كاتب الموضوع :
my faith
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
(15)
مواجهة
دخل حسام ذلك المطعم المتميز بجوه اللطيف .. والذي أتفق مع سامح للقاء فيه .. كانت خطواته المتئدة وملامحه الساكنة لا تظهر شيئا من ذلك الإعصار الهائج بداخله .. استطاع التعرف على أخاه وجلس على طاولته :
- السلام عليكم .. كيف حالك ؟.
- بخير .. وأنت ؟.
- الحمد لله .
لم يعدل سامح من جلسته المسترخية .. ورد بتلك الطريقة اللامبالية .. تسللت ابتسامه ساخرة لشفتي حسام .. ثم تساءل فجأة :
- لما قررت أخيرا مقابلتي ؟.
قلب سامح شفته السفلى .. وأجاب بصدق :
- لا أعرف .
لم يكن أقل اضطرابا من حسام .. ولكن الاثنان كانا بارعين بالتستر على حقيقة مشاعرهما .. ولم يسمحا لأي من أحاسيسهما أن تطفوا على صفحه وجهيهما .. لم ترق حسام تلك الإجابة كما أن أعصابه لا تسمح بمزيد من الغموض .. فقرر أن يكون أكثر وضوحا :
- ما الذي جاء بك إلى لندن يا سامح ؟.
تغضن وجه سامح لهذا السؤال المفاجئ .. وسيطر الغضب على ملامحه .. كان يسمع نبره اتهام في صوت أخاه .. فرد عليه بعصبية :
- هذا ليس من شئنك .
زم حسام شفتيه بضيق من ذلك الرد .. وشعر سامح بأنه بالغ قليلا في ردة فعله :
- أنا الآن موظف مع إحدى الشركات .. وأرسلت في مهمة عمل لمده أسبوع .
كان ينطق بالحقيقة .. كما أنه لم يرغب أبدا بهذه السفرة .. بل أنه بغضها منذ البداية .. ولم يتعمد السؤال عن أخاه طيلة الأيام التي قضاها في لندن .. لقد شعر بالانقباض منذ الوهلة التي وضع فيها قدميه في المطار .. إحساس مؤلم نشب أظافره في صدر سامح عندما عاودته كل ذكرياته التي يحاول طردها من مخيلته ما استطاع .. ولم يكن يحسب حساب تلك اللحظة التي قابل بها حسام مصادفة .. وسرعان ما رفض طلب حسام للقائهما في البداية ..
استدعاه من شروده سؤال آخر لحسام :
- هل توظفت ؟.. متى ؟.
زفر سامح بسخرية والتوت شفتيه بابتسامه معوجه ليرد بتهكم :
- نعم .. لكن للأسف أخي الأكبر أصبح لا يعرف عني الكثير .
حاول حسام تجاهل تلك العبارة القاسية .. ولكنها استفزته ورفع إحدى حاجبيه وراح يرد بصوته الهادئ :
- أنت من حدد طبيعة علاقتنا .
- بل أنت من دفعني لذلك .
ضغط حسام على أسنانه بحرقه .. لم يرد أن يفقد أعصابه فلقد جاء ليؤدي مهمة معينه .. اخذ نفسا عميقا .. ليستعيد هدوءه :
- اسمعني يا سامح .. أنا لم أتي اليوم لأتصارع معك .. هنالك أمر يتوجب عليك معرفته .
تعقدت حاجبي سامح بينما أردف حسام بصعوبة .. وكأن الكلمات تجرح فمه قبل أن تخرج :
- في الحقيقة إنه سر .. عملنا أنا ونور على إخفائه عن الجميع .. ولكن آن الأوان لينكشف أمامك .
- سر .. سر ماذا ؟.
تساءل سامح بحيرة بعد أن هدأت ثورته هو الآخر .. فأجابه حسام :
- يجب أن تخبرك نور بنفسها .
لم يخفى على حسام ذلك الارتباك الذي غمر أخاه .. ولكنه حاول تجاهل فكرة أن اسم نور هو السبب .. بينا رقت لهجة سامح وهو يجيب :
- لكن ليس لدي الوقت الكافي للقائها .. فأنا سأعود لليمن غدا مساءً .
- إذا فلتحضر للمشفى الذي أعمل فيه قبل أن تتجه إلى المطار .
كان إصرار حسام محيرا جدا .. ولكنه وافق خاضعا على قرار أخاه الأكبر .. زم حسام شفتيه بضيق محاولا البحث عن كلمات لائقة :
- حاول أن تتفهمها يا سامح .. نور إنسانه رقيقه .. ولتكف أنت عن هذا الغرور .
رد عليه سامح بحده :
- هل ستلقي علي محاضره في الأخلاق أيها الطبيب ؟.
- لا تنسى بأنني أخاك الأكبر .
- وماذا أيضا ؟.
كانت الدماء تفور في عروق حسام .. لكنه نهض بهدوء .. ووجه لأخاه أخر كلمه من بين أسنانه :
- وتأكد من أنني لن أسمح لك بأذيتها مره أخرى .
خرج حسام يدق الأرض بخطوات عصبية ليترك سامح يغرق في بحر من الغموض .. لم يخفى عليه آلام سامح والتي يحاول مداراتها بسخريته .. ولكن ذلك زاد من وجعه هو فهذا دليل على استمرارية حب أخاه لنور ..
زفر حسام بضيق محاولا التخلص من تلك الهموم التي تجثم فوق صدره لكن دون جدوى .. ظل فكره يشرد ويطرق شتى المواضيع في طريق عودته للمنزل .. لقد أصبح مدركا لحب نور له .. تلك الغيرة التي يراها في عينيها الجميلتين .. ذلك الخجل الذي يعتريها ما أن تلمسها أنامله .. لقد بات يراقب عشقها المتزايد له يوما بعد يوم .. بل كان متوقعا لهذا التحول في مشاعرها .. أو ما يسميه هو فهم أعمق لأحاسيسها .. لطالما أحبها .. وكان على يقين أنها ستدرك في يوم ما حقيقة شعورها نحوه .. ذلك الشعور الذي تجهله هي نفسها ..
كم كانت مبهجه تلك اللحظات التي قضاها بجانب نور الرقيقة .. لكن رؤيته لسامح في لندن قلب كيانه .. أعاد له كل الذكريات المريرة .. كل كلمات الأسى .. وكل تلك الدموع التي كان يمسحها بصبر من أعين نور المنتحبة لأجله ..
أنه أكثر شخص فهما لصغيرته .. يعلم مدى رقة مشاعرها .. يدرك هشاشة قلبها الرءوف .. كان دوما يحدث نفسه بأنها لم تختبر معاني أخرى للحب .. وما تشعر به نحو سامح مجرد تعلق أخوي .. ورفض للتنازل عن علاقة نشأت من المهد .. لكن رغم ذلك اشتعلت الغيرة بداخله عندما رآه في لندن .. وهو لن يستطيع العيش مع هاجس أن نور لا تزال تحب سامح .. لذلك كان يجب أن يقلب كل الموازين .. حتى تستطيع نور مواجهه نفسها قبل كل شيء .
شعر بتجهم وجهه يزداد وسرعان ما داهمته الابتسامة عندما تذكر ملامح نور الغاضب منه عند علمها بتناوله العشاء مع ماري .. كان باستطاعته الكذب عليها خصوصا أنه لا يكن لماري سوى مشاعر الزميل والأخ التي لا يلام عليها .. لكنه لم يتعود أن يخفي على نور مثل هذه الأمور ..
صار يرى الآن وجه ماري بعينيها الزرقاوتين .. وهي تخبره عن عريس تقدم لخطبتها .. بالرغم من أن ظاهر كلامها يحمل طلبا للمشورة .. إلا أنه أدرك ما تحس به حقا .. واستطاع قراءه تلك الرسائل الخفية التي ترسلها له .. إنها لا تزال تحبه .. تتمنى عودته لها .. كان يرى الأمل يرتسم جليا في تعابيرها الحائرة .. مؤكد أنها فسرت تلك السحابة الكئيبة التي سيطرت عليه مؤخرا باستياء الأوضاع بينه وبين نور .. مما دفع بالأمل إلى قلبها مره أخرى .
ما أن خطى حسام داخل البيت حتى لفه شعور غريب .. شعور مطمئن .. رقت أحاسيسه فجأة عندما وقعت عينيه على نور النائمة فوق مسند الأريكة في وسط الصالة .. لابد أنها انتظرت رجوعه حتى غلبها النعاس .. لقد كانت ليله شاقه بالنسبة لها .. جلس حسام على الأرض أمامها ..
لم يستطع منع نفسه من تأملها .. كانت جميله .. فاتنة .. لكن بتلك الطريقة البريئة التي تأسره .. كيف يستطيع قلبه حب غيرها .. وهو لا يملك أمره .. فلقد أضحى ملكا لهذه الملاك النائمة .. راح يتحسس يدها المصابة برفق .. وانتقلت إصبعه لتزيح خصلة من شعرها الحريري والتي كانت ترقد بخمول على وجهها .. ثم بدأ يداعب خدها نزولا إلى زاوية شفتيها ..
كيف يستطيع تخيل الحياة دونها بعد أن أضحت تحلي أيامه .. مؤكد أن أنفاسه لن تتعود استنشاق هواء لا يوجد به عبير أنفاسها .. كم أحبها .. وكم جرحه هذا الحب .. لكنه لم يكرهه أبدا .. فهو لا يرجو سوى سعادتها .. مختلف المشاعر تنتفض بداخلها لأجلها .. فهو يحبها بكل معاني الحب وأشكاله .. كابنة .. كأخت .. وكحبيبة .. يشعر بمسؤوليته نحوها .. وكأنها جزء منه .. أو هي إنسانه خاصة به .. لذلك أنتظر بصبر نضج مشاعرها نحوه ..
وقف حسام واخذ نور بين ذراعيه .. كان جسدها كقطعه من الجليد بسبب بروده الجو .. فاحتضنته هي دون وعي منها عندما شعرت بجسده الدافئ .. وضعها على السرير برفق ثم غطاها بالبطانيات .. لكنها ظلت تتشبث فيه .. فقربها منه .. واحتضنها محاولا النوم ..
-----------------------
استيقظت نور في الصباح الباكر .. وشعرت بأنفاس حسام الساخنة على عنقها .. كان يحتضنها من الخلف .. وذراعاها هي تتشابكان مع ذراعيه الملفوفتين على صدرها .. لم ترد أن تتحرك حتى لا تقلق نومه .. كما أن حضنه الدافئ كان يشعرها بلذة غريبة أبت التخلي عنها .. ظلت ساكنه في مكانها تداعب أنامله السمراء الطويلة الساكنة فوق كتفها .
- هل استيقظت صغيرتي ؟.
انتفضت نور .. فلم تدري متى استيقظ .. حولت وجهها نحوه بعد أن عاودها قلقها عليه من ذلك الحزن بالأمس .. وضعت يدها الناعمة على خده :
- كيف حالك اليوم ؟.
كانت لا تزال أسيره حضنه الدافئ .. فابتسم لها تلك الابتسامة الجذابة التي تعشقها .. وغمر وجهه بين خصلات شعرها ليهمس في إذنها بصوته العميق :
- في هذه اللحظة بالذات .. أنا على خير ما يرام .
راح صدرها يعلو ويهبط مترجما خفقات قلبها المجنون .. فأنفاس حسام الحارة على عنقها كانت كفيله بإشعال ثورته من خلف الضلوع :
- حسام .
رفع حسام رأسه ليرى وجهها .. فأردفت وهي لا تزال تعاني لوعتها عليه :
- ألا تود أخباري بما يشغل تفكيرك ؟.
داعب حسام خدها بحنان .. ثم راح يلعب بخصلات شعرها الحريري .. وهو يحاول السيطرة على مشاعره بقدر الإمكان :
- قريبا ستعرفين كل شيء .
لم تشأ نور أن تضغط عليه أكثر من ذلك وكان يكفيها عودة مزاجه الهادئ .. فعادت تدفن رأسها في حنايا صدره العريض .. وهي تحدثه بصوت خافت يغلبه الحياء :
- أنا لا أقوى على رؤية ألمك يا حسام .. وأتمنى لو أستطيع إسعادك مثلما تغمرني أنت بكل هذه الأحاسيس الجميلة .
- لطالما أسعدتني صغيرتي .. فرؤيتي لابتسامتك يكفيني .
اختلجت شتى الأحاسيس في صدر نور .. وتعقد لسانها عن الحديث .. لم تعرف بماذا تجيب هذا الكلمات التي قد ترجمها حسام بأفعاله قبل أن ينطق بها .. لكنها لم تضف شيئا وقفزت فجأة من على السرير بعد أن لمحت عقارب تلك الساعة المعلقة على الجدار :
- يا الله .. لقد تأخرت كثيرا .. ونسيت أن أضبط المنبه .
ظل حسام يتابعها بعينيه وهو يغالب ابتسامته المرحة .. لقد كان شكلها مضحكا وهي تحظر نفسها بكل ما تملك من سرعه .. وحاول هو الآخر أن يسرع في تحضير نفسه حتى يستطيع أن يقلها بسيارته إلى جامعتها .
مر يومهما الطويل بصعوبة بالغه على نور التي قضته في الجامعة بين المحاضرات ومناقشه للمشاريع .. وحسام الذي ظل يعاني ثقل دقائقه وقرب موعد حضور سامح للمشفى ..
في المساء اتصل بنور :
- مرحبا صغيرتي .. هل تستطيعين المجيء إلى المشفى .. فهنالك أمر يستدعي حضورك .
- حسنا .. لن أتأخر بإذن الله .
أغلقت نور الهاتف وهي لا تملك أدنى فكره عما يريده حسام منها .. لكنها خضعت لرغبته باستسلام .. ولم تلح عليه بالسؤال .. فما فائدة إلحاحها في حين أنها ستعرف بعد قليل سر كآبته في الليلة الماضية .. بل وذلك الشرود الذي تملكه لوقت طويل .. نعم .. هنالك إحساس قوي بداخلها ينبئها بأنها على وشك معرفه المجهول .. وسرعان ما أخذها تفكيرها نحو ذلك الصوت الذي أتاها عبر هاتف حسام بالأمس .. هل يا ترى لذلك الصوت يدا في ما يعانيه حسام .
ظل شعور الخوف يتزايد بداخلها دون مبرر مع كل خطوه تقربها من حجره حسام في المشفى .. وعندما وقفت أمام الباب .. كانت الرهبة تتملكها .. طرقته طرقتين خفيفتين .. ثم دخلت بعد ذلك بخطى حذره .. رؤيتها للشاب ذو العينين البنيتين كانت آخر ما خطر على بالها .. صعقت نور ولم تجد حسام بالحجرة كي تستنجد به .. ظلت مسمره في مكانها وفكرت بالهرب لكن قدميها أعلنتا الخيانة .. ولم تساعدها في أي حركه ..
وقف سامح بارتباك فور مجيئها ولكنه سرعان ما استعاد هدوءه :
- مرحبا يا نور .
كان الوجوم يلفها ولم ترد عليه .. فعاد يتساءل برفق :
- هل ستقفين بجانب الباب طويلا ؟.
لم تعد تفهم شيئا .. ودخلت لتجلس على الكرسي الذي أمامه .. حاولت أن تسأله احد الأسئلة التي تثور بداخلها .. والتي كان أسرعها بالخروج :
- أين حسام ؟.
تغضن وجه سامح قليلا مما بث في صدرها القلق .. بينما ضايقته لهجتها المستنجدة .. ولم تخفى عليه تغير نبرتها وهي تنطق باسم أخا .. عدل من جلسته ونظر لها ببرود :
- سيعود بعد قليل .. لا تقلقي .
أطبق عليهما الصمت قليلا .. لم يخطر ببالها موضوع للحديث .. فالتساؤلات بداخلها لا تترك لها مجالا للتفكير .. أو حتى لتحليل الموقف .. لكن سامح بدا عليه الضيق من شرودها .. وتحدث بجديه هذه المرة :
- نور .. لقد دعاني حسام لكي أراكي .
بدت علامات الدهشة على ملامحها البريئة .. فأردف هو ليجيب عن أسئلتها المحيرة :
- إنه يقول بأن هنالك سر يجب علي معرفته .. لكن منك أنت .
هنا اتسعت عيني نور للآخر .. هل يعقل أن يقوم حسام بمثل هذا الأمر .. يحضرها كي تخبر سامح بسرهما .. لم تدرك مدى الاضطراب الذي أصابها حتى أنها لم تنتبه لتهدج أنفاسها إلا عندما مال سامح نحوها متسائلا :
- هل أنت بخير يا نور ؟.
رفعت إليه عينيها .. ما الذي يحدث لي ؟.. كانت تتساءل بغرابه .. إنها تشعر بكلمات سامح تقلب كيانها .. ليس لان سامح هو من ينطق بها .. حتى أن دقات قلبها التي راحت تتسارع لرؤيته لم تكن دقات فرح برؤيته أبدا .. بل هي دقات خوف من المواجهة .. أو رفضا لحدوثها .. فهي ستعاود جرحه مره أخرى .. نعم مؤكد ستجرحه .. لما .. لما دفعها حسام لذلك .. هل ضاق من سرهما .. ففضل أن يفي بوعده الأول لها بأن يخبر سامح به عندما تحين الفرصة .
أخذت نور نفسها عميقا ثم نظرت لسامح .. كانت ملامحها الميتة صدى لتنهيدات قلبها المجروح :
- نعم .. لقد تشاركنا أنا وحسام في أخفاء سرنا عن الجميع .
بدا الاهتمام على ملامح وجهه الوسيم .. بينما عادت هي تحدثه بلهجتها الميتة وكأنها تنفد حكم حسام عليها ليس إلا :
- إن زواجنا هذا مجرد زواج شكلي .
لم تكن تنظر لسامح .. ولم ترى تعقد حاجبيه فهو لم يستوعب جملتها الأخيرة :
- لقد اضطررنا لإتمام هذا الارتباط بعد أن تأكد حسام من إصابتي بمرض نادر .. فكان هذا الحل الوحيد ليحررني من جميع مشاكلي في اليمن .. ويطمئن على صحتي .
تلك الكميه من المعلومات والتي تلقيها نور على مسمعيه كانت اكبر من قدرته على الاستيعاب .. ولكن الفرحة راحت تتسلل إليه خلسة .. فنور لا تزال فتاته التي يحب .. وهنالك ما أجبرها على هذا الارتباط :
- هل حقا ما تقولين يا نور ؟.
لمست نور فرحته .. فاعتصر الألم قلبها .. إنها لا تأمل فرحته هذه .. أدركت بأنه لم يلقي بالا على مسألة مرضها .. فراحت تخبره بتفاصيل المرض .. وكأنها تتعمد أن تصدمه :
- إن مرضي يحمل اسم ((الخُدار)) .. أو ما يسمى بالنوم القهري .
لم يعد سامح يفهم شيئا من كلامها .. واسترسلت نور في وصف كل ما تعانيه في مرضها .. وكل ما تتعرض له من مخاطر بسببه .. حتى رفعت أخيرا كم يدها المصابة لتريه حرقها الملفوف بالأربطة الطبية :
- وهذه آخر حادثه تعرضت لها بسبب مرضي .
كانت تبعض الحديث عن مرضها .. أو أن تشكي ألمها لأحد .. لم يكن الأمر مثل بكائها على صدر حسام .. وأخباره بأتفه الأمور التي تؤذي مشاعرها .. شعرت بتلك اللحظة مدى الفارق بين الاثنين .. بل بين حسام وأي شخص في حياتها .. ظلت تنظر لتلك العينين البنيتين .. وشعور بالبرودة يجتاح صدرها .. أدركت كم كانت بارعة في خديعة نفسها .. ولكن كل هذا لم يعد مهما الآن .. فيبدوا أن علاقتها بحسام تلفظ أنفاسها الأخيرة .. كادت دموعها تنهمر عندما رددت تلك الكلمة في صدرها .. نعم إن حبها يموت قبل أن يخلق بقرار من حسام نفسه .. حقا لا يجب عليها لومه .. لكن هذه الحرقة التي تتلذذ بتعذيب قلبها تأبى ذلك ..
عاودت النظر نحو سامح فقرأت في ملامحه كثير من الحيرة والذهول .. وهذا ما كانت تسعى إليه منذ البداية .. فحتى وإن كان حسام قد اتخذ القرار بدلا عنها .. وحتى إن تفهم سامح موقفها .. لم يكن ذلك ليعني شيئا بالنسبة لها .. فهي ترفض أن تصبح لعبه في يدهما .. لقد أفشت السر تنفيذا لرغبه حسام .. والآن جاء دورها هي في تحديد مستقبلها .
وقفت نور بعصبيه .. موجهه حديثها نحو سامح :
- لا تجهد نفسك يا سامح بالتفكير .. فمعرفتك لن تغير بالأمر شيئا .
وقف سامح معها وحاول أن يمسك يدها .. لكنها أبعدتها منه قبل أن يلمسها :
- لا تنسى أني بالرغم من كل شيء .. لا زلت فتاة متزوجة ..
رقت تعابيرها قليلا بمسحه ألم عندما أردفت قائله :
- حقا أنا لا أريد شفقه منك .. ولا من حسام .
نطقت بالكلمة الأخيرة محاولة ابتلاع تلك الغصة في حلقها .. ثم أخذت حقيبتها وخرجت مسرعه من الحجرة .. كانت تحث الخطى خوفا من أن يلحق بها .. لما كل هذا العذاب الذي تحس به .. ألم تأمل مجيء مثل هذه اللحظة .. ما بها الآن تبغضها .. هل لان الحيرة غمرت سامح بعد معرفته بمرضها .. أغمضت نور عينيها الدامعتين لتنهمر دموعها التي حجبت عنها الرؤية .. لا ليس هذا سبب .. بل هي وجيعتها للفراق القريب ..
استمرت في سيرها السريع رغم امتلاء عينيها بالدموع .. حتى ارتطمت بشخص أمامها .. أمسكها من كتفيها حتى لا تقع وراحت يده الدافئة تربت على خدها وهو لا يزال يحتضنها باليد الأخرى :
- صغيرتي .. ما بك ؟.. ما الذي حدث بينكما ؟.
رفعت نور عينيها الدامعتين .. هنالك الكثير مما تود أن تحدثه به .. لكن المكان لم يكن مناسب .. لم يستعصى عليه فهم ما يجول في خاطرها .. فأخذها من يدها ليعود بها إلى حجرته التي أصبحت خاليه الآن .. لابد أن سامح قد غادر بعدها ..
أغلق حسام باب الحجرة والتف سريعا كي يواجه نور الباكية .. راح يمسح دموعها بأنامله .. لكنها ابتعدت عنه بحرقه .. استغرب ردة فعلها :
- نور .
حاولت تهدئه نفسها دون جدوى .. وقررت أن تتحدث من خلال نشيجها الذي تعرف أنه لن يتوقف .. كما أن حسام قادر على فهم ما تشعر به :
- لما يا حسام .. لما ؟.
ضغط حسام على أسنانه بعصبيه :
- هل كان رده قاسيا عليك ؟.
- لا لم يكن كذلك .
- إذا ما الذي يزعجك ؟.
- أنت من يزعجني .
خرجت كلمتها كصفعه على خده .. لقد خانها التعبير .. ولم يكن هو يستحق مثل تلك القسوة .. لكن قلبها الذي يعتصر ألما لم يكن مدركا لما يقول .. وفقد قدرته على تنميق الكلمات :
- إن كنت تود الطلا .. الطلا ..
عادت نور تذرف مزيدا من دموعها الساخنة .. لم تكن تعتقد أن نطقها لكلمه صغيره مثل الطلاق سيحتاج منها كل هذا العناء .. عادت تتهمه من جديد بعد أن غيرت صيغه سؤالها :
- إن كنت تود الانفصال لما لم تخبرني ؟.. هل هذا ما كان يحزنك ؟.. أنك تخشى أن تؤذي أحاسيسي ؟.. لقد كنت كريما معي في مشاعرك واهتمامك الدائم بي .. ولكنك تستحق أن تحيى حياتك الخاصة وقت ما تريد .
أخذت نفسا عميقا ثم نظرت إليه بعد أن رقت ملامحها :
- أنا لا أريد أن أكون حملا ثقيلا عليك يا حسام .. وكفاك ما عانيته معي .
حاول أن يرد عليها لكنها قاطعته بإصرار :
- كيف فكرت إنني لن اسعد من أجلك ؟.. أو تخيلت أن أكون أنانيه في حبي لك يا حسام ؟.
- ما الذي تقصدينه صغيرتي ؟.
أجابته بسؤال آخر من أسئلتها التي كانت تجرحها هي قبل حسام :
- لما جعلتني عثرة في طريق ارتباطك بماري ؟.
إنه يتمزق معها .. ولم يعد يجد شيئا يقوله ليخفف به ألمها :
- كفى يا نور .. أنتي تسيئين الفهم .
لقد أعمى الألم قلبها .. لم تعد تريد سماع المزيد .. هذا الحنان الذي يفيض من عينيه صار الآن سببا في عذابها :
- أرجوك يا حسام .. كفاني ما تلقيته منك من شفقه ... وكفاك تدميرا لحياتك من أجلي .
كانت تبكي بشكل هستيري .. لم يعرف هو السبيل لتهدئتها .. ولا كيفيه نفي كل تلك الافتراضات الخاطئة التي راحت تطلقها عليه .. لم يتعود أبدا احتمال ألمها .. فهو يموت ألف مره مع كل دمعه تسقط من عينيها السوداوتين .. كانت المشاعر تتضارب بعنف في صدره .. ولم يعد يملك طريقه أخرى لإسكاتها ..
تقدم منها بثبات .. وأمسك وجهها بين كفيه .. وأطبق على شفتيها بقبله حملها كل ثورته .. كانت قبله عنيفة .. لكنها سرعان ما فقدت ذلك العنف .. وراحت تداعب شفتيها برقه .. شعرت نور بأنفاس حسام الحارة على خدها .. فأخذت أنفاسها هي تتسارع مع حركات شفتيه الناعمة على شفتيها .. تحجر الدمع في مقلتيها .. وللحظه نسيت كل شيء .. نسيت ما كانت تقوله منذ ثواني .. تلك الأفكار القاسية والتي كانت تجرح أحاسيسها الرقيقة .. بل أنها تستغرب الآن سبب بكائها .. وتجهل منبع ذلك الألم الذي كان مسيطرا عليها .. تملكتها حاله من الخدر .. ولكنها ليست نائمة .. فهي تسمع بوضوح دقات قلبها المجنون .. والذي راح يساير بفرح دقات مجنون آخر يخفق بعنف تحت أناملها الملامسة لصدر حسام .
|