كاتب الموضوع :
نجم الخيال
المنتدى :
البحوث العلمية
(10)
لكن.. لماذا يكفرون؟
المشكلة لا تكمن في الأدلّة.. المشكلة تكمن هنا:
(وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ {111}) الأنعام.
هناك نوع من العناد الأعمى، يجعل مثل هؤلاء يرفضون الاعتراف بالحقيقة، حتى ولو رأوها أمام أنظارهم.. انظروا مثلا لما حدث عندما طلبت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يشقّ القمر.. لقد رأوه منشقا فعلا.. فماذا كان ردّ فعلهم؟.. ادعوا أنّ محمدا سحر عيونهم!!.. يقول الله سبحانه:
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ {1} وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ {2} وَكَذَّبُوا وَاتبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ {3} وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ {4} حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ {5}) القمر.
وهكذا نرى أن نفس الأدلة والمعجزات التي دفعت الصحابة والتابعين لتصديق الرسول، رآها الكفار ولم يؤمنوا بها!.. وهذا يعني أن من السهل على أي منكر أن يدّعي أن أي دليل غير كاف بالنسبة له.. تماما كما نفى الكفار انشقاق القمر وقد رأوه بأعينهم!.. بل وأكّد لهم ذلك القادمون من القبائل البعيدة، التي لا يمكن أن يكون محمد قد سحر أعينهم!
لقد نسف كفّار قريش حياد حواسهم ليرفضوا ما رأوا.. نسفوه مع أنّ هذا يجعل العميان أفضل منهم، فالمفروض ألا يثقوا بأبصارهم بعد هذا أن يكون كلّ ما يرونه سحرا!!
هذا الموقف تكرّر كثيرا، بصور كلّها تشير إلى نفس العناد الأعمى.. انظر مثلا إلى موقف القوم من سيدنا إبراهيم عليه السلام:
(وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ {57} فَجَعَلَهُمْْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ {58} قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ {59} قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ {60} قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ {61} قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ {62} قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ {63} فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ {64} ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ {65} قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ {66} أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ {67} قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ {68} قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ {69} وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ {70}) الأنبياء.
وهكذا ترى أنهم بدلا من أن يكفروا بحجارة حطمها بشر دون أن تدافع عن نفسها أو تملك لنفسها نفعا، ودون أن يستطيع أكبرها النطق لإخبارهم بالفاعل، تجد نفس العناد الأعمى يدفعهم إلى إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار!.. وحتى بعد أن خرج منها سليما أمام أعينهم ظلّ أكثرهم كافرين!
أليس هذا بالضبط هو نفس موقف فرعون:
(قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى {65} قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى {66} فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى {67} قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى {68} وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى {69} فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى {70} قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى {71} قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {72} إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى {73}) طه.
رأى فرعون المعجزة بأمّ عينه، وشهد خبراء السحر المعتمدون لديه بأنها معجزة، وآمنوا بالله أمامه رغم تهديده لهم ورغم ما مناهم به سابقا من الأموال والزلفى والحظوة لديه.. ولكنّ كبرياءه الزائفة دفعته إلى قول مضحك للغاية: (آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)!
وعناده الأعمى دفعه إلى نفس نوعية التبريرات الساذجة:
(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ)
والعجيب أنّ كبرياءه وعناده أورداه حتفه.. فلم يكتفِ بمطاردة موسى عليه السلام ومن معه إلى البحر، بل استكبر أن يعلن هزيمته أمام جنوده لما رأى موسى عليه السلام يشقّ البحر بعصاه، فتبعه وكأنّه أمر عاديّ يحدث كلّ يوم، ولا مخافة أن ينطبق عليه البحر كما كان وهو في منتصف المسافة!.. ولكنه إله ـ كما زعم لمن استخفّه ـ فكيف يخاف الإله أن يعبر البحر خلف من خلقهم؟!!
لقد دفعه العناد إلى حتفه، فكان ما كان، وعندما وجد نفسه هالكا لا محالة، صرخ بعد فوات الأوان، معلنا إيمانه بذلك الذي آمنت به بنو إسرائيلّ.. كالعادة: نفس الكبرياء الزائفة والغطرسة والجهالة، تُخرسه أن يقول إنّه آمن بالله، وربّما لو دعا الله دعاء مضطر لنجّاه!
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {90} آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ {91} فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ {92}) يونس.
إنهم جميعا بنفس الشخصية المغرورة.. يقول الله سبحانه عنهم:
(إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ {4} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ {5}) النمل.
(وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتبَعُوا أَهْوَاءهُمْ {16}) محمد.
(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {17}) فصلت.
(اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {15} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ {16}) البقرة.
(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {110}) الأنعام.
(مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {186}) الأعراف.
وعموما، كلّهم تنويع على نموذج كبيرهم، إبليس لعنه الله، الذي كان يعبد الله مع الملائكة المقربين، ولكن دفعه كِبْره وغروره إلى عصيان الله:
(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ {12}) الأعراف.
بل يصل به العمى إلى القسم على الشر وغواية البشر.. تخيّل بماذا أقسم؟.. بعزّة الله!
(قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {82}) سورة ص.
تصوّر أنه يعلم عزّة الله ـ والعزيز هو القويّ الذي لا يُغلب ـ ورغم هذا يختار أن يقسم بهذه العزّة على التحدي والعصيان؟!.. إنه بقسمه بعزّة من يحاربه، يعلن يقينه التام بهزيمته الحتمية بنفس الوقت الذي يعلن فيه تمرده عليه!!.. هذا أشبه بأن تقول: أقسم بقوتك التي لا تُهزم أن أحاربك!
نعم.. كلّ الكفار والحمقى يمتلكون نفس هذه الشخصية المتغطرسة العمياء: يوقنون بالحق ويصّرون على رفضه.. يرون المعجزات فيتعامون عنها.. يعلمون أن معركتهم خاسرة منذ البداية، لكنّهم يستكبرون عن إعلان استسلامهم وخضوعهم.
لكن.. ترى، ماذا سيكون موقف هؤلاء يوم الحساب، هم ومن ضعف أو جبن عن مخالفتهم واتبعهم حرصا على مصالحهم الشخصية ومكاسبهم الراهنة وتساميهم المزعوم على البشر!.. دعونا نرى:
(إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا {64} خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا {65} يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا
الرَّسُولَا {66} وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا {67} رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا {68}) الأحزاب.
(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ {166} وَقَالَ الَّذِينَ اتبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ {167}) البقرة.
(وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ {12} وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {13} فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {14}) السجدة.
(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ {54}) يونس.
|