كاتب الموضوع :
my faith
المنتدى :
الارشيف
(4)
أهذا هو الحب ؟
عاد رأفت إلى البيت ليجد آية تقف عند باب الحديقة بفكر شارد ووجهها ملطخ بالدماء وعلى رأسها كوفية فلسطينية .. أثار منظرها الشاحب الرعب في نفسه .. فأسرع خطاه نحوها ثم أمسك كتفيها ووجهه ينبض بقلقه عليها :
- ما بك يا آية ؟.. هل أصابك مكروها ؟... هل أنت بخير .
لم يترك لها مجالا للحديثة فابتسمت مهدئه :
- لا تقلق يا رأفت إنها حكاية طويلة سأخبرك بها في الداخل .
ظل رأفت محدقا بوجه آية الهادئ القسمات .. ثم تحسس وجهها بحنان بالغ :
- المهم هل أنت على ما يرام ؟.
عادت آية تبتسم تلك الابتسامة اللطيفة :
- نعم .
احتضنها رأفت وهو يطلق تنهيدة راحة من صدره .. ثم سارا نحو البيت وهو يصب أسئلته عليها :
- هل كنت بالمستشفى ؟.. وما هذه الكوفية التي فوق راسك ؟.
دخلت آية إلى البيت لتجد جدتها وخالتها يتطلعان إلى ما ستقوله فأجابت :
- لقد كنت في طريقي إلى المستشفى ....
وقبل أن تكمل حديثها دخل الأب إلى البيت ضاحكا من حديث يوسف الذي كان يسير خلفه .. وعندما وجدا آية تقف في الصالة بذلك المنظر .. ركض يوسف نحوها ملتقطا وجهها بكفيه متسائلا بقلق :
- ما هذه الدماء التي على وجهك يا آية ؟.
أسرع خالها عز الدين نحوها يفحصها بعينين فزعتين .. ومتسائلا بنفس لهجة يوسف القلقة :
- ما الذي حدث لك يا بنتي ؟.
أجابتهم آية مطمئنة :
- لم يحدث لي شيء .. الحمد لله إنني بخير أمامكم .. لقد اضطررت فقط أن أذهب إلى المستشفى وفي طريقي شعرت بثلاثة شبان خلفي .. حاول أحدهم الإمساك بي .. وعندما هممت بالصراخ أغلق فمي وقام الآخر بنزع حجابي .. لقد عرفت من لهجتهم أنهم إسرائيليين ..
قاطعها الأب وولداه بصوت واحد :
- إسرائيليين ؟.
أتممت آية حديثها بهدوء :
- نعم كانوا بلباس مدني .. في ذلك الوقت جاء شاب فلسطيني يحمل جذع شجرة ضرب بها الإسرائيلي الممسك بي .
سكتت آية حتى تلتقط أنفاسها .. فحثها يوسف على الكلام متسائلا :
- وماذا حدث بعد ذلك ؟.
ردت عليه آية والإعجاب يتخلل نبرتها المتهدجة :
- لقد أخرج الإسرائيلي الآخر مسدسا ليهددنا به ليتمكنوا من الفرار فلقد كان لديهم سيارة .. ولكنهم أطلقوا علينا الرصاص مع تحرك السيارة .. فقام الشاب بحمايتي وأصيب بدلا عني .
تساءل رأفت :
- وهل هذه الكوفية ملك للشاب ؟.
هزت آية رأسها بحياء وهي تتذكر موقف ذلك الشاب معها :
- نعم .. لقد خفت عندما رأيته ينزف فربطت جرحه بحجابي وعرضت عليه أن يأتي معي إلى البيت .. فخلع كوفيته من فوق كتفيه ليلبسني إياها .
شرد رأفت ويوسف وهما يفكران بما تعرضت له آية .. ثم قالت الخالة منى :
- حقا إنه شاب شهم .. وهو أيضا خجول جدا .
أكدت الجدة على كلامها بدعوة صادقة :
- اللهم احرسه يا رب العالمين .. واحجب عنه كل سوء .
أردف الخال باستياء :
- لقد ستر الله علينا .. ولكن الموضوع كبير جدا .. فوصول الوجود الإسرائيلي إلى داخل غزة يدعو إلى القلق .
تساءل يوسف بحيرة :
- هل تعتقد أنهم يخططون لعمل ما يا أبي ؟
أجاب الأب :
- ربما يا بني .. فهم أشخاص لا يؤمن العيش معهم بسلام .. ولكن ما يحزنني أنهم إن استطاعوا الدخول خلسة إلى غزة فهذا دليل على وجود عملاء فلسطينيين يمهدون لهم الطريق .
حل الصمت بين أفراد الأسرة ثم قطعته الخالة منى وهي تحدث آية بلهجتها الأمومية الحنونة :
- اذهبي يا حبيبتي واستحمي بينما احضر طعام العشاء .
ردت آية باستسلام :
- حاضر يا خالتي .. ولكني لن أشارككم العشاء فأنا أود أن أنام .
قاطعها الخال معترضا :
- تناولي عشائك أولا من ثم اذهبي للنوم .
تدخل رأفت قائلا :
- اتركاها .. فهي تحتاج الآن إلى الراحة .
دخلت آية لتستحم من ثم اتجهت إلى غرفتها .. فسمعت رأفت يحدث والداه بقراره بأن يلتحق بصفوف المقاتلين .. فدار نقاش حاد بين الأسرة .. كان يوسف أول من تكلم بحماسه المعهود :
- خذني معك يا رأفت .
قاطعته الخالة ناهره :
- اهدأ يا يوسف فنحن لم نسمح لأخاك بالذهاب .
حدثها رأفت راجيا :
- وما الذي يمنعكم عن الموافقة يا أمي ؟.
أجابت الأم بحزم :
- إنه قرار كبير .. سيحين وقته لاحقا .
رد عليها رأفت بغضب :
- متى يحين وقته ؟.. عندما نموت ضحايا تحت القصف الإسرائيلي .. هل حياتي رخيصة بالنسبة لكم؟.
تساءلت الأم بحده :
- وهل خوفي عليكم يدل على رخص حياتكم ؟.
أجابها رأفت بإصرار :
- نعم .. لأننا نحيا على هذه الأرض ونحن لا نعلم متى سنموت .. وأنا اخترت أن أموت شهيدا في معركة .
خيم صمت على الأسرة .. ثم التفت رأفت إلى والده يستحثه على الحديث :
- ما رأيك يا أبي ؟.
أجاب الأب بهدوء :
- هذا قرار خطير يا رأفت .. ويجب أن تكون واثقا منه .
تساءلت الخالة والخوف يسيطر عليها :
- هل ستوافقه على جنونه يا عز الدين ؟.
أجابتها الجدة مهدئة :
- لقد أضحى رجلا يا ابنتي ولن يستطيع أحد منعه عن مبتغاة .
تدخل يوسف بسرعة :
- وأنا أيضا أصبحت رجلا .
ضربت الخالة كفيها فوق فخديها ووقفت قائله بما يشبه الصراخ :
- ليفعل كل واحد منكم ما يريد .
ثم اتجهت إلى غرفتها بعصبية .. التفت الأب لولداه :
- اسمع يا رأفت .. مثلما قالت جدتك لقد أصبحت رجلا .. لذلك يجب أن تتحمل نتيجة قراراتك .
ثم وجه حديثه إلى يوسف :
- أما بالنسبة لك .. فاهتم أنت بدروسك وبنشاطك الذي تقوم به على النت وعندما يجد أخاك الوقت مناسب لأن تلتحق به سيأخذك معه .. اتفقنا .
امتعض وجه يوسف وهم بالحديث .. ولكن والده نظر إليه وقاطعه بحزم:
- اتفقنا يا يوسف ؟.
خفض يوسف رأسه وهزه بالموافقة ..ثم قبل الولدان يد والدهما ورأس جدتهما ووقفا متجهين إلى غرفتهما .. ولكن رأفت مر بغرفة آية .. فطرق بابها مستأذنا .. أجابه صوت آية الناعم :
- ادخل .
فتح رأفت الباب وطل برأسه على آية :
- هل مازلت مستيقظة ؟
ابتسمت آية بحب :
- كنت استمع لحديثكم .
دخل رأفت إلى الغرفة وجلس بجانبها على حافة السرير واحتضن يديها الرقيقتين في كفيه .. وبدأ يحدثها والألم يعتصره :
- لن أسامح نفسي أبدا يا آية إن حدث لك مكروه .
نظرت إليه آية بحنان .. فهي تدرك مدى حرص رأفت عليها :
- لا تقل مثل هذا الكلام يا رأفت .. نحن نعيش في بلد لا يملك الإنسان فيها روحه .. لذلك لن تستطيع حمايتي دائما .
عاد رأفت يحدثها بإصرار :
- أنا اعرف هذا .. ولكني أخاف عليك جدا يا آية .. فمنذ موت عمتي وأنا أحس بأنني مسئول عنك .. ولا أريد أن يأتي يوم تلومني فيه على تقصيري معك .
ردت عليه آية مبتسمة :
- لن تلومك يا رأفت .. فلقد كنت لي نعم الأخ والصديق .. وإن كان لدي أخ من أبي وأمي لن يحبني مثلما تفعل أنت .
صمت رأفت .. فتابعت آية كلامها والحزن يتسلل خلسة إلى قلبها الرقيق :
- أنا لا استطيع تخيل البيت من دونك .. فكيف ستقوى على فراقنا يا رأفت ؟.
تساءل رأفت مندهشا :
- هل تعارضين ذهابي يا آية ؟.
أجابته آية وهي لا تستطيع أخفاء مشاعرها :
- ليس من حقنا جميعا أن نعارض مثل هذا القرار .. ولكن يصعب علينا احتماله .. فأنا مثلا احتاجك في كل وقت .. قل لي من سيهتم بي مثلك ؟.. و كيف سيمر يومي بدونك يا رأفت ؟.
ربت رأفت على كفيها وابتسم لها مداعبا :
- هل تعتقدين أنني استطيع الابتعاد عنك ؟.. سأظل احمل همك .. وستبقي أختي الصغيرة ما حييت .
قبل رأفت آية على جبينها ووقف مودعا :
- تصبحين على خير .
- وأنت من أهل الخير .
خرج رأفت .. وحاولت هي النوم .. إلا أن تفكيرها لم يدعها .. لقد كانت تفكر بأخيها الحبيب .. فهي متعلقة جدا برأفت وستفتقده كثيرا .. وفي تلك الأثناء ظهر في خيالها ذلك الشاب الأسمر الطويل .. الذي أصيب بدلا عنها .. كم كان شجاعا معها .. ولكنها لم تطل التفكير به .. لقد غلبها النعاس وغضت في نوم عميق .
في منطقة أخرى لا تبعد كثيرا عن حارة آية .. كان الشاب الفلسطيني أدهم قد تعرض لنفس الأسئلة القلقة من أمه وأخته .. إذ دخل أدهم إلى بيته بكتفه المصاب وكانت أخته نسمة هي أول من رأته فركضت نحوه لتمسك بكتفه المصاب ومتسائلة بلوعة :
- ما بك يا أدهم ما الذي أصابك ؟
خرجت الأم من المطبخ فزعه عند سماعها سؤال ابنتها .. وضربت صدرها بكفيها وهي ترى ابنها الجريح :
- ابني .. ما الذي حدث لك يا حبيبي ؟.
ابتسم أدهم مطمئنا :
- لا تخافا إنه جرح بسيط .
لم تفلح كلمات أدهم المطمئنة مع الأم .. فانهمرت دموعها وهي تتحسس يد ابنها بحنان بالغ :
- أنت تكذب علي .
قاطعتها نسمة قائلة بقلق وهي تجلس أخاها على اقرب كرسي :
- دعيه يرتاح أولا يا أمي .
ثم نظرت إلى أخاها وهي تغمره بنظراتها المحبة :
- هل يؤلمك ؟.
أجابها أدهم :
- بعض الشيء .. ولكنه ليس عميقا .
تساءلت الأم وهي تتحسس رأس ولدها الوحيد :
- كيف أصبت به يا أدهم ؟.
حدثهما أدهم والألم يرتسم في ملامحه بين الحين والآخر :
- لقد تعرضت فتاة للمضايقة .. فساعدتها ولكن اتضح لنا أن الذين ضايقوها إسرائيليين .. فأطلق أحدهم الرصاص علينا قبل أن يفروا .. فأصبت أنا بأحد الرصاصات .. ولقد أخذتني الفتاة إلى بيتها وداوت جرحي .. فلا تقلقوا عليّ .
عادت الأم تتساءل باستغراب :
- وكيف وصل الإسرائيليون إلى غزة يا ولدي ؟.
أجابها أدهم وهو يعدل من جلسته :
- ربما كانوا جواسيس يا أمي .. فلقد علمت من قادة حركة المقاومة حماس أن الإسرائيليين دائما ما يحاولون القبض على بعض الملتحقين بالحركة .. لأخذ المعلومات منهم عن طريق تعذيبهم .
أضافت نسمة والرهبة تتسلل إلى قلبها :
- قد تكون أنت أحد هؤلاء المقبوض عليهم .
أجابها أدهم ببساطة :
- ربما .. من يدري .
ثم وقف وقبل رأس والدته التي بدت شاردة :
- لا تفكري كثيرا يا أماه .. دعيها على الله يدبرها كيفما شاء .
هزت الأم رأسها باستسلام ثم رفعت يديها داعية :
- ربنا يحميك يا حبيبي .. فأنت كل ما تبقى لنا بعد أباك الشهيد .
احتضن أدهم أخته وهو يتجه بها إلى غرفته وقبلها مشاكسا :
- ألن تساعديني في تغيير ملابسي ؟.
ابتسمت نسمة مجيبه بحب :
- بلا .. سأفعل .
دخل الأخوان إلى الغرفة .. فاستلقى أدهم على السرير .. وبدأت نسمة بإخراج ملابس أخاها من داخل الدولاب ووضعتها على سريرة .. ثم جلست بجانبه وهي تدقق النظر إليه فسألته مستغربه :
- أين الكوفية التي كنت ترتديها ؟.
أجابها أدهم بخجل .. وابتسامه لطيفه تداعب شفتيه رغما عنه :
- لقد أعطيتها لآية .
رفعت نسمة حاجباها في دهشة :
- ومن هي آية هذه ؟.
أجابها أدهم ببساطة :
- إنها الفتاة التي حدثتكم عنها .
راحت نسمة تلح بأسئلتها محاوله إحراجه أكثر .. وهي تسلط عليه عينيها الفاحصتين :
- ولما أعطيتها الكوفية ؟.
رد أدهم ممازحا لأخته الصغيرة :
- هذا ليس من شانك .
نظرت عليه نسمة مهدده :
- تكلم وإلا أخبرت أمي .
أجابها أدهم باستهتار :
- كلميها .
صرخت نسمة بأعلى صوتها :
- يا أمي ..
وقبل أن تكمل صراخها .. نهض أدهم ليطبق فمها بكفه السليمة :
- حاضر .. حاضر .. سأخبرك بكل شيء .
تساءلت الأم من الصالة :
- ما بك يا نسمة ؟.
ردت نسمة مبررة صراخها :
- كنت أود أن أسالك عن شيء .. ولكنني تذكرت مكانه .
ثم استلقت بجانب أخاها وراحت تحثه على الحديث .. وابتسامة خبيثة ترتسم على شفتاها :
- احكي لي بالتفصيل الممل .
نظر إليها أدهم مبتسما .. والمرح يشيع بوضوح في ملامحه :
- أي تفصيل .. يالك من فتاة شقية .. لم تتوقعين أن تكون قصة شيقة ؟.. لقد نزع أحد الإسرائيليين حجاب تلك الفتاة فخلعت كوفيتي وألبستها إياها .. هل ارتحت الآن ؟.
لم تكتفي نسمة بذلك القدر :
- وكيف عرفت أن اسمها آية ؟.
أخبرها أدهم باستخفاف :
- من نداء أهلها لها يا ذكية .
قالت نسمة وهي تهز رأسها ضاحكة :
- وأخيرا عرف الحب طريقه إلى قلبك يا أدهم .
أدعى أدهم البراءة وهو يهز رأسه باستغراب :
- أي حب .. أتسمين المعركة التي عشناها حبا .. إن أي شاب ليقوم بما فعلت .
رفعت نسمة أحد حاجبيها غير مصدقة لكلام أخاها .. فنهرها بحزم :
- هيا اذهبي الآن ونامي .. لديك ثانوية غدا صباحا .
قبلت نسمة أخاها وخرجت مهدده :
- لن اضغط عليك فأنت مرهق اليوم .. ولكن حسابك معي في الغد .
ضحك أدهم من شقاوتها اللذيذة .. ثم نهض ليغير ملابسه .. بفكر مشوش .. وبعد أن أتم لبسه طرقت أمه الباب لتتساءل بعطف :
- ألن تتناول عشاءك يا أدهم ؟.
أجابها أدهم متوسلا :
- لا أريد يا أمي فأنا منهك وأود أن أنام .
أردفت الأم باستسلام :
- كما تريد يا حبيبي ولكن إن أحسست بالجوع فالأكل بداخل الثلاجة .
هز أدهم رأسه مجيبا على والدته .. فأوصته قبل خروجها :
- ارتاح الآن .. وليس ضروريا أن تذهب غدا إلى الكلية .
أجابها أدهم مطمئنا :
- حسنا يا أمي .
خرجت الأم .. واستلقى أدهم على سريره محاولا النوم .. ولكنه لم يستطع .. ظل فكره المشوش يعيد أمامه صور الماضي .. كم كان الموقف الذي مر به اليوم شبيها بيوم استشهاد والده .. لقد كان يومها في السادسة من العمر .. وكان والده يعمل في التجارة يأتي ببضائع من الأردن ويبيعها في فلسطين .. فاصطحب أدهم معه في آخر رحله له .. وفي طريق العودة كان والد أدهم يحمل دبدوب أبيض صغير في يده اشتراه لنسمة التي وضعتها أمها وهو في السفر .. وعلى الحدود أوقف أحد جنود الاحتلال السيارة الممتلئة بالركاب .. وبدأ التفتيش الروتيني على كل من في السيارة بإنزالهم منها وأخذ بطاقاتهم .. من ثم حضر جندي أخر وأعاد البطاقات وأمرهم بالتحرك .. فركبوا السيارة حامدين الله لأن التفتيش لم يطل مثل كل مرة .. بدأ السائق بتحريك السيارة .. في حين سمع الجندي الذي أوقفهم يصرخ من الخلف :
- قف .
فتوقف السائق .. لكن الجندي الآخر الذي أعاد لهم بطاقاتهم قال بعصبية :
- تحرك .
فأخرك السائق رأسه مستفسرا :
- أقف أم أتحرك ؟!.
أجابه الجندي الآخر :
- قلت تحرك .
قام السائق بتحريك السيارة ولكن الجندي الذي خلفه شحذ بندقيته وأطلق الرصاص على السيارة بصورة عشوائية .. خفض كل من في السيارة رؤوسهم .. ولكن استقرت إحدى الرصاصات في رأس والد أدهم مخلفة سيل من الدماء لتغرق تلك الدمية التي في يده بدمائه الساخنة .. ظل أدهم ينظر إلى أباه مصعوقا ..
شعور صعب ذلك الذي أحس به أدهم وهو يرى أباه غارقا بدمائه ..
كيف تستطيع إقناع طفل صغير بعمر أدهم أن والده قد فارق الحياة ..
فهو لم يكن يدرك أن رصاصة صغيرة مثل تلك .. قد تنتج هذا الكم من الدماء .. وتتسبب بحرمانه من أباه ..
لم يكن يعي معنى الموت .. كم هو مؤلم أن تقف مكتوف اليدين .. ألا تستطيع أن تحمي من تحب ..
ولكن كيف كان سيحمي أباه بينما هو طفل بريء يحتاج للحماية ..
إنه يتألم كل يوم عندما يتذكره ..
ذلك الإنسان الحنون الذي كان يلعب معه لساعات طويلة ..
والذي كان يتحرق شوقا لرؤية المولودة الجديدة ..
لقد عاد أدهم إلى أمه بجسد الشهيد .. وبدمية دامية يهديها لأخته التي لم تعرف أباها قط ..
كم تعذب وهو يرى أمه تصارع الحياة لتوفر لهم حياة كريمة ..
وفطرت قلبه تلك الدموع التي كانت تحبسها طول النهار .. لتطلقها خلسة في كل ليلة .
كم أوجعه سؤال أخته الصغيرة عن أباها .. وحاول جاهدا أن يعوضها ذلك الحنان الأبوي والذي لم يكتفي منه هو الآخر ..
فمن يعوضه هو .. ومن يطفئ تلك النار التي تشتعل بداخله ..
لقد أعلنت الإذاعة الإسرائيلية بعد يومين عن استشهاد والده بأن سيارة حاولت أن تدهس أحد الجنود الصهاينة ولكنهم أطلقوا النار عليها فقتل أحد ركابها .
لقد استشهد والده وطويت حادثة استشهاده بكذبة وضيعة ..
وهو الآن يحس بمسئوليته نحو أمه وأخته ولكنه في نفس الوقت لا يستطيع منع نفسه من أن يسترد حق أبيه .. فهذا ما دفعه للالتحاق بحركة حماس منذ أن قوي ساعده .
أخذ أدهم نفسا طويلا .. ثم أطلق تنهيدة حارة حملها بعض همومه .. وفي ذلك الوقت قفزت إلى ذهنه صورة آية بوجهها الملائكي البريء .. وشعرها الناعم الأسود الطويل المتطاير في الهواء .. ابتسم رغما عنه .. وبدأ تفكيره ينصب حول آية .. يالها من فتاة جميلة في غاية الرقة .. لقد حركت بداخله الكثير من الأحاسيس .. فمنذ رآها وهو يحس طعما أخرا للحياة .. بأنه يريد حمايتها من كل شيء .. لقد ساعدها دون وعي منه بعقوبة ما يفعل .. فلقد شعر بأن قطعه من جسده تنتهك عندما رآها تحاول الخلاص من الإسرائيلي الجبان .
في صباح اليوم التالي .. استيقظت آية مع نسمات الصباح الأولى .. كان كل من في البيت لازالوا نائمين .. أخذت آية مفكرتها وخرجت لتجلس بجانب شجرتها الحبيبة .. لتختلي بوالديها .. وبعد أن أكملت خاطرتها وأتمت تجهيز نفسها للذهاب إلى الكلية .. فتحت دولابها لتلقي نظرة أخيرة على كوفية ملاكها الحارس .. ابتسمت آية وهي تتحسس الكوفية بيديها وخيالها يعيد تفاصيل الأمس .. والذي كان جميلا بشكل من الأشكال .. ثم خرجت إلى الصالة لتجد رأفت يحتضن أمه ويقبلها فوق رأسها وفي كل أنحاء وجهها وهي تضحك بين يديه :
- هل تقوين على خصامي يا أمي ؟.
أجابته الأم وهي تغمره بنظرة ملؤها الحب :
- أنا لا أقوى على فراقك يا حبيبي .. ولكنني فكرت بالأمس بحديثك .. وأدركت أنك محق .. وأن هذا القرار مهم بالنسبة لك .
قبل رأفت يد أمة ونفسه مفعمة بالسرور :
- إن ما يهمني هو رضاك عني .
طرق باب المنزل فذهب رأفت ليفتحه ليجد شذى تقف بوجهها الباسم :
- صباح الخير يا رأفت .
رد عليها رأفت بابتسامة حب :
- صباح النور .. تفضلي .
رحبة الخالة منى بالصديقة اللطيفة :
- تعالي وافطري معنا يا شذى .
أجابتها شذى وهي تنظر لآية لتستعجلها:
- شكرا يا خالتي .. ولكننا تأخرنا على الكلية .
ودعت الفتاتان الأسرة واتجهتا إلى الخارج .. وفي الطريق أحست شذى بغرابة صديقتها فتساءلت مستفسرة :
- ما بك يا آية هل أنت متعبة ؟.
أجابتها آية وابتسامة حلوة ترتسم على شفتاها :
- لقد كان يوم أمس يوما خياليا .
تساءلت شذى وهي تبتسم لابتسامة صديقتها :
- وما هو الخيالي في يوم أمس ؟.
بدأت آية تسرد لصديقتها تفاصيل أمسها .. وكانت شذى تستمع بشغف وملامحها تتقلب بين الحين والآخر بين الخوف .. اللهفة على صديقة عمرها .. و لتستسلم بالأخير لابتسامتها .. من ثم حدقت شذى بآية التي كانت قد أنهت قصتها :
- يبدو أن هذا الشاب قد أثر فيك كثيرا يا آية ؟.
أجابتها آية والخجل يربك كلماتها :
- أنا لا أنكر أنه كان شجاعا معي .. ولكن ما شدني إلية تلك النظرة التي رأيتها في عينيه .. وكأنني أرى فيهما حرص رأفت وخوفه علي .
ابتسمت شذى لكلام آية .. فأردفت آية مبرره :
- وأكثر ما أسعدني .. أنني بالأمس حلمت بوالدي .. لقد أفقت من النوم وأنا مرتاحة وكأنني رأيتهما فعلا .
شاركتها شذى فرحتها :
- مؤكد أنهما يشعران بك .. وربما جاءا للاطمئنان عليك .
ردت آية وعيناها تشردان وراء والديها اللذان تعيش معهما في أحلامها :
- إنني لازلت اشعر بحضنهما .. وقبلاتهما .. وكأنها حقيقة .. لذلك أسعد عندما أحلم بهما .
وصلت الصديقتان إلى الكلية .. قضت آية يومها ككل يوم .. ولكنها كانت تتمنى أن تطمئن على ذلك الشاب .. وتود أن تشكره فهي تحس أنها لم تفه حقه من العرفان بالجميل ..
ولكنها كانت تجهل أنه لا ينتظر منها الشكر .. فهو يأمل منها بما هو أكثر .. فشعور أدهم نحو آية كان أعمق من شعورها .. فآية فتاة رقيقة تسهل محبتها للناس .. ولكن أدهم وبالرغم من طيبة قلبه إلى أنه يدرك أن ما يشعر به نحو آية الجميلة .. إحساس مختلف .. وأقوى منه .. لقد أصبح يفكر بها كثيرا ..
ويتملكه الشغف ليعرف المزيد عن حياتها .. ما تحب .. وما تكره ..
يريد أن يحدثها .. أن يخفف عنها حزنها .. ويشاركها فرحها ..
حتى أنه كثيرا ما يجد نفسه يسلك طريق بيتها عندما يعود من ورشه الميكانيكا التي يعمل بها ..
وفي يوم وجدها تجلس بجانب شجرة بها ورود سوسن .. وبيدها مفكرة تكتب بداخلها ..
لقد ظل أدهم يومها يتأمل آية إلى أن دخلت منزلها .. من ثم سار عائدا إلى بيته وهو يضحك على نفسه ..
ما هذا الذي قلب كيانه بشكل مفاجئ ..
لقد أصبح يجد لحياته معنى وهدف ..
وكأنه زاد حبا للحياة .. ولمن حوله ..
حتى أن حماسه للمقاومة قد تضاعف ..
هل كانت نسمة محقه عندما قالت أن الحب عرف الطريق إلى قلبه ..
ربما .. فإن كان ما يشعر به هو الحب ..
إذا فهو يجد الحب إحساس جميل .. بجمال حبيبته آية ..
|