كاتب الموضوع :
ارادة الحياة
المنتدى :
القصص المكتمله
الفصل الثالث
مضت إجازةُ الأسبوع حافلة باللحظاتِ الصاخبة برفقةِ مُنى و أبنائها , لم تتنازل أمي عن مبيتهم عندنا في يوميّ العطلة .
كنتُ أستمع لوقعِ خُطى أبي و هو ينزلُ السلّم متجهاً إلى المسجد بعدَ آذانِ الفجر , تاركاً وراءهُ خيطاً روحانياً من تسبيحاتِ السَحَر . تتبعهُ أمي بعدَ قليل لتفرشَ سجادتها في الصالةِ العلويّة .. كنتُ أشعر بالسكينة تتسللُ خفيةًَ من خلالِ بابِ غرفتي المُوارب .. ابتهالاتُ أميّ و أكفّها التي ما فتأت تبسطها باتّجاهِ السماء تُكسبني طمأنينة و خشوع .
و ماهي إلا دقائقٌ معدودة و تعودُ أمي لتطرقَ بخفّة بابَ غرفتي و تتبعهُ بغرفةِ مُنى المُجاورة ثم تذهب لإعدادِ إفطارنا و سماحةُ الفجر تنبثقُ من ملامحِ وجهها الوقور .
بدأت ساعاتُ العمل الأولى مزدحمةً بالمهام , شرعتُ نافذة المكتب و بدأت في جمعِ الأوراق المُدون عليها بيانات أحد المشاريع ..
رأيتُ من خلالِ الباب الزجاجيّ المهندس فهد في طريقهِ نحو الماكينة الآلية أقصى الممر ليحضر قهوته .. كنتُ أعرف أنه لابدّ أن يمر على مكتبنا للتحيّة الصباحية المُعتادة ,
تظاهرتُ بالتركيز الشديد في إدخال البيانات المدوّنة إلى الحاسب , رفعتُ نظري بلمحةٍ سريعة و رأيتهُ متكئ على حافةِ الباب بابتسامتهِ المُتهكّمة , عدتُ للانشغال بطباعةِ الأرقام
- أحمد أحمد .. بالله تعال
مااااشاء الله شوف الإدارة اللي ننحسد عليها , موظفات شغّيلات بجد
وحدة لاصقة بالشاشة و الثانية ما تشوف راسها من كثر الملفات و بالأخير أنواااع الأخطاء بالتقارير
بالله لو إنكم على سوالف الضحى الحين مو أصرف ؟
كنت أغالب ضحكتي و أنا أرى المهندس أحمد الخجول يحاول اصطحابه معه
- الله يعينهم عليك والله , امش بس
- خير يا أخوان ؟؟!
أدرنا رؤوسنا جميعاً بهلع نحوَ الصوت القادم من خلف المهندس أحمد .. لم يكن سوى مديرنا الجديد
لم أستطع إخفاء شماتتي و أنا ألحظ الإحراج يزحف بشدة على ملامح المهندس فهد
- لو سمحتوا هالتسيّب مرفوض بين المكاتب و الممرات , عندكم كافيه تحت بالبريك سولفوا براحتكم لكن بساعات العمل ممنوع
يحاول المهندس أحمد إنهاء الحديث بصوته المضطرب
- ابشر
خرج المدير بانزعاجٍ واضح و لحقه المهندس أحمد , و ما إن اختفى من الممر حتى انفجرت حياة بضحكة مكتومة
- ههههههههه بتحط نفسك بمواقف بااااااايخــة
- هيّن يا حياة .. إن ما عذبتك بالتقارير ما أكون فهد
أكملنا اليوم بجدّية أكثر , لن يصعب على المهندس فهد أن يكسب ود المدير , فكل من في الشركة يحبّونه بقدرِ ما يعرّضهم لمواقف محرجة أمام زملائهم
في ظل الإدارة الجديدة بدت الشركة أكثر تنظيماً في نتاجها و خطط سيرها عمّا هي في السابق و الفضل في ذلك للإدارة الحاذقة وإلى كادر العمل . فقد كانَ المهندس فهد هو الأكثر كفاءةً في الإدارة الحالية . امتلاؤه بالشغب و الحياة كان مكملاً لنشاطهِ كعنصرٍ فاعل يعدُّ ورقة ربح للشركة .
انقضى شهرٌ الآن , و وضعُ الشركة في ازدهار دائم , أصبحتُ أكثر إتقاناً و مرونة في التعامل مع طبيعة عملي , جدّية الإدارة كانت ذاتَ مردودٍ إيجابيّ بالنسبةِ لنا .
أوشكَ المنهدس فهد على إنجاز المشروع المُكلّف به . المجسّمات العينية كانت مذهلة جداً , فهو بارعٌ في ترجمة الأفكار الصغيرة على الواقع إلى كتلٍ هندسيّة غاية في البراعة و الإتقان .
حياة كانت ضمنَ الطاقم الإداري المهتم بالمشروع و على اتصالٍ مُباشر مع المهندس فهد
أحدى الليالي هاتفتني بصوتها الخافت , أخبرتني أنها تُعاني نوبة حُمى و تحتاجني في إدخال بعض البيانات و إرسالها للمهندس فهد , وافقتُ على مضض أن أتواصل معهُ على بريد العمل الخاص به لأنّني لم أجد بُدّا من مساعدتها .
أمضيتُ ساعات طويلة في إنجازها و بعثتها على البريد .. أخبرتهُ في نهاية الرسالة إن كان هنالك ثمّة ملاحظات بإمكانهِ أن يرسلها لأتممَ تعديلها في أسرع وقت
خلال دقائق بسيطة وصلت إضافة على بريدي , لم أستغرب كثيراً هذا التصرّف من صاحب الإقتحامات الفجّة
ألقيتُ عليهِ التحيّة و سألته بشكلٍ مُقتضب عن المواد التي بعثتها له .. أخبرني أن التنفيذ كانَ بالشكل المطلوب . لم أُطلْ في حديثي معه .. استأذنتهُ و سجّلت خروجي و الحيرة تنتابني من هدوئهِ المُفاجئ .
تذكرتُ أن حياة قد أخبرتني منذُ مدّة أنهُ أصبحَ هادئاً على غيرِ العادة .. صامتاً و مُتفانياً أكثر في العمل .
أتى يومُ الأربعاءِ الذي تنتظرهُ أمي كُل أسبوع .. حنينها كانَ يطوي لحظات الترقّبِ الباردة .
لم أدرك صدقَ ما يُقال بأن " ما أعز من الولد إلا ولد الولد " إلا حينما أرى أمّي ليلةَ الأربعاءَ تستنفرُ كل طاقةِ من هم بسنّها بأن تعيدَ ترتيب غرفة مُنى بنفسها , و تملأ الثلاجةَ الصغيرة بعُلبِ المشروبات و ألواحِ الشوكولا لأبنائها ثم تقضي نهارها باستعجالهم في المجيء .
عادَ أبي بعدَ صلاةِ العشاء .. و ذهبتُ أنا لمساعدةِ أمي و منى في إعداد العشاء بحديقةِ المنزل
كانَ الجو مُحرّضاً للبوحِ الداخليّ أكثر من التسامر برفقةِ آخرين
جميلٌ أن تتواطأ الطبيعة مع أرواحنا بهذا التلاحم الفطريّ .. اتّساعُ الأفق كانَ كعكّازٍ يستثيرُ الحزنَ للإتّكاءِ عليه .
جلستُ في ركنٍ بعيد أستمعُ لحديثهم حيناً .. و أسترقُ النظرَ إلى العم صالح الذي كانَ يجزُّ النعناعَ حيناً آخر .
كانَ أبي مُستلقياً يرقُبُ السماءَ بعينٍ مُغمضة .. لكنّهُ بيصرها بعينِ قلبه .. أجزمُ أنّ طيفُ جدّتي يتراءى لهُ الآن . على قدرِ ولعها به إلا أنّها ترفضُ أن تُفارق قريتها للعيشِ معنا .
سحبتُ حجابي و أخذتُ كوب شاي للعم صالح .. عندما شعرَ بمجيئي التفت إليّ بابتسامةٍ ثمّ عاد ليمارس شغفهُ في الاعتناءِ بكل الكائنات الصامتة في الحديقة .. العم صالح بذرة كُل ما هوَ ينبضُ بالطيبةِ في بيتنا .. هكذا هم صانعوّ العطاء .. لا يهتمّون بحياتهم بقدرِ اهتمامهم بتهيئةِ حياةِ الآخرين من حولهم .. و كأنّ السعادة الداخليّة لديهم تستمدُّ عنفوانها من سعادةِ الآخرين ..
ينفضُ يدهُ عن التربةِ العالقة بين أصابعه و أناولهُ كوبَ الشاي و أمضى نحو المنزل .
صعدتُ إلى غرفتي و شرعتُ النافذةَ في وجهِ الليل .. فرقٌ شاسع بينَ غرفتي و غرفة أختي مني
كما هو الفرقُ السحيقُ بينَ طبائعنا .
الفوضى الداخليّة التي تعتريني تتجسّد بشكلٍ ملحوظ في غرفتي .. تُحاولُ أمي كثيراً أن تحدَّ من فوضويتها إلا أنّني أستاءُ من أيّ اقتحامٍ لما يخصّني .
تمتدُّ انفعالاتي الداخليّة على جدرانها .. و معالمها الصغيرة , كل ركنٍ بها قد اختزلَ شيئاً من أيامي ,
تلكَ المرآة وحدها من تملكُ الإجابات الكافية لإدانتي بالبكاءِ المشهود . حتّى الأريكة تقرأ جيّداً حركاتي و سكناتي و أيّ الكتب و الأفلام تستثيرُ ميولي .كم تبعثُ كل هذهِ التفاصيل رغبةَ البكاء ... أو الاحتواء
لا يهم ! .. المُهم أنّني بحاجةٍ مُلحّة إليهما الآن .
|