كاتب الموضوع :
زجاجة عطر
المنتدى :
الارشيف
لا يرُى النور
نزف قلب
1-1
اعتاد الجلوس أمام منزله عصرية كل يوم ؛
ليرتشف فنجان قهوته المرة كمرارة سكنت أعماق روحه
وطبعها الزمن على تقاسيم وجهه بكل قسوة ..
يستمتع بمنظر المارة باختلاف أشكالهم وأعمارهم ,
ليعاوده الإحساس بالحياة الذي هجره منذ سنين خلت ..
كل يوم يتكرر المشهد ذاته ,يجلس على كرسيه
وأمامه فنجانين ؛ للقهوة وللشاي
يبتسم لهذا ويتجاذب أطراف الحديث مع ذاك ,
يقرأ جريدة كتاب أو حتى مجلة ..
محاولا بذلك تسلية روحه الممزقة
حزنا على اسم ارتبط به وكنى به منذ مولده
ولم يحظى برؤية حاملا له حتى الآن ..
تنهد بحزن وهمس وكأنما يذكر نفسه
: لكنك وعدتها يا جاسم ووعد الحر دين والرجّال ما يخلف وعوده..
عندما يصل تفكيره إلى هذه المرحلة يجبره
قسرا بالعودة إلى الحاضر فما مضى قد مضى
ولن يستطيع الإفلات منه
من هذا المصير الذي رسمه لنفسه
بكامل قواه العقلية بعيدا عن أي ضغط
وحتى لو كانت هي من أصرت في البداية
فقد كان بإمكانه أن لا يوافقها على ما تريد
ولكنه وعدها ولم يكتف بذلك أبدا ..
نفض كل الأفكار من رأسه فبعد هذه السنين
لم يعد يستطيع التحمل ويخشى بأنه سينكسر
إذا ما فتح المجال لذاكرته بالرجوع
لتنبش جروح آن لها أن تلتئم و نزف آن له أن يتوقف ..
فهو يثق أنه وإن عاد الزمان إلى الوراء لن يفعل
أقل مما فعله في السابق لذا الندم لا محل له في قاموسه أبدا ...
علت وجهه نظرة استغراب ودهشة
لرؤية يعرب يخرج من المستشفى لتوه
و توجس مما قد يكون أخره في الداخل
فيفترض به أن يكون قد عاد لمنزله منذ الصباح
ولأنه يعلم من هو يعرب وكم هو حريص جدا
على عدم تضييع ولو ثانية من
إجازته داخل حدود المستشفى..
لذا كانت رويته في مثل هذا الوقت
ليست بالشيء الطبيعي فلو افترض
أن هنالك عمل ما فلا يتصور بأنه يمكن
أن يجعل يعرب يتأخر لدقائق
فهو لا يضحي بهذه الإجازة مطلقا..
لذا تأكد أنه لابد من أن أمر بالغ الأهمية
قد طرأ ودعا يعرب إلى التخلي
عن ساعات من إجازته الأسبوعية
ارتجل ليذهب لسؤاله فهذا اليعرب
استحل مساحة ما في إحدى حجرات قلبه العجوز
ولفقده الإحساس بالأبوة صب جل اهتمامه
في العانية بيعرب وغيره من الشبان ..
جاسم : السلام عليكم
أجاب يعرب بنبرة واثقة وهدوء
: وعليكم السلام كيف حالك يا عمي ؟
همس: الحمد لله
ثم تابع بصوت أعلى أشوفك يا عمي مضيع خميسك
ضحك بتوتر فهو يعلم أن العذر الذي سيقوله قد لا يقنع جاسم
ذلك الأب الحنون العطوف
كم تمنى أن يكون ابنا لهذا الرجل العظيم
الذي بالرغم من غناه وشدة ثراءه
إلا أنه متواضع و لين في تعامله
يذكر أنه حينما كان يمشي قبل سنوات
بجانب منزل جاسم حينها كان يائسا من حياته
فجاءه جاسم بدنوه منه
فهو آنذاك لم يكن يظن أن أحدا سيحادثه ببساطة
ودون أية حدود خصوصا عندما يكون
كجاسم غني ويملك كل ما يريد
أعاده جاسم إلى حاضره
:يعرب
: ايوا يا عمي معاك , ضيعت خمسي عشان
كان عندي شغل ما يتحمل التأخير
نظر له جاسم باستنكار ولم يرد عليه
فهو ليس بالطفل ليصدق كذبة كهذه
ولم يرد أن يحرجه بإلحاحه في السؤال
ابتسم يعرب وأخذ يقبل رأسه
ويديه باحترام وتوقير كبيرين وعميقين
ثم قال بمرح يشوبه التوتر
: يلا يا عمي مع السلامة خليني ألحق على باقي
خميسيالي ما بقي منه شيء أساسا
ابتسم حينها جاسم وهو يقول
: بحفظ الله
و من بعدها عاد للجلوس على مقعده الأثير
يتابع خطوات الآخر الذي لم يكن يبعد بيته
عن المستشفى سوى مسافة قصيرة جدا
وحينما ابتعد عن محيط عينيه أعاد نظره
إلى باب المستشفى وتساؤل جديد
قد استولى على تفكيره وتوتر ذاك كان ملهمه
حول أن الشغل الذي لم يكن يحتمل التأجيل
لم يكن اعتيادي أبدا ..
أسند ظهره إلى كرسيه وهو يفكر ..
في الأعلى كانت نظراتها تلتهمان وجهه بدقة وألم
تزيح طرف الستارة قليلا وتراقبه
اعتادت فعل ذلك مثلما اعتاد هو الجلوس
أمام المنزل هربا منها أو ربما يريد أن يرى الحياة
التي فقدت بأجمل معانيها من هذا المنزل الغارق في الحزن والبؤس ..
منذ وفاة والدته لم يغادر الحزن قلبه و لا أركان هذا المنزل ..
مخلص هو في حمل الألم والحزن
وكأنما كتب لروحه عدم التحليق بكسر جناحيه
لينطفئ فيها هي كل أمل من أن يتغير الحال
و من أنه قد ينثني عن قراره يوما ما ..
وعندما لم يعد قادر على العمل
استقالت هي لتقابله وتشاركه آلامه
بصمت صحيح أن آلامه لم تكن جسدية
وهو والحمد لله يتمتع بصحة جيدة
نظرا لمن في مثل سنه إلا أن آلام روحه أكبر من أي آلام ...
أسدلت طرف الستار الذي كانت ممسكة به
بسرعة وأخذت تركض نحو الأسفل فما رأته غريب غريب جدا
لأول مرة تراه منذ زواجهما يحادث فتاة
وما إن وصلت إلى الباب تنبهت لنقطة قد غفلت عنها
ما هو السبب الذي قد يجعلها تنزل
فلا تريد أن يظن جاسم أنها تغار بل تريده
أن يعرف أنها نزلت لإشباع فضولها
تابعت سيرها نحوه بعد ارتداء حجابها
لم يدعها تسأله فما إن رآها حتى التفت وهو يقول
جاسم بقلق
: شوفي هذي البنت تتكلم مدري
ايش تقول سألتها بفهم بس ما سمعت شيء
نوره وقد انتقل القلق ذاته إليها
: طيب أنا بسألها ويا رب تجاوب
ما أن انتهت جملتها حتى تحركت صوب تلك
سمعتها تمتم بكلمات وكجاسم لم تفقه شيء مما تقول
سألتها عن اسمها لم تجب حينها أدركت أن هذه
تعيش حالة هذيان ولا تعلم ما تقول
فعادت لجاسم
نوره: البنت مو في وعيها
جاسم : أصلا واضح
نوره : طيب ايش راح نسوي
جاسم بثبات : أكيد بنخليها عندنا
نوره بتفكير : طيب نحنا ما نعرف أهلها
ولاشيء ايش راح نسوي
جاسم : يعني نرتكها في الشارع
نوره : لا بس كمان ما ينفع تجلس عندنا
جاسم : مؤقتا نوره فكري بعقلك هذي بنت صغيرة
لو تكرتناها في الشارع ما بنضمن ايش ممكن يصير لها
نوره : طيب خلاص أمري لله ..
اقتربت منها استحثتها على المشي و مرافقتها
لبيتها وكما توقعت قبلت دون أدنى اعتراض
|