كاتب الموضوع :
ابشر ولبيه
المنتدى :
القصص المكتمله
)( 16 )(
خرج الثلاثة ما بين صدمة وغضب، ليجدوا رجال الأمن بانتظارهم!
واجتاحتهم الدهشة،
استدار محمود سريعا وعاد إلى مكتب قائده: من حقي وفق كل اللوائح أن أستقيل..
أجابه دون أن يرفع عينيه عن الأوراق أمامه: ووفق اللوائح يصدر القرار بشأن الاستقالة بعد أسبوعين.
كان الرجال قد أحاطوه ولووا ذراعيه وراء ظهره: وأقضي الأسبوعين محتجزا؟ وفق ماذا؟
رفع إليه عينين غاضبتين قاسيتين: دعوه وانصرفوا.
انتظر ريثما غادروا ثم قال بذات اللهجة: وفق أنك لم تعتبر مستقيلا بعد، وقد سببت بإهمالك وعنادك عدة مشاكل وستعاقب، تذكر أن الاستقالة لا تلغي عقابك حتى لو قبلت.
أهنالك أسئلة أخرى؟
هتف: لكنني لم أطلب..
وصمت،
كأنما كاد يطعن ظهري رفيقيه؟
لم يطلب منهما أن يتفقدا أخته..
لكنهما فعلاها مراعاة منهما للقلق الذي كان يملؤه.
ومن كان يتوقع أن تتضخم المشكلة وصولا للشرطة؟
كأنما هي الأحق بفورة غضبه؟
وكأنما هو من لم يحدث قيادته بما طرأ على حياته!
وكأنما تجاوز كل الحدود مع قائده؟
كأنما نسي أنه عسكري؟
تبا لها وله، ماذا أصابه!!!
اعتدل بحزم وأدى التحية العسكرية باحترام: معذرة سيدي.
فأجابه:انصرف.
وعاد يهتم بما بين يديه من أوراق،
بينما تأمله محمود للمرة الأخيرة ربما،
واستدار على عقبيه مغادرا والندم يملأ نفسه..
ختم ملفه المميز بكوم من التجاوزات والعقوبات والتصرفات الصبيانية!
في الخارج كان رفيقاه قد سلما سلاحيهما واستسلما تماما لكل الإجراءات الأمنية وما لبث أن غادر الثلاثة وأكف حراسهم تشد أذرعهم، والأفكار تعتصر عقولهم.
((: أين كنت؟
محمود: في المعسكر سيدي
وعقد القائد حاجبيه: يقبح من ضابط أن يكذب..
يا ضباط المستقبل.
تنفس عادل بصعوبة والقلق يعصف به، أما كفاه؟
لم يتصور قط أن هذا هو أسلوبه!
بينما احتفظ محمود بصمته والاستنكار يلوح في عينيه.
القائد: ألم تسمع النداء؟
محمود: بلى
القائد: فلماذا لم تجبه؟
عاد إلى صمته وأطرق،
بينما تخلى عادل عن وقفته العسكرية والتفت إليه بدهشة..
فلا ريب أن صاحبه قد جن!
كم فعلها! أيعقل أنه لم يبرر ذاك قط؟
ثم لماذا لا يبوح بما يبرر فعلته إن كان ثمة ما يبررها؟: عادل..
التفت إلى قائده واستعاد وقفته الممشوقة: انصرف.
لوهلة لم يفهم تلك الكلمة،
ينصرف؟
ومحمود؟
حدق بالقائد والدهشة لا تزال تشله..
كل هذا لم يمر عليه يوما لا في معسكر ولا في سواه!!
ما الذي يجري بالضبط؟؟
لكن نظرات قائده دفعته سريعا ليتمالك نفسه ويؤدى التحية ثم يستدير منصرفا..
بصمت.
وبينما يعيد محمود حساباته بقلق.. لمحه يقترب منه،
لكنه لم يستطع أن يرفع عينيه إليه،
ماذا عساه يقول؟
لا أريد أن أراه؟
أفر من زياراته..
من الذكرى..
من ضعفي وعجزي عن الاعتراف بخطئي..
من حيرتي بين أن ظُلمت، أم ظَلمت!!: ارفع رأسك.
ابتلع زفرة ضيق وأجبر عضلات عنقه على التقلص ليرتفع رأسه ويبصر عيني قائده الهادئتين، تشنجت عضلاته وهو يبصر من وراء الهدوء غضبا حقيقيا وازدرد لعابه وحاول أن ينسى أن عنق الكائن البشري يستطيع الانعطاف إلى الأمام بينما قال قائده: استدعيت عدة مرات عبر جهاز النداء..
وخرج الحرس ومعهم عادل للبحث عنك فلم يجدوك في أي مكان.
هذا يعني أنك كنت خارج المعسكر، أو كنت مختبئا.
لستم هنا لفعل ما تريدون بل لفعل ما تؤمرون به.
أتعلم ذلك؟
كم تكرر هذا!
ولا زال يبحث عن صوته كل مرة: نعم سيدي.
أردف: وتعرف عقوبة الاحتمالين اللذين ذكرتهما؟
غمغم: نعم.
رفع حاجبيه بصمت، فعاد يكرر بصوت واضح: نعم سيدي.
وبذات الهدوء: فأي العقابين يفترض أن تناله؟!
هذه المرة التقط نفسا عميقا: من حقي أن أرفض استقبال الزيارات الخاصة سيدي.
أجابه: لم تستدع لزيارة، استدعيت إلى مكتبي.
تردد لحظة ثم غاد يغمغم: كان الاستدعاء لأجل زيارة.
تأمله القائد مليا،
لم يكن راضيا عن حاله، ولا عما فعله، ولا حتى عن عناده،
لكن العقاب الجسدي لن يجدي معه إن كان عقابا تقليديا،
وإن عاقبه بما يليق بقدرته على الاحتمال سيحطمه!
والحبس لن يجدي..!
ورغم أنه في قرارة نفسه غدا يميل إلى تركه وشأنه وتجاهل الأمر برمته لكن تركه سيزيده عصيانا وظنا بأن من حقه دائما فعل ما يشاء ومن واجبهم دائما التغاضي عما يفعل..
ليس من صالح ضابط مميز أن يعيش العسكرية كما يحلو له فذلك لا ريب سيضيعه يوما ما..
حسنا إذاً..
وأشار بيده: انصرف أيها الملازم.
فتح محمود شفتيه تلقائيا ليصحح اللفظ لكنه فهم فعاد يطبق شفتيه والمرارة تملأ فمه.
هي الرتبة الثانية التي يخسرها في غضون أشهر،
وها قد عاد إلى البداية وخسر حتى الاستثناء الذي عوِّض به!!
أطرق وأدى التحية بألم ثم غادر بخطوات شاب محطم..
محطم تماما.
وللحظة تمنى القائد لو يتراجع عن العقاب الذي اختاره له،
لكنه ضغط أحد أزرار مكتبه مستدعيا مساعده ليعد أوراق القرار.))
ترجلوا من السيارة فأغشت الشمس أعينهم للحظة لتتسع بعدها بدهشة.
لم يحتجزوا،
بل اعتقلوا!
وكان محمود أكثرهم هدوءا لأنه توقع ذلك لكنه لم يتوقع أن يعتقل صاحباه أيضا.
خفض عينيه ولم يتلفت إليهما مرة طوال عبورهم لساحة السجن العسكري ثم الممرات الطويلة إلى غرفة المدير..
وأثقله الذنب.
لماذا؟
هما لم يخطئا..
حتى أنهما لم يساعداه مرة على المخالفة، بل لطالما وقفا ضده في ذلك.
أغمض عينيه فتعثر،
وفتحهما في اللحظة المناسبة قبل أن يصطدم بالباب الذي بلغوه مدركا أنهم لن يتركوا له الفرصة ليعيد ترتيب أفكاره أو يستعيد هدوءه.. ومدركا أكثر أن قائدهم الذي لطالما عدهم من أهم ضباطه، لن يمرر مخالفاتهم مهما صغرت بسهولة..
وللتميز ثمنه..
وللصداقة ثمنها أيضا!
وازداد ثقل الذنب على كتفيه رغم إدراكه أنه لا يملك ما يفعله سوى الاستسلام.
ودون أن يجدوا فرصة لاستيعاب ما يمر بهم،
كانوا قد استبدلوا ثيابهم
واقتيد كل منهم إلى زنزانة منفردة وإلى أجل غير معروف
والصدمة تتمطى في أعماقهم أكثر وأكثر.
بعد ساعات كان عادل وحسن واقفين في ساحة المركز العلمي بجوار سيارة حسن بثيابهما المدنية مذهولين عاجزين عن إيجاد تبرير لكل ما حدث.
عادل: أ.. ليتصور طوال الوقت أننا معتقلان مثله؟؟! لماذا؟
شعر برأسه يدور وتمنى لو يتفوه حسن بإحدى عباراته اللامبالية لعلها تخفف بعض توتره،
أو توجد له مبررا ليفرغ هذا التوتر،
لكن حسن ظل صامتا مطرقا وفي عينيه نظرة غريبة..!!
فتح فمه ليقول شيئا ما يدفع رفيقه للكلام،
ثم عاد فأطبقه عندما لم يجد ما يقوله.
وقفا لدقائق وما تبقى من أشعة الشمس يحيطهما بأشباح من الظلال والنور المعتم.
ثم أخرج حسن مفتاحه وتعب هائل يجتاحه كأنما كان يومه بشهر،
وناول المفتاح لعادل
ودار حول السيارة ليجلس في المقعد المجاور للسائق صامتا،
وعادل يتأمله بقلق..
لحظات..
وعقد حاجبيه وركب وانطلق بالسيارة إلى منزل حسن وفكرة ما تلح عليه
(( استوقفه قائلا: لن تجد الوقت للندم، أعدك بذلك.
تأمل الغدر والخبث في عينيه
ثم دفعه جانبا واستمر في طريقه إلى أحد مكاتب المركز بدلا من الذهاب إلى بيته..
عندما غادره كانت روحه قد استردت بعض هدوئها.
فكر في والديه، في شقيقته،
لكنه لم يفكر للحظة في سامر!
وفي العام التالي كان يسمع الحكم بحقه،
في ذات الشهر..
في ذات القاعة،
بلا فرصة -أدنى فرصة- للنجاة.
وأجبر شفتيه على الابتسام بكل ما بقي له من شجاعة وبرود.))
(( سجد،
وملأت صدره رائحة الدمع!!
تنفس بعمق وهو يتجاهل شعورا عميقا بأن ثمة من يقف خلفه،
ونهض يتم صلاته محاولا التغلب على هواجسه وقلقه.
لكنه ما إن سلم حتى التفت إلى الخلف بأجمعه فإذا هنالك ظل يستند إلى جدار المهجع بضعف.. تعب.. أم انهيار؟! ميز رائحة الدم وصوت تنفسه العالي قبل أن يميز ملامحه فهتف: عادل؟
ونهض إليه لكن عادل احتفظ بصمته وبدا التردد في عينيه
ثم قبض على ذراعه وانطلق بخطوات منهكة دون أن ينطق ومحمود يتبعه بدهشة وقلق.
وأمام فراشه تبخر كل القلق ليغدو ذعرا،
كذاك الذعر الذي خنقه يوم سمع
بالـ.. ـحكم!
أعبد الرحمن ملطخا بالدم،
أم دم يرسم صورة عبد الرحمن؟!
جر قدميه نحوه وكل الذي يريده أن يمد كفه إليه فيتلاشى كما تتلاشى ملامح والديه في أحلامه لكنه.. لم يتلاش.. لا! فهوى على ركبتيه بجوار فراشه والدمع يعميه..
وكأنما ليس حوله أطباء يجاهدون للحفاظ على بقية رمق الحياة فيه ضم كفه بين كفيه،
فقبض عبد الرحمن على يده بضعف دون أن يفتح عينيه،
وظلت شفتاه تمتمان بخفوت.
انحنى عليه ليفهم الكلمات المتحشرجة: أولئك المقربون.. في جنات النعيم.
هزه الصوت الخافت،
هزته النبرة التي لم يسمعها إلا عازمة قريرة عابقة بالمحبة،
هزته هيئة رفيقه التي لم يتمن ولم يتخيل قط أن يراه عليها..!
أهكذا بدا سامر؟
ولم يتمالك ضعفه فأسند جبهته إلى كتف الجريح،
وأطلق لعينيه العنان..
بكى بقدر صدمته وعجزه عن تجاوزها..
بقدر اللوم والاتهام والاستنكار الذي أبصره لأشهر في عيون أقرب الناس منه
وعيون أجهل الناس به...
كلهم كان قاضيا وجلادا..
كلهم لذ له أن يصدق تهمته!!!
أهكذا بدا سامر؟
طافت به عينا أبيه المتسائلتين
ولأول مرة كان عاجزا عن لومه مثقال ذرة
لأنه للمرة الأولى يدرك بشاعة ما حاسبوه عليه
وعظم الصدمة التي أشاعها صمته هو في قلوب أهله!!
أنَّ قلبه..
غدر وغدر..
كلا الغدرين شطر بعضا من ذاته حتى غدا يجهلها..
ولاموه لأنه حين خرج خرج غير الذي يعرفون
وعجز عن أن يعود لحياته التي كانت من قبل،
لكن أحدا لم يشعر بالغربة التي قضى قرابة العام يتجرعها كل ليلة وحده..
لا يبصر سوى الجدران والجدران والجدران..
غريب غريب..
لم يلمس أحد –أو لعله هو لم يترك الفرصة لأحد ليفعل- تلك الغربة التي احتلت روحه فلم تترك له منها شبرا سوى عبد الرحمن.. فظل يدافع عنه تلك الغربة بإصرار حتى بعث في قلبه بعض من النور القديم، وبعثر عنه بعض ظلمات طوقته..
عبد الرحمن؟!
أيعقل أن عبد الرحمن قد.. رحل؟!!
ازداد تشبثا بكف صاحبه وهو يكاد لا يعي.. كف سامر أم كف عبد الرحمن!
وبكى ملء قلبه دون أن يشعر بعادل الذي هوى وراءه
ولا بنظرات الغضب والاستنكار.. والألم في عيني قائده.
خفت الصوت حتى صمت
فرفع محمود رأسه بتردد
لكن الدمع المتدفق من عينيه أسدل بينه وبين الدنيا ستارا
فمسح دمعه بيده الملطخة بدم صاحبه
ليبصر النظرة الساهمة في عينيه المفتوحتين،
وسبابته المفرودة كأنما ترسم لهم الطريق إلى السماء..
إلى جنات النعيم والمقربين..
أتراه يبتسم الآن في جنات النعيم؟!!
تمالك الأنين الذي كاد يغلب شفتيه،
وأمرّ على عيني عبد الرحمن كفا مرتجفة
ثم نهض ليبصرهم من وراء غلالة الدمع يلطمون صدر عادل العاري بقبضتي الصادم الكهربائي
بينما لا تحمل الشاشة سوى خط مستو...))
(( لم يعاقب أي منهما،
لا لأن الأول غادر مكان احتجازه بلا مبالاة أولا ولم يسلم نفسه عندما طلب ثانيا،
ولا لأن الثاني جلب رفيقه إلى حيث يرقد رفيقهما بعد مهمة خاصة جدا
رغم أن الأمر من المفترض أن يظل طي الكتمان لحين تعلنه الإدارة.
وكان التجاهل أقسى عليهما من أشد عقاب،
بل لعل عقابا قاسيا كان ليشغلهما على الأقل عن التفكير بعبد الرحمن..
بالدم والعينين مطفأتي البريق..
بالجنات والمقربين.
هدوء لم يعهده من قبل يغمر روحه..
كأنما لم يره بعينيه..
كأنما لم يرحل..
وكأنه بعد دقائق سيراه يسير ما بين الصفوف!!
كلا، لم يكن ذاك حلما،
لا الدم ولا الصوت الخافت ولا الدمع الذي تحدر على وجهه ولا زال يتحدر على قلبه.
زفر في ذات اللحظة التي هوت قبضة ثقيلة على كتفه بقسوة
فالتفت منزعجا ليجد أمير فرقته عابسا أمامه،
ويجد أنه يقف وقفة مائلة ساهمة في الصف!!
فاعتدل سريعا ورفع رأسه راسما في عينيه النظرة الباردة ذاتها وكأنما لم يحدث أي شيء،
أمامه كان مكان عادل من الصف مشغولا بسواه بعد أن أبقته جراحه في المشفى.
وتماسك قدر ما استطاع وهو يتمنى لو تم احتجازه في غرفة ضيقة معتمة ليتمالك نفسه ويداوي جروح روحه كما يشاء..
لكن!!))
،
|