كاتب الموضوع :
ابشر ولبيه
المنتدى :
القصص المكتمله
)(1)(
لم تكن الأقفال تعني له الكثير من قبل،
أجل كانت تعني له الكثير عقلا،
لكن ليس عاطفة كما هي الآن،
لأول مرة يثير فيه قفل الغضب والقلق.. والعجز!
شعر بأنه يكاد يتربع أمام ذلك الباب -بانتظار أن يفتح وحده- ككل هؤلاء الجالسين أمام محاريبهم بانتظار.........!!!
أجبر خواطره على استخدام مكابحها، وحرك المفتاح في القفل مرات عدة، ثم زفر بغيظ وهو يقرع الجرس للمرة الألف، أين هي تلك الـ؟!
ضغط أسنانه على بعضها بقوة محاولا تجاوز أفكاره وعيناه تبرقان غضبا ونفاذ صبر، وتراجع محدقا بالباب الموصد أمامه،
يكسره؟!
يرميه بكل قوة جسده كما اعتاد أن يرمي العجز بكل قوة عقله وتصميمه؟؟
اعتاد؟
قد كان لتصميمه أمام العجز استثناءات تجرع فيها الضعف والتخاذل حتى القطرة الأخيرة، وكانت هي إحدى الاستثناءات، وهم من قبلها.
أيكسره؟
ولعله بعده سيكسر رأسها و..
التقط نفسا عميقا زاد غضبه اشتعالا وهو يتذكر الباب الآخر!!
تأمل مفاتيحه لحظة، ثم انطلق إلى جانب البيت الغربي ليقف أمام باب المخزن الخشبي، حاول بمفاتيحه مرات دون جدوى، فزفر وقد تعاظم قلقه و..
ضربتان لم تحتج أخشاب الباب الصلبة إلى سواهما من قدمه!!
ولم يحتج هو إلى النظر إلى باب المنزل ليتأكد من وجود مفتاحها فيه.
أخطأ عندما........
استغفر وهو يزفر ويخطو داخل المنزل بكل.. هدوء!!
((نفخت بغيظ للمرة الألف وهي تتساءل إن كان السمج القابع بجوارها يحس ويشعر؟!
لكنه التفت إليها هذه المرة ليرمقها بنظرة هادئة زادت غيظها، مم خلق؟!!
وصلا أخيرا، فنزلت ووقفت تراقبه وهو ينزل الحقائب ويدفع للسائق الذي أقلهما من المطار قبل أن يتقدمها بخطوات واسعة نحو منزل صغير أنيق بحديقة فسيحة ذات رونق وتبدو العناية واضحة عليها.
تنهدت وهي تخطو عبر العتبة إلى العتمة التي تلف مدخل المنزل فباغتتها الأضواء التي أنيرت فجأة لتشمل صالة أنيقة، أدارت بصرها فيما حولها بينما عاد يحمل حقيبته تاركا حقائبها بجوار باب داخلي مقابل لباب المنزل ليعبره إلى حيث لا تدري.
جلست على أقرب أريكة إليها وهي تتساءل عن مكان مبيتها وعن غرابة أطوار هذا الأخ. أثمة أعزب يسكن بيتا كهذا؟ ومن يهتم بأمره؟
شهقت وقد خطر ببالها سؤال: متزوج؟! أيعقل؟
عاد إلى الصالة ليحمل حقائبها ويتمتم بنصف ابتسامة: تفضلي أيتها الساهمة إلى حجرتك.
ومضى دون أن ينتظرها لكنها لم تتبعه،
كان ثمة ثقلا يشدها إلى حيث تجلس وخوفا من القادم يعجزانها عن اتباعه.
عاد بعد ثوان بحاجبين معقودين: ألا تريدين..
قاطعته بسرعة فاجأتها هي نفسها: لا أريد منك شيئا، أعدني إلى بيتي.
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يتأملها بنظرة لم تفهمها
فنهضت وصرخت به: ألا تسمع؟
تمتم وعيناه لا تزالان تبحثان في وجهها عن شيء ما: كفي عن الصراخ.
عادت تصرخ: سأصرخ كما أشاء حتى أعود من حيث جئت، ليس عدلا أن تجبرني على العيش هنا. ثم أين هي؟!
لاح غضب في عينيه: كفي عن هذه التصرفات الخرقاء، واخفضي صوتك.
زادت صوتها ارتفاعا: هل تظن أنني سأكون نعجة مطيعة، نسيتني إذاً أيها الأخ البار...
هدر صوته فانتفضت بذعر: اصمتي.. إياك أن تصرخي مرة أخرى أيتها الأخت المهذبة، وإلا رأيت ما لا تسرين له.
ارتجفت شفتاها وغلبتها فورة مشاعر غصت بها مذ سمعت أن أخاها جاء بحثا عنها: أكرهك، أكره اليوم الذي تذكرت فيه أن لك أختا، لماذا لم تنسني بقية حياتك كما نسيتني من قبل ونسيت أبويك؟!
وازدادت النظرة الغريبة في عينيه عمقا وهو يستدير قائلا: اتبعيني إلى حجرتك.
صرخت والغيظ يحيل ما بقي لها من صبر رمادا: ألم تفهم أنني لا أريدك ولا بيتك ولا حجرة فيه؟!!
لكنه لم يرد!
وقفت تحدق بظهره وهو يمضي مبتعدا والخيبة تشلها!
زاد ارتجاف شفتيها وهي تقاوم لتكتم دمعها وشعور فظيع بالخذلان يشد قلبها إلى قاع معتمة بلا نهاية. التفت نحوها وقال بذات هدوئه: لك أن تقضي الليلة حيث أنت إن شئت.. أنصحك بالأريكة اليسرى فهي مريحة.
فارتجفت نبضاتها ذلا وقهرا،
يعلم أنها رافقته رغم إرادتها مغلوبة على أمرها،
فهل يريد أن يشظي روحها أكثر..
يذكرها بانتصاره على رفضها،
أم تفعم تصرفاته إحساسه برجولته؟
تساءلت فيما إذا كان بقاؤها في الصالة عنادا فارغا يرهقها وحدها، أم هو صرخة يائسة تخبره أنها ترفضه وترفضه وترفضه؟
رحمك الله يا أبي!
ألا ما ذاقت الذل فتاة لها أب!
التفت حين بلغ باب حجرتها ليراها تستدير بانكسار وألم عائدة إلى الأريكة التي نصحها بها بسهوم، جلست.. ثم انتفضت بغتة واقفة كأنها أدركت أنها سارت على رغبته، ورفعت بصرها إليه ليتلاقى السؤال في عينيها بعينيه اللتين اكتستا أخيرا لون السخرية!
ليس سويا،
محال أن يكون لوح الجليد هذا آدميا،
محال أن يكون هذا هو هو أخوها..
رغم كل ما ملأ قلبها في سنوات غيابه ظلت تتمنى لو تكتشف أعذارا لكل تصرفاته، لو يمنحها الفرصة لتثق به وتطمئن إليه، وتستعيد حبا لا يزال ينادي صحراء قلبها كسراب أو حلم تكاد ملامحه تتلاشى، كم كانت تحبه!!
لا تزال تذكر جيدا أنها كانت تحبه حبا يكاد يوازي حبها والديها، لا تزال تذكر قربه وحنانه، فهل هذا هو الذي تذكر؟!!
خطت ببطء نحو الأريكة الأخرى وهي تشيح بوجهها عنه،
فتوجه هو إلى حجرته ودخلها..
ثم أغلق بابه بلامبالاة،
أليس هذا خيارها؟؟
تبسمت عيناه وهو يستعيد كل الهراء الذي قاله لها مذ أوشكت طائرتهما على الإقلاع حتى الدقائق الماضية، لعله كان يجب أن يتجاهل وجودها كما فعل طوال السنين الماضية. ماذا عساه يفعل بهذه الطفلة؟!! حتى إنها لا تصلح لشيء!
بالمقابل رتبت هي الوسائد خلف ظهرها واكتفت بالأضواء الخافتة المتسللة من النوافذ،
وكافحت كيلا تبكي..
لماذا تبكي؟
قدر اليتيم أن تسير الدنيا بأصغر تفاصيلها عكس هواه،
فكيف إن كان اليتيم فتاة!!
وتعرفه منذ سنين،
قالت لوالدها منذ زمن ألا خير يرتجى فيه،
وهي تعلم علم اليقين أنه لا يريد بها خيرا،
وليست غايته أن يهون عليها الحياة بعد الأحبة.
ليس في الدنيا قلب يحنو عليها للحظة كحنوهما،
فلا داعي لكل مشاعرها المرهفة ولا حاجة بها إلى قلب تجرحه حتى الكلمات، يجب أن تغدو بلا قلب حتى تتحمل ما بقي لها من عيش بعدهما.
ضمت كفيها إلى صدرها وشعور بالبرد يغمرها..
برد الليل أم برودة قلبها؟!
يارب هب لي من لدنك صبرا يالله!
يارب..
يارب..
يا رب!
وسالت دمعة من طرف عينها اليسرى.
ولم يستطع هو أن ينام،
كانت ثمة أنفاس أخرى تتردد تحت سمائه، وهو الذي لم تدخل مملكته أنثى بعد أمه! وهي لم تعد تلك الطفلة التي عرف، بل غدت صبية لم يتخيل يوما أنها ستصيرها. لا ريب أنها حولت الغرفة إلى بركة.
زفر بملل ونهض ليتفقدها بعينين اعتادتا الظلمة،
متكورة على نفسها ضامة ذراعيها إلى صدرها وثانية ركبتيها،
دون شهقات وزفرات ولا أنين!
دنا منها لتتوضح في سمعه تمتماتها: يارب!!.
تغيرت ملامحه وبرقت عيناه..
تأملها للحظات ونبضات قلبه تشتد في أذنيه حتى خيل إليه إنها تكاد تبلغ بيوت جيرانه، دنا خطوة منها وابتسامة تناوش شفتيه فتوقف حتى طواها في أعماقه ثم دنا أكثر وكلمها بصوت خفيض، فلم ترد ولا تغيرت ملامحها، فدس ذراعيه تحتها وحملها بخفة وهدوء إلى فراشها دون أن تخفف من شد كفيها على ياقة ثوبها،
ودون أن تصمت شفتاها الهائمتان كخيط دخان..
كصرخة أخيرة يائسة.
تنفس بعمق وهدوء وقلبه ما زال ينبض بكل قوته..
أتراها ذاقت اليأس وعرفت الطريق إليه؟
أتراه.. أتراها ضاقت عليها الدنيا حتى لم تجد سواه رحيما يسمع لها ويجيبها؟
أتراه قسا عليها ففرت منه إلى مولاه؟
ارتجف قلبه لكنه لم يحاول البحث عن جواب كيلا يعود لما يفر منه منذ سنوات،
هل سيأتمن هذا الجسد النحيل الضعيف على قلبه؟؟
وأحنقته حيرة طافت بعقله لحظتها فرماها بخشونة على فراشها فانتفضت فاتحة عينيها بذعر وشهقة من أعماق صدرها تشق هدوء الليل، وتجرحها للمرة الثانية تلك العينان الحادتان: ماذا تريد؟ لست أحتاج..
قاطعها: لست من يريد، أنت من يحتاجني، فتذكري ذلك جيدا.
أَنَّتْ فرمقها بنظرة أخرى غريبة تخللت كل عروقها وأعصابها
ثم غادر مسرعا دون أن ينطق،
وبكت الشوق حزنا.. وانكسارا!))
|