كاتب الموضوع :
متفائلة دوما
المنتدى :
الارشيف
الجزء التاسع
~~ ( 9 ) ~~
لم ينم العميد عبدالله تلك الليلة..
فقد صدمه كلام أحمد وأشغله..
فعلا ً، مادام يستطيع أحمد الدخول على النظام ولم يرده شيء، ولم يُكشف هذا التسلل..
بل لم يشك أحد بذلك حتى..
فالأمر أخطر مما يمكن تصوره..
فلو تمكن شخص يحمل نوايا سيئة، أو حتى شخص غير مسؤول عن تصرفاته..
لو تمكن من الدخول على النظام الأمني الكترونياً، فلا يمكنه أن يتصور حجم الخراب الذي سيحدثه ذلك..
قبل الفجر بقليل صلى صلاة الاستخارة..
قرر أن يرفع إلى اللجنة يطلب منهم مقابلة أحمد لشأن أمني، ليشرح لهم بنفسه وجهة نظره..
***
بعد ست ساعات من رفع العميد عبدالله الطلب كان هو وأحمد يقابلان اللجنة لشرح الموضوع..
فقد كانت المذكرة التي رفعها عبدالله مختومة بسري وعاجل..
مما يعني أن يتم الاجتماع خلال أقل من ست ساعات من إرسال المذكرة..
افتتح العميد عبدالله الاجتماع بالتذكير بأهمية، بل محورية الدور الذي يقومون به، وعظم المسؤولية الملقاة على عواتقهم..
وبأن عليهم التأكد تماماً من عدم ترك أي مجال للخطأ في أي حال..
ثم عرّفهم على أحمد ودوره السابق في أحد اللجان ، ووضح لهم أن لدى أحمد مخاوف أمنية في المدن الحديثة..
وقبل أن يطرح أيٌ من الحضور تساؤل عن ماهية هذه المخاوف، طلب من أحمد أن يشرح للجنة بالتحديد سبب تخوفه..
وأن يوضح لهم بالتفصيل ما حصل..
بدأ أحمد بالحديث..
وأثناء الحديث كان يشرح للحضور بعض الأمور من خلال شاشة العرض التي سمح العميد عبدالله بتوصيلها بحاسوب أحمد قبل بدء الاجتماع..
أخذ أحمد يشرح وهو يحاول تبسيط الأمور بقدر المستطاع، لعلمه بأن الغالبية هنا لا تفقه فعلياً في الأمور التقنية الفنية الدقيقة للأمن المعلوماتي..
أسهب أحمد بالشرح، حتى تململ أحدهم وقاطعه قائلاً "طيب يا أستاذ أحمد، فهمنا كيف يعمل النظام.. إلى أين تريد أن تأخذنا بحديثك هذا.."
كأن الآخر لم يصدق أن يجد أحد متضايق مثله ليقول "لا أتصور أن يتم استدعائنا بمذكرة من مستوى سري وعاجل من أجل هذه المحاضرة التثقيفية يا سيادة العميد.." حاول أن يحمل حديثه ما استطاع من تهكم، لعله يخفف من حدة ضيقه..!
تحرج العميد عبدالله، إلا أن أحمد لم يبد عليه أدنى اهتمام..
التفت العميد ناحية أحمد وحثه على أن يركز على صلب الموضوع..
ابتسم أحمد وهو ينظر إليه، ثم إلى بقية الأعضاء الحضور..
"سأصل الآن إلى صلب الموضوع، ومتأكد بأنكم لن تخطئوا أبداً ما أقصد..!"
"أمامكم الآن على الشاشة الجزء الشمالي الغربي من أكبر المدن التي تم الانتهاء منها تقريباً وسينتقل الناس للعيش فيها خلال أسابيع فقط.."
كان المنظر لتصوير عمودي ثلاثي الأبعاد، والبث مباشر من الموقع كما يظهر من الرمز على طرف الشاشة..
أكمل أحمد " والآن .."
ضغط على عدة أزرار في حاسوبه باحترافية عالية، ثم ...!!!
لم يعد يظهر لهم على الشاشة إلا الشظايا والدخان..!!
تجمد جميع أعضاء اللجنة، بما فيهم العميد عبدالله..
كان الصمت رهيباً، لا يسمع منه إلا أصوات ضربات القلوب التي علت!!!
لم يكن ما رأوا شيئاً مفهوماً لدى أحد منهم..
قد يكون مشهداً افتراضياً أعده أحمد لهذا العرض..
لا زالوا تحت الصدمة..
وينتظرون أن يوقظهم أحد ليخبرهم عن المشهد الافتراضي الذي شاهدوه قبل ثوان..
إلا أن أحمد أيقظهم من صدمتهم، ليتأكد من أنهم فهموا ما رأوا..
"سأعيد لكم المشهد هذه المرة بالتصوير البطيء.."
وظهرت لهم عملية الانفجار التي لم يشاهدوا مثلها من قبل..
لم يكن انفجاراً مركزياً مثل كل الانفجارات..
بل كان وكأن في كل سنتمتراً من المدينة قد انفجرت قنبلة صغيرة ، وفي وقت واحد..
فنتج عنه هذا الاندفاع الهائل لكل الجزيئات المكونة لغلاف المدينة الخارجي..
ثم أعاد لهم البث المباشر لنفس الموقع، بعد أن هدأ الوضع وتساقطت الشظايا..
ليشاهدوا المأساة التي خلفها الإنفجار..
الإنفجار الحقيقي!
بقايا مدينة كانت..!!!
أخذ أحمد يضحك بهستيرية، وهو يقول "عرفتم الآن بالضبط ما أرمي إليه..! أليس كذلك.." ويتابع ضحكه الهستيري..
لقد تحول ذلك الجزء من المدينة إلى لا شيء..!
***
تم إلقاء القبض على كلاً من العميد عبدالله والأستاذ أحمد، وتمت محاكمتهما بتهمة الخيانة الكبرى..
وأودعا السجن لفترة طويلة..
***
عندما تم القبض على عبدالله، لم يكن موضوع افتراق عمّار عن والده أمراً جديداً..
فوالده كان كثير التغيب بسبب طبيعة عمله..
لكن الذي أثار غضبه التهمة الموجهة إلى والده..
هو يعلم أن مقدار حب والده لدينه ولوطنه لا يمكن قياسه..
ويعلم أن إخلاصه لعمله يصل به إلى درجة أن يقدم نفسه على أي شيء آخر..
فأن يتهم والده بالخيانة..!
هذا ما لن يصدقه عمّار أبداً..
ولن يقف مكتوف الأيدي هكذا..
بالرغم من عدم تمكن عمّار من معرفة التفاصيل..
حيث تم التحفظ عليها..
حتى أن والد عمّار كان قد وقـّع على تعهد بعدم البوح بما حصل إلا لمن يمثله قانونياً فقط..
لذا قرر عمّار أن يتخصص بالقانون..
لأن قضية والده ستكون قضية حياته..
***
مضت عدة سنوات..
وفي المدينة الحديثة التي انتقل إليها سكان مدينة عمّار ووالده..
عمل عمّار كمتدرب في مكتب قانوني لمحامي كبير وذائع الصيت..
كان الأستاذ فريد ، صاحب المكتب القانوني، هو من تولى قضية والد عمّار..
وسعى جاهداً لتخليصه من الورطة التي وقع فيها..
بذل الكثير من الجهد والوقت..
ولا يزال..
منذ أن قرر عمّار أن يصبح محامياً، أخبر الأستاذ فريد بذلك..
تمنى له الأستاذ فريد التوفيق..
وكان داعماً له دوما..
تدرب عمّار في مكتب الأستاذ فريد ..
وبالرغم من تعاطف الأستاذ فريد مع عمّار ، إلا أنه كان يقسو عليه كما يقسو على القلة الذين يسمح لهم بالتدرب عنده..
فهو يريد لعمّار كل نجاح يمكنه أن يسهم في دفعه إليه..
لأنه وجد فيه روح الإصرار، وحب الحق والعدل..
والصبر..
وأهم ما تحلى به عمّار هو الصبر..
فهو مرتكز النجاح والوصول إلى الغايات..
فالشهادة وحدها ليست كل شيء، إن لم يكن معها اجتهاد وتعب لتصبح الشهادة متوجةً لجهوده..
لا أن تكون كالكماليات التي يتفاخر بها البعض..
وهذا ما يراعيه الأستاذ فؤاد عند تدريب طلاب القانون لديه..
***
كان عمّار يعمل ليل نهار، دون كلل أو ملل..
حتى حصل على رخصة مزاولة مهنة المحاماة، وصار عضواً في نقابة المحامين بتزكية من أستاذة..
صار عمّار قاب قوسين أو أدنى من تحقيق ما يرنو إليه..
أو بالأصح، لمسك طرف الخيط ..
بالرغم من كل ما تحمله في مسلكه هذا، لم يتصور عمّار قدر التشابك الذي سيعلق به في خيوط قضية والده المعقدة..
***
عندما وصل خطاب عمّار إلى والده الذي يخبره فيه بنجاحه الأخير..
كان عبدالله سعيداً بقدر سعادته بقدوم ابنه عمّار إلى الحياة ..
بقدر ما يقهره حرمانه من ابنه، وحرمان ابنه منه في أيام الشدة وأيام الرخاء معاً..
وبقدر ما أفرحه نجاح ابنه، وتمكنه من مواجهة صعاب الحياة بإصرار..
لكن في نهاية الخطاب أمرٌ أقلق عبدالله كثيراً..
كتب عمّار "ستكون قضيتك هي القضية رقم واحد في حياتي، ولو تطلب مني ذلك حياتي المهنية كلها.."
"هكذا سيحطم ابني حياته..!" همس عبدالله لنفسه..
وأخذ يفكر للبحث عن مخرج..
يجب أن لا يتدخل ابنه في هذه القضية..
فالموضوع أكبر منه ومن ابنه..
فحتى لو أنه كان كبش فداء، لكنه لن يجعل ابنه يلحق به هو الآخر..
فالجهة التي ورطت عبدالله لن تسمح لأي كان بالوقوف في طريق تحقيقها لأهدافها..
لم يكن أمام عبدالله إلا أن يطلب مقابلة محاميه، ليتولى هو هذه المهمة..
يجب أن يبتعد عمّار عن هذا العالم الذي لا يرحم بأي ثمن..
***
لم يكن السجين عبدالله هو من منع ابنه من تولي القضية..
بل الجهات الرسمية، رأت في تسلم ابنه لقضيته زعزعة للأمن القومي..
فالعاطفة ستتدخل هنا وستجلب مشاكل لا يسع للبلد احتمالها..
لذا تم رفض طلبه دون إبداء الأسباب..
***
كاد عمّار أن يجن عندما رفض طلبه..!
وكيف له أن لا يفعل، وهو يرى جهد سنوات عمره..
كل ما خطط له في حياته..
بل حلمه..
ينهار بقرار مخطوط في ورقة واحدة..!!
شعر عمّار بمزيج من الغضب والقهر يعتصران قلبه..
لم يكن عمّار ليستسلم عن الوصول لما قضى شطراً من حياته لتحقيقه..
لن يعجزه رفض الطلب عن التوصل إلى طريقة أخرى..
***
بعد عدة أشهر، تم إلقاء القبض على عمّار..
بسبب وصوله إلى معلومات أمنية سرية بطريقة غير مشروعة.!
حكم على عمّار بالسجن ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة..
في السجن، تعرف عمّار على هيثم الذي صار صديقه المقرب..
صديقه الذي هو في نفس الوقت، سجانه..!
***
كانت هند قد أثارت غضب عمّار بحق..
فقد تلاعبت بمشاعر الناجين بأكثر مما ينبغي..
كانت كمن رفعهم لأعلى سماء، ثم دفعهم إلى الأرض بكل قسوة..!
ثم، ها هي تعاود الكرة وكأنها تلعب بدمى!!
لن يسمح لها بتكرار ذلك، خاصة بعد حالة الإحباط التي أصابت الناس..
صحيح أنه غالباً ما تقنعه بما تريد، لكنه هذه المرة لم يعطها الفرصة حتى للتوضيح..
"هكذا أفضل للجميع" قال يقنع نفسه..
مع أنه كان يشعر بالغضب..
منها، ومن نفسه..
لماذا يقف كثيراً عند الأمور التي تتعلق بها..!
لم يشأ أن يفكر بتعليل لذلك، خوفاً من أن يجرفه التفكير لما لا يود معرفته..!
***
بدأ أبو خليل بتنفيذ خطته على نطاق ضيق..
لا يريد أن يتسرع فلا تأتي الأمور كما يريد..
إن هو بقي هادئاً ، وتروى في التنفيذ، فستنجح خطته بالتأكيد..
كان قد حدد الموقع المناسب مسبقاً من خلال استطلاعه للمدينة..
وقد حدد بذهنه مسبقاً من يريد أن يشرك معه من الناجين..
ورمى بشباكه عليهم..
الآن، حان وقت جذب الشباك..!
المعطيات من حوله أوحت له بأن الوضع الذي هم عليه سيطول، إن لم يستمر..
والذكي هو الذي يستغل الفرص أفضل استغلال..
كان في الطرف الشمالي من المدينة منزل كبير جداً..
مما كان يصنف كقصر في الماضي..
مبنى رئيسي كبير جدا، ملحق به عدة مبانٍ أخرى..
في وسط ساحة واسعة ، مليئة بأشجار النخيل وبعض الأشجار الأخرى المهملة..
وفيها بئر جوفي أيضاً..
وأهم ميزة في هذا القصر، السور العالي الذي يحيطه..
تلك ستكون مملكته..
وهؤلاء المغفلين سيكونون حاشيته..!!!
لكن البداية دائماً هي أصعب جزء، ولن يسمح لشيء بأن يتسبب في تعثر مخططه..
حتى لو كان حماسه الشديد..
بالرغم من أنه وضع خططه لأكثر من سيناريو محتمل..
كلها تقوده لتحقيق هدف واحد..
سيحكم هذا العالم الذي يحاول تكييف نفسه..
وسيجعل ابنته أسعد فتاة في العالم..
الم تكن والدتها – رحمها الله – تتهمه بإهماله لابنته الوحيدة..
بسبب انغماسه في الملاهي ، ثم فوات فرصة العمل الجيدة عليه..
الآن فرصته لإثبات حبه لابنته..
وإثبات استحقاقه للأبوه.. لنفسه قبل الآخرين!!!
|