كاتب الموضوع :
ارادة الحياة
المنتدى :
القصص المكتمله
الفصل السادس
أيُّ محاولة للخروج من مأزقٍ كهذا ستكونُ باعثةً للسخرية .. سلّمتُ بالأمر و حاولتُ أن أبدو أكثر اتّزاناً و أنا أراه في طريقه نحو السيارة .. ألقى تحيّة بصوتٍ منخفض ثم أدارَ المحرك في طريقهِ لخارج المنزل
كان الصمتُ سيّد الموقف , حتى جدتي التي تمضي كل أوقاتها تقتاتُ على ذكرى الماضي أو حوادثِ القرية كانت صامتة .. أظنّها قد اكتفت من الأحاديث الطويلة التي تبادلتها مع جاراتنا هذهِ الليلة .
قطعنا مسافةً قصيرة ثم أوقف السيارة في محطة قريبة
- بروح السوبرماركت تبون شي ؟
- جدتي : سلامتك بس لا تطول
خرج باتجاه المحل القريب
- نسيت أقوله يجيب حليب معه , انزلي يا بنتي قولي له
- مو مشكلة الحين إذا جاء قولي له يرجع
كنت أحاول أن أتهرب من أي أمر يجبرني على الاحتكاكِ به , لكن جدتي عاودت الحديث بإصرار
- تروحين ولا أروح أنا ؟
لم أجد منفذاً آخر فذهبت بضجر تجاه المحل , رأيته يهم بالمحاسبة .. لم أكن أريد مخاطبته فذهبت لأحضر لي مجلة أتسلى بها في الطريق و أحضر لجدتي ما تريد .. في طريقي للعودة لاحظته يأتي نحوي بانزعاج ثم استوقفني بنبرة حادة
- وش جايبك هنا ؟ مو سألتكم وش تبون ليه ما قلتي ؟
لم أكترث لحديثه و توجهت نحو المحاسبة لكنه نزع الأغراض من يدي بشدة
- بعد بتحاسبين ! ارجعي السيارة بسرعة
كل هذهِ الحماقات تفوقُ قدرتي على تجاوزها , اتجهت نحو السيارة بغضب , و أغلقت الباب خلفي بشدة
- وين اللي وصيتك ؟
لكن كنت أبعد ما يكون عن القدرة على الكلام , أتى من الجهة الأخرى للمقعد الخلفيّ و وضع المشتريات بانزعاج ثم اتجه لمعاودة القيادة
- الحين أنا كنت رايح ليه ما قلتي تبين شي ؟
- ........
- وش فيك على البنت ! أنا اللي نسيت أقولك و خليتها تروح
صمت و أشاح بوجهه نحو الطريق و حاولت أنا بجهدٍ مستميت أن أستعيد شيئاً من توازني
مضت ربع ساعة في الطريق و لا صوتَ سوى طنين الصمت المزعج .. جدتي تمتم بالأذكار بهدوء و أنا أراقبُ أعمدة الإنارة المزروعة بانتظام في الطريقِ الموحش ..
بعدَ قليل خفف سرعتهُ قليلاً و هيّأ المقعدَ الأماميّ بطريقة تسمح لجدتي التي غالبها النعاس بالاسترخاء أخرجتُ هاتفي لأصرفَ انتباهي عن هذا الجو الخانق و سجلت دخولي للماسنجر
قم للمهندسِ وفّه التبجيلا :
هلا بالطويلة .. خلصت عزيمتكم ؟
مسار خاطئ :
ايه .. و الحين رايحه مع جدتي و بكرى أرجع
صمتنا قليلاً ثم بادرني فهد بالحديث
قم للمهندس وفّه التبجيلا :
اسمعي يا بنت الناس
قم للمهندس وفّه التبجيلا :
أنا يئست إنك تلتفتين لي , و قلت يا رجال اصبر و خلك هادي و رزين يمكن على الله تحس
قم للمهندس وفّه التبجيلا :
لكن الظاهر عندك بطء استيعاب عاطفي
قم للمهندس وفّه التبجيلا :
المهم إني قريب بطق باب بيتكم و أقول لأبوك اسمع يا ناصر , أنا طالب يد بنتك المصون
و يا ليت توافق برضاك ولا تراني بخطفها من مكتبها
قم للمهندس وفّه التبجيلا :
ولا وش رايك أخطبك من سواقكم اللي تحبينه ؟ عاد لو ما وافق والله لا اسفره
قم للمهندس وفّه التبجيلا :
تراني ما أشاورك ! .. ماعندنا بنات يقولون رايهم قبل أهاليهم
بس قلت أعطيك خبر علشان ما تفاجئين
قم للمهندس وفّه التبجيلا :
آلووو
.
.
" مساء خاطئ قام بتسجيل خروجه "
أحترقُ اعتذاراً يا فهد .. أحترقُ اعتذاراً على هذا الرد الذي صفعتكَ به , مفاجآت القدر الصعبة أكبر من أن يستوعبها سقف إدراكي .. كنتُ أعبرُ حديثكَ باحتراسٍ شديد .. و عبرةٌ تخنقني أحاول أن أبتلعها لأمنعكَ من إتمامِ الحديث .. لكن كما اعتدتُ دائماً من أقدري السيئة .. تركلني بتتابعٍ دون أن تمنحني فرصة استعادة توازني
كنتُ أقرأ كلام فهد و كأنّني أشاهدُ لمعةَ عينيه تلك .. لكن لم أشأ أبداً يكونَ ردي طاعناً فيطفئها.
الصمت هنا يقوم بدورهِ الكريم معي لأول مرة ..
لم أستطع أن أمنعَ خيطاً ساخناً من الدمع يُلهبُ وجهي .. حاولتُ أن أبتلعَ غصّتي كي لا أثيرَ انتباههم لي لكن نشوة الثقة و الفرح العارمة في حديثِ فهد تؤلمني حدّ البكاء .
**
شعرتُ بتأنيبٍ شديد على معاملتي الجافة عندما أخبرتني جدتي أنها هي من بعثتها .. لم أكن أودُّ أبداً أن يكونَ أولُ احتكاكٍ لي بها بهذهِ الطريقة الفظّة .. رغمَ كل استفزازاتها اللامُبرّرة بتجاهل سلامي و حديثي عندما أسألها عن شي .. كنتُ أظنّ أنها سكوتها كانَ خجلاً و من فرطِ سعادتها بتمضيةِ وقتٍ طويل معي .. لكن كل تصرّفاتها لا تُشير لشيءٍ كهذا أبداً
بدأت تساورني الشكوك بأن الرفض متبادلاً بيننا .. لكن هذا يحرّضني لاستكشافِ شعورها أكثر .
ما إن استرخت جدتي حتّى سلمت نفسها لنومٍ عميق .. و لا يقطعُ الصمتَ شيئاً سوى صوتُ محركِ السيارة و صوتُ ضميري الذي ما فتئ يؤنّبني
بعدها سمعتُ صوتَ شهقاتٍ خافتة .. لم أتمالك نفسي عندما ميّزتُ أنهُ بكاء .. خففتُ السرعة قليلاً
و أدرتُ وجهي بنصفِ التفاتة
- تبيكن !! ما عاش من يبكيك يا الغالية
- والله آسف .. أنا بس عصبت يوم إنك ما رديتي و بعدها لحقتيني و السوبرماركت مليان
- حقك على راسي يا بنت العم
لا إجابة كالمعتاد , لكن يكفي أنها توقفت عن البكاء .. تنهّدتُ بانزعاجٍ من تصرفي .. لا أحتمل أن أؤذي شعورَ أنثى بهذهِ الطريقة الجافة
بعدَ قليل سمعتُ صوتَ تقليبِ صفحاتِ كتاب .. هذا يُريحني قليلاً طالما صرفها عن البكاء
كانت تقرأ و هي تمسّد جبينَ جدتي القريب منها بحنان .. حنانها كان يفتك بما تبقى من تماسكِ ضميري تجاه سلوكي معها
فكرتُ بأي شكلٍ ستكونُ الحياة مع أنثى بهذا القدر من الحساسية ؟! و كيفَ الدربُ معها يبدو مُربكاً لرجلٍ مثلي لا يُحسنُ التعامل مع أنثى خاصة .. لم أكن أثق بقدرتي على تبنّي حياةَ امرأة .. و أنا الذي أمضى حياته في صداقةِ الموجودات , و في المكوثِ طويلاً على مقعدٍ خشبيّ في حديقةٍ عامة , أتصفّحُ كتاباً أو أقرأ وجوهَ المارّة و تناغمِ زوجين مُسنّين أو عبثِ أطفالٍ أشقياء
ثم أمضي لأتسكع في أنحائها ملتقطاً ما يسقط من جيوبهم من ذكرى أو همسةٍ تُلقى خلسةً في أذنِ عاشق .
لم أجرّب دورَ البطولةِ أبداً .. دائماً أختارُ لي دورَ المخرج الذي يقف في زاويةِ مسرحٍ عتيق , يعملُ بصمتهِ بينما أضواء الفلاشات تركّز على أبطالِ المسرح , ثم يجوبُ الطرقات و لا أحد يستوقفهُ لصورة تذكارية أو توقيعٍ هامشيّ
فدائماً على الهامش من يستحق أن يعتلي أول السطرِ في سجلٍ وثائقيّ .
و هاهيَ الأقدار تقذفُ بي إلى حياةٍ مُكتظّة بالمفاجآت الصعبة .
لاحظتُ سكونها التام .. نظرتُ إليها من المرآة الأمامية .. كانت تنظر للطريق الطويل بشرود
احترمتُ سكوتها الذي كان موشراً كافياً للاطمئنان بأنها قد تجاهلت الموقف .. تنهّدتُ بارتياح و أدرت مسجل السيارة ليخفف شيئاً من وطأةِ الصمت .. حاولتُ أن أختارَ أغنية بعناية كتعبيرٍ عن تكرار اعتذاري حتى لو كان بطريقة سخيفة .. على الأقل قد تستجيبُ لها طالما أنها لا تستجيب للحديث معي أبداً
سولفي للناس عني .. قولي إني ما عرفت أختار من قلبي يحبه
سولفي للناس إني .. ما قدرت أقرا وجوه الحاضرين من الأحبة
أعترف لك إني فعلاً ما عرفتك
ما قدرت أوصل مع قلبي لحل و ما فهمتك
تجمعين الضد في كل الأمور
غامضة مرة و مرة مثل نور
تشبهين أيام أوقات الخريف
و تمطرين أحيان إحساسك زهور
صدقيني .. صرت من بعدك أخاف
و أعترف إن الخلاف واسع طريقه
و إننا ما نلتقي في أي شي .. فينا اختلاف
للأسف هذي الحقيقة
تنهّدتُ بعمق و عاوتُ التركيز على الطريق بشكلٍ أكبر فلم يبقَ الكثير عن وصولنا
بعدَ دقائق معدودة وصلنا للقرية النائمة بسلام .. لا يقطع سكونها المُهيب سوى أنوار السيارة و حفيف الأشجار و أصوات الحشراتِ الليلية
أدخلت الأغراض إلى بيتِ جدتي الذي يشغل مساحة مُرتفعة قليلاً كرابية في طرفِ القرية .. و هممنا جميعاً بالدخول , ذهبت جدتي لتنام و لحقتها ابنة عمي إلى غرفةٍ مجاورة .. ثم أتت لتحضرَ لي فراشاً و غطاء .. و ضعتهما بجانبي وعادت إلى الغرفة .
استلقيتُ أنا في محاولة بائسة لاستحضارِ النوم لكن كل المحاولاتِ ذهبت سُدى ..
رأيتُ إنارة غرفتها مازالت مفتوحة .. ذهبت و طرقت الباب بخفة ثم أتى صوتها من بعيد
- مين ؟
- لو ممكن ابي اقرأ شوي بالكتاب اللي معك
- لحظة طيب
ناولتني الكتاب و ذهبتُ نحو فراشي و أنا أحمل أملاً و لو باكتشافٍ بسيط لنوعيةِ قراءتها و ميولها
|