توقف عن الكلام وغشيت عينيه نظرة بعيدة المدى مع ذكرى ذلك اليوم الثمينة
, وبعد لحظات أكمل الحديث بصوت منخفض ورقيق الى حد لا يصدق:
" هربنا بالسيارة طبعا , وعندما قطعنا مسافة طويلة أذكر ما قالته لينور بأنها تتمنى لو أن الأحتفال لم يحدث أبدا... ذهلت لكلامها بادىء الأمر أذ حسبتها تندم على زواجها مني لكنها سرعان ما شرحت لي أنها تعتبر حبنا نعمة غالية من نعم الله ,وعاطفة خاصة جميلة لا يليق بها أن تعرض على الناس بهذا الشكل الصاخب المبهرج , ثم أخبرتني والدموع تملأ عينيها أنها تتمنى لو أقتصر الأحتفال فقط على وقوفنا نحن الأثنين لوحدنا أمام رجل الدين وبدون كل هؤلاء الناس المجتمين حولنا , منتديات ليلاسلنتبادل بهدوء وخشوع عهدينا المقدسين لبعضنا البعض , كنا نمر في بلدة صغيرة وهي تخبرني هذا وصادف أن رأيت لحظتها معبدا مشعشعا بالأنوار فتوقفنا أمامه وهكذا أقسمنا مرة ثانية على تبادل الوفاء والمحبة لمدى العمر أمام رجل دين مهيب الوجه هادىء النبرات , وحيث كان الليل الساكن يردد صدى تلك الكلمات الخاشعة الوقورة ... لن أنسى ما حييت وجه أمك المتهلل آنذاك كما لن أنسى أبدا عصر تلك الليلة العابقة بالفرح الحقيقي العميق ... لقد أحببنا بعضنا حبا عظيما لا تستطيع الكلمات أن تعبر عنه يا تيشا".
تقصف صوته حين أخذ وجهها بين يديه محدقا اليه وفي عينيه حزن بالغ الحدة , ثم غمغم بصوت متهدج:
" ولهذا السبب , يا أبنتي الحبيبة الغالية , سيكون الأحتفال بزواجكما , أنت ورورك , في غاية البساطة... ليس لأنني أريد أخفاء شيء أو لأنني أتعمد تزويجكما بسرعة , بل لأن المرة الثانية التي تعاهدت فيها وأمك على الحب كانت الأحتفال الحقيقي بالنسبة الينا والذي حافظنا على ذكراه ككنز ثمين ,ولذا أريد لك الأحتفال نفسه وبدون أية ذكريات تافهة أخرى تقلل من قيمته".
أدارت وجهها المحاط بيديه المتأثرتين بالذكرى وطبعت قبلة أحترام على كفه وقد عصف بها تيار من العواطف المتناقضة المتشابكة , كيف يمكنها الآن أنه تعترف له بالحقيقة ؟ كيف يمكنها أخباره أنها لا تستطيع المضي في الأحتفال الذي خطط له ؟
وقالت بصوت بدا مختنقا لأن محياها لم يفارق يديه:
" هذه أول مرة أعي فيها تماما مدى حبك العظيم لأمي".
فضمها الى صدره وهمس مجيبا:
" كانت تبادلني ذلك الحب نفسه, تيشا , وفي خلال هذا الأسبوع رأيتك عدة مرات مع رورك وفي كل مرة كانت هذه الرؤية تذكرني بحب أمك لي بشكل مشرق وكأنما التاريخ يعيد نفسه, فعندما يكون قريبا منك لا تزيحين بصرك عنه ولا تتوقفين عن بعث رسائل صغيرة اليه كما كانت لينور تفعل معي تماما, أراهن على أنه لم يخطر لك أن أباك العجوز يلاحظ أشياء كهذه , هل خطر لك ذلك؟ لقد أدركت ليلة أمس أن السبب الأكبر وراء عدم رغبتك في الزواج منه , أو قولك بأنك لا تريدين الأرتباط به , يعود الى السرعة الهائلة التي يحصل بها كل شيء وكأنكما فعلتما شيئا في نهاية الأسبوع الماضي يدعو الى الخجل , لكنني واثق من أنكما لم تفعلاه".
فهمست تيشا بصعوبة:
" ماذا؟".
" أنت ما كذبت مرة على يا حلوتي , كذلك لم تكذبي عندما أخبرتني أنه لم يحدث شيء بينكما , لقد تأكدت بنفسي من أن رورك يحترمك كثيرا والى حد ردعه عن أستغلال الموقف , وحيث كان بالأمكان أن يفعل لولا حبه وأحترامه لك... أنا مسرور لأنك أنتظرت , أدرك أن كلامي هذا يبدو شديد التزمت لكنني مسرور جدا , أتذكرين تفاصيل شجارنا قبل أسبوعين؟".
ضحك بصوت منخفض ثم رفع وجهها لينظر اليه وتابع قائلا:
" يبدو الأسبوعان كأنهما شهران وأكثر لكنني أذكر كلامك تماما , فقد قلت لي أنني لن أعجب أبدا بالرجل الذي ستتزوجين منه , وبأنني سأجد فيه على ما بكل تأكيد! كنت مخطئة يا عزيزتي , فرورك أنسان رائع من كل الوجوه ويطابق تماما الرجل الذي تمنيته زوجا لك , وأنت لو بحثت في العالم طولا وعرضا لما أمكنك أيجاد شريك حياة أفضل منه... لن يكون لدي فقط أبنة أحبها بمجامع نفسي وقلبي بل صهر أيضا أكن له الحب ذاته , ولذا أعتبر نفسي من أكثر الآباء حظا بهذا النصيب".
لم يسع تيشا ألا أن تشخص اليه بذهول أخرس ... أنها لا تصدق أي شيء من هذا يحدث معها بالفعل وأن واقع الأمور يتغلب عليها بهذا الشكل , لقد قطع عليها أبوها كل حوار وبدت طريق الأعتراض مسدودة من كل الجهات , فشعرت بالتالي أن ذهنها يرفض التفكير .
ألقى ريتشارد نظرة خاطفة على ساعته وقال وهو يمرر أصابعه في شعره:
" قضيت الوقت أشبك حديثا بحديث فلم أنتبه لمروره السريع , ينبغي أن نكون في المعبد خلال خمس وأربعين دقيقة , وأنا لم أترك لك فرصة لتجربة الفستان لنرى أذا كان حجمه مناسبا لك".
تجربة الأحتفال التي تسبق الأحتفال الرسمي بيوم! تذكرتها تيشا بعزيمة واهنة وهي تنهض من مكانها , على الأقل رورك سيكون هناك وستجد الفرصة المنشودة لتنفرد به بضع لحظات وتطلعه على موقف أبيها الجديد, تناولت الفستان عن السرير وتلمست قماش تنورته الوارفة.
سألت والدها بتردد:
"هل ... هل تريدني أن أرتدي هذا؟".
فرد مبتسما:
" لا أعتقد أن البنطلون سيكون لائقا لهكذا مناسبة , أيمكنك أن تجهزي نفسك في خلال ربع ساعة؟".
فأجابته بأختصار:
" نعم".
منتديات ليلاس
وفيما هي ترتدي الثوب شاردة راح ذهنها يسترجع كلمات أبيها مرة تلو المرة... أن تعبيره المؤثر عن حبه لها
حرك لها فيها شجونا كامنة مع أنه بدا كمصيدة بالنسبة الة وضعها وحيث أنخفض عدد الخيارات الى خيار واحد هو الهرب....
مأساتها محرجة وتكمن في أن أباها كان مقتنعا تماما بأنها تحب رورك.
من ناحية أخرى , لم يخطىء ريتشارد حين قال أنها لا تزيح بصرها عن رورك , فقوة شخصيته تجعل حضوره يهيمن على المكان الذي يكون فيه
لكنها أقنعت نفسها بأنها تنظر اليه هكذا لكونه وعدها بأيجاد مخرج من هذه الورطة! هو أيضا كان واقعا في مصيدة الزواج منها , وهذا القاسم المشترك بينهما هو الذي يربطهما معا وليس الحب الذي لاحظه أبوها في عينيها .