لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > سلاسل روايات مصرية للجيب > روايات أونلاين و مقالات الكتاب
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

روايات أونلاين و مقالات الكتاب روايات أونلاين و مقالات الكتاب


مصحة الدكتور أنطوان....قصة جديدة لدكتور أحمد خالد توفيق !!

نعم.. هي تقع في منطقة جميلة جداً خارج القاهرة، والطريق إليها يوحي بأنك في بلد غربي ما.. الخضرة في كل مكان والورود مع الهواء النقي.. كل شيء معقّم.. كل شيء

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-09-10, 11:47 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Mar 2008
العضوية: 66537
المشاركات: 740
الجنس ذكر
معدل التقييم: amedo_dolaviga عضو على طريق التحسين
نقاط التقييم: 53

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
amedo_dolaviga غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : روايات أونلاين و مقالات الكتاب
افتراضي مصحة الدكتور أنطوان....قصة جديدة لدكتور أحمد خالد توفيق !!

 



الدكتور أنطوان....قصة"نادية" تؤمن بأن الرجال مجموعة من الخنازير ضيقة الأفق (رسوم فواز)




نعم.. هي تقع في منطقة جميلة جداً خارج القاهرة، والطريق إليها يوحي بأنك في بلد غربي ما.. الخضرة في كل مكان والورود مع الهواء النقي.. كل شيء معقّم.. كل شيء نظيف.. هناك من بحث بمجهر عن أي شيء يوتّر النفس أو يُرهق الأعصاب، وقام بنزعه بعناية.

المشكلة أن هذا بالضبط هو ما يجعل المكان لا يُطاق..

لا أحد يشعر بالراحة في غرفة الجراحة.. إنها المكان الأنظف والأكثر تعقيماً بلا شك؛ لكن هذا بالذات يُشعرك بالتوتّر والاختناق.. لا بد من درجة ما من الفوضى والصخَب والتلوّث حتى تشعر بأنك حي وسط أحياء.. تذكر أنهم يبتلعون البكتريا ابتلاعاً في العالم المتقدم حتى يقللوا من سرطان الجهاز الهضمي.. لقد اكتشفوا أن قنواتهم الهضمية معقمة أكثر من اللازم، وهذا -ويا للعجب- أخلّ بتوازن الخلايا وجعلها مستعدة للإصابة بالسرطان.. لا بد من بعض التلوث الصحي.. هذه هي الحقيقة.

نعم.. المصحّة جميلة جداً ونظيفة جداً..

هذا المدخل قد اجتازته سيارة أكثر من مليونير وأكثر من ممثلة سينما أرهقتها الأضواء، وأكثر من مسئول جاء سراً ليتلقى علاجاً ضد الإدمان.

اللافتة الكبيرة تقول "مصحّة الدكتور أنطوان".. اسم هو نار على علم بالتأكيد. الدكتور أنطوان نفسه من أصل لبناني؛ لكنه يعيش في مصر منذ دهور، وأعتقد أنه مُسن جداً.

على البوابة الحديدية يقف رجل الأمن ينظر لنا في شك..

أخرجت "نادية" الكارنيه الصحفي والخطاب، ففتح الرجل البوابة وقرأ الاثنين، ثم فتح الباب دون كلمة..

انطلقت السيارة وسط ممرّ أكثر جمالاً.. الزهور معتنى بها فعلاً، وهناك نافورة أنيقة على شكل سمكة عملاقة تُفرغ الماء من فمها.

قالت "نادية" وهي تنظر في فضول:

- "لا يوجد مجانين.. ألم تلحظ هذا؟"

قلت في ضيق:

- "لسنا في فيلم لإسماعيل يس هنا.. لا يجب أن تري جنرال نابليون محاطاً بجنوده.."


ألم أحدّثك عن "نادية"؟.. يصعب أن تتصور أن أوجد مع "نادية" في مكان واحد؛ إلا لو تصورت أن يتواجد النمس والثعبان في مكان واحد أو القط والفأر.. لو كانت هناك كيمياء بين الأرواح فعلاً؛ فنحن لا نملك ذرة منها..

"نادية" في الخامسة والثلاثين، غير متزوجة، على قدر من الجمال؛ لكنها تؤمن أن الرجال مجموعة من الخنازير ضيقة الأفق، الذكي بين الرجال صار وغداً، أما باقي الرجال فلا خير يرجى منهم، ومن الأفضل تجاهلهم أو إشعارهم بعدم الراحة.

أنا أصغر سناً منها؛ لهذا يحلو لها أن تُعاملني كطفل أخرق.. وهكذا تعطي نفسها حرية أن تعلّق على تصرفاتي وتنصحني وتنتقدني أمام الناس.. لذا أردّ ردوداً سمجة.. الخلاصة أن رئيس التحرير عندما جعلنا نقوم بهذه المهمة معاً كان يعذّبنا.. بصراحة، أُفَضّل أن أكون مع حية ذات أجراس على أن أكون مع "نادية" لمدة أسبوع..

على الباب كانت هناك تلك السكرتيرة.. ليست حسناء؛ لكنها موحية بالثقة كأنها معلمة واسعة الخبرة.. كيف عرفت بقدومنا؟.. بالتأكيد رجل الأمن على البوابة..

هزّت رأسها محيية وقالت بلهجة عملية:

- "الأستاذة "نادية شاكر" والأستاذ "عصام عبد اللطيف"... جريدة "الحدث"... أنتظركما.. الدكتور أنطوان يعرف بقدومكما كذلك.. مرحباً".

غرفة د. "أنطوان" تقع في نهاية ممر رطب معقّم بدوره يزدان بالتماثيل على الجانبين.. هناك جهاز تليفزيون في الردهة، والعلامة الوحيدة على طبيعة المصحة هي أن التليفزيون موضوع على رفٍّ عالٍ..

فتحت الباب وأعلنت عن قدومنا فجاء صوت من الداخل يرحب بنا..


الدكتور أنطوان....قصةد. "أنطوان" أشهر اسم في عالم المصحّات النفسية في مصر (رسوم فواز)




والآن أقدم لك د. "أنطوان"، أشهر اسم في عالم المصحّات النفسية في مصر حالياً..

إنه مسنّ جداً بالفعل.. هناك درجة من الشيخوخة تجعل كل شيء في الرجل أزرق، لون عينيه، الأوردة الكثيرة على ظهر يديه، أظفاره.. يداه بالذات كانتا غريبتين بجلدهما شبه المدبوغ المشدود على العظام.. هناك مرض روماتيزمي يعطي هذا المنظر؛ لكن لا أذكر اسمه للأسف.. حتى بذلته كانت زرقاء وربطة عنقه مثلها؛ مما أعطاه طابعاً أزرق شاملاً..

بصوت مرتجف واهن ولُكْنَة أجنبية واضحة رحّب بنا..

- "عرفت أنكما ستُمضيان أسبوعاً هنا، لجمع القصص الغريبة.. إن "زيدان" صديق قديم، لهذا لم أستطع رفض طلبه هذا.. لكن أصارحكما أنني لا أقبل أي طلب مماثل من أي واحد آخر".


"زيدان"؟.. آه.. رئيس التحرير "محمود زيدان".. نحن لا نناديه بهذه الطريقة- لهذا لم أستوعب أولاً..

قلت في كياسة وأنا أمدّ يدي لعلبة التبغ:

- "نحن نشكرك كثيراً على هذا الكرم.. من المعروف أن اسم المصحة سيرد في التحقيق مراراً، وبهذا نمنحها نوعاً من الدعاية"

- تؤ.. تؤ..

لمحت الاستنكار على وجهه فنظرت له في غير فهم.. رفع إصبعاً مرتجفاً وقال:

- "هذه مصحّة نفسية.. التدخين ممنوع منعاً باتاً.."

أعدت العلبة لجيبي في ضيق.. سوف يكون تحمّل هذا صعباً لأسبوع كامل؛ لكني سأدخن في غرفتي كثيراً جداً.. أعرف هذا يقيناً..

عاد يقول:

- "نحن لا نريد هذه الدعاية لأن اسمنا براق بما يكفي.. لكني أرغب فعلاً في قراءة ما ستكتبان.. أريد عيناً أخرى..."


ثم دق الجرس الذي أمامه وقال:

-"سوف تذهبان الآن إلى غرفتيكما.. ثم يقوم
د. "سمير" بإخباركما بخطة العمل العامة..".

ثم اتّسعت عيناه الزرقاوان وقال بصوت كالفحيح:

- "ثمة أمور خطرة سوف تعرفان عنها في وقتها.. لكن تذكّرا أن هذا المكان ليس آمناً جداً.. خذا الحذر.. هذا ما أستطيع قوله في الوقت الحالي!"

*******************

الدكتور أنطوان....قصةمصطفى الصاوي هشّم رأس زوجته وأطفاله (رسوم: فواز)




اسمه "مصطفى الصاوي"..

في الأربعين من عمره، وقد بدأ الشعر يتراجع عن مقدمة رأسه.. له عينان جاحظتان اعتدت أن أربطهما بالجنون. هناك يجلس في تلك الغرفة الشبيهة بالزنزانة.. ليست مبطّنة كما توقّعت؛ لكنه مقيّد بسلسلة إلى الجدار، ويتربع على الفراش كقرد.

هزني منظره.. فيه شيء غير إنساني يبعث القشعريرة في النفس، وأنا لم أرَ إنساناً مقيّداً بسلسلة من قبل.

قال "د. مراد" الطبيب الشاب ذو الشعر الثائر:

- "مصطفى الصاوي.. اضطراب ثنائي القطبية مصحوب بميول عدوانية شديدة.. لقد هشّم رأس زوجته، ثم أتبع ذلك بأطفاله.. في العادة لا يرسلون لنا حالات بهذه الخطورة؛ لكنه من أسرة ثرية ذات نفوذ.. وقد أحضروه هنا.. نحن نتعامل معه بحذر شديد".

ثم أضاف بلهجة حازمة:

- "طبعاً أنت مسئول مسئولية كاملة عن أسرار المرضى.. لا أسماء من أي نوع، ولا حروف أولى يمكن تخمينها.. لو وصفت حالته فلتقل (أحد المرضى).."

ثم أشار لي محذّراً وقال:

- "لا صور طبعاً.."

هنا تدخلت نادية في حدة كعادتها:

- "لحظة.. ما تأثير الكلام عن المريض بهذه العبارات الواضحة أمامه؟.. أليس هذا حمقاً؟"

قال الطبيب في مقت واضح:

- "لا تحسبي أننا لم نفكر في هذا، ومعلوماتنا أنه لا يفهم ما نقول.."

نظرتْ لي عينا مصطفى الجاحظتان وفتح فمه وارتجفت شفته السفلى.. ثم أدار ظهره لنا..

في خطوات ثابتة غادر الطبيب الزنزانة.. ومشى في الردهة قاصداً زنزانة أخرى..

كان هناك ممرض ضخم الجثة أدار المفتاح في الباب.. لا توجد كوّة ترى منها المريض كالتي نراها في السينما..

الغرفة كانت مظلمة.. هناك فراش وهناك مكتب صغير تجلس إليه امرأة.. امرأة في الثلاثين من عمرها نكشت شعرها تماماً.. يستحيل أن تعرف إن كانت جميلة أم قبيحة، يكفيك فخراً أن تعرف أنها امرأة.. وكانت تكتب في ورقة بلا توقّف.. ثمة قط صغير يغفو على الفراش..

نظرتُ إلى الورقة المقلوبة فرأيت كتابة بخط لا يُقرأ:

- "ساعدوني ساعدوني ساعدوني ساعدوني ساعدوني ساعدوني"

كتابة صغيرة متراصّة توحي لك بأنها نقش أو زخرفة.. قال الطبيب الشاب بلهجة لا مبالية:

- "مدام "عفاف".. حالة بارانويا متقدمة.. تؤمن أن كل الناس يريدون قتلها، وأن رئيس الولايات المتحدة أرسل من يدسّ لها السم.. السبب أنها وصلت لسرّ القنبلة السينية.. القنبلة التي يمكن أن تمحو قارة من الوجود..".


ثم مال على المريضة وسألها:

- "مدام عفاف.. هل تركيب القنبلة معك هنا؟"

نظرت له في رعب ولم تقل شيئاً..

قال وهو يشير إلى القط النائم:

- "لا نحتفظ بحيوانات هنا؛ لكننا مرغمون على ذلك لأنها لا تأكل إلا بعد أن يأكل القط.. تُطعمه شيئاً من الطعام ثم تنتظر.. في كل مرة تتوقع أن يموت لكن هذا لم يحدث"

وغادر الزنزانة فخرجنا معه، قالت نادية وقد بدا أن مرض الأنثى هزّها بقوة.. هي ترحّب دائماً بجنون الرجل لأنها تعتبر الرجال مجانين أصلاً:

- "على قدر ما أرى هي ليست خطيرة..".

قال الطبيب بلا مبالاة:

- "لقد خنقت شقيقتها التي كانت تقيم معها أثناء نومها.. هل هذا خطير بما يكفي؟.. يمكن في أية لحظة أن تعتبرك عميلاً للمخابرات المركزية..".

ثم مشى في الردهة؛ فنظرتُ في توتر إلى نادية لأرى إن كانت تشاركني مشاعر التوتر.. بالطبع لم تنظر لي ولم تلتقِ عينانا قط.. تلاقي العينين يتطلب حداً أدنى من التفاهم بين الروحين.

اتجه الطبيب إلى غرفة ثالثة.. ثم غيّر رأيه فتجاوزها.. بعد غرفتين أخريين أشار إلى الممرض المخيف فأدار المفتاح في القفل.. فانبعثت رائحة لا تطاق كأنه قفص الأسود.


الدكتور أنطوان....قصةتلك الفتاة يمكن أن تنقضّ على أي واحد لتمزق عنقه (رسوم: فواز)




بالداخل كان المنظر مروعاً لأن هناك فتاة تقف في ركن القاعة وقد قُيدت بسلسلة إلى قطعة حديد بارزة، وقد تمزقت ثيابها واستندت إلى الجدار.. تلهث كالوحوش بلا توقف.. حولها غابة من الفضلات البشرية.. إنها وحش بلا زيادة ولا نقصان.. عينان مجنونتان مسعورتان.. عصبية بالغة.. لعاب يسيل من الفم..

ورأيت الممرض يتقدمنا وهو يخرج من جيبه جهازاً صغيراً.. قدرت أنه صاعق كهربي أو Taser مما يستعمل للدفاع عن النفس.. هذا الثور يريد الدفاع عن نفسه بأداة فلا بد أن الأمر خطير..

قال الطبيب الشاب وهو لا يبعد عينيه عن الفتاة:

- "هنا الجنون الرسمي.. سكيزوفرنيا متقدمة، أدت إلى أن اعتبرت الفتاة نفسها نمراً.. يمكن أن تنقضّ على أي واحد لتمزق عنقه..".

هنا صاحت "نادية" في عصبية:

- "هذه طريقة غير بشرية.. على الأقل يمكنكم تنظيف فضلاتها..".

قال الطبيب في هدوء:

- "نحن نفعل ذلك كلما سنحت الفرصة؛ لكنه يستدعي تخديرها بطلقة منوّمة على شكل Dart أولاً.. لقد هاجمت عاملة نظافة عندنا منذ عام، ولم يكن المنظر جميلاً..".

كنت أنا قد قرأت عن حالات التصوّر الذئبي (لايكا أنثروبي) عندما يعتقد المريض أنه ذئب؛ لكن لم أسمع موضوع النمر هذا.. المشهد ملأني رجفة..

الغرفة التالية كان فيها "سامي"..

رجل نحيل أصلع ضئيل الجسد يذكرك بـ"وودي ألين" كثيراً.. يجلس أمام رقعة الشطرنج للأبد ويلعب مباراة أبدية مع نفسه..

- "محاسب في الخمسين من عمره.. اكتشف أن زوجته تخونه مع أقرب صديق له.. من حينها يلعب الشطرنج بلا توقّف..".

قالت نادية:

- "لا يبدو مبرراً لوضعه هنا كما أتصور".

- "عندما يجد نفسه في وضع (كش ملك)، يُغمد سكيناً في عنق أي شخص يراه!.. ثم يبدأ مباراة جديدة".

نظرت للرقعة وحمدتُ الله على أن ملكه يبدو آمناً..

قلت للطبيب الشاب:

- "هل المصحّة لا تضم إلا هذه الحالات المخيفة؟"

 
 

 

عرض البوم صور amedo_dolaviga   رد مع اقتباس

قديم 01-09-10, 11:50 PM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Mar 2008
العضوية: 66537
المشاركات: 740
الجنس ذكر
معدل التقييم: amedo_dolaviga عضو على طريق التحسين
نقاط التقييم: 53

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
amedo_dolaviga غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : amedo_dolaviga المنتدى : روايات أونلاين و مقالات الكتاب
افتراضي

 



بدوت لي للحظة كأنك طفل يستمتع بأن يخيف الفتيات بسحلية اصطادها!




قال د. مراد وهو يخرج بنا من هذا القبو الرهيب:

- "أردت أن أبدأ بالحالات الخطرة لأشد انتباهكما.. لكنكما ستقابلان الكثير من الحالات البسيطة كالعصاب والذهان غير الخطرة..".


قالت نادية:

- "بدوت لي للحظة كأنك طفل يستمتع بأن يخيف الفتيات بسحلية اصطادها!".

نظر لها في غيظ.. هذه هي الحقيقة فعلاً؛ لكنها لا تُقال.. كل هؤلاء المحترفين لديهم نقطة ضعف صبيانية (فلْترَوْا كم نحن خطرون!). هذه موهبة نادية الدائمة في عدم إشعار الآخرين بالراحة.

قال في برود وهو يمشي وسط الممرات:

- "فلنترك السحالي جانباً.. غرفتاكما في نهاية الممر.. هناك جهاز هاتف.. أي شيء تريدان يمكنكما طلب رقم (5).. ليس هذا فندقاً لكن د. أنطوان أعطى تعليمات صريحة بأن تشعرا بالراحة.. يمكن لكل منكما طلب غرفة الآخر عن طريق رقمي 10 و11".

ونظر في ساعته:

- "الإفطار في السابعة صباحاً حتى التاسعة.. الغداء في الثانية بعد الظهر حتى الرابعة. العشاء التاسعة مساء..".

نظرت في ساعتي.. لقد فات وقت الغداء إذن.. تباً لكم!.. فقال باسماً:

- "استبقينا لكما وجبتين".

كان لغرفتي ذات الطابع العملي الكئيب المميز لاستراحات الشركات.. كل شيء موجود.. كل شيء نظيف.. كل شيء قبيح خال من الروح. هناك مرآة كبيرة في ركن المكان، وعلى طريقة الفنادق كان هناك مصحف وإنجيل جوار الفراش..

اتجهت للمرآة وبدأت أفكّ ربطة عنقي.. لا أعرف سبب هذا الشعور الغريب بأنني مراقب.. لكن أين؟.. المكان لا يسمح بوجود كاميرات مراقبة ولا توجد ثقوب مفاتيح..

مددت إصبعي إلى المرآة ولمست الزجاج؛ فلمس إصبع رجل المرآة طرف إصبعي، كأنها لوحة مايكل أنجلو الشهيرة أو ملصق فيلم "إي تي".. لا مسافات بين الإصبعين. شكراً لقصص الجاسوسية التي قرأتها في صباي.. هكذا اتجهت للهاتف وطلبت رقم 10..

جاء صوت نادية المتشكك المتذمر؛ فقلت لها:

- "هل تشعرين بأنك مراقبة؟"

قالت في ضيق:

- "كنت أتوقع أن تتأخر إصابتك بالبارانويا بعض الوقت.. كل الناس يعتقدون أنهم شفافون ويشعرون بأنهم مراقبون".

- "أنا لا أمزح.. المرآة في غرفتي واضح أنها ذات وجهين.. بمعنى آخر هناك من يقف خلفها ويراقبني كأنه ينظر عبر لوح زجاج..".

- "وهذا يعني؟"

- "يعني أن هناك من يراقبنا.. ويعني أن عليك ألا تخلعي ثيابك أمام المرآة، إذا لم ترحبي بوجود طاقم المستشفى كله خلف المرآة، يقزقز اللب ويشرب الكولا ويتسلى برؤيتك عارية..".

- "تأخرت كثيراً.. لقد بدّلت ثيابي فعلاً؛ لكني سأضع غطاء على كل المرايا، وآمل ألا يؤدي هذا إلى أن نقضي باقي عمرنا هنا بتهمة البارانويا.. بالمناسبة هذا الكلام لا يقال عبر الهاتف..".

- "بل أريد أن يعرفوا أننا لسنا حمقى".

وضعت السماعة ورحت أفكر في معنى هذا.. لا نملك أسراراً خطرة ولسنا مهمين؛ فلماذا يهتم أحد بمراقبتنا؟

بعد الغداء المتأخر جاءت ممرضة أخرى، وطلبت منا أن نصاحبها في جولة أخرى بالمستشفى.. إن دكتور "منصور" ينتظرنا..


لدينا طرق قد تعتبرها غريبة أو ثورية أكثر من اللازم




د. "منصور" كان رجلاً ضخم الجثة كباب المخزن، له لحية قصيرة مدببة كلحية التيس.. اصطحَبَنا عبر حديقة أنيقة مهندمة، إلى بناية صغيرة ذات بوابة حديدية يحتشد خلفها ثلاثة من رجال الأمن الذين تبدو عليهم الخطورة.. قال لنا وهو يصعد الدرج:

- "لدينا طرق قد تعتبرها غريبة أو ثورية أكثر من اللازم؛ لكنها برهنت على نجاح شديد..".

القاعة الأولى كانت مغلقة بباب حديدي؛ فدقّ الجرس مرتين وسرعان ما وجدنا أننا في غرفة كبيرة تشبه عنابر المستشفى.. على الفراش كانت امرأة لا أعرفها، كانت مقيّدة في وضع مصلوب؛ بحيث صارت معدومة الحيلة تماماً.. جوارها كانت ممرضة تفرغ محقناً كبيراً في وريد الساعد..

قال "منصور" وهو يبتسم:

- "هذه هي جرثومة الملاريا!".

نظرت له نادية في ذهول كأنما هي تستوثق من أنها لم تخطئ السماع، ثم سألته من جديد:

- "ملاريا؟؟؟؟؟".

- "نصيب المريض بالحمى.. هذه من طرق العلاج بالصدمة القديمة جداً.. لاحظ الأقدمون أن المريض يتحسن بشكل ملحوظ بعد العدوى وارتفاع الحرارة، وبعد ذلك نعالجه من الملاريا..".

الغرفة الثانية كانت ألعن.. هذه المرة هناك مريض مربوط بالكامل إلى سقالة مهيئة؛ بحيث تنزلق لتغمره في الماء لبضع دقائق.. ثم ترتفع بعد ما تطول الفترة وتتمزق أعصابنا.. يشهق المريض في جشع ليعب الهواء بسرعة، قبل أن تنحدر السقالة من جديد..

هذا لا يشبه المستشفى جداً.. هذا أقرب إلى معتقل السجن الحربي، أو غرفة في معتقل "داخاو" النازي.. المشكلة هنا أن المريض لن ينقذ نفسه بالاعتراف.. فبأي شيء يعترف؟

قال الطبيب باسماً وهو يراقب وجهينا:

- "مندهشان من أساليبنا.. أليس كذلك؟".

الغرفة الثالثة كان يتوسطها قفص عملاق من السلك الضيق الشبيه بالشبكة.. في الداخل يقف المريض عارياً تقريباً، ثم ينفتح صندوق ما؛ فتهجم عليه أسراب من البعوض والذباب.. العدد مهول لدرجة أنها غطته بالكامل، وهو يصرخ ويحاول حماية وجهه وعينيه..

قالت نادية في برود ساخر:

- "العلاج بالحشرات.. لا بد أنه علاج قديم محترم".

قال الطبيب:

- "لا.. هذا من اختراعنا.. إن صدمة أن يجد المرء نفسه مغطى بالحشرات تفوق التحمل.. هذه الصدمة كفيلة بزعزعة كل توازنه العقلي.. عندما يكون العقل مزعزعاً فمن الوارد أن يعود لطبيعته".

- "مثلما تهزّ الساعة المعطلة لتعمل.. كان "فرانكنشتاين" يتبنى هذه النظرية".

لم يردّ الطبيب بل صاح في الممرض الشبيه بفتوات السلخانة:

- "يكفي هذا يا "سملاوي".. هلم".


ففتح "السملاوي" ثغرة صغيرة في القفص، ثم صوب خرطوماً كاسحاً من الماء يشبه خراطيم المطافئ، ليكتسح كل ما غطى المريض من حشرات.. دعني أؤكد لك أن اندفاع الماء كان نوعاً آخر من التعذيب..

قالت نادية هامسة لي في ضيق:

- "لا أعرف رأيك.. لكن رأيي أن هذه المصحّة ليست على ما يرام".

******************



كان هناك كلبان شديدا الهياج يحاولان جاهدين الوصول إلى مريض (رسوم فواز)




ليست على ما يرام...؟.. وماذا نعرفه نحن عن الطب النفسي؟... لربما كانت هذه الأساليب حديثة فعلاً.. أحياناً يتصرف الأطباء بطريقة تبدو لك قاسية جداً..

أما الغرفة التالية فقد كانت أغرب من هذا كله.. هناك كلبان شديدا الهياج والضخامة مربوطان بحبلين واهيين متآكلين إلى الجدار، وهما يحاولان جاهدين الوصول إلى مريض عرفْتُه على الفور.. إنه المدعو "سامي" المحاسب لاعب الشطرنج إياه... كان عارياً تماماً إلا مما يستر العورة، يلتصق بالجدار ويصرخ.. محاولاً أن يبتعد قدر الإمكان عن أنياب ومخالب الكلبين.. لو استطاع الدخول في الجدار لفعل.. الحق أن صراخه ونباح الكلبين جعلا المكان جديراً بجحيم "دانتي"..

قال الطبيب بلهجة تقريرية:

- "العري يُشعر المرء بهشاشة غير عادية.. هذا مهم للتخويف..".

المفزع هنا أن الكلبين يحاولان من حين لآخر قضم الحبلين.. معنى هذا أن أحدهما قد يتحرر في أية لحظة.. لن يستغرق أكثر من ثانية حتى يمزق حنجرة الرجل..

قال الطبيب وقد لاحظ قلقنا:

- "هناك ممرضان ينتظران أن يفلت كلب ليطلقا عليه طلقة منومة.. إنهما يراقبان الغرفة جيداً من مكان خفي..".

لكن هناك وقتاً بين الفعل ورد الفعل.. أليس كذلك؟.. هذا الوقت نجحت الحيوانات في اختصاره.. بمعنى أن الكلب قد يمزّق الرجل قبل أن يستوعب الممرض ما يحدث..

لما غادرنا الغرفة نحو غرفة أخرى كنا قد بلغنا قمة الغثيان.. لم نعد نريد أن نرى أكثر، وهتفت نادية في جنون:

- "أنتم تعذبون المرضى لا أكثر.. هذه سادية لا شك فيها..".

قال ببرود:

- "هل لي أن أعرف خبراتك العتيدة في الطب النفسي؟"

- "لا أعرف شيئاً عن الطب النفسي، لكني أعرف الكثير عن السادية والوحشية والقسوة.. أتمنى أن يجد مديركم نفسه في غرفة واحدة مع هذين الكلبين.. ثق أنني سأكتب عن طرقكم هذه ولسوف أطلب أن تحقق لجنة من وزارة الصحة في هذا المكان المشبوه".

كنت أكره طريقتها هذه التي تخلو من تقدير الخطر.. نحن هنا في ضيافتهم وتحت رحمتهم، ومن الوارد أن يغيروا كل شيء.. في مثل هذه الأمور، عليك أن تنتظر حتى تعود لجريدتك ثم تكتب ما تريد..

قال الطبيب في برود:

- "لست مؤهلاً للإجابة عن سؤال كهذا.. أرجو أن تأخذي رأي د. "أنطوان".


ثم أعلن في اشمئزاز:

- "لقد انتهت الجولة.. يمكنكما العودة لغرفتيكما أو التجوال بحرية.. شكراً".

هكذا وجدنا نفسينا وحيدين مطرودين تقريباً.. وكان الليل قد اقترب، فمشينا في الحديقة..

هناك كان مرضى آخرون يبدو أن حالتهم أفضل.. بعضهم كان يلعب الكرة وبعضهم يجلس على "دكك" خشبية يتبادل الحديث، والبعض كان يلعب كرة السلة.. هنا ملعب سلة ضيق ليست فيه سوى شبكة واحدة.. من يسدد فيها يحرز نقطة في الفريق الآخر..

هنا فقط استطعت أن أمد يدي للحقيبة الصغيرة وألتقط بعض الصور. يجب أن نداري العيون فيما بعد حتى لا يقاضينا أحد. رحت أدور حول الحديقة الأنيقة وأغيّر من زوايا اللقطات، على حين جلست نادية -بطريقتها المسيطرة التي تذكّرك بمدرب فريق كرة القدم- على دكة في نهاية الحديقة، تُجاور غابة أشجار صغيرة، وراحت تسجّل بعض الملاحظات، ثم هتفت تناديني بلهجة آمرة:

- "عصام.. تعال هنا..".


كدت أرفض التلبية لتتعلم انتقاء نبرات صوتها، ثم وجدت نفسي أمشي نحوها متسائلاً؛ فقالت وهي تشير إلى حوض الزرع خلفها حيث زرعت بعض الأزهار:

- "ما رأيك؟.. هذه الأبصال نامية في مواضع كثيرة وضامرة تماماً في مواضع أخرى.. أنت تعرف أنني تخرجت في كلية الزراعة قبل أن أصير صحفية.. معنى هذا أن هناك من يرتكب خطئاً فادحاً بأن يقلب التربة باستمرار فلا يمنحها فرصة النمو..".


- "ومعنى هذا؟"

- "لا أدري.. تعالَ نواصل جولتنا..".


كانت هناك بناية صغيرة عليها لافتة تقول "التمريض" (رسوم فواز)




نهضنا ورحنا نمشي.. كانت هناك بناية صغيرة لا يوجد رجال أمن خارجها، وكانت هناك لافتة تقول "التمريض". مشينا في هدوء في رواق فارغ ولم أنسَ أن ألتقط بعض الصور..

قالت همساً وهي تتقدمني:

- "غريب..!"

- "ما الغريب؟"

- "أنت لا تفكر بشكل منطقي.. لو كانوا فضوليين لدرجة أن يراقبونا في غرفتينا؛ فكيف يسمحون لنا بكل حرية التحرك هذه؟"

- "نحن في مصر.. لا بد من واحد اسمه "رجب" أو "عوض" صدرت له التعليمات بمراقبتنا لكنه تكاسل ونسي الأمر وجلس يدخن المعسل.. لا شيء يتم بدقة الساعة في مصر ولسنا في أحد سجون ميونيخ..".

رفعت إصبعها إلى شفتيها لتمنعني من الكلام ودنت من نافذة صغيرة تعلو باباً مغلقاً، وألقت نظرة.. دنوت منها وحاولنا ألا يظهر من وجهينا شيء أسفل العينين..

بالفعل هناك أربع من الممرضات يجلسن حول منضدة، وكن منهمكات جداً فلم تر إحداهن هذين الجاسوسين وراء النافذة.. كان هناك مسدس في منتصف المائدة وهو من الطراز الذي يعمل بالساقية.. الممرضة الأولى تتناول المسدس وتدير الساقية عدة مرات ثم تغمض عينيها وبيد راجفة تلصق الفوهة بصدغها.. تتلقى رصاصة وهمية ثم تفتح عينيها وتضحك.. تناوله لزميلتها لتدير الساقية..

هذه المرة كان الذعر أقوى مما نتصور فتبادلت نظرة هلع مع "نادية"..

هذه لعبة الروليت الروسي.. لا شك في هذا.. ساقية المسدس فيها طلقة واحدة والمسدس يدور إلى أن تتلقى تعسة الحظ الطلقة في رأسها.. الممرضات في هذه المصحة يلعبن ألعاباً غريبة، وقد كنت أحسبهن يلعبن "الشايب" و"الكومي" في وقت السهر الطويل المملّ. دعك من أنهن مثقفات جداً.

هنا أدرنا عينينا فوجدنا أربع الممرضات ينظرن للنافذة الصغيرة التي نُطلّ منها..

ينظرن نحونا!!



 
 

 

عرض البوم صور amedo_dolaviga   رد مع اقتباس
قديم 01-09-10, 11:51 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Mar 2008
العضوية: 66537
المشاركات: 740
الجنس ذكر
معدل التقييم: amedo_dolaviga عضو على طريق التحسين
نقاط التقييم: 53

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
amedo_dolaviga غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : amedo_dolaviga المنتدى : روايات أونلاين و مقالات الكتاب
افتراضي

 



كاللصوص رحنا نركض في الرواق فارّيْن، ثم خرجنا إلى الحديقة (رسوم فواز)




كاللصوص رحنا نركض في الرواق فارّيْن.. ثم خرجنا إلى الحديقة.. لم يتبعننا؛ لكنهن رأيننا.. لا شك في ذلك.. لا شك في ذلك..

قالت نادية وهي تلهث:

- "الأمر واضح، لا يردن شوشرة.. كن يقمن بهذا سراً..".

قلت لها وأنا موشك على الإصابة بنوبة قلبية:

- "أعتقد أن علينا أن نذهب لغرفتينا ونفتح عيوننا جيداً..".

كان الظلام قد هبط على الحديقة، وأضيئت الأضواء مُعطية ذلك الجو الكئيب للحدائق التي تُنار بضوء خافت.

قالت لي نادية ونحن نتحرك نحو غرفتينا:

- "أريد التنقيب في هذا المكان جيداً.. هذه المصحّة غامضة كالموت.. سوف نتحرك في الثانية صباحاً.. لا تُنِر أي شيء في غرفتك وغادرها خلسة ومعك الكاميرا.. سوف نلتقي في الحديقة..".

كنت أؤمن مثلها أن هناك شيئاً مريباً.. لكني بصراحة لم أملك الشجاعة اللازمة لهذه المغامرة الليلية، كل شيء يوحي بأننا في مكان مريب.. هناك لغز يجب أن نحله، وعلى كل حال تنجح الأنثى الشجاعة دوماً في أن تجعل الرجل شجاعاً..

هكذا في الظلام، وعندما صارت الساعة الثانية بعد منتصف الليل غادرت غرفتي ومشيت إلى الحديقة؛ حيث كانت تنتظرني.. هل هناك كلاب يطلقونها في الحديقة ليلاً؟.. لا أعتقد وإلا لمزق نباحها الصمت.

كانت تحمل في يدها ميدالية صغيرة تطلق ضوءاً خافتاً رفيعاً.. بخطوات ثابتة مشت نادية في الحديقة وهي تنظر حولها بحذر.. كانت تتجه إلى البناية الإدارية؛ حيث مكتب المدير، هناك شيء غريب.. لا أحد يقابلنا على الإطلاق.. لا رجال أمن.. ما معنى هذا؟.. إما أن التراخي هنا شديد، أو هم - كما يقول الغربيون- يعطوننا حبلاً طويلاً نشنق أنفسنا به.

كانت تذكر المكان.. الرواق الأنيق بين التماثيل التي تبدو حية.. لكن المكتب كان موصداً بعناية، هناك غرفة جانبية كُتب عليها "المعرض"، أزاحت الباب بحذر ودخلنا.

هناك على الجدران وعلى ضوء الكشاف الخافت، كانت مجموعة من الصور بعضها بالأبيض والأسود يعود للستينات من القرن الماضي، وبعضها حديث ملون.. استقرت عينانا على وجه الطبيب الذي يظهر في كل الصور والذي يبدو أن مكانته عالية الشأن.. إنه المدير بلا شك.. يقف وسط مجموعة ممرضات ويصافح وزير صحة سابقاً.. لا بد أنه مدير المصحة نفسه.. لا بد أنه د. أنطوان.

الآن أنا مذعور فعلاً.. هذا الوجه لا يمتّ بصلة لدكتور أنطوان الذي قابلنا!

إن من قابلنا لم يكن هو مدير المصحة.. دعك من أنني لا أميّز أي وجه قابلناه هنا.. كل الأطباء في الصور لهم ملامح مختلفة وكذلك الممرضات..

لم تتكلم نادية.. غادرت الغرفة في صمت فالبناية وأنا خلفها أحاول أن أفهم..

في صمت اتجهت إلى صوبة صغيرة خلف الأشجار فدخلتها وأنا مندهش، ثم عادت حاملة رفشاً مما يستعمله البستانيون.. وقالت:

- "أعتقد أن عليك أن تقوم ببعض الحفر".

في ضوء النجوم اتجهت إلى تلك الرقعة التي كانت أبصالها لا تنمو بانتظام، وناولتني الرفش وطلبت مني أن أحفر.. مجنونة ولا شك...

صوّبت الكشاف إلى التربة التي أحفرها بلا براعة.. وفي النهاية اصطدمت بشيء صلب.. على الضوء الشاحب أرى تلك الجمجمة والشعر الآدمي واليد المتقلصة.. ارتجفت.. هنا انطلق ضوء الفلاش الساطع للحظة. لقد كانت تحمل الكاميرا الخاصة بي.

- "جرب مكاناً آخر.."


اتجهت إلى مكان آخر ورحت أحفر..لم أستغرق وقتاً حتى وجدت القدم البشرية شبه المتحللة..

- "أعد تغطية كل شيء قدر المستطاع".

وهكذا أهلت التراب وأنا أرتجف.. الرائحة ذاتها بدت كريهة جداً كأن هذه الطبقة من التربة كانت تخفيها. الأبصال تلقّت أفضل سماد ممكن؛ لكنها أصرت على عدم النمو في تربة غير ثابتة..

سمعت عن المرضى الذين يموتون ويُدفنون في السجون السياسية، لكن لم أسمع عن المرضى الذين يدفنون في ذات المصحة.. أحقاً لم يشعر أحد باختفائهم؟


قبل أن أدرك أنني فعلت ذلك هويت على عنق رجل الأمن بالرفش (رسوم فواز)




- "لا تتحركا!"

هذه كانت من الخلف.. استدرنا لنجد رجل أمن ضخم الجثة يصوب كشافاً نحونا، ولاحظت أنه غير مسلح.. لكنه يحمل جهاز اتصال صغيراً ينوي استعماله.. كانت نظرة عينيه مفترسة فعلاً وأدركت أنهم سيؤدبوننا بالتأكيد..

قالت نادية وهي تنظر في عينيه:

- "معذرة.. لقد أراد صديقي أن يُفرغ مثانته.. إنه أحمق كما ترى..".

لكن الرجل بالطبع لم يبتلع هذه الحيلة السخيفة.. لا أحد يتبول وهو يحمل رفشاً.. رفشاً!!

قبل أن أدرك أنني فعلت ذلك هويت على عنقه بالرفش الذي كان في يدي.. لم أعرف أنني بهذه القوة إلا عندما سقط على الأرض بلا كلمة، مستحيل!.. لا أحد يموت بهذه السهولة، دعك من أنني لم أقتل قطاً في حياتي..

رحت أرتجف بلا توقف، وكدت أصرخ لكن نادية قالت وهي تحاول التماسك:

- "هلم.. هلم. لم يكن ليتركنا.. دعك من أنك لم تكن لتكسب أي التحام جسدي معه.. كان سيهشم عنقك كالجزرة"

ثم ركعَتْ جوار جثته وراحت تعبث.. حتى انتزعتْ مجموعة مفاتيح من حزامه..

قالت في خبث وهي تلوح بها:

- "هذه هي الجائزة الكبرى.. سوف نبحث ونوجه أسئلة.. لا بد من أسئلة..".

- "والقتل؟.. أنا قتلت!"

- "سأشهد أنه دفاع عن النفس... لو كان ما أعتقده صحيحاً، فلسوف يوجّه لك رجال الشرطة عبارات المديح!"

*****************

Sep 1 2010
رفع الأستاذ سامي عينيه ينظر لنا في دهشة وقد وقفنا في حجرته (رسوم فواز)




رفع الأستاذ سامي عينيه عن رقعة الشطرنج.. كان ينظر لنا في دهشة وقد وقفنا في حجرته/زنزانته.. بدا هشًا ضعيفًا جدًا.. قالت له نادية وهي تجلس على حافة الفراش:

- "أنت طبيب.. الأطباء والممرضات بالخارج هم المجانين الذين استولوا على المصحة.. أليس كذلك؟.."

ارتجفت شفته السفلى، وخُيّل لي أن في عينيه نظرة أمل.. فأردفت نادية:

- "لقد حطموك بالتعذيب حتى لم تعد تجرؤ على الكلام.. لا تجرؤ على الاعتراف.. لكننا سنحررك".

قال وهو يغطي عينيه:

- "لقد ثاروا علينا منذ أسبوعين.. قتلوا معظمنا.. استولوا على ثيابنا وكل شيء، ثم دفنوا ضحاياهم في الحديقة.. وبدءوا يعالجوننا بطريقتهم الخاصة.. لن تهزموهم أبدًا..".

ثم انفجر في البكاء..

نظرت لي نادية في انتصار.. ونهضت..

- "الآن سنلعب دور سبارتاكوس"

وانطلقت لا تلوي على شيء تفتح أبواب الغرف المغلقة بما معها من مفاتيح الحارس.. فتحت باب غرفة مصطفى.. صرخت كالمسعورين ثم هوت بالرفش على السلسلة التي تربطه بالجدار فتحرر..

هرعت إلى غرفة أخرى فحررت عفاف (المرأة التي تكتب خطابات تطلب فيها الغوث) جرى القط مذعورًا بينما نظرت لها المرأة في توجّس، فصاحت نادية:

- "من أنت؟.. لا تخافي.. لقد تحررت!.. أنت ممرضة.. أليس كذلك؟"


كانوا يحيطون بي حاملين المشاعل واللهب يضيء وجوههم التي تلوثت بالدم (رسوم فواز)




لكن هؤلاء التعساء كانت لديهم خطط أخرى.. كان الانتقام يُعمي عيونهم، وللحظة بدا لي أني أرى ميلاد الثورة الفرنسية.. لقد أشعل أحدهم مشعلاً وخرج إلى الحديقة.. بينما جاء أحدهم بمجموعة سكاكين من المطبخ..

صِحت فيهم:

- "لا ترتكبوا جرائم!.. لا تفعلوا مثلهم.. إنهم غير مسئولين عما فعلوه.. هم مجرد مجانين ولن تدينهم أية محكمة..".

لكن شيطان الانتقام خرج من مكمنه.. وسمعت صرخات من الحديقة، وتعالت ألسنة النيران.. لقد صار المشهد جحيميًا.. كانوا يقتلون كل طبيب وكل ممرضة أو رجل أمن يرونه.. بحثت حولي عن نادية وسط هذه الفوضى فلم أجدها..

رأيت في الحديقة رجلاً يزحف زحفاً والنار مشتعلة فيه.. لما دنوت منه عرفت أنه ذلك المجنون الذي تقمّص شخصية د.أنطوان عند لقائنا (الرجل الأزرق).. جريت ورحت أمرّغه في الغبار محاولاً أن أطفئ النيران.. في النهاية أطفأته؛ لكني أدركت أنه يحتضر.

هززته في عنف بلا شفقة:

- "أين د.أنطوان؟.. هل دفنتموه في الحديقة؟"

قال بصوت مبحوح:

- "يا أحمق.. أنا د.أنطوان!"

- "لا تخدعني.. أنا رأيت صُوَره الحديثة وهو لا يشبهك أبدًا..".

- "أنا مصاب بمرض نسيجي اسمه تصلب الجلد Scleroderma.. ولو كنت تفهم حرفًا في الطب لعرفت أنه يغيّر ملامح الوجه بالكامل.. أي طبيب يرى يدي وزاوية فمي الشبيه بفم السمكة كان سيُخبرك بهذا.. لم يعد وجهي يمتّ بصلة لوجهي.. القديم..".

- "وهذه المقبرة الجماعية في الحديقة؟.. ألم تدفنوا الأطباء بها؟"

- "بل هم ثلاثة من المرضى ناقصي الأهلية ماتوا.... أثناء تجربة.. لم أجسر على.. تحمّل المسئولية.. دفنتهم هناك.. ولم يدْر أحد.. بهم.."

ثم شخصت عيناه وقد فارقه السر الإلهي..

تركته حيث هو وهرعت وسط الدخان والنيران أبحث عن نادية.. نااادية!.. نااادية!...

كانت هناك على باب إحدى الغرف وقد انثنى عنقها بزاوية لا يمكن وصفها.. ولا يمكن تخيّل أنها بقيت حية.. كانت الزنزانة أو الغرفة هي الخاصة بالأستاذ سامي.. لا أعرف لماذا قررت أن أدخل وألقي نظرة على رقعة الشطرنج.. هذا الهاجس الخفي..

لمحت الرقعة.. ملك الأبيض في وضع لا يُحسد عليه.. كش مات..

كش مات..؟؟؟؟

وعند باب زنزانة أخرى وجدت تلك المرأة عفاف تفتش عن شيء بلا توقف.. دخلت الغرفة فانتفضت ثم صاحت:

- "المعادلة قد ضاعت.. لن يستطيع أحد أن يركّب القنبلة السينية!"

خرجت إلى الحديقة لأرقب الهول الذي يدور..

أشرس المقاتلين كان تلك الفتاة ممزقة الثياب.. كانت تحتبي على الأرض احتباءً، ثم تُصدر عواء، وفجأة تثب في الهواء لتنشب أسنانها في عنق ذلك الحارس أو ذاك.. وكان يتهاوى خلال ثوان وقد أوشك عنقه على أن ينفصل..

سوف أفرّ من هنا.. ماتت نادية.. ماتت نادية.. الآن أنا طفل مذعور لا يعرف ما يجب عمله..

هل فعلاً قمنا بتحرير مجموعة من الأطباء البائسين الذين سيطر عليهم المجانين؟.. ربما.. الأطباء النفسيون لا يعالجون المرضى بالبعوض والملاريا والكلاب، والممرضات لا يلعبن الروليت الروسي في وقت الفراغ، والأطباء النفسيون لا يدفنون مرضاهم في الحديقة.. ولربما كان موضوع داء التصلب الجلدي هذا أكذوبة..

لكن..

ربما ارتكبت غلطة عمري وحررت أخطر مجموعة من المجانين لتفتك بأطباء هذه المصحة.. نادية ألهمت المجانين بحيلة تحررهم عندما راحت تسأل كل واحد في حماقة: "أنت طبيب أليس كذلك؟.. أنت ممرضة.. أليس كذلك؟".. د.أنطوان هو نفسه وقد تغيّر شكله كما قال.. عفاف تبحث عن القنبلة السينية، والمحاسب قتل نادية لأنها كانت أمامه في لحظة (كش ملك)، والفتاة تتصرف فعلاً كذئب آدمي.. وهؤلاء المدفونون مرضى ماتوا بسبب إهمال طبي.. هذا احتمال مقبول.. ممرضات يلعبن الروليت.. من قال إن المسدس حقيقي أو محشو؟.. نحن لم نسمع صوت طلقات رصاص.. لقد رأين اللعبة في فيلم أجنبي ما مثل "صائد الغزال" وقررن أن يلعبنها بمسدس أطفال.

أخطر مجموعة من المجانين المسلحين.. حررتهم أنا بعبقريتي وعبقرية نادية.. هي دفعت الثمن، أما أنا فالدور عليّ..

أم هم أطباء استبدّت بهم شهوة الانتقام لدرجة الجنون؟

كنت أركض نحو البوابة إلى أن استوقفني صياح أحدهم، نظرت للخلف فوجدتهم يحيطون بي:

- "أنت محررنا.. لا تتركنا... أنت بطلنا!"


يحيطون بي حاملين المشاعل، واللهب يضيء وجوههم المعذبة المتعبة التي تلوثت بالدم.. وجوه شوّهها انعكاس الضوء والظلال فبدت كوجوه شياطين..

- "لا تتركنا.."

هكذا أقف أنا وسط هذه الحشود.. أقاوم الشعور الغريب بأن هذا كابوس سوف أفيق منه..

لا أعرف حقًا: هل أصبت أم أخطأت؟.. هل أنا عبقري مُنقذ.. أم أنا أكبر أبْلَهٍ عرفه التاريخ؟

تمت

 
 

 

عرض البوم صور amedo_dolaviga   رد مع اقتباس
قديم 02-09-10, 09:11 AM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
jen
اللقب:
عضو راقي
ضحى ليلاس
الوصيفة الاولى لملكة جمال ليلاس


البيانات
التسجيل: Oct 2007
العضوية: 46967
المشاركات: 4,719
الجنس أنثى
معدل التقييم: jen عضو جوهرة التقييمjen عضو جوهرة التقييمjen عضو جوهرة التقييمjen عضو جوهرة التقييمjen عضو جوهرة التقييمjen عضو جوهرة التقييمjen عضو جوهرة التقييمjen عضو جوهرة التقييمjen عضو جوهرة التقييمjen عضو جوهرة التقييمjen عضو جوهرة التقييم
نقاط التقييم: 1999

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
jen غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : amedo_dolaviga المنتدى : روايات أونلاين و مقالات الكتاب
افتراضي

 

اصدق انه اكبر ابله عرفه التاريخ

الف شكر يا اميدوووووووووووووووووووووووووووو
بجد مش عارفة اشكرك ازاى على النقل الجامد دة

 
 

 

عرض البوم صور jen   رد مع اقتباس
قديم 02-09-10, 01:21 PM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Oct 2009
العضوية: 151372
المشاركات: 228
الجنس ذكر
معدل التقييم: eslam14 عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 29

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
eslam14 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : amedo_dolaviga المنتدى : روايات أونلاين و مقالات الكتاب
افتراضي

 

قصة جامدة جدا مشكور يا معلم

 
 

 

عرض البوم صور eslam14   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ليلى, amedo_dolaviga, مشيت, مصحة الدكتور أنطوان, توفيق, د. احمد, يالي, قصة, قصيرة
facebook




جديد مواضيع قسم روايات أونلاين و مقالات الكتاب
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 08:57 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية