كاتب الموضوع :
ابشر ولبيه
المنتدى :
القصص المكتمله
)( 6 )(
مسحت دموعها وقد تمازجت في نفسها المخاوف والآلام،
حتى خالتها لن يمكنها إنقاذها وهي حبيسة هذا البيت،
لا هاتف لا انترنت،
ولا مفتاح حتى،
فكرت بالقفز من إحدى النوافذ واللجوء إلى الشرطة،
لكن النوافذ جميعا محمية بزخارف حديدية صلبة أثارت إعجابها أول ما وصلت،
لتثير يأسها الآن.
أيعقل أنها أحبت شيئا أعده هو؟!
وكيف خانها حدسها هي التي كرهت حتى الحروف التي ترسم اسمه على الورق وعلى الشفاه؟!
نهضت لتقف بنافذة البيت الأمامية وتفكر بالاستنجاد بأي مار في الحي،
لكن ماذا عساها تقول؟
ومن سيصدقها؟
من سيصدق أن الأخ الحنون الذي لم يستطع الابتعاد عن أخته اليتيمة يسجنها في بيته الأنيق؟!!
من سيصدق سم الزهرة بعد أن بهره عطرها؟!
وإن لم ينجدها أحد؟
وإن استعادها بعد ذلك؟
سـ...؟
ثم إن نجحت في الفرار دون معونة إلى أين ستمضي؟
من يساعد غريبة صغيرة تائهة؟
من يؤويها؟
من يتبرع لها باتصال واحد إلى خالتها؟
تخيلت أن تنام أياما في الحدائق وتحت الجسور أو في مداخل العمارات الهاجعة..
أن يباغتها وغد..
أو يباغتها شرطي فيقودها ذليلة إلى قسم شرطة لا يلبث أن يعيدها إليه!
وليس ثمة من يجبره على دفعها إلى أحضان خالتها...!
كل الطرق تعود بها إليه.. إلى انتقامه وحقده.
لمحت سيارته في بداية الحي فتركت النافذة وانطلقت تجري إلى غرفتها.
ولم تلبث أن سمعت صوت خطواته تتوقف عند بابها ثواني كاد يتوقف معها قلبها،
لكنه من ثم واصل سيره وسمعت باب حجرته يفتح ويغلق.
جلست على فراشها بيأس تدير بصرها في حجرتها وتفكر.
كل الطرق مسدودة،
أسوأ أفكارها لم تحملها إلى حال كحالها،
كل عقوقه وقسوته لم تلهمها تخيل أن يهوي إلى هذا الحد،
ولا أن يتجبر إلى هذا الحد،
حياته كانت تسير كما يشاء فلماذا أرادها؟
لماذا انتزعها من عيشتها الآمنة لتعيش معه الكراهية والخوف؟!
أغمضت عينيها وحاولت الفرار من متاعبها إلى ذكرياتها،
لكن ذكرياتها أيضا حملت لها مرارة هائلة.
آه يا أبي،
ألم أخبرك أنه أسوأ مما كنت تأمل؟!!
أيقظتها من شرودها طرقات على بابها، فانتفضت واقفة بذعر وهي تتمنى لو أقفلت الباب عليها. لكن ما قيمة القفل أمامه؟!
وارتفع صوت الطرقات على الباب وهي واقفة كتمثال من حجر لا تدري ماذا تفعل!! تراجعت برعب وهو يفتح الباب ببطء ليزداد حاجباه انعقادا: لماذا لم تردي؟!
تحركت شفتاها دون أن تستطيع النطق، فارتفع صوته: لماذا؟!
تمالكت نفسها لتمتم: لم أدر ما.. ما..
فأغمض عينيه بنفاد صبر، وزفر قبل أن يستند إلى باب الحجرة قائلا: أحضرت لك غداء جاهزا ليومين، قد لا أعود مساء..
وتبسم بسخرية قائلا: لدي ما سأفعله، آمل ألا تتصرفي أي تصرف مجنون في غيابي، لا تجبريني على ما لا تحبين.
كأنما سمع كل ما دار في عقلها من أفكار واحتمالات!!
فاض القهر في قلبها، فأشاحت عنه متناسبة رعبها،
وسبقها لسانها: أراحني الله منك.. رماك الله بما تستحق.
سرعان ما استوعبت ما قالته..
قد جنت!!
ارتجف قلبها وانتظرت برعب ردة فعله..
لكنه أغمض عينيه وغادرها صامتا متمهلا،
فتبعته عيناها وقلبها ينبض باليأس، والكراهية: لا تعد.. لا....
وسالت دموعها رغما عنها: لا لم تكن تعرفه يا أبي، تركتماني.. لمن تركتماني؟ لشخص لا أعرف له رسما ولا صفة؟ لماذا؟ لماذا تتركونني جميعا؟ لماذا تكرهونني؟
(( ضمنها بحنو قائلا: لا يا حبيبتي.. قلب محمود لا يعرف الكراهية ولا القسوة، قد مر بظروف صعبة مبكرا قبل أن يشتد عوده.
فهزت رأسها وهي تكره أن يتسع قلب أبيها حتى لمن عقه: لا مبرر يا أبي، لا يوجد إنسان يهجر والديه مهما كانت الأسباب، مهما كانت الصعاب.. أما فهم حنانكما وحبكما؟! ألم يعش في عالم من الحب والثقة والحنان طوال سنوات عديدة؟! أتهدم بعض الظروف الصعبة كل ما سبق؟!
هذا وهو المخطئ فكيف لو كان على حق؟؟!
أمال رأسه لتتحد نظراتهما: من قال لك أن محمود كان مخطئا؟!
فتعثرت الكلمات على شفتيها: ابنة خالي
واستجمعت شجاعتها لعلها تعرف ذلك السر الذي لم يكشف عنه قط: قالت أنه آذى شابا تشاجر معه، فحكم عليه بـ.. السجن!!!
ما الذي دفعه للابتعاد كل هذه السنين سوى ذاك؟
لمع الغضب في عينيه فجاهد لكبحه وربت على رأسها قائلا: لا يا شوق، أنسيت أن كل ما يتعلق بطلاب مركز الأبحاث والعلوم سري لا يعلن قط. غاب سنة وعاد بعدها ليسافر، ولا أحد يعلم الحقيقة، أخوك لم يكن يوما ليؤذي أحدا، عدا عن أنه لطالما كان عاقلا هادئا لا يعصف به الغضب.
تنهدت ودفنت رأسها في صدره وهي تهمس لنفسها: وهل عرفتموه حقا يا أبي؟؟! من يقسو عليكما قد يقسوعلى الدنيا كلها. بينما أغمض أبوها عينيه بألم وحزن وهو يستعيد حكاية ابنه التي قتلت أمه ببطء.. السر الذي كشف بعدما ذبح عروق عائلة كانت باقة متسقة فصار كل قلب فيها غريبا وحيدا!! وبعدما كاد محمود ينتهي))
وعاصفة ثارت في أعماقها بعثرتها كبقايا أوراق خريف رحل تاركا وراءه ما أشاعه من ذبول..
وعاجزة هي،
ذاك اليأس الذي استباح قلبها بعد رحيلهما يكاد يشل حتى الإحساس فيها،
لكأنما لم يبق فيها من الحياة سوى تلك المضغة النابضة!
ليست تفهمه..
لا..
ماذا يريد بها؟
يتجاهلها حينا ويقسو حينا ويصمت أحيانا،
ماذا يريد؟
لكأنما ألقيت في جب معتم معصوبة العينين..
لا تكاد تفقه مما يحيط بها شيئا،
وتثور عواصف قلبها..
تبعثرها ثم تجمع فتاتها..
لتبعثرها ثانية.
روحه مدينة غريبة عنها ألقاها أمامها القدر،
لكنها تصر على إغلاق أسوارها في وجهه،
والخريف يستبيحها،
والعواصف تهدر حتى تكاد تعميها..
ولا ملجأ!
مسحت دمعها ونور يبزغ من آفاقها لتبصر على هديه..
فلتقفر مدائن روحها،
ولتتنكر لها مدائن قلبه..
ثمة باب لا يغلق ولا يرد طارقه..
تكورت على نفسها وأسندت رأسها إلى ساعديها المعقودين..
وبصمت مضت تسأله الأمان..
رتلت آيات الاغتراب..
وآيات الطمأنينة..
سارت تقتفي أثر المهاجر عبر الصحراء لا يعرف ما تنطوي عليه رحم الغد..
يحمل همه ورسالته..
ويسلك السبيل التي أرادها له الله..
حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا!
لماذا ارتحلا؟
لماذا قرر انتزاع الجورية من أرضها متجاهلا أنها تذبل بعد بترها؟
أهكذا تسير الحياة!
عشوائيات بلا هدف؟
حدث وانتهى الأمر!
(لكل شيء له في أمره حكمة)
لكل شيء،
فلماذا تظن أنه تركها؟
وأن المرض هو من سلبها أمها،
وموت الفجأة سلبها أباها؟
وأن محمود هو من قرر ونفذ!
أوليس كل ذاك بقدر الله؟!!
أمؤمنة بالقدر أم لا؟
أمسلمة لله أم لا؟
فيم كل تناقضاتها؟
فيم الإيمان مع الخوف.. والتسليم مع الشك؟
مسحت على وجهها بضيق وهو لا تكاد تعرف نفسها،
أيهما حقيقة الألم، مدائنه وقد صدت، أم مدائنها التي لم تعد تعرفها!!
إنما الصبر عند الصدمة الأولى..
وهي منذ هبت على حياتها المصاعب انهارت واستسلمت لأوهامها!
أين منها الصبر؟!
وبرقت عيناها وهي تفكر،
لو استنصحت المهاجر الذي تنكر له قومه ماذا كان عساه ينصحها؟!
ادفع بالتي هي أحسن؟!!
لكنها..
وعاد الدمع يغشي بصرها..
لكنها لا تفهمه..
لا تفهم أيا مما تمر به..
كأنها ليست هي!!
|