المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
د. أحمد خالد توفيق يكتب.. قُرب الجبل امرأة مرحة
منذ طفولتي والمعلمون يقولون إن عندي استعداداً طبيعياً لتعلّم اللغات.. هذا كلام جميل بالتأكيد، ولعلي ورثت هذا من أبي الذي كان يجيد أربع لغات؛ بل إنه قَطَع شوطاً كبيراً في تعلّم لغة الاسبرانتو التي كان العزم معقوداً على أن يتكلمها العالم كله، أيام عُصبة الأمم والحلم بعالم واحد بلا حروب.
لكن تعلّم اللغات ما زال يمثل لي عقبة شديدة التعقيد، ولا عجب إذا اعترفنا بأن المرء لا يجيد اللغة العربية نفسها حتى اليوم، ومن يزعم غير هذا مغرور حتماً.
لا أعتقد أن هناك كلمة بأية لغة أجنبية مرّت بي ولم أحاول حفظها.. كانت هناك تلك الموسوعة التي تذكر عيّنات من اللغة اليابانية، وكنت في الثامنة من عمري عندما قرأت أن "يا ما تشيكا أوزوم" معناها (قرب الجبل امرأة مرحة). لم يخطر لي أنني في الواقع قرأت سطرين متتاليين معاً، وبالتالي حسبت أن من المواقف الشهيرة في اللغة اليابانية أن يقابل أحدهم صاحبه صباحاً، فينحني ويخبره بأن: "قرب الجبل امرأة مرحة"!.
ولعل هذا خبر يتكرر في نشرات الأخبار؛ إذ تظهر المذيعة ضيقة العينين لتعلن للجماهير أن هناك قرب الجبل امرأة مرحة.. كانت هناك كذلك كلمات مثل "رياح الآلهة" و"طريقة المحارب": (بوشيدو) و(كاميكازي) بالترتيب.. هكذا حفظت هذه العبارات واعتبرتها قمّة البلاغة؛ فقط أرسِلوني إلى اليابان وسوف أهبط في المطار لأسأل أول من أقابله:
- "هل البوشيدو تهبّ من هنا؟"
فينحني في إجلال ويقول:
- "بل هذه الكاميكازي يا أحمد سان".
فأخبره أنه توجد قرب الجبل امرأة مرحة، من ثم يوقف لي سيارة أجرة ونذهب معاً قرب الجبل لنراها، من يريد عبارات يابانية أخرى بعد هذا الحوار العميق؟!
بالنسبة للإيطالية، كان هناك لغز من ألغاز المغامرين الخمسة يقوم فيه "تختخ" ورفاقه بزيارة إيطاليا، وأعتقد أنها تزامنت مع رحلة المؤلف الرائع "محمود سالم" الأولى لخارج مصر، مما جعله يصمّم على إقحام رحلته في القصة.. تناثرت عبارات إيطالية في القصة قمت بجمعها وحفظها جميعاً، وقد تواكب هذا مع برنامجٍ ساحرٍ في إذاعة الشرق الأوسط اسمه (خمس كلمات.. خمس لغات.. خمس دقائق).. في هذا البرنامج كنت تعرف خمس كلمات يومياً وكيف تُنطق في خمس لغات مختلفة، وقد ظللت أتابع هذا البرنامج حتى توفاه الله.
الآن جاء دور اللغة الإنجليزية.. أزعم أنني أقرأ الإنجليزية منذ عام 1973، وأترجمها منذ عشرين عاماً، ومعظم قراءاتي بالإنجليزية.. لقد صارت طبيعة ثانية لدي، وبرغم هذا ما زلت لم أسيطر عليها بعد، ومن حين لآخر أتلقى لكمة قوية في أسناني بسببها.
عندما تقرأ إنجليزية قديمة رصينة مثل إنجليزية شكسبير أو حتى ديكنز؛ فأنت تقابل الكثير من تعبيراتهم الفصحى التي تعجز عن فهمها تماماً، ثم تقرر أن تريح نفسك وتقرأ الإنجليزية الحديثة فتقابل مصطلحات وتعبيرات مستحدثة تثير الجنون.. إنها لغة لا تكفّ عن النمو والانقسام كمزارع البكتريا التي يزداد عددها وأنت ترمقها تحت المجهر.. مثلاً في السبعينيات مع فيلم "حمى مساء السبت" دخل فعل To travolt" " إلى اللغة الإنجليزية؛ بمعنى (الفتى الذي يذهب للديسكو ليلة السبت ليستعرض براعته في الرقص)، وأنت تعرف كيف صارت لفظة Google فعلاً لم يكن أحد يستخدمه منذ عشر سنوات.
هناك كلمات لعينة لا يمكن تذكّر معناها أبداً.. مثل (Antediluvian وAficionado وmawkish وrodomontade).. لو قرأت معناها ألف مرة في اليوم؛ فلا بد أن أفتح القاموس في المرة الأولى بعد الألف.. (أرجو ألا تعلّق قائلاً: "أنا مذهول لأنك لا تحفظ معنى هذه الكلمات السهلة"؛ لأن أعصابي لم تعد تتحمل!).
الخلاصة أنني بعد كل تلك الأعوام من الصراع مع اللغة الإنجليزية أيقنت أنني لن أملك زمامها أبداً، حتى لو كنت أقرأ كتاباً كاملاً فلا أستعمل القاموس إلا مرتين.. هذا لا يعود لبراعتي لكن يعود لتسامح الكاتب أو قلة ثروته اللغوية.
الآن جاء دور الفرنسية.. هنا تبرز كارثة الأفعال.. كل العالم يستعمل الفعل "يأكل" في ثلاث صور (أكل – يأكل - سوف يأكل)؛ بينما الفرنسيون على الأرجح عندهم تصريفهم لـ (كان يأكل) و(كان يأكل ثم توقف ثم عاد يأكل) و(ربما يأكل في المستقبل القريب) و(كان ينوي الأكل ثم غيّر رأيه).. إلخ.. الفرنسية مصابة بلعنة تصاريف الأفعال؛ حيث لكل فعل 8587778 تصريفاً في كل الأزمنة الممكنة؛ برغم هذا يمكنني أن أقرأ كتاباً بالفرنسية لكن يا لها من قراءة!..
يأتي دور الألمانية، وقد لخّص لي صديق يجيد الألمانية المشكلة معها في جملة واحدة:
- "في الإنجليزية تستعمل أداة a وan وthe وتنام قرير العين؛ بينما في الألمانية تغرق في بحر من الـ Der والـ Dem والـEin وauf وan.. وأداة الجر تأتي بعد خمسين كلمة".
نفس ما قاله الساخر الأمريكي العظيم مارك توين: "للألمان طرق غير آدمية لتقطيع الأفعال.. إن الفعل يعاني ما يكفي في هذا العالم وهو كامل؛ فمن الوحشية أن تقطّعه كما يفعل الألمان.. إنهم يأخذون جزءاً من الفعل ويغرسونه هنا كالخازوق، ثم يأخذون جزءاً آخر ويضعونه هنالك كخازوق آخر.. وبين الخازوقين يكوّمون الكلام الألماني".
الكارثة الأخرى التي لاحظتها هي أن كل مصطلح ألماني يطرد مصطلحاً فرنسياً ببراعة تامة.. يعني لو عرفت ثلاث كلمات ألمانية جديدة؛ فقد نسيت للأبد ثلاث كلمات فرنسية.. نظرية المخ ذي الحجم الثابت كصندوق الحذاء لم تكن واضحة في ذهني، ثم بدأت أفطن إلى أنها صحيحة؛ على الأقل معي. ووجدت نفسي ذات يوم أقول لفتاة فرنسية متأسفاً:
Ich bin desole!!
أي أنني بدأت الكلام بالألمانية ثم انتقلت للفرنسية.. مشكلة أخرى واجهتني مع الألمان والفرنسيين، هي أنني أبدأ الكلام معهم بطلاقة مذهلة، فيسرّون لمدى ثقافتي ويبدؤون الكلام بطلاقة وسرعة، وهكذا ينتهي بي الأمر إلى أن أتوسل إليهم أن يشرحوا ما يريدون بالإشارات أو بالإنجليزية؛ لكن من دون استعمال لفظة rodomontade لو سمحوا بذلك..!
اللغة الوحيدة التي لم تُغرني يوماً بتعلّمها هي العبرية، ولعل السبب هو الكراهية الدفينة داخلي تجاه إسرائيل -وهذا ليس مبرراً لعدم تعلّم لغة عدوك- وكذلك أنها اللغة الوحيدة في العالم التي أشعر أن المتكلم بها يعاني ويتعذب ويتأذى.. إنه يتحشرج ويتقلص وجهه وسط الـ(ليلاتوف حاييم بشلوم هلوعوت).. هذه لغة منقرضة تنتمي لفئة الطوب والحفريات، أصروا على إحيائها لأغراض استعمارية.
من جديد أتساءل: هل من يقولون إنهم يجيدون سبع لغات يجيدونها فعلاً؟ وما هو تعريف الإجادة؟ ولو كان هذا صحيحاً؛ فما تركيب عقولهم؟؟ أتمنى لو قابلت كل واحد منهم على حدة لأسأله عن معنى لفظة mawkish..
نعم.. تعلّم اللغات مهم جداً؛ لكنه تجربة قاسية، وسأسمح لنفسي بالتحفظ تجاه رأي أساتذتي الذين اعتقدوا يوماً ما أنني خُلقت لتعلم اللغات.
|