كاتب الموضوع :
my faith
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
(4)
ذكرى
- مابك لاتردين على الهاتف ؟.
لم تجب نور على صديقتها التي كانت تنظر لها باستغراب .. ولكنها أسكتت ذلك الرنين المتزايد معه نبض قلبها .. بعد أن استطاعت ضبط أعصابها :
- مرحبا .
جاءها صوت سامح قائلا بتلقائية :
- مرحبا يا نور .. هل أنت في الكلية ؟.
- نعم .
- هل يمكنني أن ألقاك إذا ؟.
أجابته دون تفكير .. متمنية أن تساعدها خطوط الهاتف في عدم إظهار أرتباكها الشديد :
- حسنا .. سأكون في الساحة بعد قليل .
تسائلت رهف ما أن أغلقت الهاتف :
- من كان هذا ؟.
أجابتها وهي لا تزال شاردة :
- إنه سامح .. ويود لقائي الآن .
- حقا .. ماذا يريد منك يا ترى ؟.
قلبت نور شفتها ورفعت كتفيها .. ثم عادت تقول لرهف وهي تقبلها مودعة :
- أنا سأذهب وأراه .. من ثم ساعود إلى البيت .. في أمان الله حبيبتي .. واستذكري دروسك جيدا ..
ردت عليها رهف بإستسلام :
- حسنا إلى اللقاء .
كانت نور لا تملك أدنى فكرة عن سبب هذا اللقاء .. كما أن عقلها كان خاليا من أي أسباب تدفع سامح ليطلب لقاءها .. ولكنها ذهبت إليه مثلما وعدت ..
وجدته في أحد أركان تلك الساحة الواسعة ينتظرها .. واصلت تقدمها نحوه .. واحست كأنها تقترب من كتلة من الجليد .. فهي لم تعرف سببا آخرا لتلك البرودة التي تشعر بها .. عندما أصبحت أمامه حاولت إيجاد تبرير لتلك الفرحة المشعة من ملامح وجهه الوسيم .. تحدث هو أولا وإبتسامة مشرقة تعلو شفتيه :
- كيف حالك يا نور ؟.
- الحمد لله .
مد لها قبضة يده المضمومة :
- خذي ..
ظلت تنظر إليه والإستغراب يعقد حاجبيها .. فإبتسم لها مطمئنا وشجعها بإيماءة من عينيه البنيتين .. ففردت كفها ببطء ودون وعي منها .. في حين أن أفلت هو ما كان يحويه في قبضته .. سقطت تلك الإسوارة الفضية ذات القلب الصغير لتستقر على راحتها وبين أناملها .. إتسعت عينيها بدهشة لم تستطع السيطرة عليها .. أردف سامح ببساطة :
- لقد اصلحتها لك .. فيبدو أن قفلها كان مكسورا .
لقد كانت الكلمات تتعثر على لسانها .. ولم تستطع حتى النظر إليه .. فعاد هو يرجوها ولكن بصوت خافت ملؤه الشجن :
- لا تفقديها مرة أخرى يا نور ..
هنا رفعت عينيها إليه .. محاولة أن تجد بين الحروف الأبجدية ما هو مناسب لخلق جملة مفيدة .. ولكنها عادت تحولهما نحو تلك الإسورة التي ماتزال بين أناملها الممدودة .. لقد كانت فرحته المتراقصة في عينيه .. وذلك الحب الساكن فيهما .. أكبر من أن تتحمله ..
إبتسم لها بود وهو يودعها :
- إلى اللقاء الآن .. انتبهي لنفسك .. واهتمي بدروسك .
مؤكد أنه يدرك مدى ارتباكها .. فخديها المتوهجان كانا أكبر دليل على ذلك .. ولقد تولى هو منذ الوهلة الأولى إدارة ذلك الحديث .. ولم ينتظر منها حتى ردا على وداعه .. وابتعد عنها بهدوء .. تاركا إياها تغرق في بحر من الحيرة ..
كيف وصلت تلك الإسوارة إليه ..
ولماذا يعاملها بهذا اللطف .. بعد أن قرر هو قطع كل صلة بينهما إن لم تكن حبا ..
ولما تلك الفرحة البادية عليه ..
لابد أنه قد تأكد الآن من استمرار حبها له .. هل هو سعيد بذلك .. أم أن ذلك قد ارضا غروره ..
كم هي حمقاء كيف وقفت هكذا من دون كلام .. لقد اعطته سببا آخر ليدرك أنها ماتزال تحبه ..
أخذت نور نفسا عميقا حملته كل توترها .. وعادت تجر رجليها نحو البيت كمن هزم في معركة .. في الطريق أعادت الإسوارة إلى معصمها دون وعي منها .. وكأنه مكانها الطبيعي .. ومع صفاء ذهنها بدأت تجد إجابات لتلك الحيرة التي تتملكها ..
لابد أنها أفلتت إسوارتها في بيت عمها .. أو ربما في سيارة حسام ..
حاولت جاهدة أن تنزع من فكرها أي شيء يتعلق بسامح .. لكن دون جدوى ..
فيبدو أن ذكرياتها معه أقسمت على ألا تتركها تكمل يومها بسلام ..
عندما كانت تجلس في البيت على سريرها والكتب والمراجع متناثرة حولها .. لم يكن عقلها يستوعب شيئا من تلك السطور ..
لقد كانت الأحرف تتحرك على الأوراق وترسم وتجسد كل ما عاشته مع سامح ..
كيف كانت نظراته المليئه بالإعجاب تدخل الغرور إلى نفسها ..
فلقد كان دائم التغزل بها .. ويشعرها في كل لحظة بأنها أجمل فتاة رأتها عيناه ..
كان دوما عندما يجدها تجلس على جهاز الحاسوب يباغتها من الخلف متحججا بأنه يود استخدامه .. واضعا يده فوق يدها التي تمسك بالفارة .. كانت تصرفاته تلك تخجلها كثيرا .. وتشعرها أيضا بعدم الرضا ..
ولكنه كان عنيدا جدا في حبه لها .. ولا يستمع ابدا لزجرها .. او تانيبها إياه ..
كان يشعرها بأنها ملكه .. وإنها مستحيل أن تكون لغيره ..
كم كان يخبرها بأنه سيحبها دوما .. وأنه لن يمل من رؤية عينيها الفاتنتين أبدا ..
اسندت نور رأسها على حائط حجرتها مغمضة العينين .. وهي تجاهد تلك الذكريات التي تلهب أحاسيسها الرقيقة ..
في تلك الليلة .. حلمت به .. لم تكن المرة الأولى ولكن هذا الحلم كان مختلفا .. كان حقيقيا .. كانت ترى وتشعر بكل التفاصيل فيه .. لقد حلمت بأنها تجلس بجانبه في بيت عمها .. وكان الوضع بينهما مثلما هو الآن .. ولكن مع اختلاف واحد وهو أنهما يمزحان مع بعضهما ..
قال لها وهو يأخذ كراسة وقلم :
- دعيني أذكر لك كل الفتيات التي عرفتهم في حياتي ..
أجابته بإبتسامة مشاكسة .. فعاد يقول لها :
- سأبداء بكتابة اسم أصدق حب عشته ..
هنا بدأ نبضها يتسارع كما يحدث في واقعها وكانت تحدث نفسها .. هل ياترى سيكتب اسمي .. غير معقول أن يملك الجرأه لفعل ذلك .. ولكنها لم تستطع سوى التطلع إلى ما تخطه يده .. بعد أن كتب أول اسم .. زال قلقها وضحكت بمرح وهي ترى اسماء فتيات مشهورات في عالم السينما تملاء السطور .. ولكنه عندما أحس بزوال توترها .. كتب لها في إحدى الأسطر ( وأنت يا ملاكي ) ..
كانت لا تعرف لماذا تساقط دمعها في ذلك الحلم .. وهمت بالخروج من الحجرة .. ولكنه أمسك بها .. وبدأ يحدثها بنفس تلك النبرة التي سمعتها منه عندما طلب منها الإحتفاظ بإسوارته :
- نور .. حبيبتي .. أرجوك دعينا ننسى الماضي .. ولنبدأ من جديد ..
كانت ترى ذلك الألم في عينيه .. وكانت تود أن تحدثه .. تود أن تخبره بأنها لم تغضب منه يوما .. وأنها كانت على يقين بمجيء هذا اليوم .. ولكنها لم تستطع الكلام .. كانت عبراتها الحارة تذيب كل حروفها ..
عندما استيقظت كادت أن ترى تلك العبارة التي خطها سامح ( وأنت يا ملاكي ) .. كانت تشعر بحزن شديد .. وذلك الحنين يعذبها .. بعد أن خارت قواه أمام ذلك التحالف المعلن بين ذكرياتها وأحلامها ..
مر الأسبوع الذي يسبق الإمتحانات .. مشحونا بكل التوتر والسهر وتزاحم المعلومات في عقلها .. وفي ليلة الإمتحان .. كان القلق يتملك الجميع .. ولم تستسلم نور للنعاس إلا بعد أن حضرت كل أشياءها وتأكدت من وجود بطاقتها الجامعية .. والتي لن تدخل قاعة الإمتحان إلى بها .. وكانت تستيقظ كل نصف ساعة لتتفقد الوقت خوفا من أن تفوت وقت حضور الإمتحان .. ومع أذآن الفجر استيقظت لتصلي وتعيد الاستذكار .. من ثم توجهت إلى كليتها .. بعد أن ودعت والدتها وسالتها الدعاء .. وفور وصولها وجدت رهف :
- صباح الخير يا رهف .. هل احضرتي بطاقتك الجامعة ؟.
ابتسمت لها ردا على ذلك القلق البادي عليها :
- صباح الخير .. ونعم لقد احضرتها ..
تبادلة الصديقتين الحديث عن المذاكرة .. بعد ذلك رن هاتف نور :
- مرحبا يا حسام .
- مرحبا صغيرتي .. كيف حالك ؟
- حمدا لله .
- هل أنت مستعدة للإمتحان ؟. أنا أعرف مدى قلقك من أول إمتحان .. وأحببت أن اتصل حتى أطمئن عليك .
شكرته على اهتمامه وراح هو يحدثها .. ويمازحها حتى يبث الطمائنينة إلى قلبها .. وبعد أن أغلقت الخط رن هاتفها مجددا .. فظنت أنه نسي شيئا .. وأجابت وهي لا تزال تضحك جراء حديثه معها :
- نعم يا حسام .
- هل كنت تتوقعين اتصاله بك ؟.
كان هذا صوت سامح يتسائل بإستغراب بالغ .. أجابته بسرعة :
- نعم .. لا .. أقصد ..
أطبقت فمها .. وهي تحاول أن تهدئ نفسها أولا :
- لقد حدثني قبلك .. واعتقدت بأنه عاود الاتصال .
- آه .. حسننا .
حل عليهما الصمت قليلا .. فعادت تتساءل بتوجس :
- هل حدث شيء ما ؟.
- لا .. وهل يجب أن يحدث شيء حتى اتصل بك ؟.
لم تعرف بماذا تجيبه .. فعاد يقول لها بصوت خافت :
- ألا يحق لي الإطمئنان عليك ؟.
أجابت بنفس نبرته الخافته :
- بلى .
- إذا موفقه في إمتحانك .. وإذا احتجتي لشيء أخبريني .
ردت عليه وهي لاتزال مذهولة بهزة من رأسها .. ثم أدركت أنه لا يراها فأسرعت تقول :
- حسنا يا سامح .. أشكرك .
اغلقت الهاتف بعد أن تبادلا كلمات الوداع .. ثم أجابت تلك التساؤلات البادية على ملامح رهف :
- إنه سامح .. وهو يطمئن علي .
- يبدو أنه بداء يتغير يا نور .
سكن الحزن في عينيها الجميلتين .. مما جعل رهف تسألها بحنان :
- لما أنت حزينة الآن ؟.
- لأنني لا أعرف ما هو الشيء الذي يجمعنا .. وما نهايته .
سقطت دمعة وحيدة من إحدى عينيها .. لقد أصبحت شديدة الحساسية مؤخرا .. أو ربما هو هذا التوتر الذي خلقته الإمتحانات .. كانت رهف تشعر بألم صديقتها .. ولكنها لم تجد كلاما تواسيها به .. فمسحت نور دمعتها وهي تنظر إلى الساعة .. وتودع رهف :
- يجب أن نذهب .. لقد حان الوقت .. ولا تشغلي بالك كثيرا بي .
هزت رهف رأسها وافترقت الصديقتان كلا إلى قاعته .. مرالإمتحان بسلام .. وتوالت بعده بقية الإمتحانات ..
وفي اليوم الأخير .. كانت نور قد أكملت حل جميع الأسئلة المطلوبة منها .. وكانت معتاده بأن تكون أول من يكمل الحل .. وخصوصا في مثل هذة المادة التي تحبها .. رفعت يدها لكي تعلم المراقب بإنتهاءها .. ولكنه رفض استلام ورقتها إلى أن يمر نصف الوقت .. انزلقت نور قليلا في جلستا وأسندت خدها بيدها وهي تشعر بالملل .. وتحصي الدقائق .. متى سينتهي هذا السجن القهري الذي حكم به مراقبها ..
لا تدري من أين جاء ذلك الظلام ليشدها إليه مجددا .. وكيف يستطيع أن ينتشلها من عالمها بهذا الشكل المفاجئ .. لقد أدركت هذه المرة بأن هنالك شيء في جسدها أقوى منها .. يسلبها إرادتها .. وقدرتها على التحكم .. فما أن فتحت عينيها حتى رأت ذلك المراقب يتقدم نحوها ويختطف الملف من تحت مرفقها .. ويزجرها بعنف .. أمرا إياها بمغادرة قاعة الإمتحان .. لم تعد نور تعي شيئا مما يحدث حولها .. فتلك الدموع المنهمرة من عينيها كانت كفيلة بأن تحجب الرؤية عنها .. وخرجت مسرعة .. وشتائم ذلك المراقب تشيعها دون أن تفهم كلمة مما يقوله ..
ما هذا الظلام الذي يغشاها .. لا يمكن أن يكون إرهاق المذاكرة سببا في اجبارها على النوم في القاعة .. غير معقول .. ولن تستطيع إيجاد أي مبررات لذلك .. في ذلك الحين كانت تسير بخطى سريعة في ممرات الكلية الخالية من الطلاب .. وكانت تحمد الله على ذلك .. فمؤكد أن منظرها الباكي هذا كان ليثير التساؤلات ..
فجأة شعرت باصطدامها بشخص ما .. كانت تود الإعتذار منه .. ولكن عبراتها كانت تخنقها وتمنعها من الحديث .. في الحين أن أمسكها هو من ذراعيها حتى يوازنها .. وجعل صوته القلق .. قلبها يقفز من بين الضلوع :
- نور .. ما بك .. لماذا تبكين ؟.
كان صوته يصلها كالخيال .. وهي ترفع عينيها الدامعتين محاوله رؤية وجهه .. لقد كان سامح .. ما الذي أتى به إلى هنا .. إنها لن تستطيع أن تخبره بشيء .. هزت رأسها بالنفي .. من ثم حاولت جاهدة أن تتخلص من قبضة يده على ذراعيها .. لكنه ابى أن يتركها وعاد يسألها بمزيد من القلق :
- نور .. لما لا تحدثيني .. هل هنالك شخص ضايقك ؟.
كانت تعلم أنه لن يتركها حتى تجيبه .. فقالت وهي تنشج :
- لا .. اتركني يا سامح ارجوك .
- كيف اتركك وأنا لا أعلم ما بك ؟.
- ماذا اخبرك .. وأنا أيضا لا اعرف ما بي ؟.
عادت تترجاه بصوت موجع قبل أن يتحدث :
- أرجوك .. اتركني ..
سقطت يداه باستسلام .. وراحت هي تحث الخطى مبتعده عنه .. وكأنها تتمنى الهرب منه ومن كل مجهول يحيط بها ..
عندما دخلت البيت كانت لا تزال في تلك الحالة من البكاء .. لم يفد حديث أمها القلق في إجبارها على فتح باب حجرتها .. ولكنها فتحته أخيرا بعد أن ابتلت وسادتا .. وهدأت نفسها قليلا ..
خرجت نحو الحمام لتتوضئ وتصلي .. فمؤكد أن لجوأها لربها سيريحها كما كانت تفعل دائما عندما يتملكها الضيق .. ولكن حديث خالها نبيل مع والدتها في الغرفة المجاورة استوقفها وجعل الدم يغلي في عروقها ..
- هذا لكي تستمعي لكلامي مرة أخرى .
- كفى يا نبيل .. هذا ليس وقتا مناسبا لمثل هذا الكلام .
زفر هو بسخرية .. وعاد يحدثها بإسلوبه المستفز :
- هل لك أن تخبريني .. ما الذي يجعلها تأتي باكية .. لابد أن هنالك مصيبة وراءها .
ثم أردف وهو يرفع يديه للسماء مستهزءً :
- الله يرحمك يا حسام عبد الرحمن .. يبدو أنك لن تورثني سوى العار .
دخلت نور عليهما وكأنها تنوي صفعه .. مما جعل والدتها تسرع وتحتضنها مهدئه .. ولكنها لم تفلح .. فلقد كانت نور تشعر بأنها لم تعد تملك عقلا ليرشدها .. فصرخت في وجهه بحرقة :
- كفى .. كفى ..
هزت تلك الصرخة كيانهم جميعا .. وعادت هي تبكي وتحدثه من بين أسنانها وصدرها يعلو ويهبط بإنفعال بالغ .. وعيناها تشتعلان بغضب يكاد يحرقه :
- تأكد من أن الله سيرحمه .. فهو أفضل منك وليس بحاجة دعائك هذا .. واعلم أنني لن أترك لك الفرصة لتشفي حقدك عليه .. وإياك أن تعتقد بأن سكوتي هو ضعف مني .. أو خوف منك .. وإنما لكي تعرف أن حسام عبد الرحمن لا يورث إلا الأخلاق الراقية التي تجهلها أنت ..
لم تعرف نور كيف استطاعت النطق بتلك الكلمات .. فهي لم تتعود أبدا أن ترد على من هم أكبر منها حتى وإن كانت على حق .. ولكن يبدو أن ذلك الألم الذي تشعر به ساعدها في إخراج كل ما تدخره من كلام للخال نبيل .. حتى أنها ومن فرط إنفعالها .. لم تستطع رؤية تلك الدموع المنسابة على وجنتي والدتها .. فلقد كان جسدها كله يهتز بقوة .. والدموع لا تجف في مقلتيها .. خرجت مسرعة بعد أن تركتهما مشدوهين تحت وقع الصدمة .. حاولت والدتها الدخول إليها ولكنها وجدتها تصلي وتقراء القران .. فتركتها حتى تهداء أعصابها ..
- نور .. نور .. صغيرتي .. هيا استيقظي .
جائها ذلك الصوت الدافء الحنون .. ليوقظها من سباتها .. فتحت عينيها بضعف لترى وجه حسام .. والذي كان القلق مسيطرا على كل تعابير وجهه الجذاب .. جلست نور مفزوعة وهي تمد يدها نحو رأسها بحركة سريعة محاولة الإطمئنان إلى أن شعرها مغطى .. لقد كانت لا تزال ترتدي ثوب الصلاة .. يبدو أنها غفلت دون وعي منها فوق السرير وهي تقراء القرآن .. مؤكد أن أمها إطمئنت على وضعها قبل أن تدخل حسام .. جلس هو بجانبها على السرير .. وراحت تلف ركبتيها بذراعيها وهي تسند ظهرها ألى الجدار ..
قطع حسام ذلك الصمت المطبق الذي يلفهما :
- صغيرتي .. هل أنت بخير ؟.
كانت نور تنظر أمامها بشرود .. ولكنها كانت تسمعه جيدا .. فهزت له رأسها بالإيجاب .. فهي تدرك بأنها لو تحدثت الآن مؤكد سيعاودها ذلك البكاء ..
ولكن حركة صغيرة من حسام أثارت مشاعرها .. وهيجت ذلك الدمع في مقلتيها .. فلقد أخذ يربت على رأسها بحنان .. وهو يحدثها بصوته الدافئ العطوف :
- ألا تودين إخباري بما حدث معك ؟.
راحت نور تحدثه من خلال نشيجها بعد فترة قصيرة من الصمت .. فلم يعد هنالك بد من السكوت بعد أن أطلق هو دون قصد منه العنان لدموعها :
- ماذا تود أن تسمع أنت ؟. ففي جعبتي الكثير .
كانت تسخر من نفسها والألم يغلف كلماتها .. وراح هو يستحثها بلطف وكانه يحدث طفلة :
- أود أن اسمع كل شيء .
كانت مشاعرها الرقيقة تترنح تحت وطأة ذلك الألم .. وأفكارها مشتته .. لم تعرف من أين تبدأ ولكنها لا تحتاج لتفكير في ما تقوله مع حسام :
- أنا أشتاق إليه كثيرا يا حسام .. ولا اعرف كيف استطعت العيش من دونه كل هذه المدة .
عادت تكمل وهي تمسح دموعها عن وجنتيها لتحل محلهما دموعا جديدة :
- احيانا أفكر بأنني لم أعد مهمة في هذة الحياة .. ولو أخذني الله معه لكنت في راحة مثله .
فهم حسام أن صغرته تبكي أباها .. فخف ذلك الوجع الذي كان يحس به قليلا .. ولكنه ظل صامتا بصبر .. حتى تكمل حديثها المتقطع بسبب الدموع :
- حتى والدتي .. أحس بأن وجود الخال نبيل معنا أحدث شرخا في علاقتنا .
أسرعت تجيب نفسها مبررة :
- أنا أعلم أنها تحبني .. وتحاول جاهدة أن تسعدني .. ولكني أحيانا أشعر بأنني لو لم أكن موجوده في حياتها لربما أصبحت علاقتها أفضل بالخال نبيل .. فهو دائما ما يعبر عن تدمره من وجودي .
كانت تتحدث دون أن تنظر إليه .. وكأنها تحدث نفسها .. ثم رفت عينيها فجأة وكأنها تستنجد به :
- لقد رفعت صوتي عليه اليوم .. مؤكد أن سلوكي هذا كان سيغضب والدي .
ظلت تغالب دموعها .. وكان حسام يشعر بأن هنالك يد قاسية تعتصر قلبه .. وهو يقف مكتوف اليدين أمام هذا الحزن العيق .. ولكنه يدرك أن نور إنسانه متفائلة ومحبه للحياة .. وهذة المشاكل اليومية ليست سببا في ما تمر به الآن :
- وماذا أيضا .. صغيرتي ؟.
- سامح .
أغمض حسام عينيه وهو يضغط على أسنانه بعصبيه :
- هل تسبب سامح في إزعاجك ؟.
أجابته نور وهي تعاود البكاء :
- لا .. بل هي الذكريات ما يزعجني .. عدم مقدرتي على تخطي ذلك الجرح في قلبي هو ما يزعجني .
حولت نظرها إليه مرة أخرى :
- أنا لم أكن بمثل هذا الضعف أبدا يا حسام .. كما أنني أشعر بأني أفقد نفسي .. هل تعرف أنني نمت في قاعه الإمتحان هذا اليوم .
إتسعت عينا حسام بالدهشة .. من ثم عقد حاجبيه وهو يتسائل بقلق واضح :
- كيف حدث هذا يا نور ؟.
- لم تكن هذه المرة الأولى ايضا .
- لماذا لم تخبريني بالأمر ؟.
اجابته مبررة :
- لم اكن أعطي للأمر أهمية .
ظل حسام صامتا بعض الوقت وكانه يحل مسألة حسابية معقدهة .. من ثم أمرها بجدية :
- يجب أن تاتي إلى عيادتي غدا حتى أجري لك بعض الفحوصات وأطمئن عليك .
- حسنا .
كانت ترتجف بجانبه جراء تلك الأحاسيس التي تمزقها .. فتزيد من عذابه هو .. كم يود لو استطاع تطويقها بيديه واحتضانها ليزيل عنها كل ألم .. وكم يود لو يملك القدرة على مسح دموعها .. فهو يشعر إتجاهها بأحاسيس لم يحسها مع غيرها من قبل .. كان دوما يتمنى لو تمكن من شق صدره وجعلها تسكن فيه إلى الأبد حتى يجنب صغيرته قسوة الحياة .. أخذ نفسا عميقا وهو يبتسم لها بحنان :
- اسمعيني جيدا يا نور .. أنت انسانة مؤمنة يا صغيرتي .. وأنا لا أحتاج أن أذكرك بأن الله قد اختار ما هو أفضل لك ولأباك .. وأنه مؤكد سيأتي يوم نلقاه فيه جميعا .
تعالى صوت نشيجها مجددا .. مع إدراكها لحقيقه رحيل والدها الحبيب .. فعاد هو يحدثها :
- والدتك .. لا تقسي عليها .. فهي تعاني أكثر منك .. ولا تسمحي لأحد بأن يشعرك بعدم أهميتك فأنت تدركين مدى إحاجتنا جميعا لك .. وكم يسعدنا رؤية تلك الإبتسامة التي تكلل وجهك دائما .
هزت نور رأسها بالموافقة .. وهي تحاول السيطرة على ما تبقى من دموعها :
- يجب أن تعتذري أيضا من الخال نبيل .. فمهما أخطاء في حقك لم يكن مقبولا تصرفك معه .
أردف يقول لها بحنان .. بعد أن أيدته مجددا :
- إن ذكرياتنا يا نور هي التي تشكل شخصياتنا .. وتخلق منا أناسا أقوياء مع كل تجربة خضناها .. ومهما نسينا منها أو حاولنا أن نتناسى بعضها سيبقى أثرها ظاهرا علينا .. فلا يمكنك يا صغيرتي أن تنتزعي بعضها حتى وإن كانت مؤلمة بالنسبة لك .
فهمت نور حديثه جيدا .. فابتسمت بوهن .. والحزن لا يزال يكمن في نظراتها .. فعاد يخبرها بصوت خافت وكأنه يحدث نفسه :
- لو تعلمين كم كدت أجن وأنا بعيد عنك .
كانت كلماته الصادقه تفعل مفعول السحر على قلبها .. وتستطيع بسهولة انتزاع الإبتسامة من شفتيها .. كانت تستطيع أن ترى بوضوح إنعكاس أحاسيسها في صفحة وجهة .. عندما قال لها :
- حقا .. أنا لا اعلم كيف انقضت فترة دراستي في لندن .
هنا أجابته نور بشيء من المرح بعد أن تذكرت تلك الفترة :
- هل تذكر أول رسالة كتبتها لي يا حسام .. عندما كنت هناك ؟.
هز رأسه .. فراحت هي تخرج من دولابها صندوقا صغيرا .. كانت تضع فيه كنورزها منذ أن كانت صغيرة .. تلك الكنوز المؤلفة من قصاصات وبقايا ألعاب وكل الذكريات الملموسة التي استطاعت الإحتفاظ بها .. عادت تقول له بعد أن جلبت رسالته لتعطيه إياها :
- أظن أنك كتبتها في ليلة رأس السنة .
فرد حسام الرسالة بأنامله السمراء الطويلة .. وراح يقرأها :
" إلى التي أحب .. كثير من الوجوه تمر أمامي وجوه جميلة بعيون كلها ألوان .. عسلية .. زرقاء .. خضراء .. بنية .. كعيون المها ..
وصورة وصور تحاكي وتتربع على عرش الجمال .. وخدود كلها ألوان تفاحية عنابية .. ونساء وشابات .. ألوان كثيرة في تلك الزيارة وذلك العيد .. من كل الأجناس والأعراق ومن كل الدول والشعوب ..
ولكن .. لا أدري لماذا أنت ؟.
لماذا أنت تبدين أمام أعيني اجمل منهم ؟.
عندما يظهر وجهك من بينهم جميعا .. وتبدين من بين الجموع في ذلك اليوم .. وذلك العيد يبدو وجهك كالعيد بالبهجة والسرور .. لذا عند رؤياك يدب إلي قلبي ذلك السرور وأبتسم من أعماقي متجاهلا تلك الجموع .. وتلك الحشود وتلك الأعراق والشعوب .. ولذا ينظرون إليك بغيرة وحسد ويتمتمون تجاهلتنا جميعا ؟.. ويظلون يتسائلون ويحتارون دون جواب مني .. لأني قد عرفت أين هو الجواب عن سؤالي .. وتركت أسئلتهم تبحث عن الحيرة .
فالجواب .. بأنك لست كغيرك بل أنت مني وإلي .. وفي داخل شرايين دمي .. بل أنت ضربات قلبي .. وخفق فؤادي الذي يسيرني في الدنيا .. وأراك فيها كالورد والفل والياسمين .. وحدائق غناء بعيون العاشقين والمحبين .. فالحب لا يقال لمقامات بل يقال في كل الأحوال في التعبير عن ما في داخلنا نحو من نحب وذلك ليشعروا بالمكانة التي يتربعونها في النفوس .. كما تسيطرين على حدود نفسي ومساحات مشاعري .. فلك تطير هذة الكلمات ولك تطير في السماء الغائمة الممطرة قطرات مشاعري متمنية لك السعاة والراحة ..
فإليك صغيرتي والتي أحب .. "
كانت نور تستمع بهدوء لصوته الدافئ العميق وهي تضع ذقنها فوق ركبتيها اللتان تضمهما بيديها نحو صدرها .. فقطع هو شرودها عندما أخرج رسالة وردية اللون من محفظته وأعطاها إياها .. احتضنت تلك الرسالة بين يديها الصغيرتين والفرحة بادية عليها :
- هل مازلت محتفظا بها ؟.
- لم تفرقني ابدا .
فضت نور رسالتها لحسام .. وبدأت تقراءها مثلما فعل :
" إلى أحب من أحب .. لقد حار قلمي كثيرا وهو يحاول ترجمة تلك الخفقات النابضة في قلبي السارية في دمي .. الكائنة في حنايا صدري .. والهامسة مع انفاسي بمدى حبي الشديد لك .. فأنا لا أعتب عليه تواضع إدراكه لأحاسيسي الدافئه نحوك .. فأحاسيسي أرقى من أن تسطر على الأوراق أو تجسد بالكلمات ..
ولكن .. إن ابيت إلا معرفتها .. فستجدها قريبة منك ..
في برائه الأطفال .. ومشاكسات الاصدقاء ..
في حنين الإخوه .. وتأنيب الأباء .. ولهفة الأمهات ..
في هيام المحبين .. وكلام العاشقين ..
إنه كل صورة جميلة لامست أعيننا .. وكل إحساس رقيق يمس شغاف قلوبنا .. وكل شعور ناعم يختلج في صدورنا .. إنه ذلك الإحساس الذي يغمرني عندما أناديك بأخي فأجد لوقعها صدى في قلبي لكلمه " أبي " ..
فأنت تحمل في حنايا صدرك الطاهر روحان هما روح الأخ والأب ..
وإن كنت تراني بعيونك المحبة فل وورد وياسمين فما إزدهاري إلا امتداد لجذور تلك الروحان الكائنتان في صدرك .. وإن حققت من النجاح ما يرفع رأسيكما عاليا فما عبق عبيري الساري في الهواء إلا بفضل قطرات مشاعرك الحنونة .. لهذا أنا جميلة في عيون الناس لحبكما لي .. وما زرعتماه في نفسي من بذور اخلاقكما .. وأنا إن كنت أسيطر على حدود نفسك ومساحات مشاعرك .. فأنت نفسي وأنت مشاعري .. بل أنت الروح الجميلة التي تفعم نفسي بالثقة والأمل والحب لكل من حولي ..
فدمت لي مدى الحياة .. الأخ .. والأب .. والصديق .. وأحب من أحب ..
صغيرتك نور .. "
|