(6)
لماذا ؟!.
وقفت نور بجانب طاولة الطعام .. لتعد طبق السلطة الغني بمكوناته الطازجة .. وكانت تحاول بين الحين والآخر أن تمد يد العون لوالدتها التي كانت تطهو طعام الغداء ..
حاولت اخفاء ابتسامتها المرحه .. وهي تتابع خطوات والدتها السريعة في المطبخ .. لقد كان هذا المنظر القلق لوالدتها يتكرر دائما عندما كان والدها لا يزال على قيد الحياة .. ذلك القلق من أن تكون اخفقت في طهو الطعام .. أو أن الوليمه التي تعدها لن تشرف زوجها أمام ضيوفه .. لم يكن لدى نور خبرة كبيرة في المطبخ .. لذلك كانت تكتفي بإعداد أطباق السلطة .. وتقطيع الخضار ..
- ألم تنتهوا بعد .. إن الرجل سيصل بعد قيل ..
ركزت نور نظرها على تلك القطعة من الخيار التي كانت تبشرها .. محاولة تجاهل حديث الخال نبيل المزعج .. وتركت مهمة الرد على والدتها كالعادة :
- صبرا يا نبيل .. إن اللوم يقع عليك فأنت لم تخبرنا من قبل .
- وهل هو محرم في هذا البيت دعوة الاصدقاء .. إن الرجل يكرمني يوميا .. ألا أرد له الجميل .
زفرت حياه بضيق وهي تتفقد قدر الأرز .. وتطفئ تحته النار بعد أن نضجت حبيباته :
- أنا لم أقل ذلك .. وكفى صراخا فالغذاء جاهز .
نظر إلى نور التي توشك على الإنتهاء هي الأخرى .. وكأنه يود أن يوجه لها بعضا من كلماته العدائيه .. ولكنه سرعان ما غير رايه .. وخرج بصمت .. تبعته نور بعينين متعجبتين من ذلك التصرف المسالم معها .. وقلبت شفتيها بإستغراب ..
إن والدتها تعودت على مثل هذة المفاجآت ولكن ليس مع الخال نبيل .. فهو لم يتصف ابدا بالكرم .. وإن فكر في دعوة أحدهم على الغداء فمؤكد أن هنالك مصلحة بينهما تقتضي ذلك .. بعكس والدها الذي كان دوما ما يدعو الأهل والأصدقاء .. حتى أصبحت الأم لا تعد وجبة لثلاث أشخاص فقط ..
تنهدت نور عند تذكرها لوالدها الحبيب .. ولكنها سرعان ما رسمت إبتسامة صادقة على شفتيها لتطمئن والدتها .. وتسائلت وهي تحمل وعاء السلطة بين يديها :
- هل أضعه في الثلاجة .
وقبل أن تجيب الأم .. سمعتا الباب يطرق .. ثم تلاه صوت الخال نبيل بترحيب مبالغ فيه .. فقالت والتجهم لا يزال باديا على ملامحها :
- لا داعي لذلك ..
ثم دخلت حجرتها لتستريح .. وتركت لنور مهمة تحضير أطباق الغداء وإعطاءها للخال نبيل حتى يدخلها للضيف .. من ثم دخلت هي أيضا حجرتها .. بعد أن إنتهى الرجلان من تناول الطعام جائت والدتها بصينية الشاي .. ومدتها لنور :
- ارتدي حجابك وأدخلي لخالك وضيفه الصينية .
عقدت نور حاجبيها وهي تحاول استيعاب ماتأمرها والدتها به :
- ولما لا يدخلها هو ؟.
اخذت الأم نفسا عميقا محاولة أن تهدئ نفسها .. كانت نور تشعر بالأسى على حال والدتها فهي دائمة التوتر من أفعال الخال نبيل الغير موزونة :
- لا تتعبيني يا نور .. لن يحدث شيء إن أدخلتي لهم الشاي .
إعترضت نور بحدة :
- وبأي حق يطالبني بذلك ؟.
خرجت حياه من الحجرة دون أن تضيف كلمة أخرى .. وكانت نور تدرك توافق أرائهما معا .. بعد دقائق جاء الخال نبيل إليها قائلا ببساطه :
- إرتدي حجابك يا نور .. وتعالي .
بداء الضيق يتملكها .. ونظرت إليه بنظرتها الجامدة :
- إلى أين بالضبط ؟.
أجابها الخال نبيل بتلقائية وهو يشير إلى جهازها المحمول الذي كانت تعمل عليه .. وبتلك الطريقة اللطيفة والحديثة في تعامله معها :
- إن صديقي يود أن يسالك بخصوص الأجهزة التي تستخدمونها .
- ألا تستطيع أنت أن تنقل لي سؤاله ؟.
- بالطبع لا .. فأنا لا أفهم شيء مما يتعلق بهذة الأجهزة .
ضغطت نور على أسنانها بحرقة .. وهي ترى نظرات والدتها المتوسلة من وراء الخال نبيل .. فحاولت أن تتمالك أعصابها بعد أن شعرت أن الكل تحالف ضدها حتى تنفذ رغبتهم الغير مفهومة لها .. وبدأت تشعر بأن اليوم لن يمر بسلام .. إلا برؤيتها لصديق الخال نبيل .. وقفت بعصبية وأخذت ترتدي عبائتها وحجابها .. وحاولت أن توطن نفسها بأنها تؤدي مهمة رسمية .. وكأنها مهندسة تعالج مشكلة لأي عميل .. تبعت الخال نبيل إلى حجرة الضيوف ولكنها لم تدخل معه بل وقفت في الباب .. وسرعان ما بدى عليها الإستغراب فور رؤيتها لذلك الصديق المجهول .. إنه شاب صغير .. ربما يكون في عمر سامح .. ما هي العلاقة التي تربط بينه وبين خالها يا ترى .. ارتبكت نور قليلا فهي لم تعد تفهم شيئا .. وتملكها إحساس بالخيانة لا تدري مصدره ..
سمعت الخال نبيل يحدثها مشجعا :
- إدخلي يا نور .
تجاهلت حديثه .. وحولت نظرها لذلك الشاب الذي لم تستصغ نظراته إليها .. لا تستطيع أن تصف تلك النظرات بالوقاحة .. ولكنها أيضا لم ترقها طريقة تفحصه لها .. ولكنها بادلته بنظرة ميتة خالية من أي تعابير وهي توجه له سؤالها دون أن تتقدم خطوة واحدها الى الداخل :
- بماذا استطيع أن اخدمك ؟.
شعرت للحظة أنه فوجئ بسؤالها فحاولت تغيره :
- ما هي مشكلة جهازك ؟.
قال مستغربا :
- جهازي .. آه .. نعم .. نعم .. جهازي .
هنا زمت نور شفتيها .. كي لا تفلت السيطرة على أعصابها .. فلقد بدأت تشعر بمدى سخافة هذا الموقف الذي وضعت فيه .. ولكنها استمعت إلى مشكلته والتي لا تستطيع عدها كمشكله .. فيبدو أنها مجرد عذر .. بدليل هذا الوقت الذي استغرقه في تأليف تلك المشكلة .. ولكنها أجابته بكل تهذيب .. ولكن بكلمات مقتضبه أيضا ثم سحبت نفسها بسرعة دون أن تنتظر رد أحدهما عليها .
دخلت غرفتها وهي تشعر بأن الدماء تغلي في عروقها .. إنها ليست غبية لكي يخفى عليها مقصد الخال نبيل من كل هذة التمثيلية الهوجاء .. خلعت عبائتها وحجابها ورمتهما على الكرسي .. وكأنها تصفعه وتلقي عليه باللوم لما حدث معها .. كم تود لو واجهت الملام الحقيقي .. لم يطل إنتظارها وسرعان ما سمعت صوت الخال نبيل يودع ذلك الشاب .. فخرجت عند ذلك لتواجهه .. إبتسم لها والفرحه تكلل وجهه .. وأخذها من يدها نحو حجرة والدتها .. ثم أجلسها قائلا :
- مبروك .
أجابته الأم بفتور :
- على ماذا ؟.
- لقد تقدم لنور عريس .
قبل أن تردف والدتها بشيء .. قاطعتها هي بحدة محاولة تصنع الفرح :
- آه .. حقا .. يبدو أنني نلت إعجابه ؟.
أجابها بحماس بالغ :
- جدا .
- وهل سيدفع الكثير ؟.
إتسعت عينيه بسعادة .. وتحدث بفخر :
- نعم .. وهل تعتقدين بأنك رخيصة بالنسبة لي .
هنا تدخلت الأم وهي تحس أن بينهما شيء لا تفهمه :
- ما الذي تتحدثان عنه .
إلتفت إليها الخال نبيل .. وبداء يشرح لها بإهتمام :
- صديقي هذا شاب في مقتبل العمر .. وهو يعمل مع والده في التجارة .. كما أنه الوريث الوحيد لكل الأملاك .. ولقد جاء اليوم لخطبة إبنتنا نور .
وقفت نور بشكل مباغث .. وهي تقول بصوت قاسي :
- أولا أنا لست ابنتك ولن أكون ابدا .. ثانيا لن أوافق على هذة الزيجة .
تسائلت الأم بقلق :
- أوليس شابا خلوقا يا نبيل ؟.
أجابها بسرعة .. ودون تفكير :
- نعم .. نعم .
هنا حولت الأم نظرها لابنتها التي تبشر ملامحها بنوبة بكاء :
- إذا لماذا ترفضينه يا نور ؟.
- لأنني .. لأنني ..
- لأنك ماذا .
كانت نور تجاهد نفسها حتى تتغلب على تلك المشاعر التي تتصارع بداخلها والتي تحس بأنها أكبر من قدرتها على الإحتمال .. فيكفيها ما تعانيه من تشوش احاسيسها .. كانت تقف بعصبية وهي تضغط على أناملها وكأنها تحاول إعتصار مبرر مقبول لرفضها .. ثم نطقت أخيرا :
- لأنني لست سلعة أباع لمن يدفع اكثر .
رد عليها الخال بلطف .. وكأنه يغري طفلة صغيرة :
- إنه سيجعلك تعيشين مثل الأمراء .. وستستطيعين أن تقيمي عرسك في افخم الفنادق يا نور .. ولن تحتاجي معه لأي شيء .. حتى يمكنك أن تتركي الدراسة فما حاجتك للعمل .. وأنت زوجة شاب غني مثله .
كانت نور تشعر بأن معدتها تكاد تنقلب .. فهي تكرة مثل هذا التفكير المريض :
- وهل تعتقد أن هذا كفيل بإقناعي ؟.
- وماذا تريدين إذا ؟.
- ومن قال بأنني طلبت منك شيء ؟
تحدثت الأم وهي تمسك بيدها .. وتحاول تهدئتها و اجلاسها :
- نور .. حبيبتي .. لما لا تدعينا نناقش الموضوع بهدوء .. فنحن ايضا لن نرميك يا ابنتي .. ومؤكد اننا سنتأكد من حسن أخلاقه .
قاطعها الخال نبيل :
- ليس هنالك داعي .. فلقد قمت أنا بذلك مسبقا ..
نظرت له نور بحدة :
- أنت لن تستطيع إجباري على شيء .
هنا إرتفع صوت الخال نبيل :
- بل أستطيع .. إن كنت لا تدركين مصلحتك .
- إن مصلحتي ليست مع شاب غني يشعرني بأنني قطعة اشتراها بنقوده .. لا تملك حتى حق إمتلاكها لنفسها .
زفر ساخرا .. وقد عاوده أسلوبه المستفز بالحديث معها :
- وأين هي مصلحتك ؟.. مع موظف بسيط مثل والدك ؟.
أغمضت عينيا محاولة تمالك نفسها ثم فتحتهما .. وهي ترفع حاجبها بتحدي ظاهر :
- نعم .. ما دمت سأعيش بكرامة معه .. وسيظل يشعرني بكياني مثلما كان يفعل والدي ..
ألقت نور بتلك الكلمات عليه وخرجت قبل أن تفقد أعصابها أكثر من ذلك .. ورمت بنفسها على سريرها .. ثم أفلتت تلك الدموع الساخنة لتبلل وسادتها .. بعد أن ناضلت طويلا للتسيطر عليهم ..
هل يستطيع الخال نبيل إجبارها على ذلك ..
هل يملك من خبث النفس ما يمكنه من تدمير مستقبلها ..
بدأت تتخيل نفسها بتلك الحياة التي رسمتها كلماته ..
فتاة شابة لم تكمل تعليمها الجامعي .. لا تُعرف إلا باسم زوجها الغني .. الذي تعيش معه حياة مترفة خالية من الأحاسيس .. تملاء أيامهما أعمال روتينية تافهة .. ولا تبربطهما إلا حجرة المعيشة الزوجية .. والأطفال ..
ضغطت نور على الوسادة التي كانت تحضنها بقبضة يديها .. وهي تحس بأن قلبها يحترق من شدة الألم ..
رن هاتفها .. وكانت لا تشعر برغبة في الرد .. لولا أن رأت اسم صديقتها الحنونة رهف .. فسارعت بالإجابة بصوتها المهزوز من أثار البكاء .. روع رهف حالها وتساءلت بقلق :
- حبيبتي نور .. ما بك .. هل حدث لكم مكروه ؟.
- رهف أنقذيني .
لم تستطع نور أن تنطق بأكثر من ذلك .. وانفجرت باكية .. حاولت رهف تهدئتها وتهدئة نفسها أيضا .. وطردت تلك الأفكار المتشائمة التي تغزوا تفكيرها فهي لم تستطع إستنتاج ما يضايق صدقتها المرهفة المشاعر :
- نور هل لك أن تهدئي لتطمئنينني ؟.
حاولت نور أن تجعل صوتها مفهوما وحدثت رهف بكل شي .. فعادت الصديقة تتسائل بعطف :
- لماذا ترفضينه يا نور ؟.
- حتى أنت يا رهف ؟.
أجابتها مربررة كمن ينفي تهمة عنه :
- أنا لا أثق بالخال نبيل .. ولكن ربما هذا الشاب مناسبا لك بالفعل ..
- أنا لا أود أن أرتبط به ؟.
سكتت رهف .. ولم تود أن تزيد من توتر صديقتها :
- حسنا .. سنتحدث فيما بعد .. لا تتعبي نفسك الآن .. وحاولي أن ترتاحي .
نفذت نور أوامر رهف فلقد كانت تشعر بالإجهاد الشديد .. وفي المساء جاءت والدتها متسلله إلى حجرتها .. تنهدت نور بعد أن فهمت نيتها .
جلست حياه بجانبها واحتضنتها بحب بالغ .. ثم قبلتها على رأسها وهي لا تزال تحتضنها وتهزها كالأطفال :
- حبيبتي .. لماذا انفعلت بذلك الشكل ؟.
- ألا تدركين ما قام به الخال نبيل يا أمي ؟.
- وما الذي قام به ؟.
إبتعدت نور عن والدتها وهي ترفع حاجبيها بدهشة :
- لقد احضر الشاب حتى يتفرج علي .. حتى يرى إن كنت سأنال إعجابه أم لا ..
تنهدت الأم .. ثم أجابت محاولة تبرر عمل زوجها الغير مبرر :
- ولكنه أعجب بك ؟.
- وهل هذا جواب مقنع بالنسبة لك ؟.
- لماذا تحاولين قطع نصيبك يا حبيبتي ؟..
ردت عليها بعناد :
- أنا لا أزال صغيرة .. كما أود أن أكمل دراستي .
- تستطيعين أن تشترطي عليه ذلك .. حتى يدعك تكملين الدراسة بعد الزواج .
- أنا لا أريده يا أمي ؟.
كانت حياه ستهم بالحديث .. عندما وقفت نور مقاطعة لها :
- قولي أنني أصبحت حملا ثقيلا عليكما .. وأنكما تودان التخلص مني ..
عقدت الدهشة لسان والدتها .. وسارعت نور بإرتداء عباءتها وحجابها .. فتساءلت الأم بقلق :
- إلى أين يا نور .. أنا لم أقل كلاما يزعجك يا حبيبتي .
أفلتت نور دموعها وهي لا تقوى على مواجهة نظرات والدتها القلقة .. فهي لم تتعود أن تكون سببا في حزنها :
- بل أنا من يزعجك بكلامي .
أجابتها الأم برقة واللوعة بادية في نبرتها :
- لا تقولي مثل هذا الكلام يا نور .. أنت ابنتي .. أنت قطعة مني .. بل أنت الشيء الوحيد الذي يسيرني في هذة الحياة ..
تدفقت دموع أخرى على خدي نور .. وهي تتوسل لوالدتها :
- سامحيني يا أمي .. ولكنني يجب أن أخرج فأنا أشعر بأنني سأختنق .
- ألى أين ستذهبين ؟.
فكرت نور ثم قالت مطمئنة وهي تمسح دموعها :
- إلى حسام .
أشاع اسم حسام السكينة في قلب والدتها .. وكانت هي تدرك ذلك عندما نطقت باسمه .. كما أنها لم تكذب .. فهي حقا بحاجة لمنقذها الوحيد ..
خرجت من البيت بعد أن جففت دموعها .. ولم تشعر بالوقت ولا بالطريق الذي يبعد بيتها عن عيادة حسام .. ففكرها كان مشغولا ولم يسمح لها بتتمييز ما يمر حولها ..
لاحظت الخاله نظرة توترها .. فسارعت في إجلاسها على إحدى المقاعد بإهتمام صادق .. وحدثتها مطمئنة :
- لن تنتظري كثيرا .. فلم يعد يوجد سوى مريض واحد لدى الدكتور حسام غير الذي بالداخل ..
هزت نور رأسها بإستسلام .. مما جعل الخالة نظرة تشفق عليها وتردف قائلة :
- أتودين أن أخبره بحضورك ؟.
سارعت تجيبها وهي تحاول أن ترسم إبتسامة مطمئنة على شفتيها .. ولكن يبدوا بأنها زادت من قلق الخالة نظرة عليها :
- لا .. لاداعي لذلك .. سأكتفي بالإنتظار .
- حسنا يا حبيبتي .
كانت نور تجلس شاردة وعندما فتح باب حجرة حسام .. وخرج منها ذلك الطفل اللطيف .. وهو ينط أمام والدته بفرح .. لم تستطع منع إبتسامة داهمة شفتيها المطبقتين .. وظلت تتابع حركاته الشقية بفرحة صادقة وكأنها تتمنى بداخلها أن تعود إلى هذة المرحلة التي يعيشها .. مرحلة النقاء واللامبالة .. مرحله اللاهموم .. كم تحن إلى تلك الأيام .. أيام أن كان والدها موجودا .. يغمرها بكل الحنان والحب الذي تحتاجه .. تلك الأيام التي كان حضن والدتها لا يفرقها أبدا .. وكانت وسادتها الوحيدة عند النوم هما ذراعيها النعمين .. لم تشعر نور بتلك الدموع التي إنسابت منها إلى عندما جائها ذلك الصوت الدافئ الذي لطالما إنتشلها من أحزانها .. كان مرتاعا بعض الشيء :
- نور .. ما بك يا صغيرتي ؟.
رفعت عينيها دون وعي منها .. ثم هزت رأسها بسرعة متداركه الموقف .. وهي تمسح دموعها وتبتسم بسخرية من نفسها .. ثم أردفت بعد أن وقفت أمامه :
- كم أنا سخيفة ؟.
لم تفلح كلمتها ببث الإطمئنان إلى قلبه المحب لها .. وعاد يحدثها بحنانه المعهود :
- هل أنت بخير صغيرتي ؟.
أومأت بعينيها وقد أشفقت عليه :
- نعم يا حسام .. لا تقلق .
أدخلها إلى حجرته وهو يستحثها قائلا :
- إذا ما الذي يبكيك ؟.
- مجرد مشكلة بسيطة .. كالمعتاد .
صمت حسام وهو يرهف السمع لها .. فعاودها الإكتئاب وهي تخبره .. كمن ينقل خبر نعي عزيز :
- لقد تقدم لي عريس .
- ماذا ؟.
أطلق حسام سؤاله بنبرة قريبة للصراخ .. ولكنه تمالك نفسه .. وتساءل بإهتمام بعد أن رأى ملامح الإستغراب من تصرفه تكلل ملامحها الطفولية :
- هل هذا ما يزعجك إذا ؟.
- نعم .
عاود أسئلته .. بإحساس من ينتظر حكما بالإعدام :
- وهل وافقت ؟.
- بالطبع لا .
اخذ حسام نفسا عميقا .. ولكنه ظل يتفحصها بعينيه .. وأدركت هي أن هنالك شيء غريب في نظراته شيء لم تستطيع فهمه بعد :
- وما هو سبب رفضك ؟.
أجابت ببساطة محاولة اقناعه بإجابتها :
- لأنني لا أعرفه .
عادت تقول بعد أن أحست بأن إجابتها ليست كافية :
- كما أنني لا أحبه ؟.
تسائل بإستغراب :
- وهل شرط أن ترتبطي بشخص تحبينه ؟.
- لا .. ولكن على الأقل .. أكون مطمئنه له .. ولمشاعره نحوي .
ظل حسام يرمقها بتلك النظرة الغريبة .. والتي لمحت فيها نفس الغذاب الذي تعانيه :
- صغيرتي .. أنا على إستعداد من أن أسال عنه حتى تطمئني .. وصدقيني أنا لن ارضى أن ترغمي على شيء أنت لا تودينه .
- ولكن لماذا ستتعب نفسك وأنا سأرفض في النهاية .
احست نور أن جملتها الأخيرة زادت من عذاب حسام الذي تسائل بصوت خفيض متوجس :
- لماذا ؟
هنا وقفت نور بعصبية :
- كفى .. لقد مللت من سماع هذة الكلمة .
- يجب أن تجيبي عليها يا نور .. يجب أن تكوني صادقة مع نفسك .. ما الذي يمنعك من الإرتباط بأي شخص ؟.
ظلت نور صامته وهي تحاول مغالبة دموعها .. فعاد هو يسألها بلطف أكبر .. والألم يعتصر ملامحة .. لابد أنها تسبب لحسام الكثير من المضايقات فهي دائما ما تشركه في معاناتها :
- لما لا تجيبيني يا نور ؟.
تحجر الدمع في عينيها وهي تنظر له بتحدي بعد أن تذكرت شيئا فجأة :
- لما لا تجيبني أنت ؟.
على الإستغراب ملامحه .. فعادت تشرح له وهي تشير بعينيها لذلك الملف الكائن على طاولته :
- أنا على يقين أنك أعلم بالإجابة .. وبسبب رفضي للإرتباط بأي شخص .
إرتبك قليلا .. ولكنه سرعان ما تصنع عدم الفهم وهو يتحدث معها بشكل أكثر هدوئا :
- وما هي الإجابة التي تنتظرينها مني ؟.
- ما هو المرض الذي أعاني منه يا حسام ؟.
تقدم حسام منها وحاول أن يجلسها وهو يطل عليها بعينيه الجذابتين واللتان تلمعان بصفاء روحه :
- لما لا تودين تصديقي .. صغيرتي ؟.
صحيح لما لا تستطيع تصديقه ..
لماذا تشعر في قرارة نفسها بالخوف كلما سألته هذا السؤال ..
وإلى متى ستظل توهم نفسها بصدق كلماته ..
ابتعدت نور منه ولم تستجب لتهدئته .. ثم توجهت نحو باب الخروج بصمت .. فسارع هو يستوقفها :
- إلى أاين .. صغيرتي ؟.
كانت تدرك مدى الخوف الذي يتملكه من أجلها .. فحاولت ما استطاعت حتى تجيبه بشكل طبيعي :
- لا تقلق يا حسام .. سأعود إلى البيت .. وسأحاول مؤقتا أن أنسى كل ما حدث معي اليوم ..
- وهل تعتقدين بأنني أقوى على تركك هكذا ؟.
ابتسمت له وهي تمسح دموعها .. ولكنه يدرك بأنها مجرد إبتسامة مخادعة .. ظل يطوف بعينيه على صفحة وجهها .. ولكنه لم يملك في الأخير سوى الإستسلام لرغبتها .. فراح يبتسم لها هو الآخر .. تلك الإبتسامة الدافئة المفعمة بالحنان والتي تملك القدرة على تبديد سمائها الملبدة بالأحزان :
- حسنا صغيرتي .. لا تجعليني أقلق عليك .. ولتتصلي بي غدا فور استيقاضك .
هزت راسها بالموافقة .. ثم خرجت من العيادة وهي تشعر بأنها تائهه وسط أفكارها ومشاعرها .. هل كانت صادقة مع نفسها في كل تلك الإجابات التي تفسر ذلك السؤال الوحيد ( لماذا ؟؟) .. إنها تدرك في أعماقها أن المانع أبعد من كل تلك الإجابات .. تعلم أن ذلك المانع يتجسد في شخص ما .. إنه نفس الشخص الذي تشعر بمدى حاجتها له الآن .. بشدة إشتياقها إليه .. بدأت الدموع تخنقها وهي تفكر بذلك الحبيب الغائب والذي لا يعلم عنها شيء .. ياترى ماذا سيكون رد فعل سامح عند معرفته لخبر زواجها .. زفرت نور بسخرية بعد أن أفلتت دمعة من عينيها .. كم هي موهومة .. ما الذي يدعوها للتسائل عن مشاعره .. مؤكد لن يؤثر الخبر عليه .. ألم ينصحها هو بالنسيان .. مسحت دمعتها لتعود وتسقط دمعة أخرى .. ولكن متى ستستطيع هي العمل بنصيحته ..
لم تكن نور تدرك شيئا حولها لذلك لم تشعر بذلك الشاب الذي يسير بسيارته بشكل بطيء بجانبها .. كما أنه كان يطلق بوق السيارة محاولا استرعاء انتباهها .. تسلل الخوف إلى قلبها .. وهي تعود وتتفقد دموعها التي جفت تلقائيا جراء التوتر الذي أصابها .. ولكن الشاب ظل صامدا وعاود إطلاق البوق وكان صبره بداء بالنفاذ .. ولكنها توقفت متصلبة عندما سمعته يهتف بإسمها بإلحاح :
- نور .. نور .. هل أصبتي بالصمم ؟.
إلتفت إليه بإستغراب بعد أن ميزت فيه نبرة سامح الساخرة .. فتح لها باب السيارة وهو يدعوها للركوب :
- هيا اركبي .
لم تعرف سبب تغير صلابة الأرض تحتها .. فلقد شعرت بأنها تقف على أرض رخوة .. كما أن إرتعاشة جسدها زادت من عدم توازنها .. فوجدت أن ذلك الكرسي الثابت والكائن بجانب سامح .. أقرب ملجاء لها .. حتى لا يغشى عليها في الطريق العام ..فدخلت الى السياره بإستسلام ..
لم ينطلق سامح بالسيارة مباشرة وعندما حولت نظرها إليه وجدت أنه كان يتفحص ملامحها بإستغراب يتخلله بعض القلق .. أو أنها هكذا توهمت .. أشاحت بوجهها سريعا وهي تحاول تفقد خديها من مدى جفافاهما .. وزاد وجودها بجانبه من سرعة نبض قلبها المتمرد .. حتى بدأ يراودها احساس بأنه يصل مسامع سامح بوضوح .. فاسترقت نظرة إليه محاولة التأكد من ذلك .. فجأة تحدثت عندما وجدته ينحرف بالسيارة إلى طريق مدينة التواهي :
- إلى أين تذهب ؟.
- ما بك خائفة ؟.. سوف أذهب لأحضر كتابا من صديقي .. بعد ذلك ساوصلك إلى البيت عند طريق عودتي .
عادت تحول نظرها نحو النافذة .. ولكن إحساسها بوجوده .. طغى على كل شعور لديها .. بل زاد في هيجان مشاعرها .. إسترعاها هو من شرودها :
- أين كنتي ؟.
أجابت باقتضاب .. ودون أن تنظر إليه :
- في عيادة حسام .
- هل كنت تبكين ؟.
داهمها بسؤاله ذلك .. ولكنها أجابته بنفس الطريقة المقتضبه حتى لا يكشف كذبها :
- لا .
- لا اصدقك .
ظلت صامتة فهي لا تشعر بقابلية لخوض معركة جديدة في حديث سامح الذي يتعمد به إستفزازها .. لم يضف هو شيئا .. وشعرت به يوقف السيارة ويخرج منها .. غاب قليلا ثم عاد وهو يمسك كتابا في يده ..
أخذت نفسا عميا وحاولت أن تطلق معه كل الشحنات السلبية التي يعج صدرها بها .. ولكن دون جدوى .. ولم تستطع سوى أن تدعوا الله أن ينقذها من هذا الموقف .. فهي تدرك أن سامح لن يدعها وشأنها .. بعد أن رآها في مثل هذة الحالة .. فهي لن تخبره بشيء ..
في طريق العودة .. لم تلحظ بأنها كانت تلعب بالإسوارة الملفوفة حول معصمها بتوتر .. محاولة التخفيف من حدة مشاعرها .. ولكنها أدركت ذلك مع نظرة سامح إليها .. وتلك الإبتسامة المغرورة التي اجتاحت وجهه الوسيم .. أسرعت هي بإخفاء الإسوارة تحت كم عبائتها .. وعقدت أناملها فوق حجرها .. وكأنها أعلنت سجنهما على فعلتهما .. لقد كانت تشعر فعلا بأنها سجينة ..
سجينة لقرارات الخال نبيل وتحكمه بمستقبلها .. وضعفها المتوقع أمامه ..
سجينة لمرضها المجهول والذي يصر حسام على إخفاءه عنها ..
سجينة حبها لهذا الشاب الذي يجلس بجابنها بهدوء ..
كم أصبحت شديدة الحساسية هذا اليوم .. فهي تشعر بأنها تفقد كل الخيوط التي تسيطر بها على إنفعالاتها .. فما الداعي الآن لهذا الدمع الذي ينساب من عينيا بصمت ..
- نور .. لماذا تبكين يا حبيب.....
قطع سامح كلمته الأخيرة بسرعة .. ولكنه لم يدرك أنه بذلك يعتصر قلبها الرقيق .. وكأنه يقطع آخر أمل لها في رجوعه إليها ..
للحظة شعرت بأنها لا تستطيع سماع صوته .. ولا تشعر بوجوده .. وكأن المسافة الصغيرة التي تفصل بينهما إتسعت بشكل مفاجئ لتفصل بينهما .. نعم إنهما لا يملكان الحق بحب بعضهما .. فإن لم يكن حبهما قد مات .. فهو يحتضر الآن بين يدي الخال نبيل ..
عاود سامح تساؤله القلق .. وهو يمد يده ويمسح بأنامله دموع عينيها :
- أرجوك يا نور توقفي عن البكاء .. واخبريني عما يزعجك ؟.
أشاحت هي بوجهها عنه بطريقة عصبية .. وتحدثت بصعوبة من خلال نشيجها المفاجئ :
- أوقف السيارة .. يا سامح .
- هل جننت يا نور ؟.. لقد قلت بأنني سأوصلك .
- وأنا لا أريد منك شيئا ..
- أنت تتهربين من سؤالي ؟.
- أنت تعلم بأنني لن أجيبك ؟.
- لماذا ؟.
نظرت إليه بتوسل والدموع تغشى عينيها فتشوش عليها الرؤيه .. والألم يعتصر قلبها الصغير :
- إنك حقا تمعن في تعذيبي .. أنا لا أفهم ما الذي تريده مني .. هل يرضيك أن تتلاعب بمشاعري .. أن أظل سجينة هواك .
نظر إليها بصدق .. وهو يشفق عليها :
- ألم تفهمي بعد يا نور ؟.
لم تكن تجد سببا لبكائها .. ولكنها ظلت تجيبه بكلماتها المهزوزة :
- متى ستفهم أنت بأنك خسرتني .. حتى كمجرد أخت .. متى ستدرك بأنني أستطيع أن أحيا من غيرك .. وأن قلبي مؤكد سيعشق سواك .
صمتت لبرهة وهي تنظر إلى الأسفل بحزن شديد .. ثم عادت تقول له بعد أن أوقف السيارة محاولا استيعاب كلامها الجارح :
- حتى وإن كان ما اقوله كاذبا .. فالقرار لم يعد بيدي الآن ..
لم يكن بيتها يبعد كثيرا .. ففتحت السيارة وكأنها تحاول الهرب منه .. من نظراته الحزينة التي تزيد وجيعة قلبها .. مما سيقرر قوله ردا على حديثها .. لقد تركته يغرق في ذهول .. أصابها هي أيضا جراء ذلك الكلام الذي لم تكن لتفكر يوما بقولها له ..