كاتب الموضوع :
ابشر ولبيه
المنتدى :
القصص المكتمله
)(25)(
لم ينظر إليه نظرة عبد الرحمن وهو محاط بعشرات الشباب الذين يحتاجون على الدرب خطوات فقط وقليلا من الإرادة لكنه انشغل عنه وعنهم بالعابس الجديد متجاهلا جفاءه ونفوره من الجميع، وتعمد أن يشاركه كل مشروع وكل ورقة عمل بل وكل تدريب.
كرر مرارا: لعلك على صواب يا عادل، فثمانية شبان مكسب كبير، لكنني أراه مميزا ووحيدا.. هؤلاء الثمانية سيتكاتفون ويتعاضدون إن صدقوا في رغبتهم في اتباع هذا الدرب على مشاقه، لكنه وحده سيهوي منذ العائق الأول.
وقالها مرة ثم لم يعد إلى تلك الكلمات قط: أحيانا ينجب عبث الإنسان كائنا شاذا غريبا.. وربما شائكا ساما، لكنه ليس من أراد نفسه هكذا.. عار علينا بعدما مزجنا السم أن نكرهه وننفض أيدينا منه.. ربما يحتاج قطرات صدق من قلوبنا -التي لم تعد تعرف غير النفاق والكذب- ليغدو خيرا منا جميعا!!
ومرت أشهر وعبد الرحمن منه على مسافة واحدة لم يدن خطوة،
وهو لم يتدخل بل انصرف إلى ما كان بدأه تاركا صاحبه يمارس قناعته وإن كان يراها هدرا للجهد فحسب.
وكعادتهما، جلس وسط الظلام متكئا إلى جدار المهجع يسبح ويذكر الله، بينما وقف أمامه عبد الرحمن يصلي بخشوع وقد تمازجت الآيات على لسانه بالدمع المنهمر من عينيه..
تأمله مليا وهو يذكر حينا ويفكر حينا آخر.. أحيانا تكون المصائب أو الصعوبات والهموم مجرد اختصار للمسافات إلى الله.. وتبسم وهو يملأ صدره برائحة دمع عبد الرحمن ويفكر بأنه مذ انشغل بمحمود صار أكثر خشوعا وبكاء في قيامه..
من يراه يثق بأن هذا الجسد الواقف بهذا الافتقار يحمل جبالا من الهموم.. في حين أن همه الوحيد هو سؤال مرير: ما حال نيتي حتى لم تقبل عملي ولم يثمر؟ أتراه زاغ البصر؟ أم تراه نبت في قلبي رياء ونفاق؟
أم تراها التربية؟ فالصادق لم يثمر جهده مع كل أحبته!!
ويصلي بتلك الصفة التي يعشقها.. يقف حتى يجاوز الجزئين تلاوة، ثم يركع بقدر وقوفه، ثم يسجد بقدر ركوعه وتختنق أنفاسه بالدمع فيقلق عادل ويخفف صلاته ثم ينثني إليه ويربت على كتفه ليرفع من سجوده خشية عليه. وتلومه عيناه بعد أن يسلم، فيبتسم باعتذار وقلق، ثم ينصرف كل منهما من جديد إلى صلاته..
لم يصل اليوم سوى ركعات ثم انصرف إلى القرآن والذكر وهو يمسح على كاحله الملتوي لعل الألم الذي ينبض فيه يسكن قليلا، فاجتذب انتباهه -وظل المهجع الهائل يواريه- ظل تقدم بحذر بجوار الجدار متواريا بالظلام ثم وقف يستمع إلى تلاوة عبد الرحمن الندية الباكية.. وخفف الأخير صلاته ثم التفت إلى عادل هامسا: عادل؟ أغفوت؟
تبسم وهو يلحظ انتفاضة ذاك الظل وهو يحاول التواري عنهما، وأجاب: لا، لكن الألم اشتد علي.
وكما قدر نهض عبد الرحمن إليه ليطمئن على كاحله، لكنه فوجئ بنظرة التحذير في عينيه وإيماءاته المتكرر.. وفهم فقال: سأحضر لك مسكنا.
ثم انطلق نحو الناحية الأخرى،
وانسل الظل مبتعدا ليجد نفسه أمام عبد الرحمن!
شهقة واشتبكا فوجه عادل مصباحه الصغير نحو الشاب ليباغتا بمحمود!
وتراجع عبد الرحمن خطوة بدهشة في حين نهض عادل غاضبا وتقدم نحوهما وهو يعرج.. وتعثرت كلمات محمود: كنت أ.. سمعت التلاوة فأردت أن أعرف من..
وتلاقت عيناه بعيني عبد الرحمن فهمس: خيل إلي أن الجميع يقومون ثلثا أو ركعات فحسب!
تبسم عبد الرحمن بتسامح ممزوج بالفرح: وأنت؟!
كم بذل من جهد ليؤاخيه!
ولم يؤلف بين قلوبهم سوى القيام!
كان يدعو بحرقة وهو يحاول أن يتخيل كيف سيجاب دعاؤه..
لكنه لم يتخيل أن الإجابه ستكون كذلك!
عاد عادل يجلس متكئا إلى الجدار.. ووقف أمامه ظلان..
قرأ محمود كثيرا.. لكن عبد الرحمن صلى بقية الليل مرددا: ((وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) والدمع يمازج الآيات.
جمعهم الليل..
واحتوى بين ذراعيه صلواتهم وأحلامهم وحكاياتهم وأسرارهم.. وآلامهم.
((زفر بقلق والعتمة للمرة الأولى أشبه بثقل جاثم على صدره يكاد يعجزه حتى عن التقاط أنفاسه، ثم اعتدل في فراشه ببطء وهو يستغفر في أعماقه لعل هذا الضيق يرحل عنه، ولما أدرك أنهم جميعا يغطون في نوم عميق رفع الأغطية عنه بهدوء وغادر الحجرة والمبنى كله إلى حيث اعتاد فتوضأ ووقف للحظة يدافع عنه قلقه عليه، لن يدع الأفكار تتناوشه وتحرمه لذة ليلته.
عقد حاجبيه بعزم واتجه بخطواته الخفيفة إلى مهجعه
لكن صوت أحدهم ارتفع وراءه: قف!
التقط نفسا عميقا واستدار ليجد أحد شباب الحراسة،
وعرفه الشاب فتبسم باستنكار مغمغما: أين يا عبد الرحمن؟!
تنهد وقرر أن يقول جزءا من الحق حتى لا يثير تساؤلاته وشكوكه فـ "رحم الله امرءا ذب المغيبة عن نفسه" ويحتفظ بسر قيامه لنفسه في آن واحد: رأيتهم اليوم يصطحبون محمود إلى القائد، ولما يعد. أريد أن أطمئن عليه فعقوباته كثرت مؤخرا.
تبسم الشاب بلطف مجيبا: هلم حتى لا يعترضوك.
فعبس عبد الرحمن رغما عنه: وائل، وماذا لو.. كنت أخادعك؟
اتسعت بسمته: لا يفترض أن تكون هنالك استثناءات ولا أن يكون أحد خارج مهجعه سوى الحراس، لكنك يا عزيزي نائب رئيس إحدى مجموعات الحراسة... ثقة.
هز رأسه لائما: وإن يكن، اليوم ليس يوم نوبتي. متى بدأت الاستثناءات بدأت المصائب يا وائل. لا..
شد قامته وعبس وهو ينتزع سلاحه ويصوبه إلى عبد الرحمن: استدر!
نظر في عينيه بدهشة فإذا بضحكة كبيرة فيهما...
لكن المزاح انقلب حقيقة حين انتبه لما يحدث بعض الشبان
وتجمعوا بعصبية ظانين أن خطبا ما وقع.
وحرر محضر مخالفة لعبد الرحمن واقتيد إلى الحجز ووائل يرمقه بنظرة عاتبة معتذرة.
أدار عينيه في الغرفة الصغيرة المعتمة دون أن يتقدم فيها خطوة،
هو هنا ريثما يتفرغون له في الغد، لكن ماذا عمن يسجنون! لماذا؟
أينتظرون منهم أن يحاسبوا أنفسهم مرة ثم مرات حتى يملوا الحساب؟
أم أن هذه الوحدة تغذي الضمير الذي يضمر ونحن نجري في هذه الدنيا جري الوحوش.. ولن ننال إلا ما قسمه الله لنا؟
تنهد واتجه نحو الفراش في إحدى الزوايا وجلس عليه هامسا: لا إله إلا الله. حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
إلى أين أمضي؟ ماذا أريد؟ وكم قطعت من المراحل؟
أغمض عينيه بمرارة وهو يتذكر صفحة من دفتر قديم كتب في أعلاها: حبيب الله، ثم قسمها مربعات ومربعات، قرر من سيكون بعد عام، وبعد عامين، وبعد خمسة أعوام، وبحث بدأب عما يحبه الله فقسمه على سنواته، وانطلق! لكنه مذ حفظ القرآن وواظب على القيام وصيام السنن توقف فلم يعد يبحث عن المزيد أو يتقدم.
أتراه ظن أنه وصل؟!
تبسم واتسعت المرارة في أعماقه..
حكمة الله أن أرسله إلى هذه الغرفة اليوم! سبحانه وتعالى!
ثم وقف وقد اتسع في قلبه الهم.. محمود.. وهذا الموقف السخيف.. وغروره الذي قيد تقدمه.. أيظن أنه قد حاز حب مولاه وانتهى الأمر! ما أشد ثقته! ما أعظم كرهه لهذا الغرور الذي اكتشفه اليوم يتمدد في أعماقه!
التقط نفسا عميقا وثمة طيف مبهم يعتصر عنقه بقسوة.. وغلبه الدمع فغالبه وهو يحاول تقدير اتجاه القبلة قبل أن يكبر.. ويطلق العنان لدمعه.. بخفوت.
بعد دقائق عاد أحد الشبان إليه ليصطحبه هذه المرة إلى القيادة..
تعجل صلاته منذ شعر بالباب يفتح خلف ظهره ومسح دمعه بضيق وهو يشتهي لو ينسونه شهرا ريثما يعيد ترتيب المشاعر التي تبعثرت في أعماقه. همس لنفسه: لم تمر علي ليلة كهذه!!
وتبسم بسمة مشاغبة وهو يتساءل عن شعور قائده حين يراه أمامه محتجزا بمخالفة!!
لكنهما وقفا أمام مكتب نائب القائد الأعلى
وازدرد عبدالرحمن دهشته بصعوبة، ماذا يفعل حتى الآن في مكتبه؟ ما الذي يجري؟ وإلى أي مدى ستتسع مغامرته المسائية غير المحسوبة؟! لماذا لم يصبروا ريثما يأتي قائده؟
تنهد وشد قامته وهو يتقدم داخل المكتب وقد فوض أمره لربه باستسلام.. تام!
وكعادته، رتب أفكاره سريعا وقال ما يجب قوله مغفلا كل ما لا داعي له والضابط يستمع إليه بصبر غريب دون أسئلة حتى فرغ.
فاستدعى وائل وسأله فصدقه الآخر الحديث..
التفت إلى عبد الرحمن قائلا بهدوء: أخطأت فيما فعلته وأنت تعرف القوانين جيدا، على كل حال انتهى الأمر هنا كونها المرة الأولى، لكن احذر أن تكررها. ستسحب منك مسؤولية مجموعة الحراسة.. ولتطمئن على رفاقك خلال الاستراحة نهارا وليس بعد منتصف الليل.
أومأ برأسه بطاعة هادئة، والضابط يسجل كلمات على ورقة ويمهرها بتوقيعه وختمه ثم يسلمها إلى وائل قائلا: اصطحبه إلى مهجع فرقة محمود.
فاتسعت عيناه بدهشة حقيقية.. لكنه لم يترك له الفرصة ليسأل وهو يأمرهما: انصرف!
أديا التحية بثبات وغادرا بهدوء،
وبمجرد أن أغلقا الباب وراءهما التفتا يتبادلان نظرات الدهشة: ماذا يجري بالضبط؟؟!
تبسم وائل بهدوء: لو اصطحبتك منذ البداية لما...
قاطعه وهو يدفعه أمامه بتعجل: لو تفتح عمل الشيطان، واصطحابك لي خطأ، وكل ما حصل الليلة صواب... لا استثناءات يا وائل كيلا نندم بعد الفوات. لو كنت أنا من ضبطك لما ترددت لحظة في احتجازك، كن واثقا من ذلك!
فاتسعت بسمته: سر أيها الأمير المعزول صامتا، أعلم أنك كنت تتمنى أن تعفى من هذه المسؤولية منذ زمن. هل ستكرر هذه الفعلة كلما أثقلوا كاهلك بإمارة ما؟!
تنهد ولم يرد،
تخيبه الراحة التي انتشرت في أعماقه حين خفف عنه ذاك الثقل،
أيعقل أنه التخاذل؟
لا، هو ثقل الأمانة.
لكنه يعلم أنه قادر على حملها وربما خيرا مما يفعل سواه، على الأقل هو لن يتجاوز القوانين عندها قيد أنملة.. حتى لو كان عادل أو محمود هو المخالف! لن يتجاوزها قط.
وتنهد ثانية وهو يتذكر حكاية محمود التي يطويها في قلبه والتي زادته يقينا بأن اتباع الصواب دون اجتهادات شخصية ينجي ولو بعد حين.
في الوقت نفسه هو لا يزال يحتاج الكثير من الدراسة والتدريب والعمل.. لا يزال درب الاحتراف طويلا أمامه.. ولا يزال..
قاطع أفكاره المهجع ينتصب أمامه في الظلام وأحد الشبان يطلع على الورقة مع وائل قبل أن يشير إليهما بالدخول، لكن وائل اعتذر وعاد إلى مجموعته ليكمل نوبته في حين صعد عبد الرحمن متمهلا إلى الأعلى والحذر يتيقظ في أعماقه...
لماذا أرسله نائب القائد إلى محمود؟
لماذا استدعوه اليوم لكل ذاك الوقت؟
وعقد حاجبيه بقلق وهو يقف أمام الباب المفتوح ويسأل نفسه بصراحة: لماذا ظن أن محمود يحتاج أحدا إلى جواره هذه المرة؟ أمام أية مصيبة أرسله ليقف معه؟
سمى الله ووحده، ثم توجه بخفة نحو فراش محمود فوجده راقدا على جنبه موليا ظهره إليه ببزته العسكرية دون أن يتدثر بأي غطاء.. وتفوح منه رائحة الدمع!
دار حول الفراش ويقينه بالمصيبة يزداد، وركع أمام صاحبه على ركبتيه ليغدو وجهاهما في مستوى واحد هامسا: محمود؟!
فتح عينيه ليبرق فيهما الدمع ثم عاد يغمضهما بألم المفجوع والدمع يعاود التدفق على وجهه.. وليس ثمة مكان للتساؤل... فمد يده يمسح وجهه ثم استقر بها على صدره ليشعر بقلبه يختلج بعنف بين أضلعه.. تنهد وسمى وانطلق يتلو بخفوت شديد والألم يتنامى في أعماقه وهو يبصر كل هذا الضعف والحزن.
مضت ساعات ثم بدأ محمود يهدأ ويستكين.. ثم غفا بهدوء و الدمع لا يزال يغسل وجهه ووسادته، فمد عبد الرحمن يده ومسح دمعه بلطف ثم نهض وتناول غطاء ثقيلا مده على جسده المرتجف المكدود لتتعثر يده بأوراق ارتخت كف محمود التي كانت تشد عليها. تردد ثم استلها بهدوء وتسلسل خارجا إلى الممر بإنارته الخافتة.. تردد ثانية ثم فرد الأوراق بين يديه يقرؤها..
وسالت دمعة على خده.
أعاد الأوراق إلى محمود واطمأن إلى نومه قبل أن يغادر إلى مهجعه متعجلا لينفرد بنفسه تحت غطائه الثقيل.. وهناك سالت على خده دمعة أخرى بحزن وهو يستعيد ما قرأه..
كانت أمه ترسل له ترجوه أن يزورها، وهي تدافع الموت عنها لعلها تراه قبل أن تغذ المسير على درب لا يعود سالكوه.. ولم يستجب هو.. لم يخف إليها.. ولربما ظنوه لم يتخل عن عناده في حين كان مخدرا تُستأصل الشظايا من جسده بجراحتين متتاليتين..
وخاض الخطر.. وتجاوزه كما تجاوز سطوة التخدير والمسكنات، ونهض من فراشه.. لتأتيه برقية بأن الحبيبة رحلت دون عودة حزينة عاتبة.. وأن الأوان قد فات!!
هل كان سيجيب نداءها.. رجاءها..؟ هل كان سيلبي؟
همس بألم: غفر الله لك يا محمود، غفر الله لك.. غفر الله لك! ))
التقط نفسا عميقا وهو يقلب أشرطة المراقبة التي قضى الخبراء وقتا لا بأس به يشاهدونها ليعلموا ما الذي وصل بالضبط إلى عدوهم فكانت تقاريرهم من بعد أنه لم يصل شيء ذو قيمة لهم إلا القليل.
كانوا قد جمعوا هنالك من يعلمون أهميته من أسراهم ليحاولوا استنطاقهم مستهينين بالتدريب الذي تلقاه هؤلاء بالتحديد لتجاوز محاولات كهذه.
ليس يدري لماذا أراد أن يرى شيئا مما مر به رفيقاه،
ربما لأنها التجربة الأولى –منذ قرابة عشر سنين- التي لا يشاركهم شيئا منها سوى النهاية.
لكنه رغم حصوله على تلك المقاطع لم يجرؤ بعد على مشاهدة أي منها والجسدان اللذان ودعهما يلوحان له كيفما وجه وجهه.
عام إلا القليل، كيف عساه مر بهما؟
أقسى مما يمكنه أن يتخيل بلا ريب، فكيف صبرا؟
أصبرا؟ أم انهارا؟ أكانا ممن صمت أم ممن استخدم التمويه والالتفاف؟
أنطلق صوتاهما بالأنين أو بالصراخ؟
أكان يجب أن يذهبا دونه ليعيش بعدهما كل هذه الأخيلة؟
ويعلم تماما كل ما خاضوه من تدريبات معا، وما قرؤوه معا عمن سبق في الأسر،
لكنهما روحان كانا شطرا من روحه، أو روحه كلها..
وصوتان لم يغيبا عن أذنيه حتى بعد أن غابت الأجساد،
تحدثوا.. درسوا.. صلوا.. قرؤوا القرآن..
لكنهما تألما وصبرا هناك وحدهما، لم يشاركهما هو الأنين ولا الصبر.
ألقى نظرة على غلاف الوصية التي تركها حسن، ثم أدار القرص الأول لتطالعه بسمة حسن الساخرة العابثة رغم ما حدث، وتمر الدقائق كمدرعة ثقيلة على قلب عادل، ولا تعلو إلا أصواتهم بالتهديد تارة والإغراء تارة والسخرية تارة أخرى..
وحسن قد نسي حنجرته في وطنه لتغرد مع طيوره أناشيد الوعد بالنصر.. بالصبر.. بالدم سيلون جوري ربيع سيأتي..
وليس بين أيديهم إلا جسد أخرس.. حتى عن الأنين.. حتى عن التكبير!
والبسمة الساخرة كلما اغتال الألم بعضها زادتها الإرادة اتساعا.
سالت دمعة على خده وهو يبصر ذاك الساخر يكبر.. ويكبر.. حتى يغدو بحجم وطنه..
تنغرس شرايينه في الأرض التي يحب..
تتشعب و تتخلل التراب..
تصل أقصى الوطن بأقصاه..
ثم تبرز في ساحات الأقصى شجرة زيتون صغيرة فتية ضاحكة تهرع إليها أسراب الحمام التي أرهقها الغرقد..
يلون دمُه وعرقه التراب حتى يخيل لعادل أنه لو انحنى وقبل الأرض سيجد فيها نبض حسن ورائحة عطره!
والحزين أبداً.. على حاله..
صمتٌ إن تكلم ألهب.. وإن عاود الصمت زاد اللهيب اشتعالا..
جسد مجبول بالهم.. وروح مجبولة بالصمت.. دون أناشيد ولا ربيع ولا عطر..
أشبه بنبت صحراوي لا يعرف من الدنيا سوى صبر طويل وقطرات فرج تزيده إيمانا..
مضى الوقت.. طرق بابه.. رن هاتفه..
لكنه لم يكن في مكتبه..
كان هناك معهما..
يتألم ويحزن ويشمخ كما فعلا.. ويبكي كما لم يفعلا!
الـــــنــــهـــــاااااااايــــــة
|