الفصل الثامن
ومر نهار السبت على جانى وهى فى حالة إنبهار تام يلفها شعور وردى حالم لم تتمكن حتى كلمات تينا الحاقدة المسمومة من أن تفسده . واعترفت لنفسها تلك الليلة ، وهى فى فراشها وجونيير وكوزموس بجانبها ، بأنها تحب كين .
لقد كان ذلك ضد كلمنطق وكل عقلانية . ولم تكن هى تريد ذلك ، ولكن ... واحتضنت وسادتها بشدة . كان ذلك فوق مقدورها ، أيمكنها حقا أن تحب شخصا لا تثق به ؟ أخذت تسأل نفسها هذا السؤال عندما فارق النوم عينيها . هل كانت تثق به ؟ وتقلبت فى فراشها مما أثار ضيق الهرين .
إنها لا تعرف . إنها لم تعد تعرف شيئا . ففى لحظة كانت تتمنى لو لم تعرفه أبدا ، وفى اللحظة التالية ...
وتذكرت تلك النزهة الطويلة سيرا على الأقدام التى قاما بها بعد ظهر ذلك اليوم متنشقين الهواء الطلق المنعش المشبع بعبق الغابة والشتاء ، والابتهاج والمرح اللذين تملكهما ، وضحكاتهما معا ..... وارتجفت فجأة وهى تطلق أنينا خافتا من أعماقها . لابد انها أكبر حمقاء فى العالم . ولكن ـ كيف بإمكانها أن تتأكد ...؟
وأحضرت الخادمة جين لها صينية الفطور صباح الأحد باكرا . وكان يبدو الانشغال على وجهها الفتى ، وهى تقول :
" إن السيدة لانغتون مشغولة بأمور الحفلة منذ الساعة الخامسة ، يا آنسة ، حتى لكأن الملكة ستزورنا "
فسألتها جانى بسرعة : " أيمكننى المساعدة ؟ "
فأجابت جين بذعر : " كلا ، يا آنسة . إن متعهدى الحفلة هنا حاليا يقومون بهذا الشئ وذاك ، ولكن لا شئ يعجب السيدة لانغتون . إن المدعوين هم فقط أربعون شخصا أو نحو ذلك . ولا أدرى لماذا اهتمامها ذاك كله ؟ "
وغاص قلب جانى بين ضلوعها وهى تسالها : " أربعون شخصا أو نحو ذلك ؟ كنت ظننت أنها حفلة صغيرة "
فقالت جين بإرتباك : " حسنا ، إنها كذلك يا آنسة ، فقد سبق وأقام السيد ستيل حفلة كان عدد المدعوين فيها مائتين ، وذلك على شرف بعض الضيوف . وكان ذلك فى الحديقة فى فصل الصيف . إن أربعين شخصا لا شئ "
وما أن أنهت جانى فطورها ، حتى اندفعت إلى خزانة ثيابها تفتحها لتلقى نظرة على ملابسها . لقد سبق وارتدت هنا الثوب الأسود والثوب الحريرى الملون ، فلم يعد لهما فائدة الآن . وأخذت تتمعن فى ملابس المساء القليلة التى كانت السيدة لانغتون أحضرتها إليها من منزلها . ربما هذا الثوب المؤلف من بنطلون حريرى أبيض وقميص والذى اشترته من باريس فى رحلة عمل ليوم واحد ، السنة الماضية ، ربما ينفع . وأخرجته من الخزانة ووضعته على الفراش . كان القميص مؤلفا من اللونين الأبيض والأسود بشكل رائع مثير ، وكان ذلك الثوب يغوى أى شخص لشرائه .
وكانت تفكر بذلك وهى تنظر إلى الثوب بإعجاب. سيكون فى الحفلة هذه الليلة ، دون شك ، عدد من الفتيات النحيلات الرشيقات . وستترك شعرها مسترسلا على كتفيها . وجلست على فراشها تفكر .... هذا جنون . إنها مجنونة حتما .
وقبل موعد الشاى بالضبط ، ابتدأ المدعوون يتوافدون . وكانت جانى قد سلمت نفسها لما تقضى به الأقدار . وانتابها شعور بالعجز وهى ترى أن أول ضيفة تدخل الباب كانت تلك الشقراء التى كانت مع كين أثناء ذلك المؤتمر الصحافى . وفكرت باكتئاب ، فى أن كل شئ سينتهى إلى الأسوأ . لقد كانت مجنونة إذ طنت أنه جاد بالنسبة إليها .
وهتف كين وهو يضع ذراعه حول كتفيها : " ها أنت "
وتابع وهى تنظر إليه بدهشة : " آسف لتأخرى ، فقد جاءتنى مكالمة هاتفية " كان يبدو جذابا إلى حد مدمر فى بنطلونه الرائع التفصيل وقميصه الحريرى المنبسط على صدره العريض وكأنه صورة فى لوحة إعلانية . لم تكن قد رأته معظم بعد الظهر . فقد لازم مكتبه طيلة الوقت ، مرة أخرى ، وعلمت من والده أنه ما زال يكافح فى سبيل اتحاد شركته بشركة كولينز .
وسألته : " هل كانت المكالمة ناجحة ؟ "
فأجاب ببطء : " ربما ، أخيرا . لقد جعلت الأب وابنه يتحدثان معا الآن ، وهكذا ربما يمكننا أن نصل إلى نوع من التسوية والشراكة . إن شعور جون بكرامته فائقة الحد ... "
وابتسم ساخرا وهو يتابع : " إياك ان تنتقدي كبرياء الرجولة "
وأجابت بنعومة وهي ترى المرأة الشقراء تمر من أمامهما دون أي اهتمام منه : " لايمكن أن أفعل حتى فى الحلم "
وقال بعد لحظة : " يبدو عليك الانفعال . إياك " وحدق في وجهها بنظرات دافئة وهو يتابع قائلا : " تبدين رائعة الجمال , يا جاني , ليس ثمة امرأة هنا تنافسك "منتدى ليلاس
" دع شيئا من اللطف والمودة للباقيات منا , يا كين "
وكان وجه تينا رقيقا باسما وهي تلقى بيدها على ذراعه بخفة , لحظة , وهي تمر بهما , ورفع كين حاجبيه بحركة سافرة بعد إذ انضم اليهما زوجان آخران . ولكن , عندما حدقت جاني في أثر المرأة الشقراء الطويلة القامة , اقشعر جسدها , فقد كانت المرأة تنفث سما ً , بالرغم من ادعائها الرقة والعذوبة .
وبقيت جاني طيلة المساء تشعر بنظرات تينا الحاقدة تتبعها إلى ان وقفت أمام المقصف الحافل بألذ المأكولات تملأ صحنها , فإذا بتينا تتقدم منها لتقف وتهمس في أذنها وعيناها تنفثان بالكراهية , قائلة بلهجة تعمدت أن تكون عفوية : " أظن ان كين لابد قد استولى على قلب كل امرأة فى هذه القاعة , على الأقل من هن تحت الثلاثين , وذلك بمختلف الطرق "
وكانت جاني قد اعدت نفسها لنوع من الهجوم من قبل تينا , ولكن مثل هذا الكلام السوقي تهمسه هذه في أذنها , أذهلها تماما .
وتابعت تينا تقول بنعومة وهي تنظر إلى الطعام الذى كانت تملأ منه طبقها بحذر : " إنه أمر محير حقا , عندما تفكرين فيه , أن يبقى على صداقة معهن بعد أن ينهى علاقته معهن . ومع هذا فهو رجل غير عادي قطعا " وتناولت بشوكتها قطعة من لحم البفتيك وهي تتابع : " ألا تظنين ذلك ؟"
ونظرت الآن الى وجه جاني وقد بانت الضغينة فى عينيها .
وأجابت جاني : " لا أظن أن هذا الحديث .. "
فقاطعتها تينا بصوت أشبه بفولاذ ملفوف بالحرير : " أتعلمين اننى خرجت معه , أنا نفسى عدة مرات قبل أن نتقابل أنا وأخيه كايث ؟ فأنا أتكلم عن خبرة بالطبع " ولاحت على شفتيها ابتسامة ذات معني .
فسألتها جاني ببرود وهي تقابل نظرات تينا اللامعة بمثلها : " أتريدين أن تقولي إنك مررت بأوقات عاطفية معه ؟ "
فأجابت تينا بخبث : " ما أشد صراحتك يا عزيزتي "
فقالت جاني بعنف : " لأنك إذا أنت قلت ذلك , فسأدعوك بالكاذبة . لقد علمت من كين أنكما خرجتما معا ً ثلاث مرات وهذا كل شئ "
وعندما تحولت عينا تينا عنها , تقدمت هي الى الأمام لتقول بهدوء : " هل ستقولين شيئا مختلفا ؟ "
فقالت تينا ببطء بعد فترة صمت : " آه , لقد أصبح كل ذلك قصة قديمة الآن . أليس كذلك يا عزيزتي ؟ " وضاقت عيناها حتى اصبحتا شقين قاسيين وهي تتابع قائلة : " إنك لا تريدين أن تسمعى كل التفاصيل القذرة , أليس كذلك ؟ "
فنظرت إليها جاني بوجه عابس وعينين مليئتين بالكراهية وهي تقول : " إنك ذات نفسية مريضة ملتوية , يا تينا "
" كيف تجرؤين على هذا الكلام ؟ " وكان وجه تينا الجميل مظلما بالحقد والغل وهي تقول لها هذا مما أشعر جاني بالغثيان . وتابعت تينا تقول : " كيف تجرؤين على توجيه هذا الكلام إلي ؟ إننى لا أقبل ذلك .. وأنا أقول لك.. "
فقاطعتها جاني وهي تجاهد لجعل صوتها باردا واضحا : " وأنا لن أستمع إلى أكاذبيك وتعريضاتك المشينة , لا الآن ولا فى المستقبل "
وقالت تينا بصوت يهتز عنفا : " المستقبل ؟ المستقبل ؟ اتظنين حقا انه سيكون لك مستقبل مع كين ؟ إنه لن يبقى معك . إنه لا يبقى مع أية امرأة . ألا ترين هذا ؟ ذلك لأنه رجل . رجل حقيقى ... إنه الرجل الحقيقى الوحيد الذى عرفت . فهو لا يمكنه أن يكون سجين أية امرأة اننى اعرف ذلك وأعرف طريقة تفكيره . كما أعرف ما يحتاجه ..."
وكانت نظرة الذعر التى لاحت في عيني جاني هي التي أسكتت ذلك الصوت المنخفض قبل ثانية واحدة من انطلاق صوت كين العميق البارد يتكلم من خلف تينا قائلا : " اذهبي إلى غرفتك يا تينا "
وعندما استدارت هذه لتواجهه , لم تستطع جاني أن تري النظرة الى ارتسمت في عينيها , ولكن منظر كين كان مخيفا وهو يتابع قائلا : " واحزمي امتعتك لأن بينز سيأخذك الى منزلك "
وهتفت هي : " كين .. "
فقاطعها بهزة عنيفة من رأسه وهو يقول : " الآن . وإلا فلن أكون مسؤولا عما سأفعل "
فقالت تينا : " لايمكنك أن تفعل ذلك بي , يا كين " كان فى صوتها الآن شئ غريب بعث القشعريرة في جسد جاني . كان أشبه ما يكون بتهكم منغم مما جعلها تدرك , لأول مرة , مبلغ فداحة ما تعني الحياة مع مثل هذه المرأة بالنسبة إلى أخيه . فلا عجب إذا كانت حياته تلك قد قتلته . وتابعت تينا تقول : " إننى جزء من أسرتك شئت ذلك أم أبي . فلا يمكنك أن تعاملنى بالطريقة التى تعامل بها الآخرون "
فقال وهو يم***ا من ذراعها : " تعالي معي يا تينا "
وجرها مجتازا بها الغرفة , بوجه جامد , وشعرت جاني بالراحة لذهابها بهدوء , رغم أن آخر نظرة ألقتها تينا عليها كانت تطفح حقدا شرسا , هذا إلى شئ آخر ... شئ هو نوع غريب من الإنحراف العقلي .[/align]
________________________________________
[align=center]ومضى وقت طويل قبل أن يعود كين , وكان واحد أو اثنان من الضيوف قد رحلا . وحال انشغاله بضيوفه وتوديعهم , من أن تكلمه على انفراد .
ولم يتكلم هو إلا بعد أن ودع ووالداه آخر الضيوف عند الباب الخارجي , فقال : " لقد رحلت تينا يا أمي " وكان ذلك وهم راجعون بعد أن اغلقوا الباب الخارجي .
وحدقت أمه فيه بذهول وهي تهتف : " رحلت ؟ هذه الليلة ؟ مع من ؟ وأين الطفلان ؟ "
فأجاب بهدوء : " انهما نائمان فى غرفتهما . لقد حضر والد تينا لأخذها . أظنهم يريدون أن يقوموا برحلة بحرية حول العالم . واقترح هو أنها ربما كانت فكرة حسنة أن تذهب هي معهم لعدة أشهر . إن أباها يشعر أنها بحاجة إلى فرصة للاستجمام بدون الطفلين , وهو يدرك أنهما سيكونان سعيدين آمنين معك . إنه سيتصل بنا هاتفيا غدا ليتحدث عن التفاصيل "
ونظرت أمه إليه وهي تقول : " يا لها من مفاجأة . ولكنني لم أفهم تينا قط . فهي لم تكن أما حنونة . اتظن ان السنة الاخيرة قد أثرت عليها أكثر مما صرحت به ؟ " ووجهت هذا السؤال إلى زوجها وقد ساد وجهها شعور بالذنب .
فأجاب زوجها بجفاء : " لا أظن ذلك . ولكن تينا لا تصارح أحدا بشئ , أليس كذلك ؟ اظن مثل هذه الرحلة يحتاجها كل انسان . فهي تمنحنا فرصة للتفكير وتحليل الأمور " ونطق بجملته الأخيرة بعد نظرة طويلة إلى وجه ابنه العابس .
وعندما ابتعد وزوجته , عاد فنظر من فوق كتفه الى ابنه وفي عينيه نظرة متسائلة , ولكن هذا وضع اصبعه على فمه يطلب منه الصمت وهو يقول : " سأراك غدا يا أبي " وكانت الكلمات تبدو عادية , ولكن الأب اومأ برأسه ببطء . لقد تلقى الرسالة غير المعبرة التى وجهها اليه ابنه وفهمها.
وعندما اختفى والداه متجهين الى غرفتهما , توجه كين نحو جاني وهو يقول وقد تغيرت ملامح وجهه : " جاني ؟ إننى بحاجة إلى الحديث معك . لأن أكون مع إنسان طبيعى . هل تمانعين ؟ "
فأجابت : " كلا بالطبع " لقد مس قلبها الألم السافر البادي في عينيه .
وأمسك بذراعها متجها بها نحو مكتبه . حيث كانت النار تتوهج حمراء في ظلمة المكتب .
وقال : " لا يمكنك ان تتصوري مقدار إعجابي بك يا جاني " واهتزت مشاعرها تجاوبا مع العاطفة المتدفقة في صوته . وأدركت انها قد ضاعت . ضاعت فى دوامة محت من ذهنها كل ما هو عقلاني , ولم يبق سوى كين .
وفجأة , تراجع وهو يقول وقد تألقت عيناه بوهج نيران المدفأة : " إننى أريدك يا جاني ... هل تفهمين ؟ "
وادركت هي , في لحظة واحدة انه يمنحها الفرصة للاختيار . لقد كان رجلا ذا خبرة ومتمكنا من فهم مشاعر المرأة ومقدار تجاوبها . لماذا ؟ لماذا ؟ وفجأة وبدون سبب . شعرت بذعر هائل .
وتهالكت جالسة على الأريكة وهي تقول : "كين .. هذا الكلام ليس الآن وقته "
وتصلب جسده لحظة طويلة سادها التوتر , ليسير بعد ذلك , فيقف أمام النار التى ابتدأت فى الخمود , موليا إياها ظهره . وتنفست بعمق وهي تقول : " إننى أسفة .. فأنا لم أعد ادرك طبيعة مشاعري . وما الذى أريده حقا " وسكتت وهي تطلق آهة خافتة .
فأجاب وهو يستدير إليها ببطء : " لكننى أعلم تماما ما أريد " ولم تستطع أن ترى وجهه في الظلام وانما بدا مخيفا ضخم الحجم وهو يتابع قائلا : " أكثر من اي وقت آخر في حياتي "
ومرت فترة طويلة من الصمت العميق أخذت بعدها تفرك عينيها بعد أن شعرت برغبة قاهرة في البكاء وهمست مرة اخري : " إننى أسفة " وكان صوتها يرتجف رغم كل جهودها فى السيطرة عليه وهي تتابع قائلة : " لم يكن فى نيتى أن أدع الامور تفلت من أيدينا بهذا الشكل "
فقال بصوت خافت رقيق : " ولا أنا . ولكن عندما اكون بقربك , تجري الامور بهذا الشكل . أليس كذلك ؟"
كانت السخرية في صوته يشوبها شئ من الألم . وادركت هي بشئ من الاشمئزاز لشعورها ذاك , انها كانت تريده ان يشعر بنفس ما تشعر هي به في هذه اللحظة , كانت تريده أن يبطل كل اعتراض ومقاومة منها , وأن يؤكد صلتهما بالطريقة المعروفة منذ الأزل . وتوجهت وجنتاها من جراء هذه المشاعر المتناقضة التى كانت تتفاعل في نفسها والتى اشعرتها بالمذلة .
وسألته بصوت خافت : " هل ستأخذني إلي بيتي ؟ "
فأجاب على الفور بصوت دافئ ثابت : "نعم . إنما إذا وعدتني بتناول العشاء معي مساء الغد "
فسألته وقلبها يخفق بعنف : " ألا يمكن تأجيل ذلك إلى مساء الثلاثاء ؟ إن على أن أنظف شقتى وأغسل شعري وما أشبه ذلك "
فأجاب : " فليكن ذلك " وأرسلت الرجولة المتدفقة من صوته العميق الرعدة فى أوصالها .
وكان السائق قد سبق ووضع حقائبها في صندوق السيارة والتى كانت تنتظر بصبر , أمام المنزل فى ضوء البدر المكتمل الذي أحال لونها فضيا خالصا .
وصعد كين إلى مقعد القيادة بعد أن أجلسها فى المقعد الى جانبه . وتمتم ساخرا وهو يشعل المحرك : " إنها ليست مغرية كسيارة الجاكوار , ولكن لا بأس بها لهذه الليلة "
كانت تريد أن تأخذ الأمور بنفس البساطة التى يأخذها هو بها , كما يبدو . ولكن كان فى حلقها غصة خانقة كانت تمنعها من ذلك . لو لم يكن قد توق , لكان الآن شعورها مختلفا . و اغمضت عينيها بشدة لحظة . سواء كان ذلك للأفضل أم للأسوأ , فهو فوق إداركها الآن . فإن قربه منها يمنعها من التفكير بشكل سليم .
وانسابت السيارة الكبيرة فى ضوء القمر الرائع , وقد بدت الشوارع خالية , تقريبا فى هذا الوقت من الليل . وعندما تذكرت مجيئها الى هنا منذ أربعة أيام , لم تكد تصدق السرعة التى استولي هو بها على عواطفها وأفكارها كليا . وكيف بدد كل معارضة وممانعة منها . هذا بينما هي ما زالت بعيدة حتى عن فهم السبب الذى جعله ينجذب إليها , وحتى عن إدارك حقيقته كإنسان . هل تراها وثقت بعقلها أم بقلبها حين تعلقت به . ولم تجد فى تلك الشوارع الخالية جوابا يشفى غليلها .
" ها قد وصلنا " قال ذلك وهو يوقف السيارة خارج المنزل . وحدقت به لحظة فى ذلك الضوء الباهت مستوعبة ملامحه الخشنة , وكل خط فى وجهه وكأنها لن تراه مرة أخرى . لقد قلب هذا الرجل حياتها رأسا على عقب فى خلال أيام قليلة , ولكن اشد الامور فظاعة هو أنها لم تكن تستطيع أن تتصور أنها قد لا تراه مرة أخرى أبدا .
وقال وهو يمد يده يلمس السلسلة المتدلية حول عنقها : " إننى مسرور لكونك تتحلين بها هذه الليلة . يبدو أن قوتها على تغيير الأمور لم تتغير "منتدى ليلاس
فقالت : " لم أفهم " وحدقت به لحظة قبل أن تومئ برأسها قائلة بسرعة : " آه , أتعني تينا ؟ "
فأجاب بجفاء : " ليس تماما "
وفجأة , شعرت أنه من الأفضل أن تركز اهتمامها على زوجة أخيه , فسألته :" هل هي سترحل بعيدا ؟ وهل ستترك طفليها ؟ "
فتنهد بخشونة وهو ينظر إلى خارج النافذة قائلا : " نعم . لقد كان أبوها أكثر تفهما مما كنت ارجو . ويبدو انه يحبها رغم عيوبها ولكن دون أن يأخذ عنها فكرة حسنة . لقد كان يحب كايث وقد أوضح ذلك . واظن انه كان ليده فكرة صائبة عن كيفية تسيير الأمور . فقد خطط لرحلة تستغرق عاما أو اكثر . واثناء ذلك سنقوم نحن بالإجراءات القانونية فى الوقت المناسب بالنسبة للطفلين . ذلك أن تينا لم يكن لديها قط وقت لأجل طفليها . فهي بالكاد تستطيع احتمالهما بجانبها أحيانا . وأمي هي الأم المناسبة لهما "
فسألته بحيرة : " وهل ستوافق تينا على هذا ؟ إنهما ولديها "
فأجاب بصوت خشن يملؤه الألم : " عندما تلد سمكة القرش أولادها , تكون هذه الأولاد فى اكياس خاصة بها ومعلقة بحبل فى داخلها , تماما كالإنسان , ولكن ما أن تصبح فى الخارج حتى تنطلق فى مياه البحر لتعيش بمفردها . أعنى بمفردها تماما وليس للأم أية علاقة بها بعد ذلك . وفي أحيان نادرة الحدوث تولد سمكة قرش بشكل امرأة , مثل تينا تلك " ونظر إليها متنهدا وهو يتابع قوله : " لا شئ فى هذه المرأة طبيعيا , على كل حال يا جاني . لقد أهملت طفليها . تجاهلتهما منذ ولادتهما . وقد جعل هذا كايث يشعر بالجنون إلى أن اضطر لقبوله . اخيرا ككل شئ آخر . وهكذا أصبح لهما بمثابة الأب والأم . وطبعا كانت أمي تساعده فى ذلك "
فسألته : " وكيف مات ، يا كين ؟ " وما كان لها ان تفكر ، قبل الآن ، فى إلقاء هذا السؤال ، ولكن الوقت الآن قد اختلف .
فأجابها بإختصار : " بحادث سيارة . لقد كانت ظروف الحادث غريبة . فقد اصطدم بجدار من القرميد رأسا دون اى دليل على انحراف فى العجلة او ما أشبه . ولكن الوقت كان منتصف الليل والشارع خاليا ولا شهود هناك " وهز كتفيه وهو يتابع : " وكان الأفضل أن نجعل أمر تعتقد أن الأمر كان مجرد حادث سيارة . "
فسألته بفزع : " أتعنى أن الأمر كان انتحارا ؟ "
فأومأ برأسه ببطء وهويقول : " لقد أحالته تينا إلى رجل من النوع الذى كان يكرهه ، يا جانى . لقد اضطرته إلى القيام بأمور ، وقول أشياء لم تكن من طبيعته ، فآلمت روحه وأثقلت ضميره ، وذلك لكى يرضيها ، ولكنها لم تكن لترضى عنه وكان هوضعيفا ، وكان يدرك فى نفسه ذلك ، وفى النهاية ، دفع الثمن . " والتفت إليها فجأة يسألها : " هل أنت متأكدة أن بامكانك التوقف عن رؤيتى ليومين كاملين ؟ "
وقبلت هى تغيير موضوع الحديث دون تعليق . فقد كان الحديث عن أبيها ، ولو بعد زمن طويل ، كان أحيانا يسبب لها غاية الألم ، وخاصة فى الأيام الأولى التى تلت فقده ، عندما كان شعورها بالمرارة يدفعها ، فعلا ، إلى الغثيان . فلا عجب إذا كان يكره تينا والحديث عنها إلى هذا الحد .
وأجابته بصوت خافت وهى تفتح باب السيارة لتخرج إلى الليل القارس : " سأحاول " كانت تخشى ان هى بقيت دقيقة أخرى ،أن تطلب منه إعادتها معه إلى بيته .
وتمتم وهو يتبعها إلى الباب الخارجى : " يا لك من فتاة حمقاء ... افتحى الباب . "
وعندما تبعها إلى الردهة الصغيرة ، قالت له : " لا حاجة بك إلى الدخول "
فأجاب : " لقد غبت عن البيت أربعة أيام ، وكان المنزل خاليا . فأنا سأطمئن عليك أولا ، ثم أخرج ، إلا إذا طلبت منى البقاء لشرب فنجان قهوة . " وبان المكر فى عينيه وهو يقول ذلك .
وعندما خرج أخيرا ، كانت تشعر بأعصابها متوترة وذهنها مشوشا إلى درجة لم تعرفها فى حياتها . وكان شعورها بالارتياح وهى تسمع خطواته تبتعد وهو يغادر الشقة لا يوازيه سوى شعورها بالأسف لرحيله .
وكانت شقتها كصندوق الثلج . وعندما استلقت فى فراشها ، وهى ترتجف من البرد ، افتقدت وجود الهرين ، كوزموس وجونيبر ، بجسميهما الدافئين ، أكثر مما كانت تظن .
نهاية الفصل الثامن