احتضنت بعينيها جدران وزوايا تلك البناية القديمة , مسحت بنظراتها كل ركن فيها . يا إلهي كأنها غادرت هذا المكان بالأمس واليوم تعود !! , لا شيء يدل على مرور الزمن هنا , حتى عمود النور ذاك ما زال مكسور كما رأته آخر مرة من خمس سنوات , وها هي ذي رسوماتها الطفولية على حائط البيت ما زالت باقية !! , غادرة هي عقارب الزمن , تسرق اللحظات منا دون أن نشعر وتوهمنا في نفس الوقت بأن لا شيء تغير , جاءها صوت زوج عمتها أبو عامر
- نورت المدينة .. مرحبا بمن وصل
- مرحبا بك ألف يا أبو عامر , أشقنا !!
- نحن أكثر يا أبو شمس
ثم خاطب نادية بسعادة
- والنور اليوم اكتمل بحضور ست النساء !!
- ألف شكر يا عمي , النور نورك !!
- تفضلوا جميعهم بالانتظار , جدتك ملهوفة للقائك !!
*..*..*..*
وقفت أمامها تتأملها والدموع تتراقص في محاجرها , تقلبات الزمن تبدوا واضحة على صفحة وجهها الحنون , هي الوحيدة التي جعلتها تشعر بطول المدة التي غابتها , أقبلت عليها وارتمت في أحضانها بحب , يا الله ما أشد شوقها وحنينها لجدتها . لم تستوعب بعد أنها بين أحضانها
جاءها صوت جدتها المرتعش
- أخيرا يا نادية !! , خفت أن لا أراك قبل أن أموت !!
- أبعد الله عنك الشر يا جدتي , أنا آسفة , سامحيني !!
- صدقا كنت غاضبة منك !! , ولكن ليس بإرادتي , فشوقي لكِ هو الذي أغضبني !! , أما الآن , لا يهم , كل شي ذهب , أنتِ الآن أمامي , أصيحتي عروسة يا نادية !! , أخبريني ماذا فعلتي في كل تلك السنين !!
*..*..*..*
في ركن آخر من أركان المنزل نوال تحاول بكل أسلحت الأنثى أيقاظ عامر ابن أخيها
- عامر !! أستيقظ أيها الكسول
- يا إلهي أرحمني من هذه المرأة !!
- لا لن يريحك مني , فأنا عملك السيئ أيها البائس !!
- ذكريني فيما بعد أن أضحك على تلك النكتة !!
- عامر حقا إنني أسمع صوتهم بالأسف , لقد حظروا وما زلت نائم !!
أعتدل في جلسته ونظر إليها بعينين نصف مفتوحتين وخاطبها بكسل
- لا عجب بأن زوجك يجعلك تنامين عندنا بالأسابيع !! ,
- ما أخف دمك , هيا خلصني , أبوك يريدك بالأسفل !!
- حسنا حسنا , فهمت , سوف انزل , هيا انصرفي ,
غادرت وهي تعلم أنها ما إن تغادر الحجرة حتى يعود للنوم , فما لبثت أن عادت وفتحت الباب بقوة وهي تقول له
- أقسم أنني سوف اخبر أباك !!
- إلهي, أرحمني من تسلط النساء !!
ثم قذفها بالوسادة بغيض
لقفتها بيدها وقالت ضاحكة
- لن أتركك اليوم , أتفهم !!
ثم قذفته بدورها بالوسادة , وغادرت ضاحكة .
*..*..*..*..*
وقف مأخوذا في مكانه هل هي فعلا من رآها ؟؟ , أم أنه ما زال تحت تأثير النعاس !! , هل هي نادية حقا !! , هل جاءت معهم هذه المرة !! , أنتبه على صوت عمته تصيح به
- هيه , لماذا تقف هنا !!
- نادية جاءت معهم !!
اقتربت نوال وسحبته من يديه وقالت بلوم
- ويحك اخفض صوتك , نعم لقد جاءت معهم !!
- إذا من رأيتها كانت هي نادية !!
- عامر !! , دعك من هذا الكلام الآن , أبوك يريدك , أذهب إليه الآن .
وغادرته وهو ما زال على وضعيته الأولى , يفكر في نادية , حبيبة الطفولة والمراهقة ... نادية التي تصر على رفضه مرارا وتكرارا بلا أي سبب واضح ... ساد الحزن كل ملامح وجهه ... لماذا رآها الآن !! , حتى تعكر صفو يومه !! , هو في لهفة لأن يراها .. لكنه مجروح منها , من صدها المتكرر له , لماذا تصر على تعذيبه .. ألا تعلم أنا سعادته بقربها , تنهد بلوعة وغادر المكان ..
*..*..*..*
الآن فهمت معنى أن كوكب الأرض ليس إلا كره دائمة الدوران , فهي تشعر بدورانها من تحت قدميها , ولكن بعكس حركتها الاعتيادية , الزمان والمكان يدوران للوراء ليضعان الماضي أمامها , وقفت بقرب الأرجوحة القديمة و حركتها بهدوء . وصوت الماضي البعيد , يجسد لها المشهد بأدق تفاصيله و الطفولة بأحلى ما فيها .
ما زالت تتذكر حلتها الزهرية الجديدة التي ارتدتها لأول مرة . كان أول من لاحظ تلك الحلة عليها هو عامر
- ما أجمل هذا الفستان !!
- ماما اشترته لي .
قالتها ببساطة وعفوية الأطفال ثم جلست على الأرجوحة .. وجلس عامر بأرجحها برفق كما يحب أن يفعل دائما .
لتجد نادية نفسها فجأة تطير في الهواء ثم تسقط بقوة على ظهرها فقد جاءت نوال راكضة وحركت الأرجوحة بقوة .. لسقطت نادية على الأرض تتألم , فيصرخ عامر بخوف
- حمقاء , ما الذي فعلته !!
و جثا على ركبتيه بجوار نادية بخوف وكانت تبكي بألم
- نادية , لا تبكي .. سوف أضربها الآن , لكن لا تبكي !!
ولكن نادية استمرت في بكاها وتألمها , ولأنه يعرف كيف يسكتها قال لها بإغراء
- لا تبكي , وسوف أشتري لكِ حلوى جوز الهند التي تحبين !!
طالعته بعينين ممتلئة بالدموع ومسحتها بيديها الصغيرتين وهي تقول بصوت خفيض
- الآن !!
عامر بفرحة لأنه استطاع إسكاتها
- الآن هيا انهضي !! ...
- هيه نادية !! , أين أنتِ
كان ذلك صوت نوال , ألتفتت لها بابتسامة مشرقة وعينين لامعتين وأجابت
- تذكرت أيام زمان !!!
- و ما الذي تذكرته !!!
- كل شيء , كم لعبنا ومرحنا هنا , كم مرة سقطت عن هذه المرجوحة , وكم مرة أنتِ أسقطني عنها !!
ضحكت نوال وأجابت
- كنت أشعر بالغيرة !! , فعامر يحرمنا جميعا من متعة ركوبها لأجلك أنتِ , كأنها لكِ وحدك !!
- أتمنى أن يعود الماضي وتعود تلك الأيام !!
- معكِ حق !! , تعلمين أن عامر ما زال يأتي إلى هنا يوميا !! , ويفعل مثل ما تفعلين أنت الآن تمام.
ولأنها تعلم ما الذي ترمي إليه نوال آثرت أن تنهي هذا الحوار
- نوال , يبدوا أننا تأخرنا عليهم !! , هيا نعود
- لماذا تصرين على رفضه !!
- نوال , أرجوك لا أريد الحديث في هذا الموضوع !!
- أنتِ تحبينه , وهو كذلك !! إذن ما السبب !!
جزت على شفاها بحزن .. هي تحبه .. تريده ... لكن ليس لها حيلة , وليس لها مفر إلا الرفض , هي تعلم كم يجرحه ذلك , ولكنها مجروحة قبله .
غادروا المكان وتركوا الأرجوحة تتباطأ برتابة وهدوء حتى توقفت تماما عن الحركة , مشهد قد يكون اعتيادي لكل من يراه , ولكن من يعرف ذلك المكان وتلك الأرجوحة , يعرف أن الحديد كذلك يشيخ مثل البشر ..
*..*..*..*
اقتحمت الحجرة بقوة , لترى أمالي أمامها متربعة على السرير المريح تنظر إليها بابتسامة واسعة , ما إن رأتها هلويز حتى بطأت من سرعتها وكبحت ثورة غضبها بقدر المستطاع , ولكنها لم تستطع أن تخفي الغضب من عينيها المتأججتان ببريقهما الأخاذ , توجهت للنافذة مباشرة فتحتها بسرعة حتى ما داعب الهواء وجهها وشعرها تنفست بعمق نفس عميق , اقتربت منها آمالي ونظرت لعينيها مباشرة وسألتها باهتمام
- ماذا بك !!
- لا اعلم ماذا حل به , فجأة جن جنونه , كاد أن يكسر يداي !!
- ابيلارد فعل ذلك !!
نظرت إليها هلويز بعينين متألقتين وقالت
- كنت أراقبه وهو غارق وسط كتبه ومخطوطاته , الله كم أحب أن أتأمله في تلك اللحظات , هل رأيتِ تلك الشعيرات البيض التي تطوق وجهه الجميل !! , كل شيء فيه يصيبني بالدوار , بالكاد أتماسك أمامه , رؤيته طوال اليوم دائم الضحك والابتسام , يداعب الكبير قبل الصغير , يتحدث إلى الجميع ويلاطف الكل يجعل قلبي يخفق بشدة , ولكن رؤيته بتلك الملامح الجادة وتلك التجاعيد الطفيفة التي تحيط عينيه الواسعتين فتزيده وقارا وهيبة تجعل كل خلية في جسدي ترتعد , آه مراقبته متعة لا توصف .
- أكملي ماذا حصل !!
- عندما انتبه لوجودي دعاني لأقرأ بعض القصائد التي كتبها , جلست بقربه أقرأ القصيدة , شعرت بأنه متوتر لوجودي بقربه , هذا ما أشعر به دائما !! , وجودي يربكه , حتى أنه يتحاشى النظر إلى عيناي !!
ثم ضحكت وهي تكمل
- حتى انه من فرط توتره سكب إناء الحبر على المخطوطة التي أمامه , سارعت بمسح الحبر عن الورق ولكنه أمسك يدي بقوة وهو يتأملني بعينين ترتجفان وقال لي بصوت متوسل
"اتركيني , أرجوك , غادري مخيلتي "
كان يشد على يدي بغير وعي , أبعدت يدي عنه بصعوبة وأخبرته بأنه آلمني ,وتركته وغادرت !!
كانت آمالي تتأملها بعينين متسعتين وقالت بلا وعي
- لقد شاهدت ذلك المشهد الذي حصل بينكما وقرأته مرارا وتكرارا , ولكن وأنتي تقصيه علي الآن له طعم مختلف !!
- آمالي بماذا تهذين !! , تقولين بأنك قد رأيتِ ما حصل بيني وبين الأب ابيلارد !!
- لا عليك , فهو هذيان كما قلت , المهم ماذا حصل بعد ذلك !!
- لم يحصل شيء , تركته وعدت إلى هنا سريعا !!
- في رأيك ما الذي يفعله ابيلارد الآن !!
- يعاقب نفسه !!
- لماذا !!
- لأنه سمح لنفسه لأن ينشغل بي !!
- مغرورة !!
- لا ليس غرورا , ولكني أعلم !!
- وكيف تعلمين !!
- عيناه قالت ما لم يقله لسانه !!
- ثم ماذا , ما الذي سيحصل بعد ذلك!!
- حقا يا آمالي لا أعرف !! ,الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني متيمة به .
*..*..*..*
أستوقفه صوتها الذي يعرفه جدا .. ولا يمكن أن يخطئه من بين ألف صوت ... تتبع مصدر الصوت وكان قادم من المطبخ
خطرت بباله فكرة , يعلم أنها فكرة مجنونة , ولكن الجنون الذي يشعر به لوجود نادية معه في نفس المكان وهو لا يستطيع أن يتحدث معها أو حتى يلمح طيفها , هو الجنون بعينه, لذلك لابد من المجازفة , تقدم من المطبخ بهدوء ودس رأسه عبر فتحة الباب , وما إن رآها حتى تراجع وهو يشعر بدقات قلبه تتسارع بشدة ... كانت واقفة مع عمته نوال يعدان العشاء سوية , كم هي جميلة ... ورقيقة , كم يحبها , أستجمع كل قواه ودخل المطبخ بسرعة وفي حركة واحدة سحب نوال من المطبخ واقفل الباب براحة يده ووقف يحدق في نادية بجرأة ...
وقفت مكانها وقد شلت المفاجأة حركتها , لم تستطيع بعد أن تستوعب ما حصل , هي وعامر في المطبخ بمفردهما !!!
تراجعت للوراء بخوف ... وعيناها ترتجفان بشدة ...
هو يشعر بتوترها وكذلك يشعر بالخجل مما فعل , ولكن لابد وأن يتحدث معها !! , تجاهل توسلات عمته المنخفضة وهي ترجوه أن يخرج من المطبخ ...
وقال بصوت متوتر قليلا
- آسف على تصرفي بهذه الطريقة !! , ولكن أنتِ من أجبرني على فعل ذلك !!
- عامر , أرجوك , غادر !! , لا تجلب لي المشاكل !! , أرجوك !!
- نادية !! , أريد أن أقول لك شيئا !! , وأريدك أن تسمعيني جيدا !! , لا أريد أن أضيع وقتي معك أكثر , هل تحبينني !!
عندما لم تجبه صرخ بعصبية
- نعم أم لا ؟؟؟
- عامر !! , أنت تخيفني !!
- سوف أجن , أجيبي الآن !!
- نعم !!
رفع عينيه فيها بسرعة وقال بعدم تصديق
- تحبيني !!
أطرقت عيناها للأرض , ولم تجبه
- ولم الصد !!
أكتفت بالصمت , فهي غير قادرة على البوح بما في قلبها , جاءها صوته الآمر
- بعد شهر سوف أعود وأخطبك من خالي عبد العزيز , أقسم لك يا نادية , بأنك إن رفضتني هذه المرة أيضا سوف لن تريني مرة أخرى !!
وأرخى قبضته عن الباب , لتقتحم نوال المطبخ بعاصفة من الشتائم , ودفعته خارج المطبخ بغضب
خاطبها عامر ببرود
- لا تقلقي , ما زالت كما هيا , لم آكل منها شيء !!
وتركهما وغادر سريعا , كان يرتعد حتى النخاع, ما فعله اليوم غريب على طباعه وتربيته , ولكنها المرة الأولى والأخيرة , فنادية تستحق تلك المحاولة .
في المقابل وقفت نادية ترتعد في مكانها , تشعر بأن قلبها ذاب بين أضلعها , ما هذا الذي حصل الآن !! , أكان حقا عامر !! , ابن خالتها !! , رفيق الطفولة !! , انتبهت على صوت نوال المتسائل !!
- ما الذي فعله ذاك التعيس ؟!
لم تجبها ... كل ما فعلته أن أسرعت لغرفتها راكضه , تريد أن تخلو مع نفسها لتسترجع ما حصل مع عامر مرارا وتكرارا لأن ذالك سيكون آخر لقاءها به , فليس أمامها غير الرفض ..
...........
أمل لا ينتهي .. :)