كاتب الموضوع :
my faith
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
(3)
شعور بالغيرة
كان هذا الأسبوع الأخير في السنة الدراسية .. وكان الضغط على أشدة .. ما بين نسخ للمحاضرات .. والإستذكار المكثفف .. وتوتر الأعصاب ..
لم تجد الصديقتان مكاناً مناسباً لإنتظار بدء المحاضرة التالية .. سوى مشاركة فتيات الفصل الجلوس على ذلك الدرج الواسع في ساحة الكلية ..
كانت رهف تحرك الملزمة التي بين يديها بعصبية وهي تجلس بين الفتيات :
- كلية بمثل أهمية كليتنا ولا يوجد بها مكان مناسب للجلوس ؟.
كان حديث رهف بمثابة شرارة جديدة خلقت زوبعة من النقاش بين فتيات الفصل .. فلا يستطيع المستمع معرفة من تكلمت .. ومن ردت على من .. كان نقاشهن رغم تعدد أطرافه .. إلا أنه يظهر مدى ترابطهم .. ولطف العلاقة التي تجمعهم :
- لقد اشتدت الحرارة هذه السنة .
- ماذا ؟.. حرارة ؟.. لم تري شيئا بعد يا حبيبتي ..
ضحكت الفتيات .. وقالت إحداهن بضيق :
- متى سينقلونا إلى مبنى كليتنا الجديد .. في منطقة الشعب .
هنا صرخت نور معارضة :
- لا .. أنا لا اود الإنتقال .. فأنا أحب هذا المبنى .
- مؤكد .. فهو بجانب بيتك يا نور .
اضافت رهف :
- لا تتخاصموا .. فهم لن ينقلونا إليه بسهولة .
- هذا صحيح .. مرت سنين وهم يعدون من كانوا قبلنا بمجر بناءه .
أردفت أخرى مازحة :
- وعندما انتهوا منه .. جعلونا نتفرج عليه ..
- مؤكد أنهم يملكون أسبابهم الخاصة .
- وماهي هذة الأسباب يا أستاذة أحلام ؟.
كانت نور لا تستطيع تقبل هذه الفتاة وتحاول تجنبها قدر المستطاع .. فهي تتصنع الرقة والدلال .. ودائمة الحديث عن نفسها .. وعن كثرة معجبيها الذين تتوهمهم .. تولت إحدى الفتيات حسم النقاش :
- أنتم لا تعلمون آخر الأخبار التي سمعتها .
ردت عليها رهف بسخرية :
- عدم توفر كل المعدات المطلوبة .
- لا .. بل لأن المبنى مسكون ..
لم تستطع نور تمالك نفسها من الضحك .. كغيرها من الفتيات .. وتساءلت :
- ما به المبنى ؟.
- مسكون ..
عادت الفتاة تدافع عن الإشاعة التي تنقلها .. بحماس :
- لقد سمعت هذا الخبر قريبا .. بأن عمال البناء .. كانوا يشعرون باشياء غريبة أثناء اداء عملهم .. وفسروا ذلك بأنه قد يكون مسكوننا بالجن ..
- ربما .. خصوصا أن المنطقة نائية بعض الشيء ..
تساءلت رهف بإستغراب :
- وماهو الرابط العجيب ؟.. فحتى وإن كان ما تقولينه صحيحا .. مؤكد أنه سينتهي ما إن نباشر دراستنا فيه ..
أجابتها الفتاة مبتسمه :
- إن دكاترة كليتنا هم من رفضوا الذهاب .
- مع أنهم أقدر الناس على طرد إبليس بنفسه .. وإشعاره بالضجر .
توقف الحديث بينهم لبرهة .. عندما خرج ذلك الشاب الأسمر الجذاب من سيارته الحمراء واخذ يحرك اصابعه بخفه فوق ازرار هاتفه .. وقفت نور كمن قرصها عقرب عند رؤيته .. وشاعت فرحة صادقة على ملامحها الطفولية .. ثم هتفت وهي تهم بالتقدم منه :
- حسام ..
ما هي إلا خطوات معدودة حتى اصبحت تقف خلفه وتحدثه ممازحة .. عندما كان هو يرفع هاتفه نحو اذنه :
- بمن تحاول الإتصال ؟.
التفت إليها حسام .. فلم يكن قد لاحظ اقترابها منه :
- صغيرتي .. كيف حالك ؟.
- أنا في احسن حال .
ثم رفعت حاجبها وهي تتساءل بجدية :
- هيا .. قل لي من تكون ؟.
- من ؟.
اجابت وهي تغمز له بعينها .. محاولة إحراجه :
- تلك التي تكبدت من أجلها عناء المجيء .. وكنت تحاول الإتصال بها .
ابتسم حسام .. تلك الإبتسامة الساحرة والتي كانت نور متأكدة من أنها تخطف الأبصار لشدة جاذبيتها .. رفع هاتفه نحوها حتى ترى اسمها على الشاشة :
- آه .. حقا .. لا اصدقك أيه المخادع .
- ومن لدي غير صغيرتي حتى أهتم به ؟.
كانت رهف قد اصبحت بجانبهما والقت تحيتها نحو حسام بوجها الباسم جميل الملامح :
- مرحبا بك يا حسام ..
اجابها حسام بحياء :
- مرحبا يا رهف .. كيف حالك ؟.
ثم تدارك متساءلا :
- وكيف هي أمورك مع أحمد ؟.
علت حمرة خفيفة وجنتاها عندما سمعت اسم خطيبها الغائب .. ذلك الحبيب الذي تعيش معه دوما لوعة الفراق :
- الحمد لله .. نحن في أحسن حال .. لقد كان هنا قبل أيام وابلغناك سلامنا مع نور .
رسمت نور أعرض إبتسامة مشاكسة على وجهها وهي تنظر نحو حسام مبررة :
- لا بد أن الإنزهايمر المبكر الذي اعاني منه هو السبب .
أيدتها رهف :
- هذا شيء متوقع منك .. اسمع يا حسام .. بما أنك طبيب .. يجب أن تخترع دواء يعالجها من هذا التوهان الذي تعيشه .
ابتسم حسام وهو يعدها :
- حسنا سابدل قصار جهدي .
ثم وجه كلامه لنور :
- هل يمكننا الذهاب الآن صغيرتي ؟.
- إلى اين ؟.
- إلى بيتنا .
تساءلت نور بقلق :
- هل حدث مكروة ما لعمي ؟.
- لا صغيرتي .. ولكنه كان مشتاقاً لك .. وشعرت بالأمس بأنه مستاء من هجرك لبيتنا .
شردت نور قليلا .. فهي لم تعد تحس بالراحة عند دخولها بيت عمها صلاح بعد انفصالها عن إبنه .. قطعت رهف شرودها مشجعة :
- هيا اذهبي يا نور .. ولا تحملي هم المحاضرة .. غدا سنلتقى كما تواعدنا وساشرح لك محتواها .
أضاف حسام مقنعا :
- لقد اتصلت بالخالة حياه قبل مجيئي .. واخذت لك اذناً منها بأن تقظي اليوم معنا .
استسلمت نور تحت وطأت الحاحهما .. كما أنها كانت شديدة الإشتياق لعمها .. والذي لم تعد تكفيه اتصالاتها المتباعدة به :
- حسنا .. انتظرني قليلا حتى اجلب اشيائي .
ثم وجهت حديثها نحو رهف وهي تهم بالذهاب :
- إذا احضر خالد كراستي .. احتفظِ بها حتى القاك غدا .
الآن فقط .. استطاعت نور رؤية ذلك الفضول البادي على وجوه فتيات فصلها .. عندما تقدمت منهم وجمعت ملازمها وودعتهم .. لا تعرف لماذا لم يرقها نظراتهم نحو حسام .. ولكنها سرعان ما تجاهلت الأمر عندما كانت تجلس بجانبه في السيارة.. قطع الصمت متسائلا ببساطة :
- من هو خالد هذا ؟.
- إنه زميلنا .. ولقد كان شريكنا أنا ورهف في المشروع .
عاد حسام يسأل بفضول :
- ولكنك لم تخبريني عنه من قبل ؟.
- لم تاتي فرصة لذلك .
طال صمت حسام .. وظلت هي تترقب متابعته للحديث حتى تحدث اخيرا :
- وهل هو شاب مهذب ؟.
ابتسمت نور باستغراب :
- ما بك يا حسام .. وهل كنا سنقبل اشتراكنا معه إن لم يكن كذلك ؟.
عادت تحدثه بحماستها المعهودة .. محاولة وصف خالد له :
- إنه أيضا شاب لطيف .. وكل الفتيات لا يجدون حرجا في سؤاله عن أي شيء .. بسبب تعامله المحترم معنا .
لم يضف شيئا على حديثها .. واستمر الاثنان يطرقان شتى المواضيع .. ماعدا موضوع خالد الذي احست بعدم ارتياح حسام الغير مبرر له .. مما جعلها تحتار .. فهو لم يكن ابدا يمنعها من مخالطة الشباب .. في حدود الزمالة ..
عندما توقفت سيارته أمام المنزل .. بدأ نبضها بخوض سباقه المعهود كلما شعر بإحتمال رؤيتها لسامح .. في البيت لقيت ترحيب حار من عمها .. وشعرت بالخجل جراء تقصيرها نحوه .. ثم نظرت لحسام بإمتنان .. إذ رد نظرتها بإبتسامة حنونة .. فلطالما كانت لدية القدرة على قراءة عينيها وما يجول في فكرها ..
احتضنتها العمه هدى بصدق هي الأخرى .. مما زادها احساسا بالمدة التي غابتها عن هذا البيت الذي كان يكتنفها دائما في أيام الإجازات منذ أن كانت صغيرة .
لم يكن ينقص سوى سامح .. لكي يتشارك الجميع طعام الغذاء .. وما أن وصل دخلت نور مسرعة بعد أن ردت تحيته التي ألقاها على الجميع .. لتساعد زوجة عمها في إعداد المائدة .. لم تستطع تناول الكثير من طعامها مع إحساسها بتلك النظرات الصامته التي كان يخصها بها .. إضافة إلى شعورها بالحياء بسبب ذلك الإهتمام المبالغ في إطعامها من قبل حسام والعم صلاح .. حتى أن زوجة عمها أيضا كانت تحثها على تناول المزيد .. لابد أنها لاحظت توتر العلاقة بين نور إبنها في الفترة الأخيرة .. مما جعلها أكثر راحة في التعامل معها الآن .. فسامح هو الإبن المدلل للعمة هدى .. ومنذ أن شعرت بميوله نحو نور حتى بدأت تقيم حرب صامته عليها .. فمؤكد أن نور لم تكن كافية بالنسبة لإبنها الحبيب ..
كان شعورها بالغربة يزول تدريجيا مع إنقضاء الوقت وهي تجلس بجانب عمها الذي يلف ذراعه حول كتفيها .. ويستمع لحديثها اللطيف .. ويضحك بين الحين والآخر لما تفتعله من شغب مع حسام .. حتى أنها نسيت توترها من وجود سامح في نفس المكان .. ولقد لاحظت أنه كان يتحجج بين الحين والآخر حتى يدخل إلى حجرة الإستقبال التي كان يجلس فيها الكل .. ليشاركهم الحديث في بعض المواضيع .. لم تكن تصدق مدى مهارتها في التعامل معه .. ولقد شعرت بقربة الطبيعي منها .. مثلما كانا دائما .. مما زادها رضا .. كم كانت تفتقد هذا الجو الملئ بالحب ..
وفي المساء سمعت زوجة عمها تتذكر وهي تنبه سامح :
- ألم تكن تنوي الذهاب للدراسة مع زملائك ؟.
ارتبك قليلا وهو يجيبها :
- آه .. نعم .. ولكنهم اجلوا الموعد .
ثم نظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى السابعة والنصف مساءً ووجه حديثه لأخيه :
- سوف اذهب الآن .. هل يمكنني أخذ سيارتك يا حسام ؟.
وقبل أن يجيبه .. وجهت له نور سؤال آخر :
- لما لا توصلني إلى البيت أولا ؟.
عرض حسام ببساطة وهو يرمي المفاتيح نحو سامح :
- لما لا تتولى أنت مهمة إيصال اختك ؟.
كادت الدهشة أن تفضح اضطراب كليهما .. ولكن سرعان ما تدارك هو الموقف .. إذ اخذ المفاتيح وقال لها :
- سوف انتظرك في الأسف يا نور .. لا تتاخري .
وقفت هي لتودع عمها وزوجته .. بعد أن تلقت توبيخا منه بسبب غيابها .. عندما كان يقبل راسها :
- لا تجعليني أقلق عليك يا ابنتي .. أم تريدينني أن احضر بنفسي وأختطفك من الكلية مثلما فعل حسام اليوم ؟.
أجابته بخجل :
- العفو يا عمي .. ولكنك تعلم مدى انشغالنا .
أيدتها العمة هدى :
- معك حق يا حبيبتي .. فأنا أرى كيف تجهد الدراسة سامح .. ولكن يبدو أنها تؤثر في وزنك وصحتك أيضا .
قاطعها حسام مجيبا :
- لابد أنها تسعى لتشويه سمعتي كطبيب لا يحافظ على سلامة أسرته .
كانت نور لا تزال تحت تأثير تلك المفاجاءة التي قام بها حسام .. فلم تستطع الإجابة إلا بإبتسامة مهزوزة ثم توجهت نحو باب الخروج بصحبته .. وعندما شعرت بالإطمئنان إلا خلوتهما .. عاتبته بحدة :
- ما الذي كنت تفكر فيه يا حسام ؟.
- ماذا ؟.
- ألم يكن بمقدورك ايصالي ؟.
- بلى .. ولكن ما الذي يمنعك من الذهاب برفقة سامح ؟.
- أنت تعرف ما الذي يمنعني .
ابتسم لها بحب محاولا تخفيف توترها :
- هيا صغيرتي .. لاتبالغي كثيرا في ردود افعالك .. ودعي الأمر يمر بسلام .
تعالى صوت بوق السيارة .. تعبيرا عن نفاذ صبر سامح .. الذي لم يكن يحب الإنتظار .. فأسرعت تسابق الدرج وهي تشير لحسام بسبابتها مهددة :
- لا تعتقد أنك نجوت بفعلتك هذه .. وحسابي معك لاحقا .
صعدت السيارة .. وهي تدعوا الله أن لا يلحظ تلك الرعشة السارية في اوصالها .. فهي تكره أن تظهر بمظهر الضعف أمامه .. لم تشعر إلا والمناظر تتحرك أمام عينيها فور صعودها بجانبه .. وظلت تحول نظرها عنه حتى بدا لها ذلك المشهد الذي لا تمل منه ابدا .. لقد كان ذلك الإرتفاع المسمى بطريق العقبة .. والذي يفصل مدينة عدن عن المعلا .. يمثل أحب الأماكن إلى قلبها .. فبأسفله يستقر بحرها الجميل بصفاءه وزرقة مياهه .. وما أجمله الآن في سكون هذا الليل .. والأنوار البرتقالية تتلألأ حوله وكأنها تكلله بتاج من ذهب .. وهذا القمر الثلجي الذي يطرزه بخيوط فضية .. ليظهر بريقه كأجمل لوحة فنية خيالية الألوان ..
لم تشعر بأن سامح كان يحول نظره إليها بين الحين والآخر .. إلا أن قطع الصمت :
- هل حضّرتِ نفسك للإمتحانات ؟.
غيرت من وضعيتها عندما أجابته .. فوضعت يديها على حجرها ونظرت إليه لبرهة ثم إلى الطريق أمامها :
- نعم .. وأنت ؟
ابتسم لها :
- لقد انهيت امتحاني منذ مدة .. فنحن طلاب السنة الأخيرة نؤدي إمتحاننا قبلكم لكي نتفرغ لمشاريع التخرج .
لم تكن تعرف هذة المعلومة من قبل .. ولكنها لم تجد في عقلها المضطرب شيئا تضيفه .. فعاد هو يتسائل بنبرة جادة بعض الشيء :
- من ذلك الشاب الذي كنتِ تتحدثين معه ؟.
كادت أن تفلت تعابير دهشتها .. ولكنها أجابت بهدوء بالغ :
- إنه زميلي خالد .
هُياء لها أنها لمحته يضغط على اسنانه بعصبية :
- وما الذي سمح له بالوقوف معك ؟.
بدأت تشعر بالغضب .. ما بالهم اليوم يضايقونها بسبب زمالتها لخالد .. ذلك الشاب المهذب والذي لا تجد حرجا في نفسها من تعاملها معه .. لابد أنهما اتفقا على اغاضتها .. ولكنها عادت تسأله مصطنعه اللامبالاة :
- وما هو سبب فضولك ؟.
زفر بسخرية من أنفه .. ثم عاد يتساءل مما زاد حرقه لأعصابها :
- وهل تصعب عليك الإجابة ؟.
- طبعا لا .. ولقد قلت لك مسبقا إنه زميلي .. ونحن نتشارك معه أنا ورهف في تقديم مشروعنا هذا الفصل .
- وهل هذا المشورع كبير عليكما حتى تحتاجان لمساعدته ؟.
رفعت حاجبها بعناد وهي تشد على كلامها وتنظر إليه بملئ عينيها :
- أنا لم اقل أنه يساعدنا .. بل قلت يشاركنا .
لم يتستطع سامح التمسك بأسلوبه المستفز في الحوار عندما نظر إلى تلك العينين السوداوين والتي تكمن فيهما فتنة ساحرة .. لطالما اشتاق إليه .. كانت السيارة قد توقفت أمام بيتها .. واستدار هو ليواجهها محاولا احتضان يدها بين يديه .. ولكنها سرعان ما اختطفت يدها قبل أن يمسها .. وخرجت مسرعة وهي تلقي بتحية خافتة دون أن تنتظر رداً عليها .. لقد اغضبها حقا .. فبعد كل تلك السخرية .. يحاول لمسها .. كيف تجرأ على فعل ذلك .. وهو يعلم مدى استياءها من مثل هذة الأفعال ..
دخلت الى البيت دون أن تسلم على والدتها كعادتها .. وأتجهت مباشرة إلى حجرتها وراحت تخلع عباءتها وحجابها .. وتوجهت بعصبية نحو الحمام .. لتنعم بكمية كافية من المياة الباردة .. والتي مؤكد ستساهم في إزالة كل ما عانته من توتر خلال هذا المساء ..
عندما خرجت كانت والدتها تنتظرها في الحجرة :
- كيف كان يومك يا حبيبتي ؟. هل استمتعتي ؟.
اجابت باقتضاب غير معتاد منها :
- نعم .
ثم اردفت مبررة بعد أن رأت أمارات قلق ترتسم على وجه والدتها :
- ولكنه كان يوما مرهقا جدا .. حتى أنني اشعر بنعاس شديد .
قبلتها الأم وهي تخرج :
- فالتصبحي على خير يا بنتي .
- وأنت من أهل الخير .
لم تكن تكذب عندما قالت أنها تشعر بالنعاس .. ولكن مشاعرها المشتعلة .. لم تسمح لها أن ترتمي بسلام في حضن النوم ..فكانت تحس بأنها ترقد فوق جمر .. وظلت تصارع الأرق مدة طويلة من الليل ..
كم هو مشابه ذلك الموقف الأخير معه .. ليوم أن صرح بحبه لها ..
كان سامح قد أخبرها في ذلك الوقت بأنه يعيش قصة حب جديدة .. ولكنه لم يرضا بالبوح بإسم حبيبته كما كان معتاداً أن يشركها بجميع أسراره .. منذ الصغر .. وإنما ظل يعطيها إشارات وتلميحات طول الأسبوع عن شكلها وأخلاقها .. كانت تدرك بإحساس الأنثى أنها هي المقصودة بكلامة .. فما الذي يمنعه هذه المرة بالذات من معرفتها للفتاة .. إضافة إلى تصرفاته الغريبة معها منذ فترة .. ولكنها أيضا كانت تطرد تلك الأحاسيس فهي لم تكن تستطيع التفكير به سوى كأخ وصديق طفولة .. لم تكن تجد مبرر لذلك الإنقلاب في مشاعره نحوها ..
وأخيرا عندما قرر أن يفصح عن حبه لها .. كان يوصلها بسيارة والده بعد أن كانت في زيارتهم .. ظل يعطيها مزيدا من التلميحات عن فتاته .. وما إن توقفت السيارة أمام بيتها .. استدار نحوها قائلا :
- إنها تضع اسوارة فضية حول معصمها تحمل قلب صغير عليه حرف اسمي .
انفجرت نور ضاحكة وهي تمازحة :
- حقا .. لم يكن هنالك بد من هذا التوضيح الخطير .
لم يتجاوب هو مع ضحكتها .. وظلت عيناه البنيتان تركزان نظرهما على وجهها الملائكي البريء .. وأمسك يدها اليمنى .. فأخمدت لمسته كل حماستها المرحة .. واحمر خداها خجلا .. في الوقت الذي لم تستطع أن تجد طريقة لطيفة لتسحب يدها من بين يديه .. ولكنه كان قد أخرج شيئا من جيبه بهدوء .. ثم راح يضع اسوارة فضية حول معصمها يتدلى منها قلب صغير منحوت عليه حرف اسمه بالإنجليزية .
لقد كانت تلك الحركة الخفيفة لأنامله حول معصمها .. والتي لم تستغرق سوى ثوانٍ .. سببا في قلب كيانها كله .. لم تعد تستطيع السيطرة على اياً من أعضاءها .. ولم يكن قلبها هو المتمرد الوحيد عليها في ذلك اليوم .. لقد شاركه جسدها كله في انتفاضته .. اطرافها الباردة .. وساقاها المهزوزان .. صوتها المرتعش .. والذي امتنعت عن استخدامه حتى لا يفضح ارتباكها .. ولم تستطع سوى الهرب منه مثلما فعلت اليوم .. ولكن مع اختلاف الإحساس طبعا .. ففي ذلك اليوم لم تنم أيضا لأنها كانت تفكر بذلك الحبيب القريب منها .. والذي علقت عليه أمالها منذ أول يوم .. وظلت تتوهم أنه أكثر الأشخاص معرفة بها .. وأنه مؤكد في حبه لها سيحرص عليها اكثر من حرصها على نفسها .. فكانت تعيش معه حقيقة أن الحب أعمى .. أعمى عن غيره من الشباب .. وأعمى عن رؤية أكبر اخطاءه ..
لقد ارسل لها رسالة في اليوم التالي يخبرها بقلقه من ردة فعلها .. وبأنه يكفيه أن يرى اسوارته حول معصمها ليدرك قبولها بحبه ..
راحت نور تتحسس معصمها الأيمن بأنامل يدها الأخرى .. باحثه عن تلك الاسوارة التي لم تخلعها منذ ذلك اليوم .. لم تكن تجد سببا لتعلقها بها .. حتى بعد انفصالهما .. هل هو استمرار حبها له .. أم تعودها على وجودهما في حياتها ..
نهضت نور بفزع بعد أن فشلت في لمس اسوارتها .. واضاءت ضوء الحجرة وراحت تبحث في ارجاءها .. وفي حقيبتها .. كادت أن تقلب البيت بحثا عنها .. لولا أن نبهت نفسها لتأخر الوقت .. فعادت باستسلام مؤلم تصارع الأرق .. وتستعين عليه بدعائها المعتاد ..
-------------------
أين أنا .. ما هذا المكان الموحش .. ولماذا يلفني الظلام من كل إتجاة .. ولما هنالك جزء بداخلي يشعرني بغرابة ما أحسه الآن .. مؤلم عندما تدرك بأنك تائه لا تعي المكان ولا الزمان .. وكأنك فصلت عن عالمك .. دون سابق إنذار .. ولا تملك سوى يقينك بأن هنالك شيء غير حقيقي في هذا الظلام .. رغم ذلك فهو يشدني إليه دون رحمة .. ولكني يجب ألا استسلم .. أن اجاهد .. فهذا لن يكون مكاني ابدا .. أنا لا انتمي إلى هذة الظلمة ولم أخلق لها .. نعم .. فأنا أدرك .. بأنني أمتلك القدرة على المقاومة .. على الصراع .. على التغلب .. حتى أفلت من قبضة ذلك المجهول ..
فتحت نور عينيها ببطء لتجد نفسها تجلس بهدوء تام .. واضعة مرفقها على النافذة مسندة رأسها بيدها ومحوله نظرها نحو الخارج .. رمشت بإرتباك شديد تحت وقع نبضها المتسارع .. لم يشعر بغفوتها أحد من ركاب تلك الحافلة المتجهه لمدينة المنصورة .. فحركتها الساكنة منذ صعودها لم تشعرهم بالريبة .. ولكن هي من كادت تجن عندما بدأت تميز وتعي لتلك المعالم التي تمر أمامها .. طرقت المساحة التي تعلو نافذة الحافلة .. كما هو متعود .. لتنبئ السائق برغبتها في النزول .. وما هي إلا ثواني حتى كانت تسلك الإتجاة المعاكس لمرور الحافلات .. فيبدو أنها تجاوزت بيت رهف بمسافة .. أيعقل هذا .. مؤكد أن هنالك شيء غريب يحدث معها .. كانت تفكر بشرود في ذلك الطريق البحري الذي يصل منطقة المنصورة بالمعلا .. مؤكد أنه طويل بعض الشيء .. ولكن هل بلغ بها الإرهاق الدرجة التي تجعلها تنام خلاله .. تنهدت نور محاوله إزالة ذلك الحزن الرابض فوق قلبها بإصرار ..
وعندما وصلت إلى بيت رهف كادت ألا ترى والدها الذي كان يقف خارج البيت أمام سيارته :
- كيف حالك يا خال ؟.
شاع السرور وجهه عندما رأى صديقة إبنته اللطيفة .. ذات الأخلاق العالية :
- كيف حالك أنت ايتها المهندسة ؟.
تقبلت ذلك الترحيب بهزة من رأسها .. وبإبتسامة خفيفة تشك بأنها ظهرت للعيان .. فلم تكن في حالة تسمح لها بمزاحها المعتاد مع والد صديقتها .. فأسرعت تسأله عن رهف حتى يدعوها للدخول إلى البيت .. بعد أن تبادلت التحيه مع رهف ووالدتها واختها الصغرى .. توجهتا إلى حجرة رهف لبدء المذاكرة ولم يصعب على صديقتها الحساسة إدراك ذلك الشرود الذي يسيطر على نور منذ أن دخلت :
- ما بك يا نور ؟.
لم تجبها منذ الوهلة الاولى :
- ماذا قلت ؟.
- كنت أسألك عن سبب هذا الشرود ؟.
هزت نور رأسها بالنفي :
- أي شرود ؟.
رمقتها رهف بنظرة فاحصة .. واضافت معاتبة :
- هل تخفين علي أمراً ؟. هل حدث شيء ما بالأمس ؟.
كان حدث اليوم أكبر بكثير من أحداث الأمس بالنسبة لها .. ولكنها أصرت قائلة :
- لم يحدث شيء .. حقا .. لماذا لا تصدقينني ؟.
كانت لا تزال غير مصدقه ولكنها تخلت عن فضولها حتى تستطيع نور مصارحتها بنفسها .. فغيرت دفة الحديث سريعا :
- هل تعرفين أنك كنت محظوظة بذهابك مع حسام ؟.
كانت نور تحاول استعادة مرحها الطبيعي :
- لماذا ؟.
- لأن الدكتور لم يحضر .. إضافة إلا أنني تلقيت مهمة الإجابة عن تساؤلات الفتيات حول حسام بدلا منك .
عقدت حاجبيها وهي تتساءل :
- أية تساؤلات ؟.
- المعتاد .. من هو ؟.. وما علاقته بك ؟.. وما طبيعة عمله ؟.. وكم يبلغ من العمر ؟.. والأهم هل هو مرتبط أم لا ؟.
زفرت نور بسخرية .. وهي تشعر بضيقها يزداد :
- وهل جميعهن شاركن في هذا التحقيق ؟.
- لا .. البعض كان يتساءل من باب الفضول .. والبعض الآخر اكتفى بالإنصات .. أما اكثر المهتمات .. والتي اعلنت إعجابها الصريح بحسام هي أحلام .
هنا صرخت نور :
- ماذا ؟.
ضحكت رهف عليها .. وفشلت في محاولة تهدئتها :
- وما الذي يغضبك انت ؟.
- ما الذي يعنيها هي بالسؤال عن حسام ؟.
عاودت رهف الضحك .. وهي تضيف تفاصيل اخرى جعلت الغضب يبلغ مبلغه في صدر نور :
- ماذا كنتِ ستفعلين إذا طاوعت رغبتها في أخذ رقم هاتفك .. بعد أن انكرت بالطبع معرفتي لرقم حسام .
- حقا إن عدم ارتياحي لها في محله .
- حمداً لله أنها لم تدّعي اعجابه بها .
لم تستطع نور الإحتفاظ بذلك الشعور الغريب والذي لم تتعوده من قبل .. وسرعان ما شاركت صديقتها الضحك .. وراحتا يستذكران دروسهما .. تارة يتملكهم الإحباط عند استعصاء فهمهمها لنقطة معينة .. وتارة أخرى يشعران بإزدياد حماسهما لمواصلة الإستذكار .. وكان هنالك تناغم غريب بينهما فنور كانت متميزة في مواد الحاسوب والبرمجة .. أما رهف فكانت تبرع في مواد الاتصالات والشبكات .. وكانهما تكملان بعضهما .
لم تكن نور قد اكملت شرح المادة عندما اوقفتها رهف بضجر :
- يكفي .
- ولكني لم اكمل بعد .
- لقد امتلأت حقا .. بل إن الأكواد البرمجية تكاد تتساقط من راسي .
ضحكت نور وهي ترى رهف تغلق الملزمة بحماس وتفتح ملزمة الشبكات :
- دعيني أُفهمك أولا ما استطعت إستذكاره بالأمس .. وإن بقي لدينا وقت سنعود لتلك الطلاسم والحروز .
كانت رهف تملك اسلوبا سلسا في الشرح .. فعقل نور لم يكن يتقبل أبدا كل ما له علاقة بالفيزياء .. ولكن مؤكد أن صديقتها كانت تملك قدرات سحرية لإدخال ذلك الكم من المعلومات إلى دماغها دون عناء .. وبعد أن إنتهت رهف من الشرح .. قالت لها مازحة :
- حمدا لله .. إنني لن اضطر لإستئصاله ؟.
رمقتها رهف متساءله :
- استئصال ماذا ؟.
- عقلي .. فيبدوا أنه عاد للعمل مجددا ..
كان هذا آخر يوم دراسي عندما دخلت الكلية .. فوقع نظرها على ذلك الشاب الجالس بجانب فتاة في إحدى أركان الساحة المنزوية تظللهما بضعة شجيرات .. لم يكن ذلك المنظر جديداً عليها .. ولكن ما جعل الدم يتصاعد إلى وجهها هو رؤيتها للشاب يلقي بيده خلف ظهر الفتاة ويداعب بأناملة خدها .. ضغطت على أسنانها .. ثم قالت وهي تشيح بنظرها عنهما :
- أهذا منظر لائق بطلبة جامعة ؟.
لم تعي رهف التي كانت تسير بجانبها ما تقصده .. ولكنها سرعان ما فهمت بعد أن رأت حركة ذلك الشاب .. وعادت تحدثها مبررة :
- نور .. يبدوا أنهما مخطوبان .. فهنالك دبل في إصبع كلٍ منهما .
رفعت نور حاجبيها بإستغراب :
- وهل هذا مبرر .. فحتى وإن كانت زوجته .. لو كان يحترمها .. لما تصرف معها بهذا الشكل المهين أمام الناس .
أيدتها رهف مازحة :
- معك حق .. ويبدو أن نظرية أحمد عن آخر الرجال صحيحة .
إنفجرت نور ضاحكة دون أن يكون لديها سابق علم بتلك النظرية :
- وما هو محتواها ؟.
- إنه يقول إن شباب هذة الأيام لا يستطيع تحمل المسئولية .. ويعتبر أن الحياة مجرد متعة ولهو .. وأن آخر الرجال هم مواليد عام 1986
عاودت نور الضحك متسائلة بمتعة من حديث صديقتها :
- ولماذا هذا العام تحديدا ؟.
إبتسمت رهف وهي تجيب :
- لأنه هو من مواليد هذا العام .
- كان يجب أن استنتج ذلك بنفسي ؟.
دخلت نور القاعة .. وهي تفكر بمدى حب الله لها .. إذ احاطها بأناس بمثل حنان صديقتها وطيبة روحها .. فلطالما امتلكت رهف القدرة على تغيير مزاجها .. ومحاربت هموم قلبها ..
بعد انقضاء آخر لحظات التعذيب في هذة السنة الدراسية .. اخرجت نور هاتفها لكي تعيده إلى الوضع النشط بعد أن كان صامتا بسبب المحاضرة .. فاندهشت من رؤية عدد المكالمات المستلمة من سامح .. وفي نفس اللحظة وقبل أن تخبر رهف بذلك .. رن هاتفها معلننا عن اسمه .. فوقفت مشدوهة دون حراك .. رداً على إلحاح ذلك الرنين الصادر من هاتفها ..
|