لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > المنتدى العام للقصص والروايات > القصص المكتمله
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله خاص بالقصص المنقوله المكتمله


من الصـــعبِ أن أبتكرَ صيفاً ... الكاتبه : أغنية ..

السلام عليكم قصة اعجبتني اتمنى ان تنال رضاكم قراءة ممتعة يُربكني اشتعالُ الفصول .. هذهِ الدورة الطبيعية للطقس , كل الأشياء حولنا تُعيد

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 27-07-10, 01:53 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو ماسي


البيانات
التسجيل: Oct 2007
العضوية: 53753
المشاركات: 10,517
الجنس أنثى
معدل التقييم: ارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 740

االدولة
البلدIraq
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ارادة الحياة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : القصص المكتمله
Thumbs up من الصـــعبِ أن أبتكرَ صيفاً ... الكاتبه : أغنية ..

 

السلام عليكم

قصة اعجبتني اتمنى ان تنال رضاكم
قراءة ممتعة

يُربكني اشتعالُ الفصول .. هذهِ الدورة الطبيعية للطقس , كل الأشياء حولنا تُعيد تكرار حياتها
نهاية حياة البعض استئنافٌ لحياةِ آخرين
و ها أنا الآن أراقبُ اشتعالات العمر .. تعاقبُ فصوله بفعلٍ مجازيّ .. و ليتَ كُل حياةِ الآخرين تأتي في توقيتها المُناسب
بصيفها .. و شتائها .. و خريفُ أيامها الذاوية
من السهل أن نبتكر حياةً إضافية .. لكن في عزِّ الشتاء , من الصعبِ أن أبتكرَ صيفاً !


* العنوان للشاعر مُنذر مصري .




أبي .. يا أبي, إنَّ تاريخَ طيبٍ
وراءكَ يمشي.. فلا تعتب
على اسمِكَ نمضي.. فمن طيّبٍ
شهيَّ المجاني إلى أطيب
حملتُكَ في صَحو عينيَّ حتّى
تهيَّأ للناسِ أنَّي أبي ..
أشيلُكَ حتى بنبرةِ صوتي
فكيفَ ذهبتَ.. ولا زلتَ بي !


الفصل الأول





أضعُ حقيبتي بسرعة في المقعد الخلفيّ .. أرتّب حجابي جيّداً و أغلقُ الباب . عليّ أن أحضر مبكراً هذا الصباح و إلاّ سأتعرض لتحيّة من نوعٍ آخر
يتراءى لي وجهُ العم صالح من المرآة الأمامية بابتسامتهِ السمحة
- لا تنسين الأذكار بنتي

أشعر براحة غربية تعتري قلبي كلما سمعتُ " بنتي " من فم العم صالح .. أحب حرصه الشديد و نصائحه المتكررة تماماً كاسطوانة الأمهات المشروخة لأطفالهنّ الصغار كل صباح
العم صالح سائقنا منذ زمن , رفيقُ دروبي الطويلة .. و متاهاتي الصعبة . كل هذه الدروب الممتدّة تتشكل على هيئة حنينهِ المُلِحّ للأهلِ و الوطن .
أعرفها جيداً هذهِ اليد المُتعرجة التي أمضت عمراً تلف مقود السيّارة و هي تجوب طرقات المدينة , أحفظُ خطوطها و حتّى عروقها البارزة بفعل الزمن .
كيف لا و هي اليد التي كانت تقبض على يدي لتوصلني كل صباح إلى الروضة .. اليد التي كبرت يدي تحتها و هي تصحبني إلى مدرستي و جامعتي و الآن إلى مقر عملي

يخبرني أنني أشبه ابنته فاطمة كثيراً , و الحقيقة أنه غادرهم منذ زمنٍ بعيد .. منذ أن كانت فاطمة في مهدٍ تهزّهُ يمينُ أمها الصبور ,
و ها هو يصحب طيف فاطمة في غربته , يُغذّي ملامحها بملامحي .. حتى أصبحتُ في عينيهِ فاطمة وهوَ الذي لم يرَها بعد
أصبحتُ ابنتهُ التي كانَ يرقُب ضآلتها إلى أن أضحت فتيّة .. هذا الطريق الطويل الذي نقطعهُ كل نهار اختزلَ الكثيرَ من عاداتي .. و كانَ هو قوتُ العم صالح الذي يحصدُ منه تكوينَ تفاصيلي ليبثّ بها روحُ طيفِ فاطمة ..

هذا الطريق فكَّ خطوطَ طبائعي أمام العم صالح .. فأصبح يعرفُ أيّ الأغنيات أحب أن تشاركني طريقي نحو العمل
و أيّ محلات الآيس كريم نتوقّف أمامها ليمنحني لفحةَ بردٍ تحتَ سطوةِ الشمسِ الحارقة
-هيا بنتي .. انزلي و صلنا

يوقظني صوته الآتي من عمقِ الشرود فألقي عليه وداعاً سريعاً و أمضي باتجاهِ المبنى محاولةً اختصار تباعد الخطى لأحظى بقليل من الوقت قبل وصول مديرنا الجديد ,

لا أريد أن أترك انطباعاً سيئاً لديهِ عن احترامي للوقت الذي يُعدّ نصفَ مهام العمل
أذهب مسرعةً باتجاه المصاعد و أطلبها جميعاً و أبقى في انتظار أسرعها استجابة ..
من بعيد أرى زميلي يقطعُ ذات الممر بسرعة نحو المصاعد, يبدو أنه يشاركني ذات القلق
توقّف المصعد الأول , دخلت بسرعة و سبابتي تكبس على زر الطابقِ السادس . في تلك الأثناء تعترض قدم المهندس فهد باب المصعد
أرفع نظري متأففة من هذا الاقتحام الفج .
- روح مصعد ثاني لو سمحت أخوي
- شركة أبوك و أنا مدري ؟

" اللهم طولك يا روح .. مو ناقصته الحين هالغثيث و الله "
أهم بالخروج من المصعد فلم أعد أملك طاقة مزاجية كافية لاستيعاب تصرفات هذا الأرعن . لكن يبدو أن حياءه استيقظ مؤخراً فأزاح قدمه عن الباب ليترك لي مهمة تفريغ هذا الضجر الصباحيّ
- مرحبا أستاذة
-أهلين لينا صباح الخير .. وصل المدير الجديد ؟
- لا ما وصل .
- اووف .. الحمد لله

أدخل مكتبي لأنجز بعض التقارير المؤجلة و أعيد تهيئة نفسي لهذا النهار الشاق و الطويل


**

في تمامِ العاشرة تُبادرني لينا بنبرةِ تعاطف
- أستاذة المهندس فهد اتصل أكثر من مرة يقول في شغلة ضرورية بخصوص المشروع
- اوكي لينا لو اتصل حولي لي المكالمة
- إن شاء الله

أعود لأكمل أوراق العمل المطلوب تقديمها اليومين القادمة عن المشروع الاستثماريّ الذي تتبناه الشركة.
في تلك الأثناء تصل المكالمة :
- مرحبا وزيرتنا الواعدة .. صاحبة مشروع تخصيب اليورانيوم في جزر الواق واق
- أستاذ فهد ممكن تختصر الديباجة الطويلة لأن ماعندي وقت بالمرة
- ايه دارين بوقتك الثمين ما شاء الله , تبديده بدون فايدة هدر للموارد البشرية للدولة
- ياهالصبح المتنيل
- قلتي شي ؟
- أبد أستاذ .. آمرني
- ما يامر عليك ظالم , بغيت أسألك عن ملف المشروع اللي بنقدمه بعد يومين و اللي المفروض يكون على مكتبي قبل اسبوع و للحين ما خلصتيه
- إن شاء الله بيكون على مكتبك بعد ساعة .. شي ثاني أستاذ ؟
- ايه .. مرة ثانية كلمي سكرتيرة قسمكم تحولني مباشرة والله لو إني طالب كلينتون كان رد
- إن شاء الله


عدت لإتمام الناقص من التقارير المطلوبة و بعثت بها للتدقيق و أنا حتى الآن لم أتخلص من قلقي بشأن المدير الجديد و مدى مرونته في التعامل الإدراي مع الموظفين

 
 

 

عرض البوم صور ارادة الحياة   رد مع اقتباس

قديم 27-07-10, 01:55 PM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو ماسي


البيانات
التسجيل: Oct 2007
العضوية: 53753
المشاركات: 10,517
الجنس أنثى
معدل التقييم: ارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 740

االدولة
البلدIraq
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ارادة الحياة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ارادة الحياة المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

الفصل الثاني



مضت أيام العمل الأولى على خيرِ ما يُرام . عقدَ مديرنا الجديد اجتماعاً للتعارف المبدئي على الطاقم الإداري و المهندسين و لتوضيح الخطوط العريضة
لسياستهِ في الإدارة الجديدة .
يبدو أنّه رجلُ وقت , لا يتنازل عن الثواني الهاربة من ساعاتِ العمل .. حدّثنا بلهجة واثقة عن أهمية التعاون لانتهازِ الفرص في كسبِ وقتٍ إضافيّ يضمنُ سيرَ خطط النجاحات كما هو مرسومٌ لها بالضبط
تُلفتني هذهِ الدقة المُتناهية في حديثه و إرشاداته التي كانت عمليّة أكثر مما يجب .
هذا يُعزز مخاوفنا كموظفين مُتساهلين نوعاً ما في الفترة الأخيرة من الإدارة المنصرمة . لكن على ما يبدو أننا سنتعرض لأيام عمل قاسية لكنها أكثر فاعليةً و نتاجاً
استلمَ المشروع المهندس فهد بمساعدة من طاقم إداري من قسمنا و الجميل في هذا أنني لستُ على قائمة من لهم تعاملاً مباشراً مع السيد المتعجرف فهد.

أصبحتُ أستغل ساعة عمل إضافية في مكتبي لأنجز بعض المهام التي أكلّف بها . فلن أكونَ فريسةً سهلة يلوكها لسانُ مديرنا السليط .
ثم أعودُ بعدها بأعباءٍ مُضاعفة إلى المنزل .. أو مقبرة الأحياء كما يحلو لأختي مُنى تسميته .
مُنذ أن تزوجت منى و أمي تغالبُ حنينها بوضع رُزنامة التقويم أعلى التلفاز في الصالة .. و تبدأ بتقليبِ أوراقهِ بولهٍ يوميّ لرؤيةِ وجهِ منى و أحفادها مساء الأربعاء .
فمنى الرفيق الروحيّ لأمي .. صديقة أحاديثها الطويلة عبرَ أسلاكِ الهاتف , قبل أن تتزوج أختى منى لم تكن أمي تفزّ ولعاً عندما يرنُّ جرس الهاتف
و لم تعتد أن تُغالبَ سنها في المشي سريعاً نحوَ باب المنزل الرئيسيّ عندما تسمعُ من بعيد صوتَ أبواق سيارة سائقهم .
أصبحت تعتني أكثر في الجزءِ الخلفيّ من حديقةِ المنزل .. و ألحّت بشده على أبي لأن يُحيلها إلى صالة ألعابٍ صغيرة و مفتوحة و إلى أرضٍ مُعشبة تستطيع أن تُقيمَ بها الحفلاتِ الموسميّة لأبناءِ منى الصغار .
منذُ أن رحلتَ منى افتقدَ بيتنا روحاً كانَ يتّكئ عليها .. و أصبحَ حضورها الأسبوعيّ يُحيلً بيتنا إلى كرنفالاتٍ و أعراس و شجاراتٍ مستمرّة مع طفليها

أبي شخصُ عمليّ .. و هادئٌ جداً .. و لا يكادُ يفارق مكتبته الضخمة إلا عندما تُكرر أمي اختلاسها النظرَ إليه من خلالِ البابِ الموارب .
فهيَ تقضي يومها فقط بإعدادِ قهوتهِ المُرّة و جريدتهِ في الصباح , و وضعها أمامهُ على منضدة صغيرة في زاوية المكتب . ثم تعدّ لهُ أخرى في ذاتِ الفنجانِ مساءً و تُفرغ منفضةَ سجائره
لا يُمارسُ والدي دوره الأبويّ إلا مساءَ الأربعاء ..وحدهم أبناءُ منى من يضخّون الفرحَ في روحِ والدي , و يمنحوننا فرصة أن نراهُ مُبتسماً و ضاحكاً كطفلٍ شقي .
وحدهم من يملكونَ كافة الصلاحيات للّعبِ و إحداث الشغب و الضجيج في مكتبِ والدي . و كلما هرعت منى لتوبيخهم أوقتها نظراتُ التأنيبِ في عينيّ والدي .
- خلّوا عيالي على راحتهم !

أستطيعُ بحسّ الأنثى أن أرصد شهقاتِ أمي الخفيّة كلما نطق والدي " عيالي " .. الحُرقة لأنها لم تُنجب لهُ ابناً ما زالت تعتصرُ قلبها .
أمي تحبُّ والدي كثيراً .. و دائماً أسترق السمع إليها و هي تحكي لمنى عن مغامراتهم الصامتة قبل الزواج . تُحبّهُ بعظمةِ حبِّ المرأة الشرقيّة .. بعظمةِ ولائها و تفانيها و خدمتها لزوجها
و أبي يُحبّها بصمتِ الشرقيّ المُتعالي على الكلام .. إنهُ لا يبوح فعلى قدرِ القراءة النهمة التي أفنى عمره في ملاحقة الكتب من أجلها إلا أنه لم يشعر بأن تلك القراءة قد
ابتلعت لسانه فلم يعد قادراً على البوحِ سوى للورق .. و عبرَ عمودهِ اليوميّ في الجريدة . و هذهِ إحدى الفضائل التي ورثتها عن أبي .

تقولُ أمي أنّ الله قد اختصرَ في وجهي ملامحه .. و في روحي طبائعه , لكنه لم يذكر لي مُطلقاً شيئاً كهذا
و حتى أنا لا أعلم هل هو يؤمن بهذا التكوين النفسيّ المُشترك بيننا أم أن شيئاً ما قد اعترى حياته و يخشى أن يمتدّ إليّ أيضاً .
فأبي ما زالَ لُغز حيرتي الأول .

منذ طفولتي و شخصيّته تستعصي على إدراكي , إلا أنّني لم أبكي يوماً لأنّه لم يصحبني إلى مدينةِ الألعاب أو لأختارَ هدية نجاحي بنفسي
فقد كانَ العم صالح يقومُ بدورهِ الأبويّ معي على أكملِ وجه !
الابتسامة التي افتقدتها في أبي أراها كلَّ يومٍ في عينيّ العم صالح .. لم أحزن يوماً عندما أركض لأستقبلَ أبي أثناءَ وصولهِ و أفتّش بالأكياسِ في يده فلا أجد سوى كتباً جديدة , فقد كان العم صالح يطرقُ بابَ بيتنا محمّلاً بأكياسِ الحلوى و الألعاب .
لم يدرك أبي حتّى الآن أنه رتقَ غيابهُ كأب بحضورِ العم صالح إلى بيتنا .

 
 

 

عرض البوم صور ارادة الحياة   رد مع اقتباس
قديم 27-07-10, 01:57 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو ماسي


البيانات
التسجيل: Oct 2007
العضوية: 53753
المشاركات: 10,517
الجنس أنثى
معدل التقييم: ارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 740

االدولة
البلدIraq
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ارادة الحياة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ارادة الحياة المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

الفصل الثالث








مضت إجازةُ الأسبوع حافلة باللحظاتِ الصاخبة برفقةِ مُنى و أبنائها , لم تتنازل أمي عن مبيتهم عندنا في يوميّ العطلة .
كنتُ أستمع لوقعِ خُطى أبي و هو ينزلُ السلّم متجهاً إلى المسجد بعدَ آذانِ الفجر , تاركاً وراءهُ خيطاً روحانياً من تسبيحاتِ السَحَر . تتبعهُ أمي بعدَ قليل لتفرشَ سجادتها في الصالةِ العلويّة .. كنتُ أشعر بالسكينة تتسللُ خفيةًَ من خلالِ بابِ غرفتي المُوارب .. ابتهالاتُ أميّ و أكفّها التي ما فتأت تبسطها باتّجاهِ السماء تُكسبني طمأنينة و خشوع .
و ماهي إلا دقائقٌ معدودة و تعودُ أمي لتطرقَ بخفّة بابَ غرفتي و تتبعهُ بغرفةِ مُنى المُجاورة ثم تذهب لإعدادِ إفطارنا و سماحةُ الفجر تنبثقُ من ملامحِ وجهها الوقور .


بدأت ساعاتُ العمل الأولى مزدحمةً بالمهام , شرعتُ نافذة المكتب و بدأت في جمعِ الأوراق المُدون عليها بيانات أحد المشاريع ..
رأيتُ من خلالِ الباب الزجاجيّ المهندس فهد في طريقهِ نحو الماكينة الآلية أقصى الممر ليحضر قهوته .. كنتُ أعرف أنه لابدّ أن يمر على مكتبنا للتحيّة الصباحية المُعتادة ,
تظاهرتُ بالتركيز الشديد في إدخال البيانات المدوّنة إلى الحاسب , رفعتُ نظري بلمحةٍ سريعة و رأيتهُ متكئ على حافةِ الباب بابتسامتهِ المُتهكّمة , عدتُ للانشغال بطباعةِ الأرقام
- أحمد أحمد .. بالله تعال
مااااشاء الله شوف الإدارة اللي ننحسد عليها , موظفات شغّيلات بجد
وحدة لاصقة بالشاشة و الثانية ما تشوف راسها من كثر الملفات و بالأخير أنواااع الأخطاء بالتقارير
بالله لو إنكم على سوالف الضحى الحين مو أصرف ؟
كنت أغالب ضحكتي و أنا أرى المهندس أحمد الخجول يحاول اصطحابه معه
- الله يعينهم عليك والله , امش بس
- خير يا أخوان ؟؟!
أدرنا رؤوسنا جميعاً بهلع نحوَ الصوت القادم من خلف المهندس أحمد .. لم يكن سوى مديرنا الجديد
لم أستطع إخفاء شماتتي و أنا ألحظ الإحراج يزحف بشدة على ملامح المهندس فهد
- لو سمحتوا هالتسيّب مرفوض بين المكاتب و الممرات , عندكم كافيه تحت بالبريك سولفوا براحتكم لكن بساعات العمل ممنوع
يحاول المهندس أحمد إنهاء الحديث بصوته المضطرب
- ابشر
خرج المدير بانزعاجٍ واضح و لحقه المهندس أحمد , و ما إن اختفى من الممر حتى انفجرت حياة بضحكة مكتومة
- ههههههههه بتحط نفسك بمواقف بااااااايخــة
- هيّن يا حياة .. إن ما عذبتك بالتقارير ما أكون فهد

أكملنا اليوم بجدّية أكثر , لن يصعب على المهندس فهد أن يكسب ود المدير , فكل من في الشركة يحبّونه بقدرِ ما يعرّضهم لمواقف محرجة أمام زملائهم

في ظل الإدارة الجديدة بدت الشركة أكثر تنظيماً في نتاجها و خطط سيرها عمّا هي في السابق و الفضل في ذلك للإدارة الحاذقة وإلى كادر العمل . فقد كانَ المهندس فهد هو الأكثر كفاءةً في الإدارة الحالية . امتلاؤه بالشغب و الحياة كان مكملاً لنشاطهِ كعنصرٍ فاعل يعدُّ ورقة ربح للشركة .


انقضى شهرٌ الآن , و وضعُ الشركة في ازدهار دائم , أصبحتُ أكثر إتقاناً و مرونة في التعامل مع طبيعة عملي , جدّية الإدارة كانت ذاتَ مردودٍ إيجابيّ بالنسبةِ لنا .
أوشكَ المنهدس فهد على إنجاز المشروع المُكلّف به . المجسّمات العينية كانت مذهلة جداً , فهو بارعٌ في ترجمة الأفكار الصغيرة على الواقع إلى كتلٍ هندسيّة غاية في البراعة و الإتقان .


حياة كانت ضمنَ الطاقم الإداري المهتم بالمشروع و على اتصالٍ مُباشر مع المهندس فهد
أحدى الليالي هاتفتني بصوتها الخافت , أخبرتني أنها تُعاني نوبة حُمى و تحتاجني في إدخال بعض البيانات و إرسالها للمهندس فهد , وافقتُ على مضض أن أتواصل معهُ على بريد العمل الخاص به لأنّني لم أجد بُدّا من مساعدتها .
أمضيتُ ساعات طويلة في إنجازها و بعثتها على البريد .. أخبرتهُ في نهاية الرسالة إن كان هنالك ثمّة ملاحظات بإمكانهِ أن يرسلها لأتممَ تعديلها في أسرع وقت


خلال دقائق بسيطة وصلت إضافة على بريدي , لم أستغرب كثيراً هذا التصرّف من صاحب الإقتحامات الفجّة
ألقيتُ عليهِ التحيّة و سألته بشكلٍ مُقتضب عن المواد التي بعثتها له .. أخبرني أن التنفيذ كانَ بالشكل المطلوب . لم أُطلْ في حديثي معه .. استأذنتهُ و سجّلت خروجي و الحيرة تنتابني من هدوئهِ المُفاجئ .
تذكرتُ أن حياة قد أخبرتني منذُ مدّة أنهُ أصبحَ هادئاً على غيرِ العادة .. صامتاً و مُتفانياً أكثر في العمل .



أتى يومُ الأربعاءِ الذي تنتظرهُ أمي كُل أسبوع .. حنينها كانَ يطوي لحظات الترقّبِ الباردة .
لم أدرك صدقَ ما يُقال بأن " ما أعز من الولد إلا ولد الولد " إلا حينما أرى أمّي ليلةَ الأربعاءَ تستنفرُ كل طاقةِ من هم بسنّها بأن تعيدَ ترتيب غرفة مُنى بنفسها , و تملأ الثلاجةَ الصغيرة بعُلبِ المشروبات و ألواحِ الشوكولا لأبنائها ثم تقضي نهارها باستعجالهم في المجيء .
عادَ أبي بعدَ صلاةِ العشاء .. و ذهبتُ أنا لمساعدةِ أمي و منى في إعداد العشاء بحديقةِ المنزل
كانَ الجو مُحرّضاً للبوحِ الداخليّ أكثر من التسامر برفقةِ آخرين
جميلٌ أن تتواطأ الطبيعة مع أرواحنا بهذا التلاحم الفطريّ .. اتّساعُ الأفق كانَ كعكّازٍ يستثيرُ الحزنَ للإتّكاءِ عليه .
جلستُ في ركنٍ بعيد أستمعُ لحديثهم حيناً .. و أسترقُ النظرَ إلى العم صالح الذي كانَ يجزُّ النعناعَ حيناً آخر .
كانَ أبي مُستلقياً يرقُبُ السماءَ بعينٍ مُغمضة .. لكنّهُ بيصرها بعينِ قلبه .. أجزمُ أنّ طيفُ جدّتي يتراءى لهُ الآن . على قدرِ ولعها به إلا أنّها ترفضُ أن تُفارق قريتها للعيشِ معنا .


سحبتُ حجابي و أخذتُ كوب شاي للعم صالح .. عندما شعرَ بمجيئي التفت إليّ بابتسامةٍ ثمّ عاد ليمارس شغفهُ في الاعتناءِ بكل الكائنات الصامتة في الحديقة .. العم صالح بذرة كُل ما هوَ ينبضُ بالطيبةِ في بيتنا .. هكذا هم صانعوّ العطاء .. لا يهتمّون بحياتهم بقدرِ اهتمامهم بتهيئةِ حياةِ الآخرين من حولهم .. و كأنّ السعادة الداخليّة لديهم تستمدُّ عنفوانها من سعادةِ الآخرين ..
ينفضُ يدهُ عن التربةِ العالقة بين أصابعه و أناولهُ كوبَ الشاي و أمضى نحو المنزل .


صعدتُ إلى غرفتي و شرعتُ النافذةَ في وجهِ الليل .. فرقٌ شاسع بينَ غرفتي و غرفة أختي مني
كما هو الفرقُ السحيقُ بينَ طبائعنا .
الفوضى الداخليّة التي تعتريني تتجسّد بشكلٍ ملحوظ في غرفتي .. تُحاولُ أمي كثيراً أن تحدَّ من فوضويتها إلا أنّني أستاءُ من أيّ اقتحامٍ لما يخصّني .
تمتدُّ انفعالاتي الداخليّة على جدرانها .. و معالمها الصغيرة , كل ركنٍ بها قد اختزلَ شيئاً من أيامي ,
تلكَ المرآة وحدها من تملكُ الإجابات الكافية لإدانتي بالبكاءِ المشهود . حتّى الأريكة تقرأ جيّداً حركاتي و سكناتي و أيّ الكتب و الأفلام تستثيرُ ميولي .كم تبعثُ كل هذهِ التفاصيل رغبةَ البكاء ... أو الاحتواء
لا يهم ! .. المُهم أنّني بحاجةٍ مُلحّة إليهما الآن .

 
 

 

عرض البوم صور ارادة الحياة   رد مع اقتباس
قديم 27-07-10, 02:02 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو ماسي


البيانات
التسجيل: Oct 2007
العضوية: 53753
المشاركات: 10,517
الجنس أنثى
معدل التقييم: ارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 740

االدولة
البلدIraq
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ارادة الحياة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ارادة الحياة المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

الفصل الرابع




مضت أيامٌ قليلة أُنجزَ بها المشروع على أكملِ وجه , أقام خلالها المدير حفلاً تكريمياً بهذهِ المُناسبة التي زادت منسوبَ أرباحِ الشركة
تخللتها أحادبثٌ متقطعة مع المهندس فهد عبرَ الماسنجر .. من هنا بدت المسافة التي أرى من خلالها فهد الإنسان أكثرُ وضوحاً .

كنتُ ألحظ ارتباكَ حديثه عندما تُحكم الصدفة قبضتها علينا في لقاءٍ بإحدى الممرات .. لم تُحيل تلك الثواني البسيطة دونَ ضبطي للمعةٍ خفيّة في عينيه كلما تواجهنا .
على قدرِ حرصي أن أُشيحَ انتباهي عن تلكَ التفاصيل الصغيرة إلا أنها تُلحُّ عليّ بسخاء .


كنتُ أتجنّب دخولي المُتكرر للماسنجر تحسّباً لرؤيته ..
الحياة العمليّة دائماً تبدو آلية بكلِ تداخلاتها .. تحولنا دونَ القراءة بشكلٍ جيّد لأفكارِ الآخرين و فهمِ تركيباتهم , ربّما لأنّه لا يليقُ بهذا المكان إلاّ أن نتداول أوقاته بشكلٍ آليّ .. فكل ما هوَ مطلوبٌ هنا أن تتحوّل لشخص مُنتج يرصدُ سيرتهُ العمليّة بلغةِ الإنجازات و حسب . فلا تأتي الأهميّة إلا على مقاسِ التحصيلِ بالضبط .


الأيّام التي تمر كانتَ أشبهُ بفترةِ تكوينٍ خفيّ لحقيقةٍ غير مُتوقّعة بالنسبةِ لي على الأقل
فقد امتدّ هذا القبولُ المُسالم لفهد إلى فرحةٍ خجولة تومضُ في عينيّ كلما لحظتُ تسجيلَ دخوله .
لم ينطلي على حدسي الأُنثويّ افتعال فهد للحديثِ المُطوّل معي .. بقدرِ سُخفِ أحاديثنا الطويلة إلا أنّها كانت تدسُّ بينَ لحظاتها شوقاً خفياً يفرُّ من بينِ كلماته .
بعدَ مدةٍ أصبحت أحاديثنا تقتطعُ وقتاً أكبر .. و أصبحت مهامُ عملنا مُشتركة .. نتقاسمُ الأفكار فيما بيننا .. يساعدني هو في إتمامِ أوراقِ العمل بينما أمدّهُ أنا بابتكاراتٍ فنّية لمشاريعهِ القادمة .


أتوجّس كثيراً من قبولي المُفاجئ لفهد .. هذا الاهتمام المحدود بهِ يُثيرُ قلقي و أنا التي تُرعبها فكرة أن تكونَ الحياةَ قابلةً للقسمةِ على شخصين فلم أرها إلا رقماً صعباً يستحيلُ أن تُشاركني بهِ روحاً أخرى .


لم تأتِ أحاديثنا على سياقها الطبيعيّ أبداً .. فدائماً ما كان يحاولُ أن يجسّ شعوري تجاهه إلا أنّني كنتُ مراوغة ذكيّة .. و حتّى الآن أنا لا أعلم إن كُنت أمارس المراوغة معه أم مع نفسي
ما أؤمنُ بهِ أنّني أُحبُ الحديثَ معه و لا شيءَ أكثر من ذلك !


سألني يوماً سؤالاً بدا و كأنّهُ مُحاولةُ تشخيصٍ مكشوفة
- أ تعلمينَ كيفَ تتجمّدُ المفردات الصعبة في الحلق ؟ تماماً و كأنّها غصّة متكوّرة لا تقبلُ البلعَ أو اللفظ ؟
لكنّني كنتُ أبادلهُ الانفعالات صمتاً .. فلم يكن أحدنا يجرؤ على الكلام .. و هل يبدو الكلام مشروعاً عندما يأتي في توقيتهِ الخطأ ؟!
مثلَ كل الأشياء الجميلة .. مثلَ كل ما نُحب , تأتي مُتأخرةً بقدرِ عُمر .. و لا يُسعفها الوقت لتكتمل , فترحل بنقصها أو تموتَ أمامنا بعجز .


**


- وصلني لهالعنوان
تنفستُ بملءِ رئتيّ و أنا أضعُ أقدامَ العودةِ على أرضِ الوطن .. عشرُ سنواتٍ مرّت مُنذ رحيلي .. تخللتها زيارات قصيرة متقطعة .. في كلِّ مرةٍ أعود كانت بمثابةِ استراحةٍ قصيرة بينَ غربتين , أعودُ محمّلاً بحقائبِ الحنين و بعدَ أيامٍ قصيرة أرحل محمّلاً برائحةِ الوطن و كفيّ أمي
أيُّ هزّةٍ ستعتري شعورها عندما ترى ابنها ماثلاً أمامها بكامل حنينه
و أيُّ وطنٍ هذا الذي يُنافسُ حضنَ أم ؟


أسندُ رأسي على نافذةِ السيّارة و أحاولُ أن أهدئ هذا الشوقُ الذي يرفرفُ في قلبي كجناجيّ عصفور
أغمضُ عيني و تستفيقُ في خاطري ألفُ ذكرى .. و ألفُ ألفُ صورةٍ لوجهِ أمّي
لا شيءَ يُضجرُ حنيني إلا عندما أذكر ابنةَ عمّي , الفتاة المُناضلة في سبيلِ انتظاري .. كم يبدو أمراً باعثاً للبكاءِ سخريةً أن تنذرَ فتاة سنينها بانتظارِ من لا تعرف .. و بدون سابقِ حبٍ أو حتى وعدٌ واهن بالعودةِ إليها .


أفنيتُ عمري في دراساتٍ مُتفرّقة .. و عدتُ برأسٍ مُشبعٍ بثقافةٍ تُرضيني و لو بشكلٍ بسيط , و أنا الذي لا يهتمُ يوماً بأمرِ أنثى و لا تُشكّل في حياتهِ أكثر من أمٍ أو صديقة
كيفَ سأرضى بانحدارٍ إلى هذا الحد , و كيفَ ستستجيبُ مشاعري لأنثى بهذا القدرِ من السذاجة .
لم أكن أعرفً عنها أكثر مما ترويهِ لي أمّي أثناءَ اتصالاتها بي .. و كأنها تُحاولُ بفطرةِ الأم أن تُخرسَ شوقي المُستفيض تجاهَ ابنة العم .
" كااملة و الكامل وجه الله .. الله يبلغني برجعتك و يفرحني فيكم ان شاء الله " أشعرُ حينها بحرارةِ دعائها الصادق تنتقلُ إليّ عبرَ أسلاكِ الهاتف , أمي تحبّها كثيراً ..و لم يكن أحداً يحترق شوقاً لمجيئي سوى أمٌ حنون .. و ابنةُ عمٍ ساذجة


**



أتت منى إلينا اليوم , تبدو الصالة كورشةِ مصنعٍ من الضجر الشديد الذي يحدثهُ أبناؤها و مشاجرتها الخفيفة مع أمّي كي تستحثّها لمرافقتها إلى حفلِ زواج إحدى صديقاتها
و أبي يتابع بتركيز الشريط الإخباريّ لأحدى القنوات .. لم يبتر هذا الضجيج اللا مُنتهي إلا رنين هاتفِ أبي .. صمتنا جميعاً في انتظارِ أن يتمَّ مكالمته
- صدق !! حمد لله على سلامته يا خوي
- بكرة عزيمتكم عندنا إن شاء الله
- شلون بس ! هذا الغالي


كان حديث والدي أشبه بصدمة خارقة لعقلي , أحاول أن أتفرّس ملامح أمي و منى أبحثُ عن شيء يكذّب ظنوني إلا أنّ الابتسامة الكبيرة على وجوههم تعزز ما كنتُ أخشاه
حاولتُ أن أستند على الكرسي لأصعد لغرفتي قبل أن يتم أبي المكالمة .. و في طريقي كنت أسمع والدي بفرحةِ الأب يقول لمنى
- كلمي فيصل بكرة يروح يجيب جدته
ثم يخبر أمّي أن تعدّ كافة ما تحتاجه وليمة تليقُ بمقامِ الدكتور .

 
 

 

عرض البوم صور ارادة الحياة   رد مع اقتباس
قديم 27-07-10, 02:10 PM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو ماسي


البيانات
التسجيل: Oct 2007
العضوية: 53753
المشاركات: 10,517
الجنس أنثى
معدل التقييم: ارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عاليارادة الحياة عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 740

االدولة
البلدIraq
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ارادة الحياة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ارادة الحياة المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

الفصل الخامس








صعدتُ إلى غرفتي محمّلة بالخيبة و كأن الساعات القليلة التي قضيتها مع أهلي قد تجاوزت مئات السنوات الضوئية .. خرجتُ من هنا و أنا أرقبُ أجنحةَ الحلم تتكوّن في قلبي الصغير .. و عدتُ و أنا أستندُ على حزني مثلَ كهلٍ قد انحنى ظهره من لكماتِ القدر
هذا الخبر أثقلَ كاهلي .. لم يترك لي وميضَ أملٍ يجعلني أتماسك

لمَ عدتَ الآن ؟ لمَ تكتبُ مصيري بكل هذهِ الأنانية المُفرطة ؟ لم أكن مستعدةً أبداً لأي اقتحامٍ لحياتي الآن


أمضيتُ سنيناً و أنا أحمل لابن العم امتناناً عظيماً لهذهِ الهدنة الطويلة التي منحني إياها سفره كي أعيشَ و أرتب حياتي كما أريد .. و أسدّ ثغرات قلبي و وحدتي في وجهِ كل من يتقدّم لخطبتي
اتّخذت سفره ذريعةً أحقق من خلالها رغباتي , فأنا أنثى لا تستمدُّ قوتها من رجل
السنين الطويلة التي غادرنا فيها كنتُ قد كوّنتُ في ذهني صورةً مغايرةً له .. كنتُ أظن كل هذا الاغتراب كفيلٌ بأن يؤمّن له بيتاً و زوجة .. و أبناءً صغار أيضاً
ادّعيتُ تصالحي مع العاداتِ البالية بأن مصائرُ الفتيات مرهونةٌ أولاً بأبناءِ عمومتهن . و تظاهرتُ بولائي الشديد لابن عمّي الغائب .. لأمنح نفسي فرصة الاستقرار الذاتيّ و أن أختارَ حياتي بنفسي ثم أواجهُ بها أهلي .. أتى فهد و قلبَ كل موازين حياتي .. حضورهُ لم يكن إلا بشائرٌ تأتي بأنباءِ حبٍ ينمو بشكلهِ الطبيعيّ دونَ أن يظهر مشوّها بفعلِ عادةٍ بالية


لمَ لم تنتظر أن يشتدُّ عود حلمي أولاً ثم تأتي .. لمَ تُجهضهُ بكل هذهِ السادية ؟
بعدَ أن كنتُ في الأيامِ القليلة الماضية أرتب لحياتي جيّداً أصبحتُ أرتّب لموتي الآن
لم يرحل جدّي قبل أن يختارَ موتي بالطريقة التي يحبها حتى قبل أن آتي إلى الدنيا .. " عيالكم لبعض " التي كانت تكررها أمي على لسانِ جدّي كانت كتميمة مُعلّقة على نحرِ التزاماتهم .. ماذا لو عاشَ جدّي زمناً قليلاً لحين زواج أبي .. هل كان سيرضى أن زوجة ابنه لم تنجب له حفيداً ؟
لو علمَ جدّي لشدّد وصيته لأبي قبل أن يمتدّ في تشكيلِ مصيرِ أحفاده .. و لأن حياتنا ليست ملكنا بالشكل المُطلق فإن الجزء الذي يمنحنا أحقيّة تشكيلها ليسَ كافياً بأن يحمينا من التدخّلات الشنيعة للآخرين
لمَ نبدو أكثر التزاماً لوعودنا تجاه الأموات .. حتى لو كانت على حسابِ الأحياء , أ ليست تلكَ جريمة يُعاقب عليها أيُّ ضميرٍ حيّ ؟


أمضيتُ ليلتي بحزنِ المغلوبينَ على أمرهم .. أتكوّر بصمتٍ على فجيعتي , كيفَ يقولُ ديكارت أنا أفكر إذن أنا موجود , تُرى كم استغرقَ في التفكير حتى تُعلن مقولته تلك عن وجودها و بشدّة ؟ ألم يعلم بأن لكلِ قاعدة شواذ , و لم أكن أنا سوى شذوذ بينَ الموجودات التي تشكل نفسها بالتفكير
فها أنا أحرقُ ساعات ليلي تفكيراً , و ما إن تنطفئ واحدة حتّى أشعل في رمادها احتراقَ أخرى
أفكّر حدّ التلاشي و لم يتكوّن وجودي الصغير
سحقاً لتاريخي الذي يكتبهُ الأموات
و سحقاً لكلِ الفلاسفةِ أشقياء الأرض , الذين يدّعونَ فهمَ الحياةِ أكثر و هم الذينَ لم يجرّبوها و لم يخوضوا في حزنها كما أغرقُ أنا الآن .

مسحتُ الحزنَ عن قلبي بإيمانِ من لا حيلةَ له و سلّمتُ نفسي لموتٍ قصير .


استيقظتُ ظهيرةَ اليومِ التالي على ضجيج الحركة المستمرة في البيت .. غسلتُ وجهيّ مراراً لأخفي تورّم عينيّ من البكاءِ الطويل في الليلةِ الماضية ثم خرجت لأعدّ قهوتي دونَ أن أتحدث إلى أحد وعدتُ للماسنجر لأرى إن كان فهد موجوداً أم لا ..
تحدّثنا لساعاتٍ طويلة كنتُ أرسمُ لنهايةٍ بأقلِ الخيبات بينما كانَ هو يبني من قشّ حديثي عشاً آمناً و لا أعلم إن كان عشاً أم نعشاً
لمسَ حزناً في حديثي و كنت أبررهُ بنومٍ غير مريح ليلةَ البارحة .. فيعود ليسدي عليّ نصائحاً تفضحُ قلقه عليّ و أقابلها أنا بابتسامةٍ تُخفي وراءها شجن


أغلقتُ الماسنجر و توجّهتُ للنافذة .. أراقبُ البهجة العارمة في بيتنا .. جدّتي تفترشُ الأرض المُعشبة بجوار قهوتها , و أبناء منى يطاردون الأرانب الصغيرة التي يعتني بها العم صالح .. كل ما هوَ في الأسفل يضجّ بالفرح , بينما أنا وحدي أتسامى بحزني نحوَ الأعلى .
أخرجتُ من خزانة ملابسي فستاناً أسود يليقُ بمأتمِ أحلامي الصغيرة , و وضعتُ القليلَ مما قد يخفي تورّم عينيّ ثم ذهبتُ لأساعد أمي و منى في إكمال الترتيبات


**

كنت أهم بإغلاق باب غرفتي ذاهباً إلى العزيمة التي يعدها عمّي بمناسبة عودتي , قابلني أبي في طريقهِ للذهاب أيضاً , تحدّث و هو ينزل السلم بلهجةٍ أبعد ما تكون عن التفاوض
- هاليومين إن شاء الله بكلم عمك عن زواجكم , جهّز نفسك .. بيتك من زمان جاهز و فيصل و وزوجته ما قصروا
كنت أعلم أن معارضة لهجة خطاب كهذهِ لن تنتهي بأقلِ من صدمة , فلم أجد سوى الصمت حيلةً في محاولة إدراك هذهِ الأحداث السريعة


تمت العزيمة بكلِ احتفاء , كل الانطباعات كانت كما هي فرحة عرسٍ منتظر و ليسَ احتفاءُ عودة , كيفَ لا و هم يعيشونَ فرحة إتمام الوصايا المُعلّقة
بعدَ أن غادر الجميع دعانا عمّي إلى جلسة مُعدّة في حديقةِ المنزل .. لم يكن هناك سوى جدّتي و أمي و منى زوجة فيصل و فتاة أخرى أظنّها الحظ المُرتقب .
كانَ تسامراً مفعماً بالأجواء الحميمية التي افتقدتها منذ سنواتٍ طويلة .. كنت أحاول أن أسترق النظر إليها لكنها بدت هادئة جداً و أبعد ما تكون عن أحاديثنا و صخبِ ضحكاتنا
شاهدتها وهي تذهب باتجاه العم صالح الذي يفرشُ فراشه تحت السدرة العتيقة .. تحدّثا قليلاً ثم عادت نحونا و أنا على أمل أن أرصد مؤشراً واحداً أعلق عليه أملاً بحياة مستقرة


**

في تلكَ الساعات القليلة استحالَ بيتنا إلى ثقبٍ صغير , بكلِ رحابتهِ لم يستطع أن يحتوي ضيقتي . حتّى هواء مدينتنا أصبحَ خانقاً و لا تكفي ذراته لإشباعٍ رئتي .. أصرت جدتي على الذهاب إلى قريتها الليلة , و لم تستطع محاولات أبي و عمّي إثنائها عن رغبتها في العودة أو المكوث حتى الصباح .. انتهزتُ فرصةَ ذهابها لأرافقها بعيداً عن الكآبة التي أثقلت كاهلَ صمتي .. أخبرتُ أمي و منى و صعدتُ إلى غرفتي لتجهيزٍ سريع للذهابِ معها .
أخرجتُ حقيبة يدوية كبيرة وضعتُ بها ما يلزمني بالإضافة إلى كتاب يختصرُ عليّ وحشة الطريق .
ذهبتُ نحوهم و أنا أرى فيصل يساعد جدتي في إيصالها إلى السيارة .. توجهتُ نحو سيارة فيصل و وضعت حقيبتي بجواري , من خلال النافذة لاحظت منى تركض باتجاه فيصل و تهمس في أذنه و يبتسم ..
ما إن رجعت منى حتى توجه فيصل إلى والدي .. حدّثه قليلاً ثم توجّه بالحديث لأخيه
- ودهم أنت .. ما عندك شي
شهقت من الصدمة العنيفة التي سددتها منى باتجاهي , لا أعلم كيفَ أنقذ نفسي من ورطة كهذهِ اجتهدتُ بالهروب منها لأجدها تطاردني
لحظتُ اضطرابه الشديد من حديث فيصل لكنه سلّم للأمر و أخذ المفتاح من يد أخيه بانزعاج واضح و أتى باتجاهِ السيارة

 
 

 

عرض البوم صور ارادة الحياة   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)
facebook




جديد مواضيع قسم القصص المكتمله
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 04:56 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية