبة لدولة أخرى.
قاطعه المسئول، وهو يشهق في ذعر:
- دولة أخرى.
تابع رئيس أمنه، دون أن توقفه الشهقة:
- الدول تمتلك تلك التكنولوجيا بطبيعة الحال، وهذا يجعلها قادرة على تزييف كل الهويات الرسمية، و..
عاد المسئول يقاطعه في هلع:
- هل تعني أن ذلك الرجل، يعمل لحساب دولة أخرى.
تزايد تردد رئيس أمنه هذه المرة، قبل أن يقول في خفوت:
- ليس من الضروري أن تكون أخرى.
اتسعت عينا المسئول في ارتياع، وسأله بصوت شاحب:
- ماذا تعني؟!
هزّ الرجل كتفيه، وقال:
- ربما يعمل لحساب مخابراتنا.
امتقع وجه المسئول بشدة، وهو يتراجع منكمشاً في مقعده الفخم الكبير هذه المرة..
يعمل لحساب المخابرات؟!
هذا يعني أنهم قد كشفوا أمره، على نحو أو آخر..
وهذه كارثة..
لو كشفوا أمره، و أمر ما فعله؛ فسيعني هذا نهايته، وفتح كل ملفاته القديمة، و..
"لا.. مستحيل!!"
هتف بها في قوة، وكأنه يحاول إقناع نفسه بها؛ فتطلّع إليه رئيس أمنه في دهشة، وهو يردد متوتراً:
- مستحيل؟!
صاح فيه المسئول في عصبية:
- نعم.. مستحيل! المخابرات لا شأن لها بالشئون الداخلية.. إنها ليست مسئوليتها.
أجابه رئيس أمنه في حذر:
- المخابرات جهاز سيادي، يتبع رئيس الجمهورية مباشرة، وسينفّذ أوامر فخامته، في أي شأن كان.
عاد وجه المسئول يمتقع، وهو يغمغم:
- ولكن.. لو أنها مخابراتنا؛ فلماذا..
أسرع رئيس طاقمه يهتف منزعجاً:
- أنا لم أجزم بهذا يا سيدي.. كان مجرّد احتمال فحسب.
هتف المسئول:
- ولكنه تفسير مثالي لتلك البطاقة التي يحملها.
انعقد حاجبا رئيس أمنه لحظات، قبل أن يغمغم:
- ربما كان هذا صحيحاً.
وصمت لحظة أخرى، قبل أن يشدّ قامته، مضيفاً في حزم:
- ولكننا لا نعلم هذا.
سأله المسئول في اضطراب:
- ماذا تريد أن تقول؟!
مال رئيس أمنه، مستنداً براحتيه على سطح مكتبه، وهو يقول:
- من الناحية الرسمية، نحن نستجوب مشتبهاً فيه، في واقعة إرهاب، ووفقاً لقانون الطوارئ، حتى مع تعديلاته الأخيرة، نحن نسير على منهج قانوني تماماً.
قال المسئول في عصبية:
- لست أفهم.
اعتدل رئيس أمنه، وهو يقول:
- "هشام حمزة" سيفهم.
نطقها في غموض..
كل الغموض..
* * *
"ماذا تريد أن تقول بالضبط يا "رشدي"؟!"
ألقى الطبيب الشرعي الشاب السؤال، في فضول واهتمام شديدين، على المقدّم "رشدي"، الذي انعقد حاجباه، وتراجع في مقعده، وهو يغمغم في توتر:
- لست أقول شيئاً.. فقط أريد أن أعرف.
ابتسم الطبيب الشاب، متسائلاً:
- تعرف ماذا؟!
أجابه في جدية متوترة:
- سبب وفاة "أمين ضياء".
ارتفع حاجبا الطبيب الشاب في دهشة، وهو يحدّق في وجه "رشدي"، قبل أن يطلق ضحكة قصيرة، ويقول:
- يمكنك أن تسأل أي رجل شارع في "مصر"، وسيُخبرك أن سبب الوفاة هو حادث القطار.
انعقد حاجبا "رشدي"، وهو يقول في عصبية:
- حادث القطار هو الوسيلة؛ ولكنني أسأل عن أسباب الوفاة.
ارتفع حاجبا الطبيب الشاب، وابتسم، وهو يقول:
- مدهش.. ثقافة لا تتناسب مع ضابط أمن دولة.
سأله "رشدي" في ضيق:
- وكيف يُفترض أن تكون ثقافة ضباط أمن الدولة.
ضحك الطبيب الشاب، قائلاً:
- ثقافة اعتقال.
لم ترُق الدعابة له، فقال في شيء من الصرامة:
- ضابط أمن الدولة، بحكم سعة تعاملاته وتنوّعها، يفترض فيه أن يمتلك ثقافة واسعة.
حاول الطبيب الشاب أن يقول شيئاً؛ ولكن "رشدي" واصل في صرامة:
- وهذا لا يجيب سؤالي.
تراجع الطبيب الشاب، وتطلّع إليه لحظة، قبل أن يقول:
- أنت على حق، فحادث القطار وسيلة، يمكن أن يحدث الموت معها بسبب اصطدام الرأس بجسم صلب، أو السقوط عليه، أو على جسم حاد، أو من سقوط الركاب بعضهم على بعض، أو حتى بأزمة قلبية، من جراء الصدمة.
سأله "رشدي" في اهتمام:
- وأيها ينطبق على "أمين ضياء".
صمت الطبيب الشاب لحظة في تردد، قبل أن يجيب في خفوت:
- لست أدري.
انعقد حاجبا "رشدي" في دهشة، وهو يقول:
- ليس هذا الجواب الذي توقّعته.
اعتدل الطبيب الشاب، وقال في سرعة، وكأنه يدافع عن نفسه:
- هل تدرك عدد ضحايا حادث القطار هذا؟! هل تدرك عدد القتلى والمصابين؟! إننا في مثل هذه الكوارث لا نفحص كل قتيل على حدة، ولا نحدد أسباب وفاة كل منهم منفرداً.. إننا نكتب الحادث في خانة سبب الوفاة فحسب، وإلى جوارها عبارة تقول: إن سبب الوفاة إصابة، نتج عنها هبوط حاد في الدورة الدموية.
مال "رشدي" نحوه، يقول في صرامة:
- وماذا لو أن سبب الوفاة يخالف هذا؟!
قلب الطبيب الشاب كفيه، وقال في توتر:
- ولماذا؟! كلهم أصيبوا، ولقوا حتفهم نتيجة للإصابة.
صمت "رشدي" لحظات، وهو يرمقه بنظرة غامضة، قبل أن يقول:
- وماذا لو طلبتُ منك إعادة فحص جثة "أمين ضياء" على نحو منفرد، وتحديد أسباب وفاته بدقة؟!
بدت الدهشة على وجه الطبيب الشاب، قبل أن يتساءل في حذر:
- بصفة قانونية؟!
هزّ "رشدي" رأسه نفياً في بطء، وهو يجيب في حزم:
- بل بصفة شخصية.
ظلً كلاهما يتطلّع إلى عيني الآخر لحظات في صمت، قبل أن يغمغم الطبيب الشاب في خفوت:
- هذا قد يكلفني وظيفتي.
غمغم "رشدي" بدوره:
- قانون العمل في "مصر" لا يسمح بفصل أحد.
مضت لحظات أخرى من الصمت، قبل أن ينهض الطبيب الشاب من مقعده ويقول في حزم:
- ينبغي أن نسرع إذن؛ فسيتمّ تسليم الجثث كلها لذويها صباح الغد.
وتنهّد "رشدي" في ارتياح عجيب، تشوبه لمحة من التوتر، في مزيج مدهش عجيب..
وفي أعماقه تفجّر سؤال كبير..
ترى هل سيسفر هذا عن جديد؟!
هل؟!
يتبع