كاتب الموضوع :
متفائلة دوما
المنتدى :
الارشيف
الجزء السابع
~~ ( 7 ) ~~
بعد أن صلوا على هيفاء ودفنوها قرب المحطة..
حملوا معهم ما أمكنهم من قوارير الماء وغادروا جميعاً..
كانت حالة طارق تزداد سوءاًَ..
وكان قد فقد الوعي من كثرة ما فقد من الدماء..
أما هند فكانت كأنها هي الميتة!
كانت وجهتهم نحو المدينة القديمة..
فقد تيقنوا بأنهم شاهدوا نيران ليست بعيدة في الليلة الماضية..
يبدو أن أناسا وصلوها قبلهم..
كان السير صعباً جداً..
فأرجلهم كانت تغوص في الرمال..
والجوع أنهكهم..
وثقل المياه التي حملوا معهم أتعبهم..
لكنها أملهم الوحيد في النجاة..
***
صارت المدينة القديمة أمامهم الآن..
أو ما تبقى منها..
كانت مهملة لسنوات عدة..
فقد هجرها الجميع بقرار ملزم من الحكومة..
وانتقلوا جميعاً للعيش في المدن الحديثة التي تم إعدادها ضمن مشروع نهضوي ضخم..
الواقع أن أغلب مدن العالم المتحضر فعل الشيء نفسه..
فيما عدا من لم تتحرك عجلة الزمان عندهم..
فلازالوا يعيشون الآن كما عاش أجدادهم وآباء أجدادهم من قبلهم..
هل يا ترى سيكون حالهم كذلك هم أيضاً؟!
***
اقتربوا وبدئوا بالنداء لعل أحداً يظهر لهم ..
ربما من سبقهم وجد مخزناً قديماً للطعام أو ما شابه ..
هذا كان أملهم ..
أرادوا التوغل في المدينة ..
لكن عمّار منعهم، كان لديه إحساس بأن هناك من يراقبهم ..
لم يكن ليخاطر بتقليص فرص نجاتهم ..
كان عليه أن يتخذ قراراً بما عليه أن يفعل، والأمر صعب ..
فلا معطيات لديه تدله على من سيواجه ..
ولا ما قدراته ..
فآثر التمهل ..
وجّه أصحابه بأن يتحركوا قريبين من بعضهم..
مع أن في ذلك مخاطرة، لكنها في نظره الآن أفضل من التفرق..
أشار لهم برأسه أن يتجهوا ناحية مجموعة من المباني القريبة..
لازال لدى عمّار ذلك الشعور بأنهم مراقبون..
الصمت رهيب..
حتى الرياح تخلت عنهم..
أبت أن تشاركهم رهبة الدخول إلى المجهول..
لدرجة أن كل واحد منهم ظن بأنه يسمع دقات قلبه!!
صاروا الآن في قلب تلك المجموعة الصغيرة من المباني..
متحفزون لأي هجوم سيفاجئهم..
فجأة..
ضج صوت أتى من داخل أحد تلك المباني..
التفتوا جميعا ناحيته..
متأهبين..
وربما خائفين من التالي..!
لمح عمّار ظلاً يتحرك في الطابق الثاني من ذلك المبنى من خلال النافذة ..
زأر عمّار كالأسد "اخرج إلى هنا، لقد رأيتك"
أراد أن تكون المبادرة منه، كي يقطع على الطرف الآخر فرصة التخطيط لأي شي..
كما لم يكن ليخاطر بدخوله أو دخول أحد من أصحابه إلى المجهول، قبل أن يستنفذ أي وسيلة أخرى لتقييم الموقف..
لم يجبه إلا الصمت..
كان متأكداً مما رأى..
"أقسم بالله العظيم إن لم تخرج خلال عشر ثوان من الآن أني سأدخل وأحطم رأسك" صرخ عمّار بهذه الكلمات بكل قسوة أمكنه تحميلها إياها..
انتفضت هند ..
هل ذلك بسبب ما قاله عمّار؟!
أم أن هناك شيء آخر..؟!!
كان هناك شيء في داخلها..
شعور ما..
مع أن هند عاشت بأصعب المواقف التي لم تتخيل في يوم أن تمر بمثيل لها..
وفقدت ثقتها بنفسها وبقدرتها على تقييم الأمور..
إلا أنها الآن تشعر بشعور قوي، لا يمكنها مقاومته..
شيء لم تتمكن من تحديده..
لكنه..
يدعوها للدخول إلى ذلك المبنى..!!
وبانقياد كامل لمشاعرها..
وكأنها منومة مغناطيسياً..
اتجهت هند نحو مدخل المبنى..!!
***
"عشرة..
تسعة..
ثمانية..
سبعة..
..."
كان عمّار قد بدأ يعد الثواني العشر التي هدد بها الموجود في الداخل قبل اقتحامه المكان..
لكنه تفاجأ بهند وهي تمر بجواره متجهة إلى هناك!!!
"المجنونة!!!" قال في نفسه..
كان متأكداً أنها فقدت عقلها بتأثير وفاة صديقتها بتلك الصورة الوحشية والمحزنة..
قبل أن تبتعد عنه مد يده وقبض على عبائتها من الخلف..
مما منعها من التقدم رغماً عنها..
وهو مستمر في العد
"أربعة..
ثلاثة..
..."
حاولت أن تفلت منه لكنه أبى تركها..
وسحبها لتصبح خلفه مرة أخرى..
"واحد.."
حينها، سُمع صوت صرير..
لقد قرر الخروج..
انتظروا خروجه وقد ذابت أعصابهم من التحفز..
ثم خرج صاحب الظل..!
***
جسد صغير يرتجف..
عينان واسعتان دامعتان..
شعر أشعث..
كانت طفلة في الثامنة من العمر..
اندفعت هند نحوها حتى اقتربت منها..
أرادت أن تطمئنها ..
"لا تخافي يا حبيبتي سأعتني بك تعالي" قالته بعاطفة جياشة..
اقتربت من البنت أكثر حتى وصلت إليها وضمتها ..
خالط الشبان شعور بالعطف مع الارتياح لانتهاء الموقف بهذا الشكل المطمئن..
لكن عمّار خشي أن يكون في الأمر فخ..
"أين البقية؟؟" سألها عمّار بقسوة وهو لا يزال واقف في مكانه..
نظرت إليه هند نظرة غاضبة، أرادت أن تقول ألا ترى أنها خائفة..
لكن البنت الصغيرة أجابت وأسنانها تصطك ببعضها "في الداخل"
لما رأت هند بأن لدى البنت استعداد للتحدث سألتها "لماذا لا يخرجون؟"
"لأنهم خائفون" ردت البنت وهي تنظر لهند برجاء..
نقلت هند تلك النظرة إلى عمّار..
هو لا يدري هل تصرف وفقاً لما أملاه عليه عقله في تلك اللحظة، أم وفقاً لنظرة الرجاء تلك..
توجه نحو ذلك المدخل الصدئ ..
دفعه ليتسع لمرور جسده..
ما أن دخل حتى وجد أجساداً أخرى صغيرة..
وعيوناً أخرى دامعة..
ورؤوساً أخرى شعثاء..
***
لما سمعت الفتيات الصغيرات تلك الأصوات التي تنادي، شعرن بخوف شديد..
طلبت منهن المعلمة آمال التجمع في الجزء الداخلي من المبنى وعدم إصدار صوت..
أثناء ذلك اصطدمت إحداهن بقطعة أثاث فوقعت محدثة صوتاً عالياً..
تردد صداه في رأس آمال آلاف المرات..
كأن هذا الصوت يأبى إلا أن يعلن عن وجودهم ..!
تجاذبها من المشاعر اثنان..
أملٌ بالقادم الجديد فقد يكون نجدة..
وخوف من هذا المجهول الذي يمكن أن يؤذي صغيراتها ويؤذيها..
تفقدت الصغيرات لتلاحظ غياب جمانه!
"أين جمانة؟؟" سألتهن وهي خائفة عليها..
"صعدت إلى الأعلى" أخبرتها إحداهن..
"جمانة.. جمانة.." حاولت آمال أن تناديها بصوت مسموع، لكنها تشك في ذلك..
فقد بح صوتها من الخوف، والعطش والإرهاق..
هذه الجمانة دوما تقلقها بتهورها..
فحتى قبل لحظات من الحادث الذي حل بمدينتهم، كانت تبحث عنها في مدينة الألعاب الترفيهية ، فقد ضاعت منها بالرغم من جهاز التتبع الذي يمكنها من تحديد مكان كل الفتاة، لكن جمانة تتفلت من الجماعة وتنقاد نحو فضولها..!! وقد تجاوزت المسافة التي تسمح للجهاز بتتبعها..! فهو مبرمج بحيث يتناسب مع عمر الطفل ونفسيته وظروفه ومستوى نشاطه، بالتالي يعمل وفقاً للتوقعات التي بناها بدقة حسب المعطيات..
لكن جمانة حالة استثنائية، فهي تفوق كل التوقعات العلمية بتصرفاتها وردود أفعالها..
والبرنامج لم يعد بحيث يستوعب الحالات الاستثنائية!!
كانت آمال قد وعدت طالبتها الصغيرات أن تأخذهن برحلة إلى مدينة الألعاب خلال الإجازة..
وكان الأمر مغرياً بالنسبة للفتيات..
فأغلب حياتهن تقوم على نشاطات افتراضية..
لكن ممارسة نشاط حركي ممتع ومع صديقات المدرسة، أمر مميز وجذاب..
كانت الطالبات يحببن معلمتهن لقدرتها على تفهم احتياجاتهن، وسعيها لإشباعها..
لكن الحادث المفجع لم يبقي لها منهن إلا سبعة ..!
وكان عليها الحفاظ عليهن ..
فهي كل ما تبقى لهن من رجاء في هذا الرعب الذي يعيشونه..
ما كانت آمال لتتمكن من فعل شيء لوحدها، خاصة بالوصول إلى هذا المكان..
لولا رحمة الله تعالى ثم مساعدة تلك العائلة لها ولصغيراتها..
شابان وأختهما وزوجة أحدهما..
إلا أن هذا المبنى كان آخر مكان رأتهم فيه..
فقد غادر الشابان بالأمس للبحث عن المؤن..
وعدوهم بالعودة قبل الليل..
لكن الزوجة قليلة الصبر صممت صباح اليوم بالخروج بحثاً عنهما، فاضطرت أختهم للذهاب معها..
وها هي مرة أخرى وحيدة مع صغيراتها..
نزلت جمانة الدرج..
أمسكتها آمال لتنضم إليهم..
وجمانة تقول لها "لم لا نخرج، لقد رأيتهم.."
وآمال تنهاها..
وينصتون لصراخ عمّار..
فتلح عليها جمانة ثانية..
وآمال تنهاها بشدة..
بدأ العد
"عشرة..
تسعة..
..."
قفزت جمانة واتجهت نحو الخارج..
شهقت آمال وقامت مرعوبة للحاق بها، كي تمنعها..
حاولت الإمساك بها لكن جمانة كانت أسرع منها..
كانت أفكارٌ تدور في ذهن آمال في باقي الثواني تلك..
هل جمانة تستعجل مصيرها..
أم أن الإنسان عدو ما يجهل!!
أ لأنها شاهدت من بالخارج شعرت بأنها تعرف ما تواجه فاطمأنت..
أم أنها شخصية جمانة التي تأبى الخضوع والاستسلام للخوف..
كانت جمانة قد وصلت إلى الباب..
"واحد.."
فتحت الباب..
تعالى صوته الصدئ..
أخرجت جمانه قدمها..
لم تدرك آمال بأن أنفاسها كانت محبوسة..
كان تفكيرها مشوشاً، كيف ستحمي صغيراتها، وكيف ستنقذ جمانة..
لحظات صمت..
سمعت أصواتاً..
كان صوت جمانة بينها..
تقدمت باقي الفتيات فقد بدا لهن الأمر ليس مخيفاً كما ظنوا..
وحينها أطل عليهم ذلك الرجل برأسه ونظر إليهن نظرة أسى..
وانتبه لتلك السيدة التي كانت تغطي وجهها باللثام لحظة دخوله..
***
أذّن أحد الشبان، اجتهد في تحديد القبلة دون أن يكون متأكداً..
أدوا صلاتي الظهر والعصر جمعاً وقصراً..
فهم في سفر لا يدرون متى سينتهي، ولا إلى أين سيقودهم!!
فتش عمّار ومن معه في المباني القريبة عما يؤكل..
كان هناك القليل جداً مما يمكن أكله..
فأغلب هذه المباني فارغة..
والقليل الذي يجدونه يكون غالباً غير صالح للأكل..
أما الماء الذي معهم فقد أغاث الصغيرات ، ولم يتبق معهم منه الكثير..
كان يجب البحث عن بدائل..
والوقت ليس من صالحهم..
لكن الآن الحركة في نظر عمّار صارت أسهل بداخل المدينة..
فيمكنهم السير معاً والبحث، والمبيت في أي مبنى متاح عند حلول الظلام..
ولا يضطر لترك أحد خلفه..
كان يشعر بأنه مسؤول عنهم جميعاً..
وإن لم يطلب منه أحد ذلك..
لكن واقع الحال فرض عليه هذه المسؤولية..
ولا يمكن أن يتخلى عن أحد هو في حاجة إليه..
لا يمكن..
***
ازدادت حالة طارق سوءاً..
مزق قلوبهم بأنينه وصراخه..
كان يتألم أيما ألم..
بكت الصغيرات ..
حملوه لمبنى آخر..
كان يعاني بشدة..
ولم يكتب الله تعالى له النجاة..
***
تحركوا جميعاً موغلين داخل المدينة..
ليبحثوا عن نجاتهم ..
والعجيب أنهم يبحثون عنها في ماضيهم..!
يفتشون فيه..
يقلبون صفحاته..
يبحثون في ملامح غريبة عنهم عمّا يمكّنهم من الاستمرار في العيش في حاضرهم!!
الماضي الذي تخلى عنه آباؤهم..
دون أن يهيئوا أبنائهم لتلك العودة..
هل خطر ببال أحدهم أنهم سيحتاجون لهذا الماضي الذي هجروه؟؟
جميعهم ظنوا بأنه لم يخطر في بال أحد ذلك حينها..
إلا أن عمّار يعلم أن هناك من خشي قدوم هذه الساعة..
وحذّر منها..
ورفع الصوت..
لكن ذلك الصوت لم يكن مطرباً للبعض..
فاختنق..!
***
مروا بكثير من المباني..
أحجام مختلفة، ألوان متباينة، بعضها عليها لوحات كتب عليها نوع الخدمة المقدمة بطريقة غريبة..
لو كانوا في ظرف غير هذا الظرف لرأوها مضحكة..
لكنهم الآن لا يبحثون عما يضحكهم..
ولكن عمّا يبقيهم أحياء..!
بنهاية النهار تقرر بقائهم في أحد المباني التي يبدوا أنها كانت محل تموين في يوم ما..
فأرففها توحي بذلك..
فضلاً عن بعض صناديق الكرتون المتبقية..
وجدوا في بعضها قوارير ماء..
واقتسموا بعضها فيما بينهم..
مع إعطاء الصغيرات الحصة الأكبر..
وفي صندوق آخر وجدوا نوعاً من الطعام المجفف الذي التهموه دون تردد..
أما باقي الصناديق فلم يكن فيها ما يخدمهم..
أذّن (مؤذنهم) إعلاناً بدخول وقت صلاة المغرب..
خطرت لهند فكرة..
خرجت إلى الشارع الإسمنتي الذي تغطى بالرمال..
شاهدها عمّار وتبعها مندهشاً..
"إلى أين تنوي الذهاب هذه المجنونة؟!" تساءل في نفسه..
شعر أنها ستكون مصدر تعب له..
تبعها..
رأها تتجه للناحية الأخرى من الشارع..
سألها "إلى أين؟"
"المكتبة" قالت بدون أن تتوقف أو تلتفت إليه..
"ولماذا تريدين الذهاب إلى المكتبة؟" سألها بعد أن تيقن أنها جنت..
"أظن أن فيها ما يمكن أن يسهل علينا الحركة والبحث"..
أراد أن ينهرها ، وأن يعيدها..
لكنه لم يرغب في ذلك..
فما يضيره إن مارست شيئاً من جنونها..
فهو يشعر بتعاطف كبير نحوها..
فما عانته ليس بالقليل..
بل ما عانته يصعب على أقوى الرجال احتماله..
ومادام معها فلن يقلق عليها..
على أن يعودوا قبل تمام غروب الشمس..
ثم إن شعورها وإن خاب مرة، فلم يخب في الثانية..
تذكر كيف شعرت بجمانة قبل أن تخرج من ذلك المبنى في منتصف النهار..
كان المبنى مقفل، والزجاج الخارجي متسخ إلى درجة لم يتضح ما بداخل المكان..
طلبت منه أن يكسر الزجاج..
أطاعها وكسر أحد الألواح الزجاجية مما أتاح لهما الدخول..
لا يدري كيف عرفت أنه مبنى مكتبة..
خطر له أنها تتعامل مع كل شيء بأحاسيسها..
لا يعلم بعد ما الذي تريده من المكتبة..
أخذت وقتاً وهي تبحث بين الأرفف..
استعجلها "سنتأخر على موعد صلاة المغرب"
"صلها مع العشاء جمع تأخير" ردت عليه دون تردد..
إذن هي لن تستعجل، عرف بأنها مصممة على الوصول لما تبحث عنه..
فلم يشأ أن يكسر خاطرها..
فانشغل في تفتيش الأدراج الخشبية الموجودة..
ربما يجد شيئاً مفيداً..
وفعلاً وجد كشافاً قديماً في نهاية درج أول مكتب..
وبعد عدة ضربات أضاء ذلك الكشاف..
فرحت هند "أحتاجه لو سمحت" سحبته من يده قبل أن يتمكن من قول شيء..
عاد يبحث في بقية الأدراج ووجد كشافات أخرى..
واستمر بالبحث عمّا يخدمه، وهند تبحث من جهتها..
***
أحبت هند الاطلاع على صور المدن القديمة في البلاد..
كانت تشعر بأن لها نكهة خاصة..
وقد عرفت شعار تلك المكتبة القديمة التي كانت مشهورة في ذلك الوقت..
قبل أن يستغني الناس عن الكتب ويستغنوا عن مكتبة للذهاب إليها..
فكل شيء يصلك في مكانك..
عندما وصلوا هذا الشارع في مسيرهم آخر النهار، شاهدت شعار المكتبة على تلك اللوحة شعرت بأنها تذكرها بشيء، لكن لم تسترجعه..
بعد قليل تذكرت ما يكون..
فقررت البحث عن أي شيء يمكن أن يدلهم في المدينة..
خريطة، دليل سياحي، أي شيء يجعلهم يعرفون كيف يتحركون..
ساعدها ضوء الكشاف كثيراً للتحرك أسرع..
"وجدتها" قالتها فرحة..
اقترب عمّار وهو يسأل "ماذا وجدت؟ " لا زال يشك بسلامة عقلها..
"خريطة هذه المدينة، يمكننا أن نحدد حركتنا الآن"
بداية شعر عمّار بأنه لم يفهم ما غير مزاجها هكذا فجأة..
استغرق بعض الوقت كي يستوعب ما تقول..
كانت فرحة باكتشافها..!
بالرغم من الحزن الذي يعصر قلبها على هيفاء، لكنها صارت الآن تفكر بجمانة، وبصديقات جمانة..
كان ظهور تلك البنت أمامها في تلك الصورة كالغيث لممشاعرها..
لا يمكنها أن تفكر الآن بأي شيء يوقفها عن حماية جمانة..
فهي أولويتها الآن..
***
سهروا تلك الليلة وهم يدرسون الخريطة، وحاولوا تحديد مكانهم عليها بالتقريب، حسب ما عرفوا من أماكن مروا بها..
وضعوا علامات بالقلم على الأماكن التي سيستهدفونها ، كانت أهدافهم المستشفى، والمخازن الغذائية ، و(برج الماء) الذي لم يفهموا بالضبط ما يكون لكن يكفيهم اسمه ليجذبهم إليه..
***
في اليوم التالي تحركوا يدفعهم الأمل..
وصلوا إلى أحد المخازن الغذائية أخيراً..
لكن كان هناك من سبقهم..
كان الزجاج الخارجي الذي يمثل واجهة المخزن مكسوراً..
والواضح أنه كـُسر حديثاً..
أشار عمّار لهم بالبقاء وحراسة الفتيات..
اتجه مع اثنين من أصحابه للاستكشاف..
دخل وهو ينادي على من بالداخل..
لم يكن متأكداً من وجود أحد، لكن الفوضى توحي بذلك..
من مكانها، رأت هند ذلك الذي تسلل من خلف عمّار وبيده شيء ثقيل..
"سيضربه!" قالت في نفسها..
"عمّااااااااار خلفك" صرخت هند..
مع أن مهاجم عمّار كان يملك عنصر المفاجأة، وكان يمكنه ضربه قبل أن يجد وقت الاستجابة للصرخة..
لكن الواضح أن هذا المهاجم متردد، خائف، لا يدري ما يفعل..
لذا عاجله عمّار بأن مسك ساعده ولفه وأوقع ما بيده ثم ألقاه على الأرض..
كان الشاب الصغير خائفاً..!!
***
بعد ثلاثة أيام وجد عمّار نفسه مسؤولاً عما يزيد عن سبعين شخصاً ممن وجدهم في المدينة القديمة..
واحتمالية زيادة العدد واردة..
فالمدينة كانت ملاذ الناجين ، بعد الله سبحانه وتعالى..
ولا يمكن لفرد ولا لجماعة صغيرة العيش لوحدهم والاعتماد على أنفسهم في مثل هذه المواقف..
كما لا يدرون كيف يتصرفون أصلاً..!!
كل هؤلاء بحاجة لوجوده، ليس للحصول على بعض احتياجاتهم الضرورية فحسب ، وإنما لإشعارهم بالأمان..
فالواضح أن البحث عن الأمان صار له الأولوية..
وذلك زاد عمّار حرصاً على البحث عن ملاذ آمن، حتى يُحدث الله تعالى بعد ذلك أمرا..
***
حددت هند على الخارطة مكاناً ما، كانت تشير إلى المكان الذي يجب أن يتجهوا إليه..
كان عمّار يعرف بأنها لا تعطي رأيها فقط، وإنما تعبر عن رغبتها..
فإن كان لدى عمّار مشكلة في التعبير عن نفسه ، فإن لدى هند القدرة على التعبير عمّا تريد، وبكل وضوح..!
إنها مقتنعة تماماً بهذا المكان، وإن لم يذهب بهم إليه، فلا يستبعد أن تذهب لوحدها بحماقتها التي ألف!!
|