عندما أفكر في شيء ما فأنا أستغرق فيه بكل حواسي ,
لا أحب أن أفكر بنصف عقل , والنصف الآخر منشغلا بأي شخص قد يدخل الحجرة فجأة فيجدني ممسكة بتلك الجريدة بينما عيناي تتأملان الفراغ ..ألا يعتبر هذا كذبا ولكن بلغة غير منطوقة !!
فإذا كان الجسد بحركته قادر على التخاطب والتواصل فهو قادر على الكذب أيضا .. لذلك التقطت القلم وحولت كل حواسي إلى هامش الجريدة لعلي بحركتي تلك أتستر على كذب جسدي ولأنها منطقة خالية لن يصادفني أي خبر مثير للاهتمام أو مقال ما يشتت أفكاري .. لأجد حروف أسمه هناك , عامر بشكل عودي و بشكل مقلوب وبشكل مائل ,, و " ع ا م ر " بأحرف مفصلة .. في كل بقعة بيضاء .. !! هل أنا من كتب كل هذا الـ " عامر " !! , وهل المادة التي كُتبت بها أحرف أسمه حبراً ..!! أم لعله السائل النخاعي الذي دار دورته الطبيعية داخل جمجمتي , ثم انساب بعضه من مجراه الطبيعي عبر الحبل الشوكي ليصل إلى ريشة هذا القلم ثم ماذا !! ماذا سأكتب بعد أحرف أسمه !! , قد أكتب " حبيبي " !! اعلم أنه لا توجد أي لغة في العالم تستطيع أن تصف أجمل معاني الحب بحرفين غير اللغة العربية . ومع هذا لا أريد كتابتها.. فتلك كلمة أحب قولها.. ولا أريد أن أقولها إلا له مباشرة , إذن ماذا اكتب !! ..هل أكتب " زوجي العزيز " !! ... وهل مثل هذا يكتب على هامش جريدة!! ... لذلك سأكتفي بأحرف اسمه فقط .
فيا حروف اسمه ... أخبريني إلى أين سترسي بنا سفن القدر .. وعلى أي
شاطئ ستقذف بنا أمواجه !! ...
نكست أوراق الجريدة بسرعة .. واعتدلت في جلستي .. ما إن شعرت بدخول شمس للحجرة , حركة آلية يفعلها نصف بنو البشر قبل ثانية واحدة من الاقتحام المفاجئ ليثبتوا للقادم أنهم لا يفعلون شيئا , والطريف في الأمر أن تلك الثانية التي ينمقون فيها أنفسهم ويوارون سرهم هي التي تفضح أمرهم أمام النصف الآخر ..
- أريج تنتظرك بالأاسفل
رائحة غريبة .. مُنفرة !! .. انبعثت من ذاكرتي المجهدة .. ونفسي الخائفة ما إن ذُكر اسمها أمامي .. !!رائحةٌ , أنا الوحيدة التي استطيع شمها والإحساس بها ..ولو سلمت الأمر لعاطفتي وانفعالي لهممت بالفرار ..!!
متجاوزة أسوار المنزل بل أسوار الوجود كله ..هربا من تفاصيل ذلك الماضي السحيق .. و ليس لما طرأ على حالي علاقة بها بشكل مباشر .. فهي صديقتي الحميمة .. وأشد الناس التصاقا بي ..لكن الأمر له علاقة بالزمان والمكان .. و خوفي الحذر الذي يقول لي أنه هو من أرسلها !! .
هي أريج .. بطولها المعتدل ولونا الأسمر الجميل ولكني لا أرى أبتسامتها الجميلة العذبة ,, بل رأيت ملامح الجزع والخوف في عينيها , رؤيتها أعادتني لذلك الصباح الغريب ... كنت نائمة عندما شعرت بنغزة خفيفة في أسفل بطني لم أشعر بمثلها من قبل .. كان شعورا مزعجا أجبرني على النهوض من النوم ودخول الحمام ... وهناك عرفت أني أصبحت امرأة ... أنثى كاملة كما قيل لشمس عندما اختبرت نفس العلامات ... وهذا ما توقعته أن يقال لي أيضا ... قد يكون هذا التفكير غريبا لطفلة ما زالت في العاشرة من عمرها وأنه يجب أن أرتعد خوفا ... وأسقط مغشيا علي كما حصل مع شمس أختي ومع كل الفتيات .. ولكني لم أفعل لأنه ببساطة قد تعلمت من تجربة شمس .. فهذه أنا .. سريعة التعلم .. سريعة الإدراك .. ولكن أليس نضوجي هذا مبكرا ً !! , وليكن فما ذنبي إذا حصل ذلك بأي حال من الأحوال .. فهذا ما أراده الله , وما أرادته الطبيعة .. جمعت طفولتي وأنوثتي وألقيتها أمام والدتي , ومن غيرها سيجمعها ويجمعني و من غيرها سيحتضنني في تلك اللحظات الحرجة , ومن غيرها سيضمني ويخبرني بأني أصبحت فتاة كاملة , أنثى جميلة !! , من غيرها سيعلمني أبجديات النضوج ولغة الكبار !! .. هذا ما كنت انتظره منها عندما قلت لها ببساطة
- ماما ... لقد أتت !!
لم أكن أعرف أنه ينبغي علي الخوف بدل من فرحتي تلك .. ولم يكن أعرف أن العبارة المناسبة هي " عذرا فقد أصبحت أنثى " !! .
الآن أقر بأن هناك نوعان من الأحاسيس استمر معي على مر تلك السنين .. الأول هو إحساسي بتلك النغزة التي شعرت بها صباح ذلك اليوم .. ذلك الإحساس الذي جعلني أتأكد بأني صرت أنثى كاملة .. و الثاني هو العتب على والدتي التي تعاملت معي بقسوة و قتلتني رعبا .. وجرت عليا وبالا وعذابا شديد ... ها أنا إلى الآن ادفع ثمنه ...
- نادية !! .. لماذا أتيتِ !! ...
أعادني للواقع صوتها المرتعد وهو يسألني ذلك السؤال
أمسكت بيدها وأجلستها بقربي وسألتها
- هل عرف !!
- لا أعرف كيف عرف !! .. ولكنه حادثني قبل قليل وكان يهدد ويتوعد بالانتقام !! ..
- ماذا سيفعل !!
- لا اعرف .. ولكن ماضي لا يهدد من فراغ !!
- ليذهب إلى الجحيم وليفعل ما يريد !!
وضعت يداها على وجهها وانخرطت في بكاء مريرا .. لم أستطع أن تحمله .. فجذبت يدها وقلت لها مواسية
- أريج أنت لا ذنب لك !!
- كيف لا ذنب لي !! .. تعلمين أنك بكلامك هذا تزيدين من عذابي !!
شددت على يدها وقلت لها بحب
- أرجوكِ هدئي من روعك .. فأنت هنا الآن ,, اشتقت إليك يا صديقتي الغالية !!
- وأنا أيضا ... اشتقت أليك ... لم أصدق بأنكِ في المدينة !!
- صدقي , فأنا هنا أمامك ... ولدي الكثير لأخبرك به !!
تحدثنا في كل شي ... وقلنا كل شي ,, أخبرتها بكل ما حصل معي من اليوم الذي غادرت فيه المدينة إلى اليوم الذي عدت فيه ,, وهي أخبرتني بأنها تزوجت وأصبحت أما .. احتضنتها طويلا .. وبكيت طويلا .. لا أعلم هل هو فرحا لها وللقائها أم حزنا على حالي الذي أصبح ممنوعا من الصرف من بعد ذلك اليوم .
,,’’,,’’,,’’,,’’,,’’,,
- أما أقلعتي عن هذه العادة !! ..
- أي عادة تقصدين ؟
- الانعزال عن الآخرين و التحديق بسقف الحجرة .. تعلمين أن ذلك لا يجدي نفعا , ولن يأتي إليك بالحلول!!
- إذا لماذا جميع الأفراد في كل الشعوب يمارسون هذه العادة !!
- لا اعلم !!
- و لماذا دائما سقف الحجرة هو قِبلة الحيارى والمتأملين !!
- ربما هو تصرف غريزي !!
- غريزي !!
- العقل عندما يتعمق في التفكير يحتاج إلى استهلاك كمية اكبر من الدم لذلك يستلقي الواحد منا على ظهره ناظرا للسقف !! .
انفجرت ضاحكة وتبعتني هيا .. فما أطرف ما نتجادل فيه أنا وأريج الآن .. ثم تصنعت الجدية وخاطبتها
- أريج لم أحضرك إلى هنا لتحدثيني عن السقف , وفسيولوجية التفكير !! ... هذا بدلا من أن نجد حلولا لمشكلتي الأصلية !!
- وهل عامر أصبح الآن مشكلة لنجد لها الحلول !! ,
لم أتوقع هذا الجواب منها ... تعلقت عيني عليها بألم .. فهي تعلم بقصتي أكثر من أي أحد .. وتقول ما تقوله !!
: هل قرأتِ صحف اليوم !!
طرت ذلك الشعور بالألم سريعا من صدري ,, فآخر ما أريده الآن هو أن أغضب من أريج.. نزعت عيني عنها وألقيت بها سريعا حيث كانت شمس أختي واقفة أكاد ألمح الفضول و الحكايات تتدفق من عينيها تباعا , لا أعلم متى جاءت .. فأنا لم أنتبه لوجودها إلا عندما تحدثت .. هيأتها تلك أعادت لذهني سؤال يلح علي منذ زمن عجزت أن أجد له جواب ,
فوجدت نفسي اطرح السؤال على أريج بصوت خافت
- لماذا الضوء أسرع من الصوت !!
- اذهبي واسألي ابن الهيثم !! ,
- لا داعي فأنا املك الإجابة
- أتحفينا !!
- أليست العين أول ما يستقبل وأول ما يرسل ويعبر
- بلى !!
- و أليس التناغم و التوافق يحيط كل ما أوجده الله حولنا !! ,
- إذن!!
- سرعة العين تتلاءم مع سرعة الضوء , وسرعة شمس تتفوق على الاثنين .. أتراهنين أنه قبل أن يرتد إليك بصرك ستـ..
وقبل أن أكمل كانت شمس جالسة بيننا تصيح بصوت عالي
-لم تجيبي !!
أطلقنا ضحكة عالية نحن الاثنتان فما كان من شمس إلا أن رفعت الصحيفة أمام عيني وقالت بصوت منفعل
- توقفا عن الضحك وأقرئي !!
ما جال بخاطري وعيناي تتنقلان بس سطور ذلك المقال .. " هو عبارة "حسمت أمري " التي دائما تسبق كل قراراتي المصيرية , لكن هل هذه القرارات المحسومة دائما صائبة !! , قد تكون صائبة في تلك اللحظة , وبناء على الظروف الحاصلة حينها فليس هناك صواب بالمطلق , ثم ما أهمية الصواب والخطأ إذا كنت أنا وحدي من ستتحمل نتائج هذه القرارات !! , إذا سأفعل ما أريده . مهلا !! , هل قلت ما أهمية الصواب والخطأ !! , تلك العبارة أشد وطأ على نفسي من وطئ الخطأ نفسه , لأن في ديني الخطأ له 70 مبررا جميعها تتلاشى إذا كان الخطأ يُقترف مع سبق الإصرار والترصد لكن أنا و أمثالي مِن مَن لديهم صحيفة مزدحمة بالأخطاء والعثرات لا نرتكب إلا خطأ واحد , أما بقية أخطائنا فهي محاولة خاطئة لحل الخطيئة الأصلية . كل تلك الأفكار تزدحم في رأسي ومازالت عيناي تتأملان ذلك المقال الذي أشارت إليه شمس , ومراكز الإدراك في دماغي تحاول تحليل واستيعاب ما تقرأ , فأنا لم أتصور يوما في حياتي أني قد ألجأ لهذا الحل !! , ولكني مجبرة عليه , ولأن أريج تعلم ما أفكر فيه حتى قبل أن أخبرها فهي دائما تبرز لي من بين الأفكار ,, وما إن خرجت شمس من الحجرة حتى قالت بخوف
- هذا قرار صعب يا نادية !!
- أعلم !!
- إنكِ تحت ضغط نفسي , بسبب خطبة عامر لكِ !!
- هذا الموضوع في حساباتي منذ زمن ولا دخل لعامر أو لذلك المقال !! , غير انه جعلني أحسم أمري , وهذا هو الوقت المناسب !!
- نادية هل قرأتِ الخبر جيدا !! , هل تعرفين ما هي الأضرار المحتملة !!
- تذكرت مثل مصري مضحك يقول " قالوا للقرد حسخطك , رد بسخرية يعني حتعملوني غزال !! "
- ما قصدك !!
- أي ضرر سيحصل سيكون أقل من الضرر الحاصل .
- نادية , أكاد أموت خوفا عليك !!
أغمضت عيني بشدة وأجبتها بصعوبة
- لا داعي للخوف , كما أني سأستخير الله !!
تركتها تتأملني بصمت وعدت لذلك المقال , حيث القصص التي تختبئ خلف كل حرف فيه , وخلف كل قصة تختبئ قصة , وما أكثر قصص الفتيات في هذا البلد , و لكن كلها قصصا بلا رواية ولا راوي , اقتصصت المقال وحشرته بين أوراق مذكرتي الصغيرة , لعله في يوم من الأيام يتحول لقصة على صفحاتها
وكأن مذكرتي تلك تعويذة عقلي فما أن أمسكها حتى تأخذ الأفكار تتدفق من رأسي إلى ريشة قلمي وتحثني على شد لجامه وها هي فارستي الخارقة " آمالي " تمشي الهوينى على عتبت اللاوعي متجاوزة حدود الوعي بحماس وجموح .