كاتب الموضوع :
ابشر ولبيه
المنتدى :
القصص المكتمله
)( 21 )(
((سمع حركة في الخارج لم يلقي لها بالا، لكنه اعتدل ببطء وباب سجنه يفتح وتمطت في أعماقه دهشة لم يسمح لها بالتعبير عن ذاتها في ملامحه.
جاءه الأمر هادئا: انهض.
ولأنه يعرف يقينا الجواب الذي قد يتلقاه
لم يفكر حتى بطرح تساؤل بسيط كـ: لم؟ أو إلى أين؟
ببساطة نهض وتوجه نحو الباب المفتوح ليدهشه مرأى أربعة من الشبان،
اثنان من حرس السجن واثنان يعرف يقينا أنهما من.. المركز!!
حدق في أعينهما ليجد ذات الهدوء والحيادية التي تدرب عليها في زمن ماض.
أشار له أحدهما بالخروج،
ليغلق أحد الحارسين الباب،
ثم يتبعه الجميع بهدوء تام عبر الممرات الخالية إلا من لاقطات المراقبة وصولا إلى حجرة جانبية في نفس الطابق، التفت الحارس إليه وهو يفتح الباب: ادخل.
نفذ بدون أي تردد،
ولم يجد أمامه سوى كرسي عليه صندوق، ووراءه الصوت الهادئ: استبدل ثيابك.
التفت بسرعة ليجد الباب يغلق في وجهه بسرعة أكبر،
فعقد حاجبيه وتفقد الغرفة بعينيه الخبيرتين لكنه لم يلحظ ما يريبه.
تبسم ساخرا في أعماقه فهو يعلم أن العين المجردة لن تلحظ الكثير هذه الأيام.
وتقدم يفتح الصندوق ليجد فيه ثيابه ذاتها التي سلمها قبل قرابة العام، فارتداها بسرعة واتجه إلى الباب وقرعه ففتحه الحارس: اخرج.
كان الثلاثة متوزعين بتلقائية في نصف دائرة أمام الغرفة فوصلته الرسالة بسرعة قبل أن يشعر بيد الحارس تلتف حول معصمه ليطوقه بالقيد البارد.
واقشعر جسده رغما عنه وهو يحدق في اللاشيء متحاشيا أن تتلاقى عيناه بأي كان
حتى لا يبصر أيهم في عينيه ذاك الشعور التي لم يعرفه إلا منذ هبت على حياته هذه الأزمة: الخوف!
وبالهدوء ذاته التفت الحلقة الأخرى حول معصمه الأيسر ليتعانق معصماه وراء ظهره،
وَ: تحرك.
اندفعت المرارة من جديد إلى حلقه ليشعر بأنه يبذل جهدا مستحيلا لالتقاط أنفاسه،
منذ عام لم تغمد هذه القيود برودتها في روحه،
كان سجينا طوال الوقت..
لكنما في القيد يجذب ذراعيه إلى الوراء ذلٌ فريد يدفعه للندم على.. أنه قد عاش يوما!
استغفر في أعماق نفسه ورفع رأسه ثم سار بينهم بهدوء لا يعكس المرارة والتساؤلات التي هاجت في أعماقه.
أمام السجن تراجع الحارسان في حين ساعده أحد الشابين على صعود عربة عسكرية تابعة للسجن تلقاه فيها حارسان آخران.. ولحق به الشابان لتنطلق العربة دون كلمة واحدة.
تبسم في أعماقه بسخرية،
قيد وفرقة من الحرس وعربة الكترونية الأقفال.
كم من الإجراءات كي لا يهرب!
ومحال أن يهرب هو.. محال..
لكأنما لم يعرفوه يوما!
لعلهم تراجعوا عن الحكم السابق وقرروا إعدامه!
أتراهم وجدوا الدليل الدامغ على جريمته؟!
بعد عام!
إن كان الأمر كذلك فهو الشنق لا ريب،
لن يجدوا وسيلة أليق بمن ارتكب الجريمة البشعة التي ارتكبها بجنونه!
ولو كانوا يملكون من أمرهم ما يريدون لربما أحرقوه حيا!
نظراتهم.. همساتهم..
الطريقة التي تلي فيها الحكم..
والمعاملة التي يلقاها في سجنه ممن علموا بالقضية..
كل ذلك يخبره كم يمقتونه ويحتقرونه، رغم أنهم هم أنفسهم كانوا أشد الناس ودا له قبل أن تتكشف أوراق قضيته،
كم تغير الظروف البشر!
ورغم أنه رفض أن يرى أيا من الصور التي كانت في ملفات التحقيق ثم الادعاء العام،
لكن ما دار في المحاكمة أوحى له بما قد كان فيها..
وأغمض عينيه بإصرار وعناد حينما حاولوا إجباره على رؤيتها..
حتى لو أدين بقتله..
من المحال أن يتحمل رؤية وجه سامر وقد فارقته الحياة.
كان من بين الاحتمالات التي وضعها وهو لم يتخلص بعد من صدمة الاعتقال أن ينهار.. يبكي.. أو حتى يضحك!
كان غريبا عن نفسه طوال تلك الأيام، ولم يشأ أن تضيف ردة فعل غير متزنة من روحه الذاهلة عنه إلى الإدعاء دليلا آخر فوق كومة الأدلة التي ليس يدري أي شيطان جمعها لهم.
غاب مع أفكاره حتى أنه لم يشعر بتوقف العربة ولا بالصوت الذي لا ريب دعاه للنزول،
لينتبه على كف الشاب الذي ساعده على صعود العربة وقد استقرت على ركبته تنبهه.
كالنائم الذاهل تحرك وهو لا يكاد يبصر..
دقائق وكان لدهشته أمام مكتب قائده سابقا..
ولدهشته أيضا نهض إليه قائده يحل قيده ويجذبه -بعد أن أمر حرسه بالانتظار- إلى القاعة الملحقة بالمكاتب ليجد فيها محاميه ورجلين لا يعرفهما.. والقائد الأعلى!!
كاد يؤدي التحية بحكم العادة،
لكنه تذكر من هو وأين هو الآن وحياهم بدلا من ذلك.. ببسمة ساخرة.
دفعه قائده ليجلس ونهض أحد الرجلين إلى جهاز الحاسب ليدير تسجيلا ما..
واتسعت عيناه بدهشة حينما أطل عليه وجه يعرفه حق المعرفة..
ثم وجه.. يكرهه حق الكراهية.
وكلما مضى التسجيل أكثر في عرض المعلومات ازداد ذهوله أكثر
لينقلب بعدها إلى غضب هادر وثورة هائلة.
عجز عن الصبر فهب واقفا وهو يشعر بأنه عاجز عن التقاط نفس واحد.
جذبه قائده من معصمه ليعاود الجلوس،
لكنه هز رأسه نفيا دون أن ينظر إليه وحرر معصمه واتجه إلى الباب
إلا أن الرجلين لحقا به ليجبراه على العودة إلى حيث كان..
وعندما حاول المقاومة ارتفع صوت القائد الأعلى: أيها الملازم..
التفت وقد فقد البقية الباقية من صبره والصدمة تعميه: لست ملازما..
لست عسكريا بعد.. ولم يعد لكم علي حق الطاعة..
أم تظنون أن ما عرضتموه سيغير هذه الحال أو سيعيد الزمن للوراء؟!!
ارتسمت الصدمة على وجوههم دون استثناء،
فكلهم توقع انفجارا ما،
لكن ليس بهذا المنحى.
تجاهل حديث أعينهم وحول بصره إلى محاميه: أين عرضك بطلب الرحمة لي؟!
أين صمتك أمام طلبي أن تكرر الطعن بالأدلة؟!
ألم تقل حينها أنها جميعا لا غبار عليها وأن الطعن فيها لم يجد؟!
أين ما كررته لي بأن أصارحك بالحقيقة أو أن أعترف وأبدي ندمي؟!
ثم التفت إلى قائده: لطالما قلتم أنكم تفهموننا أكثر حتى من أهلنا،
وأنكم أعددتمونا بحيث يمكنكم حتى تقدير ردة فعل كل منا!
أين كان خبراؤكم؟
أين نظرة الشك التي قابلت بها يميني يوم أقسمت أنني لا أعرف أي شيء عما رميتموني به؟!
كنتم تخدعوننا.. تملؤون ضمائرنا بوهم أننا أفضل وأكثر جهاز تكاتفا في العالم!!
لست آسف علي شيء أسفي على أنني صدقتك يوما وعددتك مَثلي،
وأنني آمنت يوما أن للأستاذ والأبوين قلوبا تميز الحق مهما.. مهما لفه من باطل..
ماذا عساه التسجيل أو كشفكم العظيم يضيف لي؟ لماذا سقتموني إلى هنا لأراه؟
أعلم علم اليقين أني لم أفعل شيئا مما ذاك،
أأظننتم أنني سأباغت أم أدهش.
إدانتكم لي لا تعني أنني من فعلها.. لا تعني أي شيء..
هذا التسجيل يعنيكم أنتم ولا يعنيني ولا يمحو ما فعلتموه..
وكان الغضب يزداد سوادا وتكاثفا في أعماقه كلما تكلم..
وستار من عتمة ولهب يخنق عقله وإدراكه..
هي المرة الثانية في عمره التي يفقد فيها السيطرة على الكلمات المندفعة على لسانه.
ووقف القائد الأعلى يراقبه وهو يتكلم..
عيناه المحمرتان ووجهه الشاحب وكفاه المرتجفان..
أدرك يقينا أنه لا يعلم ما يقوله ويتكلم دون أن يفكر
فتناول بهدوء شديد كوب الماء الموضوع أمامه، ورشق محمود به بغتة..
فشهق ذاك وبرودة الماء تصفعه لتدخل قطرات منه في عينيه وأنفه
واستبدت به نوبة سعال شديدة استغلها قائده ليجلسه حيث كان
فيما أشار القائد الأعلى للبقية بالمغادرة وبقي معه القائدان فحسب.
مسح وجهه بيديه المرتجفتين
وانحنى ليتكئ بمرفقيه على فخذيه ويسند جبهته إلى كفيه متشابكي الأصابع.
لو يغادراه!
بحاجة هو إلى تمالك الرجفة التي تسري في جسده قاسية باردة..
بحاجة إلى تمالك الصدمة التي عصفت به..
كان ليتوقع أي شيء.. أي شيء..
لكن ليس هذا..
ليس من اطمأن له طوال حياته..
ليس من منحه ثقته وتعلم منه دروسا كثيرة.. ليعلمه الآن أقسى درس قد يتلقاه.
مسحت يد يعرفها على رأسه،
فانتفض وقد ردت إليه الشفقة التي لمسها فيها ثباته، ونهض مبتعدا عن قائده بعزم،
لكنه قبل أن ينطق بادره القائد الأعلى قائلا: سمعت جانبا من اعترافهم بما فعلوه،
كانوا يعلمون عنك الكثير،
وأنت انشغلت بالصدمة عن محاولة تبرئة نفسك.
رفع يده يسكت محمود الذي احتقن وجهه: من الطبيعي أن يسرد الادعاء ما لديه،
ولا يوجد متهم يؤمن على تهمته!
لكنك منذ الجلسة الأولى رفضت أن تتعاون مع التحقيق أو أن تساعد محاميك أدنى مساعدة والتزمت الصمت التام مفضلا أن تتخذ مقاعد المتفرجين.
ما فعلوه لم يكن تخطيط شخص أو اثنين، كان عملا منظما من شبكة ذات خبرة لا يستهان بها.
ولولا تنقيب قائدك عن المسألة ما انكشفت هذه الشبكة التي كشفت أنت منذ زمن أول خيوطها. ستقول قد مر عام لأخبرك أنه عام من جهد متواصل من قائدك ثم من فريق خاص حتى انكشف كل الذي انكشف.
سيلاقون جزاءهم وستلاقي التعويض الكافي عن هذا العام وعن كل ما حصل.
لكنني أرى رأيا آخر..
وعقد حاجبيه بصرامة: علمناكم أيضا أننا جميعا بشر عاديون ليس فينا معصوم،
فإن كانت كل أزمة تدفعكم للهجوم على قيادتكم بهذه الضراوة.. فبئس الجند أنتم..
صرخ محمود: تصور الأمر وكأنني من خان ومن تخلى وتقاعس حين حقت النصرة.
أنتم من تركني وحدي أمام العاصفة
وأنتم من قتلني الشك الذي لم أبصر غيره في أعينهم منذ اللحظة الأولى..
خذلتموني..
اختنق صوته لكنه لم يصمت: ماذا تنتظر ممن وجد كل من يركن إليهم يصدقون تهمة رمي بها أكثر مما يصدقونه حينما ينفيها. لم يقف أي منكم معي ولم يؤمن أي منكم ببراءتي حتى نهاية الخط.
محامي الذي أهملته كان طوال الوقت يتحدث عن مدى ثبوت الأدلة ضدي، ولو أنه كان القاضي لما تردد لحظة في الحكم علي بالشنق منذ عام مضى، أما قائدي الذي تدعي أن جهده كشف تلك الشبكة فلم يكن يبذل هذا الجهد لتبرئتي، بل استكمالا لعملنا في كشف تلك الشبكة.. أنا ما كنت سوى تحصيل حاصل في سجل اعترافاتهم.
لم تأبهوا لأمري، ولن تفعلوا.
عنيتم بي طالما حققت النجاح تلو الآخر،
فلما كبلتني الأزمة رميتموني وراءكم وتخففتم من همي.
كفاكم كذبا.. كفاكم..
قاطعه قائده بصرامة: محمود، اصمت.
عض على لسانه بغيظ، فيما أردف القائد: احذر مما تقوله، فـ..
قاطعه محمود باستهتار: ماذا؟ هل سأحاكم ثانية؟ هل سأسجن؟
لا أرجوكم.. أنا لا أكاد أصدق أنكم آمنتم ببراءتي.. لا أكاد أصدق أنني عدت ثانية تلميذكم النجيب المطيع... لا أكاد أصدق أنني استعدت اعتزازكم وثقتكم بي.
وضيق عينيه ليقول وهو يضغط فكيه على بعضهما: لن يعوضني أي شيء الإهانة التي لحقت بي، ولن يرد أي شيء لي كرامتي التي أهدرتموها. وهؤلاء.. أقسم أنهم لو لم يعدموا سأحصد أنا أرواحهم ولو كانوا بوسط السجن العسكري نفسه. أقسم.
لم ينطقا، واكتفيا بالتحديق به، أحدهما بنظرة عميقة ثاقبة، والثاني بدهشة ممزوجة بالمرارة.
وعندما أدرك أنه لم يعد للكلام أية قيمة مضى مغادرا
ليفاجأ بالقيد يحيط معصميه ثانية ومحاميه يغمغم ببرود: لم يصدر حكم المحكمة بشأنك بعد.
حدجه بنظرة محرقة محترقة وعروقه تكاد تنفجر وكأن دمه يغلي فيها،
لكنه ابتلع كلماته مدركا أن مقاومته لن تؤذي سواه،
واستسلم للحراس وهو يقودونه إلى غرفة الحجز إنما في المركز نفسه.
أُغلق الباب في وجهه وهو كليث ثائر، محتاج للفضاء كله لينفس عن غضبه فيه.
دار في الغرفة للحظات
ثم اتجه إلى الفراش واستلقى على جانبه ثم انقلب على بطنه دافنا وجهه في الغطاء الثقيل الملقى عليه بعشوائية..
خنقته وحدة قاتلة،
أقسى من تلك التي شاطرته ليالي السجن العسكري الطويلة الطويلة..
وشعر بأنه ضعيف وعاجز..
عاجز عن الصبر والسلوان.. عن المغفرة..
حتى عن بذل خفقة فرح..
بل إنه أشد حزنا من يوم سمع الحكم الجائر بحقه..
ومن يوم هوى منهكا مسحوق الروح بعد يومه الأول في الأشغال التي حكم بها..
ومن..
كور قبضتيه بكل ما فيه من هيجان حتى خدرت أصابعه وراحتا يديه،
وأطلق صرخة مبهمة مخنوقة سترها الغطاء عن الفضاء المحيط به..
كل ما يحتاجه هو فضاء مطلق رحب ليجري بأقصى سرعته.. ويجري.. ويجري..
حتى يهوي ميتا من التعب..
مــــــــــــا ألــــــــــــذ المـــــــوت!
تلك الراحة الأبدية!
وكلما وصل هاهنا توقف وتوقف به الزمن..
ما يدريه ماذا سيلقى بعده!
ما يدريه أنها الراحة!
دائما هنالك احتمال العذاب والعتاب
انقلب ليواجه وجهه السقف الواطئ والعتمة وغمغم: رب أسألك حسن الختام.
رب إليك أشكو حالي..
رب لست أدري.. لست أدري..!
وكيف؟!!
أيضا ليس يدري..
لكن الإرهاق والألم غلباه، وهوى دون أن يدري في نوم هادئ عميق ))
|